ترامب يوقظ أشباح ماركس: طيور كورونا


سلام عبود
2020 / 6 / 3 - 20:30     

مقدّمة لا بدّ منها:
ضربات الوباء نزلت سريعة، مباغتة، غادرة وماحقة.
أتوقف مليًّا عند كلمة مباغتة وأسائِل نفسي: أحقًّا هي مباغتة؟ هي غادرة، لأنّها تشبه لعبة الروليت الروسيّة. ولأنّها تنتقل بإصرار من بلد إلى آخر، ومن قارّة إلى قارّة، ومن رئة إلى رئة، فهي ماحقة؛ ولأنّها تضرب بسرعة البرق، فهي جرثومة القدر الأعمى والعاجل. ولكن، أن تكون مفاجئة، تلك مسألة تحتاج إلى دليل أقوى.
جميعنا سمعنا بنهوض وانتشار الجرثومة، وانتقالها عبر المحيطات. الأعداء كلّهم شيطنوا خصومهم جرثوميًّا. فظهر الفيروس السياسيّ والقوميّ والطبقيّ والدينيّ والطائفيّ وحتّى العشائريّ والجنسيّ! ألصق الأمريكيّون الوباء بالصين، وألحقه بعض الخليجيين وأتباعهم بإيران "فيروس قُم"، وختمه متطرّفوهم ببصمة شيعيّة خالصة "فيروس المنطقة الشرقيّة"، وأدّعى المتصينِنون أنّه وباءٌ إمبرياليٌّ. في الهند جعلوه مؤامرة إسلاميّة لإهلاك الهندوس والأمّة، أمّا العلمانيّون العرب المتأمركون فقد جعلوه خطّة صينيّة للقضاء على المسلمين الإيغور. أطباء فرنسيّون اقترحوا تجريب اللقاح على عاهرات العالم الثالث! بعض المصابين بكورونا، ممن صدّقوا نكات ترامب، تناولوا الكحول الخالص والمعقّمات، فذهبوا بسرعة البرق إلى الجنّة!
النزعات العنصريّة تتصاعد وتتفاعل مع انتشار الوباء. على الرغم من ذلك، لم يمنعنا تنامي الوباء من ممارسة حياتنا المطمئنّة، كما اعتدنا أن نفعل من قبل. ولسبب خفيّ بدأنا أحيانا نتمادى في استخدام الحياة، ربّما نكاية بالقاتل الخفيّ، المتوّج عالميًّا. بدلاً من عطلة صيفيّة لأسبوعين، ألغينا الحجز وجعلناه أربعة أسابيع. وبدلاً من زيارة دولة جعلناها جولة لعدّة دول متجاورة. تسامحنا في قبول اعتذار الأبناء والأحفاد عن زياراتنا الأسبوعيّة بحجج تافهة جدًّا، لم نكن نسمح بها من قبل. لدينا متّسع من الوقت قبل عطلة الصيف، ولدينا حياة مديدة بعدها. رؤساء دول عظيمة يشاركوننا متعة الحياة بشهيّة عارمة. يوم أمس قال الرئيس ترامب ما مفاده: الأغبياء وحدهم من يصابون بالهلع سريعاً. مرض الانفلونزا حصد عدداً يفوق ما يستطيع أن يفعله وباء كورونا الغبيّ!
أفكّر في هذه الثقة العجيبة، المزروعة في أعماقنا، من أين تنبع؟ أحاول أن أربط أفكارنا المتناقضة ببعضها: الثقة بالمباغتة. ما الذي زعزع الثقة في النفس بهذه الطريقة المفاجئة؟ من دون شك ليس انتشار الوباء السريع هو الذي فعل ذلك، بل هو البطء العجيب، الذي تتمتع به حواسنا ومداركنا وهي تواجه ما لم تكن معتادة عليه، وبدقّة أكبر ما ترفض الاعتياد عليه. لقد أخافنا الايدز وايبولا وجنون البقر وانفلونزا الطيور وغيرها، لكنّنا لم نقابل، عند ظهورها، مفردة وباء وجهاً لوجه. فقد لبثت الأوبئة أخباراً تلفزيونيّة وكلمات قاموسيّة أكثر منها واقعاً معيشاً. أمّا كورونا فكان أكثر سرعة من مقدرات مداركنا على تغيير ثوابتها الساذجة.
