كتاب لك تنحني الجبال من مراثي الأحبة الجزء الثاني


بلقيس الربيعي
2020 / 6 / 4 - 17:13     

ابو ظفر في الذاكرة



من رسالة دافئة الى شهيد بطل

أية إنتظارات تحكم حواس الأحبة بعيداً عمن يحبون ، إنتظارات وأحلام لم تبتعد كثيراً عن يقين باللقاء .. وعندما تكبر الصورة نلمس ــ نحن الذين نراها عن بعد ــ ثقة الشيوعي بالحياة وإخضرار عينيه بالأمل … وإنهماك الروح بمستقبل من ضياء .
إنتظارات بمعنويات عالية ، يشوبها قلق ما ولكنها مليئة بالوفاء والإصرار على الإختيار الصعب ــ إختيار قضية مقدامة كالتي نذر الشيوعيون أرواحهم من اجلها .

وزوجة الشهيد ابو ظفر … حبيبته … تكتب بروح عاشقة ومؤمنة بحقيقة الكفاح ــ تكتب وكأنها لابد أن تلتقي حبيبها ، وكما وعدها … الصيف القادم .
تحوًل ام ظفر اشواقها الى حكاية دافئة ، ومزاحها الى مناشدة ، فهي تود اللقاء وتسأل عن الصور ، وتعدً حديقة البيت حيث ستلتقي ابو ظفر .. الصيف القادم . ( الرسالة مكتوبة قبل أن يصلها خبر إستشهاد زوجها الرفيق ابو ظفر ) . ولم تدري أن دم ابي ظفر إختلط بمياه عراقية عذبة وهي تتجه نحو الجنوب ، وتتشربها تربة طيبة .

” حياتي : صحتي جيدة ومعنوياتي عالية حتى السماء. أعيش حياة هادئة ولطيفة ، تحيطني صوركم التي تبعث البهجة الى قلبي . وزًعتُ وقتي بين القراءة والترجمة … نادراً ما اخرج . لم تكن احاديثنا معاً لتنتهي لأن حياتنا غنية ، ويكبر املي بلقائك . وصلتني رسالة من ( … الناصرية ) طمأنني فيها على سلامة وصولك ، وأنا بإنتظار رسالة منك من ارض الوطن . أتمنى أن تفي بوعدك وتكتب لي بإستمرار . ”

الرسالة لم تصل ، لم ينتظر ابو ظفر ، لكنه وجًه رسالته ، اجمل الرسائل ، وإن كانت على عجل وبشكل مفاجيء … إنه دمه البليغ ، المشحون بالحب والإنتماء ونشدان الحرية … دمه الذي إنتشر الى كل جهات العراق .

تسترسل ام ظفر في سرد حكايتها الصغيرة الهامة ، بتداعٍ لذيذ وهي تبوح للحبيب البعيد بتفصيلات حياتها بعيداً عنه ، ولكن دون أن تتخلى عما هو أكيد ، ذلك أن ( ابو ظفر حي ) ولابد من اللقاء .
تتداعى ام ظفر بتلقائية من تحب : ” جلب لي احد اصدقائنا تراب حلو عندما سمع بأني اريد أن اعمل حديقة صغيرة . وفي إجازتك القادمة سيكون لدينا ( بستان ) ونعيد ايام الشاي السنكين "

سيطول إنتظارك هذه المرة ، ايتها الرفيقة ، لكن لقاءات قادمة عامرة بالوطن والرفاق ، تلك اللقاءات الحميمة ، وعلى ارض عراقية معطاء ، بلا فاشية ولا حروب ، تلك الأرض التي نذر ابو ظفر حياته من اجل خضرتها وبهائها .

رسالة العراق العدد 44 تشرين الثاني 1984





رسالة جوابية: الظالمي لم يمت


قبل عام حطت في غريان بليبيا رسالة ليست ككل الرسائل نثرت الكلمات روحها في أجواء الغرفة الرابضة على مرتفع من الجبل الغربي في حي المغاربة.
حدقت في الكلمات المسافرة من البقاع الاسكندنافية الى الشمال الافريقي .وضعتني الرسالة في الدوامة, الشاردة الحاضرة.
- ما هي اخبار الغالي ؟
أعرف عم تسأل. ليس لك يا من حطت عليك رسالتها إلا أن تهرب,وتلوذ انت الاخر بالسوأل :
- أين الطبيب الذي عرفته عدن ولحج وشبوة وحضرموت.
طيب مثل تأملاتنا هذا الحزن,نسكن اليه. يصفعنا نعطيه ألف خد وخد
أيها الغوالي بقينا للدمع والآهات.
أيها السابحون في دفق الضياء ، يا نسيج راياتنا : مات الظلام وديست الى الحضيض حفر السموم . ورأينا أسمائكم تتلألأ.
ستطبع أحبتي كتب اطفالنا الجديدة بعض حقكم : إنكم قصيدة الحياة.
ما قبل الآن , كان يعد سنينه بمثابرة ليس لها نظير ,لأن تصبح لافتة الطبيب حاذقة ,نكاسة مثل مثابرته وهو العارف بالأزقة وجنائز الاطفال وسعال شيوخ حارته- عجد الدبعن - والبحث عند العجائز عن حبوب الدوفر تسكن الصدر ولو الى حين.
كان بلا ملل يغترف خطوط اللوحة الصعبة الآتية إليه. وفي كلية الطب - جامعة بغداد - لقي الحلم والصراع.
حلم هذا الشاب السماوي المنحدر من بساتين الخوخ والدهلة ودوالي العنب التي تمرغ فيها العديد من جنود الأحتلال البريطاني بين الرميثة والسماوة عام 1920.
حلمه ...أن يظل يحمل مصباحه. يملك ادواته إجتهادا وشخصية.وكان فصيحا مؤهلأ في في ندائه :تعال أيها المبضع. أفقه أين أضعك . وتعالي أيتها الكتب والمراجع , أمتحنك ,فقد حصلت على تفوقي بامتياز.
والصراع . أن يصبح طبيبا من دون سبر غور النفوس.
أيرضى أن تظلله أشجار الفيلا وسط عنت حياة المظلومين وعشرات القوافل التي تناجي الجوع بتوسل :’ ارحمنا
هي الجراثيم يا ابا ظفر تطاردك،تعدو لتنال منك بلسان سليط تعاقد وجه الحقيقة في خطاك :
سأظل الاحقك لأغرز في بقعة ، اية بقعة، لايهم ، من جسدك سمي الزعاف.
اختار الظالمي جهة القلب لتضخ عليه شلالات العزم وليصيب بها الجراثيم بالحمى .
إستضاف الحلم للاختيار والصراع معا
بعد أن نقلته اليمدا آنذا الى دمشق من دون عائلته التي أودعها في رطوبة خورمكسر. لم يشأ أن تغازله خضرة الغوطة أو صبا بردى.
ماذا يقول لبلقيس التي غسلت شعرها بحناء الصبر، والحب بينهما قصة ابن سنوات شاعت اخباره على ضفاف فرات السماوة وصبايا ثانويتها .
يا بلقيس أيتها المذيعة الحسناء في تلفزيون المثنى,صبي في فم يسار حنين الوطن الذي وزع فيه المارقون الولادات والاسماء والالحان في ارجاء الدنيا.
كأنه يناجيها,وهو يطل على مشارف القامشلي الى الماء الذي غطى الخصر وإقترب للصدر فخاف وارتجف .
ممن ترتجف أبا ظفر, أبا يسار ؟
إحتقن الوجه المدور العريض بايماءة الى أعلى .ردت عليه من فوق فوهة السام قلبي معك , لا تخف علي.
وخاض الماء بتدافع مع تياره الجارف.
كن حذرا يا ماء , فسباحتي ماهرة.
دقائق والرصاص تيار ماء من كل الجهات ومن سماء الله.
لقد ركنت الجراثيم ,والصاعد لكردستان يعرفها وقد خبرها في طريق الذهاب والعودة مرتين.
إطلاقة الخبث أصابته ,وعاد رفاقه ادراجهم يحملون نبأ إستشهاده. لكن الألم والماء والسام ظلت جميعها تحاوره وهو بين اليقظة والاحتضار.
وطوق زارعوا الرعب الجسد الممدد بالماء،
ما زال على قيد الحياة.
وجر بتؤدة وهدوء فهو قد صار ضالتهم,ونقل بعد علاج لرسم القتل كما يشاءون الى دهوك أسيرا ورهينة.
واصيبت حروف وهمهمات وجوده بالخرس فإنقطعت أخباره
كانت هذه الواقعة عام 1984.

