رواية (صوت الطبول من بعيد) ووجعنا العراقي


احمد عبد الستار
2020 / 6 / 14 - 04:33     

اتحفنا من جديد الروائي (فلاح رحيم)، بواحدة (أخرى) من رواياته المتقنة والمعبرة، والحافلة كالعادة بصوت قرع مآسي العراق البعيدة والقريبة.
والبداية لحياة جديدة "شاغله الاوحد" ليعيشها كبشر، ينعم معها بحياة سوية يتطلع اليها أي إنسان، تنسجم مع طموحاته، ويعمل بما أوتي من مواهب الى تحقيقها. دون تعليب وحبس قسري للأمل المغروس منذ ازل الإنسان في طبيعته المتفردة.
من العسكرية وحياتها المقفرة والمشاكسة، وضياع حبه بسبب رفضه للتطبيع، وشبح أمن البعث، الذي يحوم بلا توقف لكسر أي إرادة لمعارضيه وتدميرهم روحيا وحتى عضويا، اسباب تظافرت لجعل (سليم) يهتف منفعلا من خشية لا جدوى " بدايته من جديد"، بعد تسريحه من العسكرية وبحثه لمكان تحت الشمس يأمن لحياته استمرارها.
لكن السياسة والنظام البوليسي الحاكم في العراق، وما يخلفه هذا النظام ببطشه وقسوته على حياة المجتمع والافراد، ولاسيما من كان يوما ما يحمل توجها معارضا ومصنف في خانة الاعداء فيما بعد، تأبى على البدايات أن تدوم طويلا، وتركها "ركام من البدايات المبتورة في افق مسدود".
هذه المكابدات التي عاشها (سليم) اختزلت ملخصة في شخصه معاناة جيل او اجيال من العراقيين، كما تعكس قطرة الماء العالم مثل ما شبه ذلك ديستوفسكي، لا استقرار ولا احلام بمستقبل جميل يمكن تحقيقه بدون معرقلات. عاش ملايين العراقيين تحت رحمة نظام قمعي، وحروب ومطاردات سحقت الانسان بكل وحشية، وجعلت منه ذرة هائمة، تتجاذبها ريح هوجاء غاشمة.
وكنفس مخلصة، عبر (فلاح رحيم) عن الواقع المشوه الذي يعيشه العراقيون وهو ايضا عاشه في طبيعة الحال. عبر في رواياته عن مشاعر النقمة وكانت القاسم المشترك بينها، مع إن لكل رواية طابعها الخاص، إلا أن المميز في روايته الاخيرة،(صوت الطبول من بعيد)، كان الوجع والأسى لكل ما حاق في العراق.
حتى الطبيعة والارض ما فاته أن يسجل أسفه عليها مما لحق من خدش صورتها بسبب الحرب، يذكر في يومياته بتاريخ 13/6/1981 قائلا" لا يفقد الزمن وحده خصوصية وطعمه هنا، الأرض حولنا تتعرض للخطر ذاته. لابد من تأكيد أن الطبيعة حولنا ليست قبيحة، بل استطيع أن أجازف فأقر أنها جميلة لمن يزورها سائحا لا فأرا محاربا...هناك اصحاب طيبون هنا ايضا (في جبهة القتال). لكنك في المحصلة النهائية تكره كل ذلك ولا تجد له طعما، لأن جمال الطبيعة يتربص بك ويضمر لك الموت.."
هذا الأسى العميق الوصف، على الطبيعة وجمالها وحتى اصفرار خضرتها في الصيف وعلاقة كل ذلك، مع رؤية الانسان مع متغيرات مشاعره تجاه المجتمع الانساني والطبيعة، وردت في اعمال كبار الذين كتبوا عن الحرب ومآسيها على الطبيعة وعلى البشر مثل تولستوي في روايته (الحرب والسلام) عن سحر ساحات وحدائق وقصور موسكو وكنائسها خلال الحرب ضد نابليون، وكان لزاما أن يأسف ممن أراد أن يكتب بشمول عن ويلات الحرب ومآسيها وما تتركه من أثر سيء على كل شيء، لأنه كما عبر الشاعر الالماني الكبير (يوهان هولدرين) عندما أراد أن يميز واجبه كأديب قائلا:" أن نمسك بروق الرب ونقدمها للناس ملفوفة في نشيد"، وسواء اتفقنا بأن الابداع والالهام رباني ام لا، بإمكاننا أن نفهم منه إن مهمة الاديب أن يقدم ما يراه وما يعتمل في روحه، تقديما جماليا بسمو وشمولية لخدمة البشر وسلامة العالم.
يذكر كذلك (اريك ماريا ريماك) في روايته (للحب وقت وللموت وقت) اساه على الطبيعة والارض في مشهد عودة بطل الرواية (جريبر) من جبهة الحرب مع الاتحاد السوفيتي مستقلا عربة قطار وتطلعه من زجاج النافذة لجمال الحقول وخضرتها تحت ضوء القمر واستدراكه" لقد تذكر أن ضور القمر يتيح رؤية طيبة للطيارين.. (ويعلق الروائي).. لقد تغير معنى الطبيعة السابق فهو لعلاقته بالحرب كأمان أو خطر".
