في أصل الدمج وفصله


خالد صبيح
2020 / 6 / 6 - 22:21     

يسخر كثيرون - محقين- من ظاهرة الضباط الدمج في الجيش العراقي بعد عام 2003، وهي ظاهرة مدانة أي كانت مبرراتها، سواء المقبول منها، مثل حاجة المؤسسة العسكرية لكادر بعد حل الجيش القديم، أو غير المقبول.

وهي في النهاية استغلال سياسي وحزبي للسلطة، وتشويه لبنية المؤسسة ولمفهوم التوظيف والاستحقاق الوظيفي في مؤسسات الدولة.

لكن هل كانت حالات الدمج تلك هي الأولى في العراق منذ تاريخ تشكله؟

بالطبع لا، ولهذا حكاية سأرويها هنا، فقد يجهل حقائقها كثيرون، عراقيون وغير عراقيين.

ولنبدأ بنظرة عامة على الماضي الذي سبق الظاهرة كي لا تبدو وكأنها مستلة من سياق عام، قد يولد عدم الدراية به نوع من الالتباس حول الشخص أو العهد الذي قام بخرق ما هو سائد وأسس لهذه الظاهرة السيئة.

لم تسجل في تاريخ العراق المعاصر بعهديه الملكي والجمهوري الأول حوادث استغلال للنفوذ والمناصب للنفع الشخصي بشكل مفضوح وفاحش، مثلا:

روى فؤاد عارف، زميل وصديق الملك غازي، أن الملك كان يدرس معه في المدرسة العسكرية، أيام كان وليا للعهد، وكان الأساتذة يطبقون عليه، بطلب من والده الملك فيصل الأول، قوانين وأعراف الضبط في المدرسة بحذافيرهما، بينما كانوا يتساهلون مع بقية التلاميذ، ومن أمثلة ذلك أن قواعد الضبط تمنع الطالب من أن يأتي بالطعام أو الحلويات معه من بيته، وعليه أن يكتفي بطعام المدرسة المحدود. وكان الاساتذة يفتشون دولاب غازي بشكل دائم بحثا عن مخالفات، بينما كانوا يغضون النظر عن بقية التلاميذ، وكان أصدقاؤه، مثل فؤاد عارف، يعطونه أو (يتصدقون) عليه ببعض مما يأتون به من بيوتهم من طعام.

" خطية" كان يجوع.

بهذه العبارة وصف الحالة فؤاد عارف.

ولم يأخذ عبدالكريم قاسم، أنزه حكام العراق، أكثر من استحقاقه الوظيفي، فرُّفع نجمة واحدة نهاية عام 1962 حينما رقي الى رتبة لواء بعدما حان وقت استحقاقه الروتيني لها "أربع سنوات".

أول مؤشر كان فيه شك على تلاعب بالقانون وسّلم الاستحقاق الوظيفي ارتكبه عبدالسلام عارف حينما رفّع نفسه الى رتبة مشير. وفي كل الأحوال هو لم يترقى لأكثر من رتبة واحدة أو اثنتان. وفي النهاية هو ضابط حقيقي وليس مزورا.

ولم يرتكب عبدالرحمن عارف، عفيف اليد والضمير، هكذا موبقات أو خروقات. ربما يكون قد سرّع في سلم استحقاقه الوظيفي، مثل شقيقه، حينما نال رتبة مشير، لكنه لم يسلب أي استحقاق آخر. فقد كان قبل رئاسته للجمهورية رئيسا لأركان الجيش بالوكالة لأنه لم يكن يحمل شهادة الأركان. ولم يسلب هذه الصفة أو "الرتبة" حينما صار رئيسا للجمهورية، وبقي عنوانه الوظيفي ضابطا عاديا.

كما أن أبنه، قيس، وهو ضابط حقيقي وخريج كلية عسكرية، وأبوه ضابط ورئيس جمهورية، وكذلك عمه، لم ينل أكثر من استحقاقه الوظيفي الروتيني، وتقاعد برتبة عميد. والأكثر من هذا أنه حين اندلعت حرب حزيران عام 67 أُرسل مع القوات العراقية التي ذهبت الى مصر للمشاركة بالقتال هناك، دون تمييز، لأنه كان أحد منتسبي هذه القوة، وتعرض، بحسب مارواه، الى قصف طيران هدد حياته.

لم يكن البكر، الذي أسقط حكم عارف بمؤامرة انقلابية مريبة، نزيها تماما، لكنه كان متواضعا في سلوكه وحياته، كما روى عنه من يعرفه.

لكن خلفه، صدام حسين، هو أول من حول الدولة ومؤسساتها الى اقطاعة خاصة يلعب وأبناء عشيرته بها كما يشاؤون، واستأثروا بالاستحقاقات الوظيفية الكبرى وتلاعبوا بها وانتهكوها بخفة لانظير لها.

