إدغار موران: العيش مع اللايقين*


عبد المجيد السخيري
2020 / 6 / 12 - 05:47     

يظل الفيلسوف إدغار موران، خلال الحجر الصحي ببيته بمونبوليي، وفيا لرؤيته الشاملة للمجتمع. فالأزمة الوبائية، يقول لنا، ينبغي أن تعلمنا كيف نفهم جيدا العلم والعيش مع اللا يقين. ومن ثم أن نستعيد شكلا معينا للإنسانوية.

النص الكامل للحوار:

- أعادت جائحة فيروس كورونا العلم بشكل صادم إلى قلب المجتمع. فهل يخرج العلم منها وقد شهد تحولا؟

-إدغار موران: ما يثيرني، هو أن قطاعا عريضا من الجمهور كان يعتبر العلم بمثابة مستودع للحقائق المطلقة، والإثباتات غير القابلة للدحض. الجميع كان مطمئنا لرؤية الرئيس(يقصد مانويل ماركون-المترجم) وهو محاط بمجلس علمي. لكن ماذا وقع؟ لقد أدركنا، بشكل سريع جدا، أن هؤلاء العلماء كانوا يدافعون عن وجهات نظر مختلفة كثيرا وأحيانا متناقضة، سواء بخصوص الإجراءات التي ينبغي اتخاذها، والعلاجات الجديدة الممكنة للاستجابة للطوارئ، أو صلاحية هذا الدواء أو ذاك، ومدة القيام بالتجارب السريرية... كل هذه الخلافات تبث الشك في عقول المواطنين.

-تريد أن تقول أن الجمهور قد يفقد الثقة في العلم؟

-إ. م: لا، إذا أدرك أن العلوم تعيش وتتقدم بما هو مثير للجدل. فالنقاشات حول الكلوروكين، على سبيل المثال، سمحت بطرح مسألة البديل بين الطوارئ أو الحذر. والعالم العلمي سبق أن شهد جدالات قوية لحظة ظهور السيدا، في سنوات الثمانينيات. والحال أن ما بيَنهُ لنا فلاسفة العلوم، هو تحديدا أن الخلافات تشكل جزءا لا يتجزأ من البحث. فهذا الأخير بحاجة إليها لكي يتقدم.
مع الأسف، عدد قليل جدا من العلماء قرأوا كارل بوبر، الذي برهن على أن نظرية علمية ما ليست كذلك إلا لأنها قابلة للدحض، وغاستون باشلار، الذي طرح مشكلة تعقيد المعرفة، أو أيضا توماس كوهن، الذي بيَن كيف أن تاريخ العلوم هو سيرورة غير متصلة. وعدد هائل من العلماء يجهلون إسهام هؤلاء الابستمولوجيين الكبار ولا يزالون يعملون ضمن منظور دوغمائي.

-هل ستكون الأزمة الحالية من طبيعة تسمح بتعديل هكذا رؤية للعلم؟

-إ. م: لا يمكنني التكهن بذلك، لكني أتمنى أن تساعد على بيان كيف أن العلم هو شيء أعقد بكثير مما يراد لنا أن نتصوره- أن نضع من ثم أنفسنا في صف أولئك الذين ينظرون إليه بوصفها قائمة عقائد، أو في صف أولئك الذي لا يرون العلماء سوى كمثل عديد من الديافواريس Diafoirus(الدجال في مسرحية المريض المتخيل لموليير..) يناقضون أنفسهم باستمرار...
العلم واقع انساني يقوم، مثل الديمقراطية، على مناقشة الأفكار، بالرغم من أن أنماطه في التحقق تظل أكثر صرامة. ومع ذلك، تجنح النظريات الكبرى المقبولة إلى أن تصطبغ بطابع عقائدي، وكبار المجددين وجدوا دائما صعوبات في التعريف باكتشافاتهم. ويمكن للحلقة التي نعيشها اليوم أن تكون اللحظة الجيدة لجعل المواطنين، كما الباحثين أنفسهم، يدركون بوعي ضرورة فهم أن النظريات العلمية ليست مطلقة، مثل المعتقدات الدينية، بل هي قابلة للتحلل الحيوي...