اللغة الشعرية التي كتبت فيها الرواية، تؤشر الى وجع مخبوء، يأبى أن يندرس وينمحي، ظل ملازما لكل دقائق حياة (سليم) حتى في اكثر المواقف حميمية، في مشهد توديع حبيبته البولندية له بقبلة، عرّفها قائلا" ..لم تكن تلك القبلة تعبيرا عن شهوة جنسية أو حتى عن مكبوت يسبقها ويبررها، كانت بالأحرى هتاف توديع موجعا يائسا يجهد في استبقاء إيماءة دالة على العالم الجميل الآفل". وفي مواقف مشابه أخرى، ولاسيما عندما تخلص من العسكرية وتسرح يجوب بغداد الجميلة، من الفجر، تنغص عليه هذه الراحة هاجس، عين السلطة التي لا تتركه وتترصد به شرا. وكيف لا والعراقيون عاشوا عقود متوالية من خراب يتناسل منه خراب آخر، من مفاجع قادسية صدام، وسنوات القحط في الحصار، واحتلال بغداد والارهاب والتفجيرات، والمجازر وسبياكر، هل تبتعد عن قوله ذاكرا ابي تمام " على انها الايام قد صرن ..عجائب حتى ليس فيها عجائب" و" لا مكان لحديث لخسائر وسط محيط كل ما فيه خسارة فادحة للحياة".
الفواجع والخسارات المتوالية، التي تعرض لها العراقيون خلال تاريخهم المعاصر، جعلت من حياتهم مناحة متواصلة، وحزن مقيم على أعزاءهم الراحلين عن الحياة، والإصرار على تذكرهم واقامة طقوس التعازي حتى بعد رحيلهم، بفترات طويلة. تعبير عن حب للحياة؛ الحياة الجميلة المشتركة معهم، وهو صيغة اخرى لرفض فكرة موتهم وغيابهم النهائي، واعتبارهم أحياء لازالوا بينهم.
كل الفواجع التي رزأت بالعراقيين، كانت خارجة عن ارادتهم ونزلت بحياتهم، وأشقتهم. لعقود مديدة، ظلت ساكنة في الذاكرة الجمعية وراسخة، حتى سنحت فسحة من الحرية في التعبير عن هذا الوجع المكظوم، وأذنت بمرحلة جديدة تسجل له، وكانت كثيرة، شهدت شتى وسائل التعبير والاجناس الادبية، لكن للرواية والروائيين كان صدى خاص ومميز، وموجة جديدة ومنعطف في تاريخ الادب العراقي، كسجل منعتق لعقود من الآلام طال رقادها، وأجادوا في التعبير الصادق عن حال العراق، كما هو الحال مع روايات (فلاح رحيم)، كمواويل للوجع العراقي ثريا ومؤثرا، الى حد يذكر قارئه بكل اوجاعه الذاتية.
أيام حرب الثمانينيات الهوجاء، اتذكر إن غبطة الإجازة والنزول للبيت ولقاء الاصدقاء، يعكر صفوها ويحيلها الى لحظات مقلقة، احتمال الاصطدام بوجود بقطعة (عزاء) لاحد القريبين او احد من الاصدقاء، ساعة الوصول للمدينة. وقد فاجأتنا مثل هذه (القطع) مرات غير قليلة.
هذه المفاجئة غير السارة بالمرة تعرض لها (سليم)، عندما قرأ قطعة القماش السوداء وحروفها البيض تنعى اخيه (كريم) ومقتله في الحرب، صدمته وقد " شهق وتجمد وعيه بالعالم حوله".. هذا الحدث العظيم "قد وقع ومزق أرق خيوط حياته مرة والى الابد"، دليل أخر بأن الفجائع مستقرة في النفس لا يمكن أن تغادر، رغم التعب والوهن، " ثم تأتي طقوس المواساة"، على طريقة العراقيين والعراقيات الذين اختصوا بهذه الطقوس من كثرة استعمالها، في مشهد غاية في التأثير في زيارة لعائلة سليم مشتركة مع جيرانهم لزيارة قبر ابنهم (عقيل) وقبر (كريم) في مقبرة النجف، يقول " تهادت السيارة على مهل الى موضع قبر عقيل وحين توقفت شهقت أم عقيل بالبكاء فاستجابت لها أم سليم".
هذا هو الحال الذي تعيشه عوائلنا، ونعيشه يوميا منذ اربعين عاما، بكاء وعزاء وفقدان وخسائر بالجملة وبالمفرد، وقد أحسن من فصّل عن ذلك في سجلات موثقة تخطها (اناشيدهم) إحياءً للأموات ووثائق للأجيال القادمة.