فجأة خسرنا عطلة الصيف. فجأة رفضت شركة الطيران إعادة مبلغ الرحلة، وماطلت شركة الفنادق في إلغاء حجوزاتنا، ولم تستجب لنا سوى شركة واحدة. إجازة الصيف ضاعت بالسفر أو بدونه، بسبب عدم وجود لقاح أو علاج. والأبناء، والأحفاد خاصّة، أصبحوا مجرد صور ثابتة أو متحركة نراها عبر أجهزة الاتصال! لكنّنا، للأمانة، لم نفقد مؤازرة قادة العالم، آباء البشريّة الكبار والحكماء. فقد لبث ترامب ، حصريًّا، يساندنا في محنتنا، ويقوّي من عزائمنا، بتنشيط ذاكرتنا الحربيّة: شهداء 11 سبتمبر، شهداء معارك فيتنام، ثمّ بيرل هاربر! وما تتضمنه الأخيرة من إشارات عاطفيّة إلى قنبلتي هيروشيما وناغازاكي، فخر التاريخ الأميركي.
1
لأنّني رجل يحبّ اللغة فأنا أحبّ أحفادي لغويًّا، وقد فعلت هذا مع أبنائي من قبل. لكنّ أحفادي أخذوا مساحة عاطفيّة أكبر في موضوع الحبّ اللغويّ. أنا أراقب تطوّر كلماتهم وصيغ تعابيرهم وتركيبها بالأيّام والأسابيع. وأراقب متى استخدمت "إيزابلّا" تعبير "على أيّة حال" و"مع ذلك"، ومتى بدأ "تيو" يطوّر الصيغ التخصصيّة، فلا يُطلق كلمة "افتح" على كلّ شيء: افتح الباب وافتح العلبة وافتح البرتقالة أو الموزة، وشرع يقول أبعد القشرة، لكنّه لم يصل بعد إلى استخدام الفعل "قشّر يقشّر". وباء كورونا حرمنا من متعة الوصول بعمليّة التقشير اللغويّ إلى مداها الأخير. ها هي الحقيقة عارية أمامنا بكلّ بشاعاتها، عارية إلى حدّ أنّها أظهرت الإنسان- نحن - أنّه أدنى وأحقر رأسمال، مقارنة بآبار النفط، وبشركات الصناعة والسياحة والعقارات والمصارف، وبسماسرة كرة القدم الدوليين.
مراقبتي الدقيقة لمناقشات نظرية القطيع السويديّة أوصلتني إلى حقيقة مفادها أنّ المرض كائن سياسيّ، بالضبط كما أنّ السياسة كائن مَرَضيّ. لكنّ حدثاً مفاجئاً جرّني إلى وجهة أخرى. ألمٌ في ركبتي عاد مجدّداً بقوّة، مصحوباً بورم حادّ في قدمي اليسرى. اتّصلت بالعيادة الصحيّة فأخبروني أن أحضر فوراً، لأنّ معدّلات السكّر في دمي مثيرة للقلق. تردّدت، فشعرت الممرّضة بذلك، وقالت: "أريدك أن تكون مطمئنًّا، لأنّني حجزت لك موعداً بعد الدوام الرسميّ.". وقبل أن استفسر بادرت قائلة: "لن يكون في العيادة أحد، عدا شخص واحد لن تقابله، سيأتي لاستشارة تتعلّق بتخطيط القلب". أخذت كلّ الاحتياطات اللازمة: كمامة وكفوف وحزمة من الإرشادات الصينيّة والمخاوف. أجبت على أسئلة الممرّضة الجميلة قبل الدخول إلى العيادة: "لا حمى، لا عطاس، لا ضيق تنفس، إذاً تفضّل بكلّ سرور!". دخلت مسروراً فوجدت بهو العيادة فارغاً، فازداد سروري. لم تدم مقابلة الطبيبة سوى دقائق. كتبت لي دواء مسكّناً وطلبت مني أن أقوم بإجراء فحص مختبريّ. وقبل أن أودعها لامتني برقّة وخجل، لأنّني أسأت إليها حينما لم أنزع الكمامة والكفوف، كما لو أنّني أشكّ في سلامتها. ثمّ برّرت رأيها بأدب قائلة: " الكمامة لن تنفعك، لأنّها ليست للأصحاء، بل هي مخصّصة للمصابين فقط. فلماذا تلبسها؟". نزعت الكمامة والكفوف، وبنوبة تعاطف وشجاعة مفاجئة، رميتها في سلة القمامة، وشكرتها واعتذرت منها لأنّني كنت ضحيّة لمخاوف غبيّة، صينيّة الجذور. دماثة الطبيبة أنستني مخاوفي كلّها. موجة ثقة وطاقة إيجابيّة لا حدود لها تملّكتني فدفعت باب الخروج المؤدّي إلى قاعة الانتظار الفارغة. فجأة وجدت نفسي، وسط مجموعة كبيرة من الناس ينتشرون في أرجاء القاعة ويسدّون منافذها. أشخاص يتحادثون في موضوع مشترك، بأصوات عالية، بعضهم يلبس كمامات وقفازات وصدريّات خاصّة. وجّهوا إليّ نظرات غريبة لم أفهم معناها. كان يتوجب عليّ لكي أخرج أن أفتح ثلاثة أبواب حتّى أكون خارج العيادة. مّددت يدي إلى الباب الأوّل بخوف وتردّد، ثمّ إلى الباب الثاني بيأس المغلوب على أمره، وإلى الثالث بإحساس المستسلم، الماضي إلى موت محقّق. وحينما أصحبت في الخارج واجهتني الممرّضة الجميلة فشجعتني ابتسامتها على التوقّف للسؤال عن سبب وجود هذا العدد من البشر في قاعة الانتظار. أجابت: "هؤلاء من مركز المهاجرين". عبارة مركز المهاجرين عصرت قلبي بعنف، فأنا على علم بحدوث إصابات بكورونا هناك. قلت: "وهل هم مرضى؟"، أجابت: "طبعا لا، لا يجوز حضور المرضى هنا، لكنّهم مسعفون يساعدون الفرق الطبيّة في نقل المرضى الخطيرين!".