لا أدري هل هي أيام ام أشهر أم سنين طال بقاؤك عند الانذال ليمزقوا وقت تسنح لهم الفرصة أو يقتلهم اليأس جسدك الممشوق؟
رأيتك خالدا , حيا تعطي سعفات النخيل خضرة الصباح المجلل بالامل.
وناديت ...ناديت أبا ظفر ,قتلت الجراثيم في بلادك. وهبت من لحود الراحلين ومن الذين لا لحود لهم اغنية تقول :
صافحوا النخل ؟ والمرافئ وإنشدوا للسهل خرير الماء
والجبل للسلام ..ينبت الحب
بمناقير الحمام.
انت هنا .وهو هناك مع موت من نوع وصفه المتنبي ببراعة :
ما يأخذ الموت نفسا من نفوسهم
إلا وفي يده من نتنها عود
أوصلك رد رسالتي يا ام ظفر ؟
رأيته هنا البدر للسائرين وهم زائلون .

ناجي متعب محمد

صحيفة الصباح بغداد 27 -8-2003













الشهيد ابو ظفر
حياة مثمرة .. واستشهاد نبيل


اثار الموضرع الذي كتبته الاخت العزيزة بلقيس الربيعي ( ام ظفر ) عن زوجها الشهيد الدكتور محمد بشيشي ( ابو ظفر ) قبل اشهر في صحيفة الحزب ( طريق الشعب ) مختلف المشاعر عندي , فانا اعتبر نفسي واحدا من اقرب اصدقاء ( ابو ظفر ) فلماذا تعطلتُ كل هذا الوقت عن ان اكتب عنه ؟
اعتقد ان الاشكالية التي رافقت خبر استشهاده , والقصص الكثيرة التي كنا نسمعها عنه عندما كنا انصارا في كردستان طوال الثمانينات, هي السبب الرئيسي في تاجيل موضوع الكتابة عنه ! فكل الانصار الذين عاشوا في مقرقيادة قاطع بهدينان يتذكرون كيف وصل الرفيق ( ابو افكار _ طريق ) اواخر ايلول عام 1984 , وهو شبه عاري , ويهذي بكلمات غير مفهومة , بعد ان عبر جبالا ووديانا , ومر بعشرات القرى , ناجيا لوحده من موت محقق , فقد عرفنا من خلال هذيانه عن ابادة جميع اعضاء ( مفرزة الطريق ) ومعهم الدكتور ( ابو ظفر ) , ولكن وبعد الاتصالات اللاسلكية مع سوريا تبين ان عددا من رفاق مفرزة الطريق نجوا وعادوا الى سوريا في حين اعتبر رفاق مفرزة الطريق ( ابو هديل وابو ايمان وابو جهاد وابو سحر وناهل ) ومعهم الرفيق الدكتور ( ابو ظفر ) شهداء او مفقودين !
وقد اقمنا بعد ايام حفلا تابينيا في مقر القاطع , قرات فيه كلمة مؤثرة,وكانت صورة الرفيق ( ابو ظفر ) هي التي رسمت حروفي لتلك الكلمة فهو اقربهم الي واكثرهم صلة بي .
بعد اسابيع من ذلك التاريخ فاجئني الرفيق ( ابو سربست ), وكان وقتها عضو لجنة اقليم كردستان ويشرف على تنظيمات منطقة بهدينان ( الداخل ) عندما حمل لي رسالة من زوجتي ( السابقة ) وقال انه استلمها من احد رفاق تنظيمات الداخل , وان ذلك الرفيق استلمها من ( ابو ظفر ) , الذي كان يرقد في المستشفى العسكري في زاخو بعد ان اصيب بطلق ناري في فخذه !
قلت لابي سربست , هذا يعني ان الرفيق ( ابو ظفر ) لم يستشهد !؟فاجاب نعم لم يستشهد , انه جريح وعولج و نقل من زاخو الى كركوك ومنها ربما الى الموصل او الى بغداد . هنا تحول موضوع الشهيد ( ابو ظفر ) الى موضوع رفيق اسير لدى السلطة !!, وكانت تصلنا ونحن انصار في كردستان مختلف الروايات والقصص عنه , مرة نسمع انه مدير لمستشفى في بغداد ! ومرة ثانية طبيب في الخطوط الامامية في جبهة القتال مع ايران ! وثالثة انه شوهد يتمشى في شوارع السماوة !!.. الخ من القصص التي كان ينسجها خيال من يبدعها , او قد تكون السلطة نفسها وراء اشاعتها ! لاخفاء جريمتها باغتياله ! الى ان سقط النظام واتضحت معظم الطلاسم , الا مصير الدكتور ( ابو ظفر ) الذي ظل ضمن مصائر عدد من العراقيين المغيبين غير واضح ولا مفهوم ! ولكنه لا ينبئ الا عن استشهاد تحت التعذيب لهذا المناضل الصلب والشيوعي الشهم الذي احتل المكانة التي يستحقها في قلوب وعقول وضمائر كل من عرفه والتقا ه . وكجزء من الوفاء الرفاقي والصداقي لهذا المناضل الصلب اورد بعضا من المحطات المشتركة بيننا مشيرا انها لن تعكس الصورة الحقيقية لعلاقتنا التي كانت متينة, ولا تورد كل ما يمكن قوله في هذا الرفيق النبيل !!