وانتشر في عهده الفساد والاستهتار بالدولة وبمقدراتها في كل مجال وحيز.

لكن الأكثر فضائحية كان منح الرتب العسكرية "موضوعنا هنا" دون قيود وبطريقة جعلتها تبدو وكأنها العاب تسلية وحظ. وقد بدأها بمنح نفسه رتبة عسكرية هي من بين أرفع الرتب في سلم المراتب. "فريق أول ركن".

ومن لا يتذكر ذلك اليوم الصيفي القائظ من تموز عام 1977 حينما جلس صدام بغطرسة ملفتة على مقعد وثير، مرتديا لأول مرة البزة العسكرية، ليتقدم منه الفريق عبدالجبار الأسدي، ويشد له، بيد مرتعشة، ركزت عليها الكاميرا، رتبته الرفيعة على كتفيه.

شرح هو بعد ذلك ما حدث بالقول:

أن هذه الرتبة هي استحقاق منحته الثورة لأبنائها "كذا"، تكريما لنضالهم ودورهم.

وإذا حللنا خلفية هذا السلوك سنجد أن وراءه دافعان:

الأول شخصي، فهناك دلائل عديدة توحي أن الرجل كانت لديه عقدة شخصية من الرتبة العسكرية ورغبة مكبوتة فيها، ففي سيرته انه اراد الانتساب للكلية العسكرية لكنه رُفض، وأنه كان يحسد ابن خاله وصديقه، الضابط الحقيقي، عدنان خير الله، ابام كان يعيش عندهم في بيتهم، وكان يتمنى ويحلم في أن "يتقيف" يوم ما بالبدلة العسكرية التي حُرم منها.

كما أنه كان ذا نزعة نرجسية فاقعة، كما كشفت عنه ممارساته طيلة فترة حكمه، ونزعة طفولية فجة للاستعراض والبهرجة، (صوره بمختلف الأوضاع والأزياء دللت على هذا الميل)، وقد سبق له وأن قام بتقليد مظاهر قادة وزعماء بطريقة طفولية وكاريكاتيرية، على سبيل المثال، أخذ يدخن السيجار مقلدا كاسترو وجيفارا، ثم بعد عودته من زيارة كوبا عام 79 قام يقيادة سيارته بنفسه، "لادا" عادية، مقلدا كاسترو في حركة لم تقنع بها أحدا، وارتدى العباءة العربية مع البدلة الاوربية مقلدا الراحل هواري بومدين. وهكذا.

أما الدافع الآخر فله صلة بطموحه الأكبر، وهو تثبيت السلطة ومركزتها بيده. فقد دلته خبرته السياسية، التي بنتها وعززتها غريزته التسلطية، الى أن السلطة لا يمكن أن تكون له ما لم يجمع كل خيوطها بيده. وفي بلد تلعب فيه المؤسسة العسكرية دورا مهما في الحياة السياسية، منذ تموز 58، والتي تتمحور أساسا حول الحكم والسلطة، عرف أن عليه، لتحقيق هدفه، أن يطوع العسكر، لاسيما وأنه فهم، بخبرته الحزبية، أن حكم البعث في شباط 63 قد سقط بسبب التناحر الذي نشب بين العسكريين والمدنيين على السلطة، وقد فاز العسكريون بهذا النزاع لأن مفاتيح القوة كانت بيدهم، ولهذا أدرك أنه لكي يفوز بالسلطة ويثبتها لحزبه ولنفسه عليه أن يسيطر على العسكريين أولا، وهؤلاء لا يستطيع أن يسيطر عليهم أحد ما لم يكن واحد منهم. فالعسكري يأتمر بأوامر "آمره" أولا وآخرا لا بأوامر مسؤوله الحزبي.

ولهذا، وبعد أن اجتمع الطموحان والدافعان، الشخصي والسلطوي، إضافة الى فهمه العشائري لمعنى السلطة عنده كغنيمة، يستطيع أن يفعل بها مايريد دون أي رادع أو وازع، جرؤ على خرق كبير في الأعراف الادارية والأخلاقية والسياسية وسلب رتبة، هي من أرفع الرتب العسكرية، في جيش لم ينتسب إليه أو يخدم فيه ولا يوم واحد. وبهذا قد سجل باسمه سابقة فريدة مهدت لانحطاط لاحق وسوغته.