-في نظركم، الكارثة الصحية، أو الوضعية غير المسبوقة للحجر الصحي التي نعيشها حاليا، أيهما أكثر أهمية؟

إ. م: لا مجال لإقامة تراتبية بين الوضعيتين، طالما أن تسلسلهما كان كرونولوجيا و يقود إلى أزمة يمكن القول أنها أزمة حضارة، لأنها تجبرنا عل تغيير تصرفاتها وهي تغير وجودياتنا، على المستوى المحلي كما على المستوى الكوكبي. كل هذا يشكل كلا مركبا. وإذا أردنا أن نتناوله من زاوية فلسفية، يجب أن نسعى إلى الربط بين كل هذه الأزمات والتفكير قبل كل شيء في اللايقين، الذي هو سمتها الأساسية.
ما هو مهم جدا، في أزمة فيروس كورونا، هو أنه ليس لدينا بعد أي يقين حتى بشأن أصل هذا الفيروس، ولا حول مختلف أشكاله، والسكان الذين يهاجمهم، ودرجاته في الضرر... ولكننا نمر أيضا بفترة لا يقين كبير بخصوص كل تداعيات الوباء بجميع الميادين، الاجتماعية، الاقتصادية...

-لكن فيما تشكل هذه اللايقينات، في نظركم، الصلة بين كل هذه الأزمات؟

-إ. م: لأننا ينبغي أن نتعلم كيف نتقبلها ونتعايش معها، بينما حضارتنا غرست فينا الحاجة ليقينيات أكثر فأكثر حول المستقبل، في الغالب وهمية، وأحيانا طائشة، عندما تصف لك بدقة ما سيحدث لنا سنة 2025! إن مجيئ هذا الفيروس يجب أن يذكرنا بأن اللايقين يظل عنصرا منيعا للشرط الانساني. فكل التأمينات الاجتماعية التي يمكنكم التسجيل بها لن يكون بوسعها أبدا أن تضمن لكم أن لا تقعوا مرضى أو أن تكونوا سعداء بمنازلكم! إننا نحاول أن نحيط أنفسنا بأكبر عدد من اليقينيات، لكن الحياة، هي أن نمخر عباب بحر من اللايقينيات، عبر جزر وأرخبيلات من اليقينيات التي نتزود منها...

-تلك هي قاعدتك في الحياة؟

-إ. م: إنها بالأحرى خلاصة تجربتي. فقد عايشت أحداثا كثيرة غير متوقعة في حياتي- من المقاومة السوفياتية سنوات 1930إلى غاية سقوط الاتحاد السوفياتي، لكي لا أتحدث سوى عن واقعتين تاريخيتين مستبعدتين قبل مجيئهما- بحيث أصبح ذلك جزءا من طريقتي في الوجود. أنا لا أعيش في قلق دائم، لكنني أتوقع أن تطفو على السطح أحداثا كارثية بدرجة أو بأخرى. ولا أقول إنني توقعت الوباء الحالي، لكنني أقول مثلا منذ سنوات عديدة أنه مع تدهور محيطنا الحيوي، يجب علينا أن نتهيأ للكوارث. نعم، إن هذا جزء من فلسفتي: " توقع ما هو غير متوقع".
علاوة على ذلك، أنشغل بمصير العالم بعد أن فهمت، بقراءة هيدغر سنة 1960، أننا نعيش في العصر الكوكبي، ثم في سنة 2000 أن العولمة هي سيرورة يمكنها أن تتسبب في الضوضاء أكثر من الخيرات. ألاحظ أيضا أن الفورة غير المراقبة للتنمية التقنو-اقتصادية، التي يقودها تعطش غير محدود للربح والمدعومة بسياسة ليبرالية جديدة معممة، أضحت مضرة وتولد أزمات من كل نوع... ومن هذه اللحظة، أنا مهيأ فكريا لمواجهة غير المتوقع، ولمجابهة الاضطرابات.

-لكي نقتصر على فرنسا، كيف تقيمون تدبير الوباء من قبل السلطات العمومية؟

-إ.م: أنا متأسف لأن بعض الحاجيات تم إنكارها، مثل ارتداء الكمامات، فقط من أجل... إخفاء حقيقة أنها لم تكن متوفرة! وقد قيل أيضا: الاختبارات لا تصلح لشيء، فقط للتمويه على حقيقة أنها لم تكن متاحة هي الأخرى كذلك. سيكون من باب الانساني أن نقر بأن ثمة أخطاء ارتكبت وأنه سيتم إصلاحها. فالمسؤولية تقتضي الاعتراف بالأخطاء. إلا أنه، من أول خطاب له حول الأزمة، لاحظت أن الرئيس ماكرون لم يتحدث فقط عن الشركات، بل تحدث أيضا عن المأجورين والعمال. إنه أول تغيير ! لنأمل بأن ينتهي بالتحرر من عالم المال: حتى أنه أشار إلى إمكانية تغيير النموذج التنموي.