اليمن كانت محطتنا الاولى

في اليمن الديمقراطية,كنت اسمع عن الطبيب الشيوعي الذي يعمل في المحافظة الرابعة ( شبوة) المحاذية للربع الخالي , في منطقة كان يصعب حتى على اليمنيين انفسهم ان يعملوا فيها , وكنت اسمع ايضا كيف ان القادة اليمنيين , وبينهم رئيس الجمهورية ( علي ناصر محمد ) يطرونه ويتحدثون عنه وعن خدماته في تلك البقعة النائية . كان لقاؤنا الاول , عندما ساهمنا معا في الدورة العسكرية الثانية للشيوعيين العراقيين في اليمن , والتي استمرت اربعين يوما, في معسكر قريب من محافظة لحج .ففي تلك الدورة شغل الدكتور ( ابو ظفر ) المسؤولية العسكرية لواحد من فصيلي الدورة ( امر فصيل ) ولا اعرف لماذا اختير لهذه المهمة , وهو طبيب ويفترض ان لا علاقة له بالقضايا العسكرية ؟! ولكني ادرك الان ان انضباطه وحزبيته العالية هي من رشحته لهذا الموقع ! اذ بالفعل اثار في حينها استغرابي بجديته وانضباطه , فقد كان يمشي كعسكري محترف ويؤدي التحية للمسؤول العسكري للسرية بطريقة بدت لي حينها نوعا من المبالغة او حتى التملق !. كنت في تلك الدورة امرا لاحدى الحضائر في الفصيل الاول , وكنت جادا ومنضبطا لحظة التدريب والعمل , اما في اوقات الراحة والفراغ فكنت كبقية الرفاق ميالا للمرح والتنكيت , خصوصا وان هناك اشياء كثيرة في الدورة كانت تدفع لللهو والمرح !!
لقد ظل الدكتور( ابو ظفر ) منعزلا , لا يشاركنا لحظات لهونا تلك , كان يطالع كتبا عسكرية ويبحث ويستفسر , وقد اخذ الامر بجدية تامة . وفي تلك الدورة حصل لي حادثان , الاول عندما رميت قنبلة يدوية اثناء التدريب, فاصابتني شظية في جبهتي , سببت لي نزفا شديدا , فبادر الدكتور( ابو ظفر ) لإسعافي, والثانية عندما نزلت الى البحر المجاور للمعسكر , فزلقت قد مي فوق محار ملتصق بالصخور , وله حافات حادة كالسكاكين ,فاصبت بعدد كبير من الجروح في معظم جسدي , واخذ الدم ينزف من عدد من المواقع فبادر الدكتور ( ابو ظفر ) ايضا لإسعافي ,وعدا هذين الموقفين الخاصين , فقد ظلت صورة الرفيق المنضبط جدا هي الوحيدة العالقة في ذهني عنه !

دمشق والقامشلي كانتا المحطة الثانية

في دمشق التي توجهنا لها نهاية عام 1980 في طريقنا الى كردستان , لا تحتفظ ذاكرتي بشيء خاص عن الرفيق ( ابو ظفر) فقدامضينا فيها شهرا واحدا فقط , حصلنا خلاله على فيزا من السفارة التركية في سوريا _ اذ كان الطريق سالكا نحو كردستان عبر تركيا قبل الانقلاب العسكري _ وكان جميع الانصار يتوجهون من القامشلي الى مدينة ماردين التركية , ثم الى كردستان .
بقاؤنا الطويل نسبيا في القامشلي ولاكثر من ستة اشهر وطدً من علاقتي بالشهيد ( ابو ظفر ) اذ بالرغم من انه كان يعيش في بيت اخر ( بيت ابو وحيد ) وهو غير البيت الذي كنت اعيش فيه ، ولكنه وباعتباره طبيبا فقد كانت لديه حقوق كنا نحسده عليها ,اذ كان يزور جميع البيوت التي يوجد فيها شيوعيون عراقيون (وهي كثيرة ) في القامشلي وتزداد باستمرار , مع تدفق وجبات القادمين من جميع انحاء العالم . وكانت مهمته في هذه الزيارات هي تفقد صحة الرفاق وفحصهم وكتابة ( الراجيتات ) لهم, وكنت والرفاق ال 17 الذين يعيشون معي في البيت نلتقي الرفيق ( ابو ظفر) مرة كل اسبوع على الاقل, وكان ينقل لي الطرائف والاحداث في البيوت الاخرى , وتحيات الرفاق الذين اعرفهم وظروفهم , وكانت قصص صديقي الصحفي ( عبد جعفر ) والذي يعيش معه في نفس البيت هي اطرف ما ينقله لي , وقد نظم لي مع عبد عدة لقاءات , دون علم المنظمة , التي كانت تحرم الاتصالات بين الرفاق وتمنع الخروج من البيوت , إلا للضرورة كالتسوق وزيارة المستشفى .
وفي القامشلي اكتشفت الصورة الحقيقية للرفيق ( ابو ظفر ) , اكتشفت خفة دمه وبساطته وطيبته وروحه المرحة, ونكاته المفضوحة , وتعبيره الصارخ والصريح عن شوقه لزوجته , كنا انا وهو ( ابناء دعوة واحدة ! ) كما يقال في السجون , فنحن من بين القليلين ممن تركوا زوجاتهم واطفالهم في عدن , لذلك كانت مشاعرنا متشابهة تجاه العائلة , وكان ما يجمعنا شديد الخصوصية , وقد اطلعته على نوعية الرسائل التي اكتبها لعائلتي ,اذ كانت تشبه المذكرات الادبية , كما اطلعته على قصيدة خاصة كتبتها في تلك الفترة, وربما كان تشابه قضيتنا سببا رئيسيا في توطيد علاقتنا منذ تلك المحطة الهامة ,اذ تحول البعد عن عوائلنا لدينا لتجديد وادامة لعشق قديم ,واذكر انه حمل لي يوما قصيدة لشاعر سوفيتي يدعى سيمينوف كان عنوانها ( اذكريني سأعود ) تتحدث عن مقاتل يكتب لحبيبته من جبهة القتال طالبا منها ان تنتظره !! وقد اوحت لي هذه القصيدة لكتابة مقطع من قصيدة طويلة يتضمن نفس المضمون اقول فيه
......... تمتدينَ في عُمقي بِلا قَرارْ
وفي خلايا جسدي اُحِسُكِ انهمارْ
سنلتقي في الغدِ ياحبيبتي
ففي غدٍ اعودْ
معبئ بالفرحِ الأخضَرِ والوعودْ
لا تيأسي حينَ يَطولُ البعدُ والفراقْ
سَنلتقي سَيحتوينا الوطنُ العراقْ !!