ولم تكن تبعات هذا السبق المؤذي على الأعراف وحدها، وإنما امتدت الى الحياة العملية، فقد كان من سوء أقدار العراقيين أن دكتاتورهم قد أشعل بعد سنوات قليلة من سلبه الرتبة حربا، حرب إيران، امتدت لثمان سنوات، كان هو فيها "قائدا عاما للقوات المسلحة". وكان لهذا آثارا مدمرة على
مسارات الحرب وعلى القوات المسلحة بضباطها وجنودها. وقد تسبب جهله بالعلوم العسكرية ونزعته التسلطية بكوارث ميدانية دفع ثمنها ضباط وقادة ميدانيون من أرواحهم وسمعتهم، فقد أُعدم كثير من هؤلاء نتيجة تقييم خاطئ للموقف القتالي، أو بسبب أوامر خاطئة استراتيجيا بقرارات فردية وكيفية منه، لم يجرؤ أحد على تصحيحها أو نقدها، أولا لأنه لا يحترم مبدأ الاستشارة، وثانيا بسبب عامل الخوف لدى القيادات العسكرية من أي نقد أو رأي يقدمونه له ما لم يسألهم هو، وهو لا يسأل.

وحدث أن أُعيد الاعتبار لكثير من القادة والضباط بعد مدة قصيرة من اعدامهم بأوامر متسرعة منه نتيجة غضب شخصي عليهم.

فوجئت مرة في حديث مع صديق سوداني، مثقف وله نشاط سياسيي واهتمام بالتاريخ، أنه لم يكن يعرف هذه الواقعة، وكان يتصور أن صدام حسين ضابط حقيقي. وفوجئ بهذه الحقيقة بقدر ما استغربها.

لكن الأكثر مدعاة للضحك والبكاء هو منحه أمساخا من عائلته، لاخبرة لهم ولا فهم ولامكانة، رتبا عسكرية رفيعة. فقد منح إبن عمه، الدموي، علي حسن المجيد، رتبة فريق أول "ركن" وبوأه مركزا إداريا رفيعا، وزارة الدفاع، وهو لا يحسن القراءة والكتابة حتى. وكذلك فعل مع حسين كامل، إبن عمه وتابعه المخلص وزوج ابنته، ومنحه نفس الرتبة، فريق أو ل " ركن"، بينما الاثنان كانا ضابطي صف عاديين. وشملت المكرمات والرتب المجانية جميع أزواج بناته وأخواته وكذلك بعض أقاربه وأتباعه ومرافقيه وبكل سخاء. أقل واحد فيهم حمل رتبة عقيد و.... طبعا "ركن".

كلنا نعرف المشاق التي يكابدها المواطن لكي ينتمي الى سلك الضباط، فطالب الكلية العسكرية يتخرج برتبة ملازم بعد أربع سنوات من الدراسة الشاقة والمكثفة، ثم يتسلسل في الرتب بحسب استحقاق وظيفي يستغرق مدة زمنية ليست قصيرة، كل ثلاث و أربع سنوات رتبة، ثم في مرحلة متقدمة، وبعد أن يدرس في كلية الأركان، وهي دراسة صعبة تشتمل على معارف وعلوم متنوعة، عسكرية وغير عسكرية، يحصل على صفة أو رتبة الركن. لكن أبطال الدمج الأوائل، أبناء أسرة "المجيد"، مروا سريعا، زحفا وتسلقا، في الرتب دون أي عناء.

وبهذا التصرف والطريقة في منح الرتب والمواقع الإدارية والعسكرية المهمة، كان صدام حسين قد أذل الجيش العراقي وضباطه. كما أن تصرفات ضباط آلـ "المجيد" الدمج، مع ضباط الجيش وقادته، وكذلك عجرفتهم واسقاطاتهم لعقدهم الشخصية وشعورهم المرضي بالنقص في سلوكهم، مثل تشبثهم في أن يناديهم كبار الضباط بـ" سيدي"، قد كرست وضاعفت هذه الإهانة والإذلال.

وتركت هذه التصرفات وغيرها آثارا نفسية ومعنوية مؤذية على منتسبي الجيش خلّفت لديهم شعورا بالغيظ كان وراء بعض محاولات الانقلاب على نظام الحكم، كما هو الحال مع ما عُرف باسم "محاولة الجبور" عام 1990. التي حركها باعث أساسي هو شعور القائمين بها بالإذلال والإهانة. كما أنها كانت وراء حالات عديدة من الامتعاض والتذمر التي أدت بأصحابها، حينما اكتشفوا، الى مصائر مختلفة، بعضها اعدام وأخرى عزل وظيفي وتحقير وغيرها من اجراءات كيفية اعتاد النظام على ممارستها بسهولة وخفة.

بعد كل هذا وعلى أنقاضه جاء زمن الطائفية المبتذل، حيث شاعت ظاهرة ضباط الدمج وما شابههم. لكن للإنصاف ينبغي القول أن حكام العهد الطائفي لم يكونوا هم أول من بدأ هذا السلوك التخريبي، بانتهاك حرمة السلالم الوظيفية المدنية والعسكرية، فسبق القصب ابتدا مبكرا، كما عرفنا في هذه السطور، وانطلق من كورة الفساد والاستهتار البعثية – الصدامية.

والتاريخ لا ينسى!