3
فكرة واحدة استولت على تفكيري: أن أعدّ أربعة عشر يوماً، زائداً يومين لمزيد من الأمان، لكي أتيقّن أنّني لم ألتقط المرض. ألم يحدث ذلك للباكستاني المسكين في جامعة ووهان، الذي ذهب إلى المستشفى لكي يعرف إن كان سليماً أم لا، فالتقط المرض عند خروجه من المستشفى. منذ تلك اللحظة لم تعد نظرية القطيع مجرد نظرية وأرقام! فحتى تاريخ يوم 16 أبريل كان عدد الموتى في السويد 1600 ، بينما كان عدد الذين تماثلوا إلى الشفاء 580 محظوظاً. بحساب بسيط يعني هذا أن من بين كلّ أربعة أشخاص دخلوا العناية المركّزة توجّه واحد منهم إلى بيته، بينما توجّه ثلاثة منهم إلى المقبرة. عدد الموتى في ستوكهولم وحدها بلغ 93 إنساناً لهذا اليوم فقط! إثنان وعشرون باحثاً سويديًّا يهاجمون السياسة الوبائيّة ويصفونها بالخاطئة. صحيفة (داغسنيهيتر) تنشر انتقادات حادة جاهر بها علماء ومختصّون، تشكّك في سلامة النموذج السويديّ.
فجأة أدركت أنّ السجن أصبح ضيّقاً ومعتماً. وسائل الترويح لم تعد مريحة، ووسائل قتل الوقت أصبحت قاتلة. متابعة خطابات ترامب المسليّة، لم تعد كافية لتبديد حالة الحصار، وفقدان الاتصال بالعائلة، الأحفاد حصريًّا. 4
حمامة حطّت على شرفة البيت في الطابق الثاني سرقت انتباهي للحظات.
أواصل الكتابة غير الإبداعيّة بملل. القراءة الكثيرة جدًّا بدأت تتعبني، وتزحم دماغي. التعقيم، وابتداع أساليب للطبخ، وتعمّد الوقوع في أحابيل تجار الإعلانات في الانترنيت، والشراء بالإنترنيت أضحت طقوساً يوميّة في جدول العزل الطوعيّ، الذي فرضته على نفسي في مواجهة سياسة مناعة القطيع القاتلة، التي تدعو الدولة إليها. الرئيس البرازيليّ يثير حنقي وهو يحرّض الشعب طالباً منه التمرّد على قوانين التباعد، مما جعل البرازيل تصبح البلد الثاني عالميًّا في عدد الإصابات والموتى.
مرّة ثانية عادت الحمامة المطوّقة إلى الشرفة. بدت اليوم أقلّ حذراً. سارت على سياج الشرفة، ثمّ قفرت وحطّت فوق مصباح الإنارة الكبير، في ركن الشرفة الداخليّ.
ناحت الحمامة ذات الطوق فاستيقظت الذكرى.
هذه الحمامة أعرفها. كان عشّها في شجرة جيراننا، التي قطعتها البلدية في الخريف الماضي لأنّها تسدّ الطريق. كان فرعها الكبير يظللّ نصف حديقة البيت في الطابق الأرضيّ، وفروعها الأخرى تمتدّ حتّى الغابة الملاصقة لبيوت منطقتنا السكنيّة. هديلها يذكّرني بصباحات الربيع المنعشة في مدينة العمارة، وبالباجلّة طبعاً، وبالأخت الضائعة في وهاد الله.