مفرزة زاخو محطتنا الهامة الثالثة

اوائل تموز 1981 وبعد اكثر من ستة اشهر من الانتظار الممل في مدينة القامشلي السورية , توفرت ظروف ملائمة للتوجه نحو الوطن , كانت المفرزة التي تضم الرفيق ( ابو ظفر ) قد سبقت مفرزتنا بيوم واحد فقط . وفي ليلة غاب قمرها ( وكان ذلك مطلوبا للعبور ) تحركت مفرزتنا مع ادلاءها من الاكراد السوريين , وبعد عدة ليال من المشي المنهك التقينا فوق قمة جبل تركي بمفرزة الدكتور ( ابو ظفر ) كانت اصابع قدمي الاثنتين تنزفان دما وقد امتلاتا بالفقاعات , فبدا ابو ظفر يقصها بحذر ودراية ويعقمها بالسبرتو ويغطيها بالشاش , كان قد تجهز جيدا بما كان يتوقع ان الانصار سيحتاجونه , وكانت تلك مهمته مع غيري ايضا .
بعد الراحة التي تمتعنا بها نهار ذلك اليوم , تبادلنا النكات والاحاديث المختلفة , غسلنا ملابسنا ونشرناها على جذوع الاشجار , كان منظرنا مضحكا بعد ليال التعب القاسية التي امضيناها في ذلك الطريق الصعب والخطير . وقبل حلول المساء اخرج الرفيق ( حمودي شربه ) الخشبة التي اصرعلى ان تكون ضمن اهم ما حمله من القامشلي الى كردستان , وبدا ينقر عليها وسط دهشة ادلاءنا اكراد تركيا الشجعان ,في حين كان خروفان يشويان فوق نار ملتهبة اعدها الرفيق ( ابو الوسن) ورفاقه من مفرزة الطريق , ومع اشتداد الظلام وحلول الليل كان صوت (خشبة حمودي ) يرن ويتضاعف صداه في ذلك الوادي المنعزل ووسط دهشتي واخرين , كانت اكتاف الدكتور ( ابو ظفر ) ورقبته تهتز مع نقرات الخشبة باجادة يحسد عليها , وقد شاركه الرقص رفاق اخرون , فالليلة استثنائية والوطن اصبح قاب قوسين او ادنى .
لم يكن الارهاق والتعب باديان على الدكتور ( ابو ظفر ) كان حيويا ونشيطا ويتطوع لاي عمل, اذ يجمع الحطب, ويجلب الماء من العين البعيدة, ويتابع ( تخدير ) الشاي , وعندما عاندت في ركوب البغل , الذي خصص لي باعتباري لا استطيع المشي بسبب جروح اقدامي , سخر ابو ظفر من حججي عندما قلت له باني مسؤول المفرزة ويجب ان لا ابدو ضعيفا امام رفيقاتي ورفاقي !!. اذ قال لي ان وضعي سيعرقل سير المفرزة ويعرضها للخطر, واجبرني على ركوب البغل !وكان منظري ومنظر الرفيقة ( ام ليلى ) ونحن فوق البغال مبعثا للسخرية والتنكيت ومادة ( لتصنيف ) الرفيق حمودي شربه حتى وصولنا للقاعدة .
كانت ساعات المشي كل ليلة تمتد بين 15 الى 18 ساعة , وكان الدكتور ابو ظفر يبدو قويا وصبورا على تحمل المتاعب والصعوبات , لقد واصل سيره دون عرقلة او شكوى , بل لقد ساعد الرفاق المتعبين , حتى اشرفنا على قاعدة ( يكمالة ) ومنها الى القاعدة الرئيسية في ( كلي كوماتة ) حيث مقر قيادة القاطع , وهناك كانت محطتنا الاولى في حياتنا الانصارية الجديدة .
بعد ايام من وصولنا الى قاعدة بهدينان , كنا معا انصارا في السرية الرابعة ( سرية زاخو ) التي تاسست بمناسبة الذكرى السابعة والاربعين لميلاد الحزب , وقبل تحرك المفرزة بساعات الى الداخل , كنا نعقد الاجتماع الاول للمكتب الايديولوجي للسرية , الذي كلفت بمسؤوليته , وكان الدكتور ( ابو ظفر ) عضوا فيه , وفي هذا الاجتماع طرحت الافكار الرئيسية لعملنا القادم , فكانت ل( ابو ظفر ) مقترحات وافكار هامة واضافات ذكية وجدت طريقها لمشروع عملنا اللاحق .
وقبل ان تتحرك المفرزة كان ابو ظفر يوزع الادوية على شكل اكياس صغيرة ليضعها الرفاق في ( علاليجهم ) مع حاجاتهم الشخصية.
بدات المفرزة تحركها عصرا , كان الطريق سهلا في بدايته ثم بدا التعقد والارتفاع , وكانت ليلة طويلة من المشي المرهق , عبرنا خلالها طريقا مبلطا للسيارات , وربايا عسكرية , ومررنا بجداول ماء متدفق وبساتين جوز وفاكهة متنوعة هجرها اصحابها بسبب القصف الصدامي , وفي الاستراحات - بين ساعات المشي الطويلة - كان البرد يغمرنا فنقهره بمواقد الحطب التي نشعلها بحذر وحيطة , حتى دخلنا القرى الماهولة , حيث السكان البسطاء وكرمهم الذي لا حدود له .
كانت ايام المفرزة الاولى اشبه برحلة سياحية لنا نحن الانصار الجدد ,, فمع حلول المساء ندخل القرى الكردية الفقيرة الممتدة على امتداد الزاب فنستقبل بترحاب وفضول وتعاطف , اذ كنا جميعا من العرب , من البصرة حتى الموصل , وليس بيننا سوى رفيق كردي واحد , هو الشهيد ( ابو رزكار ) الذي كان هو ايضا من مواليد بغداد وخريج الاتحاد السوفيتي .
كانت استراحاتنا ممتعة على الزاب , فبساتين الرقي والخضروات المختلفة تمتد مع امتداد النهر , وقد تطوع الرفيق ابو ظفر مع مجموعة من الرفاق لقطع الرقي من مكانه وحمله للنهر و( تسييسه ) في حين تكون مجموعة اخرى من الرفاق قد نزلت الى النهر واستقبلت الرقي ( المطوف ) وكنا نضحك عندما تفلت رقية من ايدي النازلين للماء فنصرخ ( الحكها ولك .. تره هاي الرقية طالعة البغداد .. ويجوز تكل الصدام وين احنه موجودين !!!) وكان الرقي الذي نجمعه يسلم لاداريي الفصيلين وهما الرفيق ابو محمد ( الشاعر اسماعيل محمد اسماعيل ) والرفيق ابو زياد حلة .