-هل نسير نحو تغيير اقتصادي؟

-إ.م: نظامنا القائم على التنافسية والمردودية له في الغالب آثارا فادحة على شروط العمل. ويمكن للعمل المكثف عن بعد الذي يفرضه الحجر الصحي أن يغير من اشتغال المقاولات الذي ما يزال أكثر تراتبية أو سلطوية. كما يمكن للأزمة الراهنة أن تسرع العودة إلى الانتاج المحلي والتخلي عن صناعة أحادي الاستعمال جميعها، وفي الوقت نفسه أن تمنح من جديد العمل للحرفيين ولتجارة القرب. ففي هذه المرحلة حيث تم إضعاف النقابات بصورة كبيرة، يمكن فقط لمثل هذه الأعمال الجماعية أن تؤثر لأجل تحسين شروط العمل.

-هل نحن نعيش تغييرا سياسيا، حيث العلاقات بين الفردي والجماعي تشهد تحولا؟

-إ.م: كانت المصلحة الفردية تسيطر على كل شيء، وها هي مظاهر التضامن تستيقظ. أنظروا إلى العالم الاستشفائي: كان هذا القطاع في حالة من النزاع والاستياء العميقين، لكن، وأمام تدفق المرضى، يبرهن عن تضامن استثنائي. وحتى وهم رهن الحجر الصحي، فإن السكان أدركوا الأمر بتهليلهم، في المساء، لكل هؤلاء الناس الذين يكرسون أنفسهم ويعملون من أجلهم. إنها من دون شك لحظة تقدم، على المستوى الوطني على أية حال.
مع الأسف، لا يمكننا الحديث عن استيقاظ التضامن الانساني أو الكوكبي. بالرغم من أننا، الكائنات البشرية من جميع البلدان، كنا قبلها في مجابهة مع نفس المشاكل أمام مواجهة تدهور البيئة أو الكلبية الاقتصادية. واليوم إذ نجد أنفسنا جميعا في الحجر الصحي، من نيجيريا إلى نيوزيلاندا، ينبغي علينا أن نعي أن مصائرنا متشابكة، شئنا ذلك أم أبينا. ستكون هذه لحظة لإنعاش نزعتنا الانسانية، لأنه طالما لا ننظر إلى الانسانية كمصير مشترك، فلا يمكننا أن ندفع حكوماتنا إلى التصرف في اتجاه خلاق.

-ما الذي يمكنه أن يعلمنا فيلسوف مثلكم لكي نمضي هذه الأوقات الطويلة في الحجر الصحي؟

-إ.م: صحيح أنه بالنسبة لعدد منا ممن يعيش معظم أوقات حياته خارج المنزل، يمكن لهذا الحجر الصحي المفاجئ أن يمثل له إحراجا رهيبا. أعتقد أنه يمكن أن يكون فرصة للتفكير، والتساؤل عن ما في حياتنا، يندرج ضمن التافه أو مما لا فائدة منه. لا أقول أنه من الحكمة أن يظل الانسان كل حياته في غرفته، وإنما فقط ما يهم طريقتنا في الاستهلاك أو التغذية، وربما حان الوقت للتخلص من كل هذه الثقافة الصناعية التي نعرف عيوبها، وقت التخلص من السموم. إنها مناسبة أيضا لكي نمتلك وعيا مستديما بشأن هذه الحقائق الانسانية التي نعرفها جميعا، إنما التي هي مدفونة في عقلنا الباطن: أن الحب، الصداقة، التشارك، والتضامن هي ما يصنع جودة الحياة.

ترجمة: عبد المجيد السخيري

*- نشر نص الحوار الذي أجراه فرنسيس لوكونت Francis Lecompte مع الفيلسوف الفرنسي إدغار موران ب CNRS Le Journal بتاريخ 06/04/ 2020 ورابطه:
https://lejournal.cnrs.fr/articles/edgar-morin-nous-devons-vivre-avec-lincertitude