مع مرور الاسابيع والاشهر تنوع عمل مختصتنا الفكرية , حيث اصبحنا في العمق وبين الجماهير وكان للرفيق ( ابو ظفر ) عضو المختصة دوره الواضح في طرح الافكار الجديدة , والتي بدا بعضها فنطازيا في اول الامر ,كمقترحه بكتابة دراسة عن واقع قرى المنطقة التي تعمل فيها مفرزتنا ,وقال ان هذه الدراسة ستفيد الحزب في المستقبل , اي بعد سقوط النظام , ولكي يبدو مقترحه مقبولا وواقعيا اقترح ان يقوم هو بتنفيذه ! فوافقنا على الفكرة رغم غرابتها ,ولكننا ومع الايام اكتشفنا ان الدكتور ( ابو ظفر) قد نظم دراسة متكاملة لقرى الدوسكي وبرواري بالا وجانبي الخابور , تتضمن عدد السكان , ذكورا واناثا , عملهم , انواع محاصيلهم , العشيرة , الشهداء , العسكريين ,حيواناتهم ,الخ من الاسئلة التي لم تهمل شيئا والتي كان يحصل على اجوبتها بسهولة من السكان , الذين يراجعون عيادته التي يفتحها كل ليلة, في كل قرية تدخلها المفرزة , وكانت اسئلته ايضا مثار دهشة القرويين الذين قالوا ان الشيوعيين يسالون عن العلي شيش والدجاج والبقروالخراف والحمير ويسجلون ذلك في دفاترهم !! ولا احد يعرف ماذا سيفعلون بهذه المعلومات!! وكانت اول محاضرة صحية للمختصة بتاريخ 25-8-1981 للشهيد (ابو ظفر) .
اصدرت مختصتنا الفكرية مجلة دفترية اسميناها ( المفرزة 47 ) وكان للدكتور ( ابو ظفر ) نصيبه في جمع الاخبار للمجلة وفي المساهمة في كتابة موضوعاتها الاخرى , كالزاوية الطبية , وقد نظم معنا المحاضرات السياسية والثقافية والندوات التي كنا نقيمها في الهواء الطلق ,او في المغارات , عند سقوط الامطار. كما ساهم مع رفيق اخر في اعداد النشرة الاخبارية اليومية , التي تتطلب انصاتا دائما للاذاعات المختلفة , وتحريرا وقراءة عند الاستراحات .
كان يمشي العديد من الكيلومترات ليصل الى مواطن مريض , اوالى جريح من بيشمركة الحزب الديمقراطي الكردستاني , وقد انقذ مرة حياة احد كوادرهم العسكرية واسمه ( شعبان ) من موت محقق , عندما اجرى له عملية جراحية صعبة في بطنه , كان يفحص المريض فحصا دقيقا ويعطيه الدواء المتوفر في المفرزة مجانا , وان لم يكن الدواء متوفرا , يكتب للمريض ( راجيته ) نظامية يستطيع المريض صرفها بسهولة في المدينة . واصبح اصحاب الصيدليات في دهوك وزاخو يعرفون ( راجيتاته ) ولا يترددون في القول لمراجعيهم ( ها هاي من الدكتور الشيوعي).؟!
كانت مفرزتنا تغادر فجر كل يوم, القرية التي بتنا فيها , حيث نمضي نهارنا في الوديان والحقول او الكهوف او قرب عيون الماء او في البساتين , او على ضفاف الانهار والجداول , كل حضيرة او مجموعة تشعل نارها , وتعد شايها , وتبدا الاحاديث الشيقة , حيث يروي الانصار ما سمعوه من اخبار ليلة امس عند مضيفيهم وما شاهدوه , ولا تخلو الاحاديث عن نوع الطعام الذي تناولوه , واحلام الليلة الماضية عندما تكون طريفة ومسلية ! , وكان الدكتور ابو ظفر واحدا من البارزين في هذه الجلسات اذ لديه الكثير من الاخبار والمعلومات والطرائف , كان يتحدث بتلقائية ويسر في مختلف الموضوعات , يتنقل من السياسة الى الجنس الى الدين الى الحزب , كان شديد الملاحظة , يقظا ,يعرف بدقة معادن الناس وجوهرهم , وباعتباره طبيبا فقد كان يلجا اليه الكثير من الرفيقات والرفاق , شاكين له وضعهم الصحي , رغم ان بعضهم لا مرض لديه , واذكر اني ناقشته مرة حول رفيق ملحاح ,كان يطلب الادوية لسبب او لغير سبب , واقترحت ان يصده ويوقف طلباته , فرد علي قائلا .( انظر اليه جيدا , انه اكبرنا سنا ومن المؤكد انه كانت لديه عائلة وبنات كثيرات, وكن جميعا يخدمنه , ويهتممن به , في حين لا احد له هنا سوى نحن , وخصوصا انا , فالطبيب هو الوحيد الذي يمكن اذ يعرض الانسان ضعفه امامه دون خجل او حرج ,انها مسالة تعويض نفسي , وانا في احيان كثيرة لا اعطيه سوى ماء مقطر او حبوب لاتضر ولا تنفع , وعندما اساله فيما بعد يقول انها افادته وانه تحسن بعد اخذها !!! ) وقد تعلمت فعلا من هذا الدرس الانساني البليغ , نعم كان لديه صبر ومداراة رائعة للرفاق لذلك كسب حب واحترام الجميع .
وللشهيد (ابو ظفر) فضل في انقاذ حياة الرفيق (ابو حازم عمالية) عندما اصيبت اصابع قدميه ب( الكنكرينا ) حيث اجرى له عملية جراحية, قطع خلالها نصف القدمين بمنشار عادي , وبدون بنج, وبدقه تجعل الرفيق يستطيع المشي عندما يشفى , وكانت تلك العملية احد ى مأئر الصمود والاصرار الانصاري العجيب للطبيب ومريضه ,اذ في الوقت الذي بدأ فيه الشهيد ابو ظفر عمله في قطع القدمين , وضع الرفيق ابو حازم يشماغا في فمه وعض عليه باسنانه لكي لا يصرخ من الالم ,وانجزت المهمة خلال ساعات بنجاح , حيث يعيش الرفيق ابو حازم الان في هولندا,مستخدما حذاءا طبيا خاصا .

شجاعته

ينتسب الدكتور ابو ظفر لعشيرة الظوالم , تلك العشيرة التي عرفت بالبطولة والجرأة , وعم والده هو الشيخ ( شعلان ابو الجون ), وقد اكتسب هو ايضا ً, سمات هذه العشيرة فكان جريئا مقداماً . والجرأة والاقدام لا تعنيان خوض المعارك فقط , بل الجرأة في طرح الرأي والدفاع عنه, واذكر ان اول عملية عسكرية اشتركنا بها معا , كانت على الطريق الدولي بين تركيا والعراق , قرب قضاء سميل , حيث نصبت سريتنا مفرزة جريئة واحرقت 11 شاحنة محملة بالبضائع . لقد اصر الدكتور ابو ظفر على الاشتراك في هذه العملية , ولم يبق مع المسؤول السياسي ومجموعة من الرفاق بقيت تنتظر فوق الجبل . كان يتحجج بان الحاجة له كطبيب تقتضي ان يشترك في كل عملية عسكرية !.
في عملية ضرب قرية ( كريما ) تلك القرية التي كان مسؤولها (عزو كريما ) احد الجحوش المشهورين بعدائهم للبيشمركة وعمالتهم للسلطة , كنا نتوزع على مجموعة مواقع , مجموعة في المقبرة التي تواجه القرية , واخرى في التلال التي تشرف عليها , كنت واياه ضمن مجموعة واحدة تشكل كمينا خلفيا ً, وبعد ساعة من معركة حامية بيننا وبين الجحوش الذين دافعوا بشراسة عن مواقعهم وتخندقوا في مواقع امينة , جاء من يطلب الدكتور ( ابو ظفر ) فأخذ عدته الطبية واسرع خلف من طلبه وبعد حوالي نصف ساعة عاد ابو ظفر وهو يجهش ببكاء اليم , كان الامر واضحا لنا ان رفيقا ما قد استشهد , ولم يمض وقت طويل حتى وصلت مجموعة وهي تحمل الشهيد ابو سرمد( علي منصور), حيث اصيب بطلق ناري في رأسه من الخلف. كانت صدمة هائلة , ان يكون الرفيق الذي كنت امازحه قبل ساعة , قد تحول لجثة علينا الان الاسراع في سحبها لمكان امين . كان صوت الرصاص مستمرا , حيث لا تزال مجاميع من رفاقنا تقاتل في اماكن اخرى , كما شاركت ربايا الجيش القريبة في القصف المدفعي على مواقعنا لمساندة الجحوش ولقطع الطريق على انسحاب الانصار وعرقلتهم . حملنا الشهيد مسافة قصيرة بعيداً عن ارض المعركة , ثم تم قطع جذعان متوسطان لشجرتي سبندار , وضع الشهيد بينهما ولف بالجذعين بواسطة ( بشا تين)نزعها الرفاق من وسطهم , وكنت وابو ظفر ضمن المجموعة التي حملت الشهيد لمسافات طويلة , حتى وصلنا الى قرية ( بروشكي ), حيث حفرنا قبراً مؤقتاً دفنا فيه الشهيد , ثم واصلنا مسيرنا لنصل مع طلوع الفجر لبقية رفاقنا الذين لم يساهموا في العملية . وبعد يومين ذهبت مفرزة خاصة من السرية لنقل الشهيد ( ابو سرمد ) لقبر دائم حفر له في منطقة تقع بين قريتي كوسه وبافا , ولا يزال الشهيد ( ابو سرمد) مدفونا فيه حتى الان .
لا اتذكر متى ولماذا غادر الشهيد ابو ظفر السرية التي كنا فيها معا وانتقل الى قاطع سوران , فقد سحبت قبله لمقر قيادة قاطع بهدينان لأعمل في الاعلام , واعتقد ان سبب نقله يعود لقرار المكتب العسكري المركزي ( معم ) لتكوين عيادة مركزية في بشتاشان , وهناك في سوران سمعت كيف انتخب الاطباء ومساعدوهم الدكتور ( ابو ظفر ) ضمن مجموعة نافست قائمة الحزب وفازت عليها !! كما عرفت كيف كان موقفه اثناء احداث بشتاشان الاولى والثانية , فقد كلفه الرفيق ابو عامل ( مسؤول المكتب العسكري المركزي ) ان يقود مفرزة الانسحاب الصاعدة لجبل قنديل , فادى المهمة العسكرية على افضل وجه , اذ كان يحمل سلاحه وادويته وحاجاته , ويصعد ثم ينزل ليتفقد سير المفرزة بحس قائد عسكري محترف !.وقد حمل رضيعاً, كان قد ولد على يديه قبل ايام , فانقذ حياته من موت محقق , اذ لم تكن امه قادرة على حمله والصعود به جبل قنديل المرعب , كما حمل مسودات كتاب الرفيق زهير الجزائري (حول الفاشية ), وفي اهدائه الكتاب لام ظفر , ذكر الرفيق زهير هذه الحقيقة في الاهداء .
بعد ان هدأ ت الاوضاع قليلا في صفوف الانصار, بعد بشتاشان الثانية , يبدو ان الرفيق ( ابو ظفر) حصل على اجازة لزيارة عائلته في اليمن , وكان موعد زيارته قد ترافق مع موعد زيارتي ,دون ان نخطط لذلك, حيث انطلقنا معاً من مقر قاطع بهدينان الى مقر كيشان القريب من الحدود التركية , حيث تتجمع وجبات الخارجين من الانصار ( وهم كثر ), وعدد قليل من المجازين , وكنت والرفيق ابو ظفر من ضمن المجازين .

في الطريق الى كيشان , كنا نسير سيراً انصارياً , اي اثنين اثنين مع المحافظة على المسافات بين مجموعة واخرى ,مما وفر لنا فرصة ان نخوض في موضوعات شتى, كان يحدثني عن مشاهداته في سوران , بعد احداث بشتاشان , وكيف شهد ثورة الانصار ضد قادتهم , وكيف حاول القادة امتصاص ذلك الغضب وتصريف تلك الثورة , من خلال توزيع الملابس والاحذية الجديدة والرواتب على الانصا ر !! لقد سمعت منه لغة جديدة لم اعهدها فيه من قبل , فقد سقطت تلك النظرة الرومانسية التي كانت تحجب عن عينيه رؤية الحقا ئق , لقد اكتشف ان القادة الحزبيين والعسكريين ليسوا الهة , بل بشر عاديون , بل ان الكثير منهم لا يتمتعون بأية مواهب وامكانيات سوى تلك التي تتعلق بطول سنوات النضال . كما سمعت منه , لأول مرة ,انه ينوي ترشيح نفسه لقيادة الحزب في المؤتمر القادم , والذي تأخر كثيراً عن موعده , وشجعني على ان ارشح ايضاُ , قائلا انهم ليسوا افضل منا .!! ورغم قناعتي بجوهر كلامه إلا انني لم اكن اتصور ان يقفز (عضو قضاء) وكانت هذه صفته الحزبية حينذاك , الى عضو لجنة مركزية متخطياً جدار المراتبية الصلب والعالي شاطبا ثلاث صفات حزبية هي المحلية والمنطقية ثم المركزية ,هذا اذا وصل الى المؤتمر !!! لم اكن اتصور ان نبوئته تلك ستتحقق بعد المؤتمر الرابع الذي عقد خريف 1985 , وان الصفات الحزبية والمراتبية ستلغى ويصبح جميع الشيوعيين العراقيين اعضاء فقط في حزبهم , اما المواقع التي يشغلونها فهي تكليفات مؤقتة تزول مع زوال التكليف .

ولأن الطريق بين مقر القاطع ومقر كيشان كان طويلاً,فقد توفرت لي فرصة ان اقرأ له قصائد كنت قد كتبتها قبل اكثر من عشر سنوات , وأذكر انه التفت الي وقال : كم عدد اعضاء اللجان المحلية في الحزب حسب تقديرك ؟ قلت : عشرات ان لم يكن مئا ت , كما اعتقد ! ثم سألني : وكم شاعراً في الحزب ؟ قلت : بضع شعراء ( هذا ان وجدوا !) فوقف وقال لو بقيت شاعراً اما كانت فائدتك اهم واكبر للحزب , من ان تكون عضو محلية ! ( وكنت وقتها عضو لجنة محلية ) فوافقته الرأي قائلا : هذه انتباهة متأخرة لا تنفع الان !

سوريا واليمن من جديد ومحطة اخرى !

في كيشان امضينا بضعة ايام , قبل ان يتم تقسيمنا الى وجبات تتحرك باتجاه سوريا , وكنت ضمن وجبة تحركت قبل وجبته بايام , وكان عبوراً خرافياً لكلينا , واذكر انه روى لي حدثاً غريباً عاشه بوجدانه ومشاعره ,اذ عندما كانت مجموعته تعبر نهر دجلة , من الجانب التركي باتجاه الجانب السوري , بواسطة ( كلك ) بدائي اعدته المجموعة نفسها , كان مع الدليل الكردي (التركي) زوجته ومعها طفلهما الرضيع , ولسبب ما انزلق الرضيع من بين يدي امه الى النهر العميق , فقفز الدكتور ابو ظفر من ( الكلك ) الى الماء محاولا انقاذ الرضيع , ولأن القفزة كانت مفاجئة وغير محسوبة فقد اختل توازن ( الكلك ) واستدار وضربه ضربة قوية في صدره كاسراً احد اضلاعه , لكنه لم ينتبه لجرحه و حاول متابعة الرضيع دون جدوى , فقد اخذته موجة سريعة نحو الاعماق .لقد ظل ( ابو ظفر ) مراراً يتذكر هذه الحادثة , وكيف ان الام المسكينة حين همت بالصراخ نهرها زوجها طالباً منها الهدوء والصمت لكي لا تعرض حياة الانصار للخطر , فالجندرمة التركية ورباياهم على بعد امتار فقط , فبلعت الام صرختها , واكتفت بسيل من الدموع الخرساء .
في القامشي التقينا مجددا , كنت في بيت حزبي مع مجموعة كبيرة من الانصار ,وبقي هو في بيت اخر , كنا نلتقي في المقهى او النادي , فالاجراءات الحزبية لم تكن مشددة هذه المرة كما كانت في السابق . بقيت حوالي شهراً في القامشلي , وكنت والشهيد ( ابو ظفر ) ربما من بين الجميع , خارجين في اجازة لزيارة عوائلنا التي تعيش في اليمن , ولسنا طلاب زمالات , او تاركين الحزب والانصار .
في سوق القامشلي قابلت احد الرفاق المسؤولين عن منظمة القامشلي , وشرحت له وضعنا انا وابو ظفر , بطريقة كاركتيرية ( يعرفها الكثير من الانصار !!! ) فضحك وقال غداً ساحصل لكم على ورقة عبور من المخابرات السورية وستذهبون لدمشق وبالفعل سافرنا في اليوم التالي الى دمشق التي لم ابق فيها كثيراً حيث توجهت لعدن , وبعد ايام كان ( ابو ظفر ) في عدن ايضاً . وهناك كنا كطيرين غريبين , فحياة الانصار , عمقت تجربتنا الحزبية والحياتية , وخلقت لدينا ميلا طبيعياً نحو الصدق والتحدي , كنا متشوقين للعودة لاجواءنا الانصارية الجميلة , ولذلك لم يكن لدينا ميل للعمل الحزبي المباشر في اليمن , فاقترحنا ان تكون صلتنا فردية بالمنظمة وكان لنا ما اردنا , ولكن ذلك لم يمنعنا من الاتصال بالعديد من الرفاق وبرسم صورة مشرقة عن عمل الحزب والانصار , كنا نلتقي باستمرار وتوطدت العلاقة بين عوائلنا ايضاً . كان شاغلنا الحزب ومستقبله وحركة الانصار وافاقها , ومؤتمر الحزب القادم , وماذا سيتمخض عنه .
كانت المراهنات كثيرة اننا لن نعود مجدداً الى كردستان , مراهنات اشترك فيها رفاق عاديون وكوادر وقادة ايضا ً, وكان قرار عودتنا مفاجئا حتى لرفاق منظمة اليمن , واذكر ان الرفيق الفقيد رحيم عجينه طلب مني ان اظل الى جانب عائلتي في اليمن وهو يتكفل بطرح الامر على الحزب ويتحمل المسؤولية عن عدم عودتي , فشكرته على مبادرته , التي ادرك دوافعها النبيلة , واخبرته اننا ذهبنا الى كردستان بقناعتنا ولم يجبرنا احد على سلوك هذا الطريق الذي لا نزال نعتقد بصحته , وكانت امام ( ابو ظفر ) فرصة مماثلة للبقاء في اليمن والعمل هناك , لكنه رفضها مصرا على العودة للانصار . الطريف ان الفقيد الرفيق رحيم عجينة وزوجته الرفيقة العزيزة بشرى برتو والرفيق رضا الظاهر , وكان عضو في منظمة اليمن , كانوا معي في نفس الطائرةا لتي نقلتني من عدن الى دمشق , وقد التقيت بهم بعد حوالي سنة في المؤتمر الرابع في كردستان . وبقوا بعد المؤتمر سنوات طويلة في صفوف الانصار .ِ
كانت ملاحظاتنا , انا والرفيق( ابو ظفر ) متشابهة حول وضع رفاقنا في اليمن , لذلك قررنا ان ننقل تلك الملاحظات لقيادة الحزب في الداخل ,وفي دمشق توفرت لي فرصة ان التقي بالفقيد الدكتور رحيم عجينة وان اسمعه ملاحظاتي , التي قلت له اني سانقلها لقيادة الحزب واستمعت لملاحظاته الهامة, وكان الفقيد ابو ظفر موجوداً في البيت الذي التقينا فيه ويسمع ما دار بيننا وقد بادر لرفع ملاحظاته في رسالة طويلة لقيادة الحزب فيما بعد كما اخبرتني بذلك زوجته .

اسشهاده!

ظلت قضية استشهاد الرفيق الدكتور ( ابو ظفر ) سراً لا يمكن التوصل لخفاياه وحل طلاسمه دون جهود مؤسسات وجهات لديها امكانيات خاصة , والخيط الوحيد المتوفر الان هو معلومة تقول ان السلطة الدكتاتورية كانت قد استدعت احد اخوته الى بغداد وانه غاب اياما ثم عاد حزينا كئيبا , ثم توفي بعد فترة قصيرة من ذلك الاستدعاء , دون ان يقول اين كان وماذا طلبت منه السلطة , والاعتقاد الان ان السلطة اعدمت الشهيد ابو ظفر واستدعت اخاه لاستلامه ودفنه واوصته بعدم التحدث عن الموضوع , اعتقد ان كشف ملابسات استشهاده تحتاج , لجهود مؤسسات رسمية او انسانية او مهنية كنقابة الاطباء العراقية, او جمعية الانصار الشيوعيين , او لجان الشهداء والمفقودين .

داود امين ( ابو نهران )






صداقة لم تفقد تألقها


ما اكثر الذكريات التي تندفع الى مخيلتي حين اتذكر اخي وصديقي ورفيقي في مرحلة الدراسة في كلية الطب في بغداد . كنت اناديه " بشيشي " لأن هناك في مجموعتنا من يحمل اسم محمد . ما ان تعرفت عليه وجدت فيه ما لم اجده عند الكثيرين ممن اعرفهم . فقد كان متواضعا ، صادقا ومهذبا في تعامله مع الآخرين ويحترم الجميع . كان مرحا وعلى الدوام يفيض حيوية. ورغم اننا من بيئتين مختلفتين ( السماوة وبغداد ) لكنّا كنا منسجمين وافكارنا متقاربة ولنا اهتمامات مشتركة ، ولا اذكر أن خلافا حصل بيننا حتى وإن كان صغيرا ليباعد بيننا طيلة سنوات الدراسة في الكلية وهذا نادر في العلاقات خاصة و كنا نمر في ظروف واوضاع سياسية متغيرة . فقد كنت احسد نفسي لهذه العلاقة النزيهة وكنت احلم بتطويرها في المستقبل لخدمة الشعب لكن القدر لم يمهلني .
كان ابو ظفر مجتهدا ومثابرا في دراسته وقد اجتاز دراسته في الطب بتفوق وكان يفوقني في الدرجات احيانا . كنا لا نحب المغامرات أو التطرف في تصرفاتنا كما كان يفعل بعض الشباب من جيلنا ، فلا اذكر اننا تغيبنا عن محاضرة أو مختبر حتى وإن كان مملأ وكنا نحرص على المشاركة في فعاليات الكلية التي تخص الدراسة. لم نشترك في الفعاليات الرياضية أو المهرجانات في الكلية ، لكنا كنا نحضرها . وفي كل خميس ، يوم راحتنا من المذاكرة اليومية ، اعتدنا على تناول العشاء سوية في شارع السعدون وبعدها نرتاد السينما في الدور الثاني .
كثيرا ما كان يحدثني عن عائلته التي تنتمي الى شعلان أبو الجون مفجر ثورة العشرين في السماوة والرميثة ويفتخر بوالده كبطل من ابطال هذه الثورة وقد حمل وسامها في إحدى عينيه .وكان يحدثني دائما عن الحب وعلاقته مع بلقيس يوم كانا طالبين في الثانوية قائلأ : " لو ابحث في كل العراق فلا اجد الإنسانة التي تحبني وتفهمني وتخلص لي اكثر منها ، فهي حبي الأول وستبقى حبيبتي ووجودي ." وفعلأ تكللت هذه العلاقة الفريدة في علاقات الحب الشريف بزواج سعيد .وجاءت ظفر ويسار وكانا إمتدادا لحب لاينتهي .
كثيرا ما كنا نخوض نقاشات حول الأوضاع السياسية في العراق والقضية الكردية وحقوق الأكراد القومية حتى بعض الزملاء ظنوا إني كردي ولقب البياتي لا ينفي ذلك ، وحدثني عن " قطار الموت " يوم نقل الشيوعيون الى نقرة السلمان في العربات الحديدية في شهر تموز وكيف وصل الخبر لأهالي السماوة الذين هرعوا الى محطة القطار وهم يحملون الماء والطعام لنجدتهم ، وكيف أن الجراح العسكري رافد صبحي اديب، الذي كان من ضمن الموقوفين ، اوصاهم بشرب العرق الخارج من اجسادهم ليخففوا من الجفاف ونقص الأملاح . وبعد أن عمل ابوظفر طبيبا في معمل السمنت في السماوة ، كان يحدثني عن العمال وكيف كان يتعرض للمضايقات بسبب موقفه من قضاياهم ، لكنه ورغم علاقتنا المتينة ، لم يفصح لي عن انتمائه السياسي ، ايكون اخفاه عني لكوني منحدر من الطبقة البرجوازية الصغيرة وقد يأخذوني بجريرته ام إني لم ادرك ذلك .
لقد حزنت جدا عندما اخبرني احد ابناء اخته بخبر استشهاده ووقتها لم اصدق الخبر وظننت انه يخفي عني هويته أو مكانه خاصة وإني دائما أسأل عنه وابحث عن وسيلة توصلني اليه .وبعد سقوط النظام ، استطعت عن طريق ابن اخته أن اتواصل مع زوجة اخي ابو ظفر والتي اكّدت لي نبأ استشهاده الذي وقع عليّ كالصاعقة .
لازلت افتخر امام اهلي واصدقائي بعلاقتي بهذا الإنسان الرائع واعتبر هذه العلاقة علامة كبيرة في حياتي . غبت يا ابا ظفر عني جسدا لكنك تبقى في قلبي وذاكرتي رمزا للأخوة والصداقة الحقيقية .

الدكتور محمد علي البياتي


يتبع