وأنا أستمع إلى اتّهام ترامب الجديد للصين، ناحت الحمامة. فجأة حضر طائر رماديّ يشبهها، لكنّه أكبر حجماً، حط ّ بالقرب منها. تبادلا همسات غامضة، ثمّ قفزا معاً باتجاه ركن الشرفة، وحطّا خلف المصباح الكبير.
قرّرت بتصميم أن لا استسلم لسياسة المفاجآت. استحوذت الفكرة على أحاسيسي، ورحت أفكّر جادًّا في طريقة لمقاومة سياسة المفاجآت، التي أوصلتني إلى هذه الاختباء المذلّ في سجن طوعيّ، صنعته بمشاعري المضطربة. العزلة جعلتني أكتشف الاختلاف النوعيّ بين السجن الطوعيّ والسجن الإرغاميّ. فالأوّل يشعرك بأنّك مظلوم حتّى لو كنت قاتلاً؛ لكنّ الثاني، الطوعيّ، يشعرك بأنك ظالم ، وربّما شرير، حتّى لو كنت ملاكاً. لأنّك ببساطة تغدر بنفسك.
5
الفكرة التي تفتّق عنها عقلي، في حربي ضد المفاجآت، هي أن لا أستسلم لسياسة المفاجأة، التي يقررها وباء كورونا والقدر الغامض والحكومة السويديّة. يجب أن أتّبع سياسة الهجوم بدلاً من الدفاع؛ سياسة قوامها صناعة المفاجآت لا استقبالها. المسيح الطيّب لا نفع له هنا بين الجراثيم. اصفع قبل أن تُصفع! شرعت في سلسلة من المباغتات: شراء عدد متنوع من الألعاب المسليّة للأحفاد، من طريق إعلانات الانترنيت، وأرسالها إلى عناوينهم، من دون إخبارهم! هذه المكيدة إحدى أبرز المفاجآت، التي لي شرف ابتداعها، على الرغم من أنّني تفاجأت بأنّ شركات الإعلانات سرقتني بالأسعار المغشوشة، والعناوين والمواعيد الزائفة. لكنّني تقبّلت السرقة بنشوة القائد المنتصر، صانع الضربة المفاجئة الحاسمة، الذي لا يأبه بالخسائر الثانويّة كثيراً!
صحوت فجراً لتأدية بعض التمارين الرياضيّة اليوميّة المعتادة. رأيت المطوّقة تحطّ على الشرفة. لم أرها من قبل تحضر مبكّرة! منقارها البرتقاليّ يلتمع في ضوء الفجر مثل هلال من ذهب. أراه مزيّناً بغُصين بنيّ رفيع، وخلفها يسير رفيقها الذكر، وهو ينوء بحمل غصن أطول من غصنها. أرى الطائر الرماديّ، بقمة كتفه الفيروزيّة اللامعة، مفتوناً وفاتناً، يحمل غصنه الثقيل بفخر ذكوريّ، كما يحمل الملوك صولجاناتهم.
أصغي إلى رمسكي كورساكوف كالعادة. تسحرني ربع الساعة الأولى من سمفونيّة ألف ليلة وليلة. أصوّر خلسة الحمامة الأمّ وهي تنفش ريشها بطريقة غريبة، وأفكّر في تفاصيل النغمات، السابحة في فضاء البيت، والسجينة معي بين الجدران. حذارِ من سماع الموسيقى بعينين مفتوحتين، فقد تُسبب العمى! لأنّ العينين تدلقان الصوت إلى خارج تجاويف الحسّ، وتدلقان معه الشعور إلى خارج الروح، بدلاً من تركيزه وتكثيفه في كأس الوجدان.
أوقفُ التصوير وأغمض عينيّ.
الوباء يعلّمنا ما لم نتعلّمه من قبل. فجأة عرفت لماذا اكتشف الإنسان النار ثمّ عبدها، ولماذا قضّت الأشباحُ المخيفة مضاجعَهُ في الكهوف المظلمة. بانفجار الفيروس القاتل، قرّرت أن أهرب من السجن الكبير إلى الخليّة للاحتماء فيها. ومن الذرّة أيضاً تعلًمت كيف أشقّ قشرتها وأتسلل إلى نواتها، ثمّ أسبح في جوفها مثل فوتون محكوم عليه بالدوران الأزليّ. فجأة لم أعد أطيق الاستماع إلى الموسيقى كأصوات جميلة أو أقلّ جمالاً، بل شرعت أستمع إلى كيمياء النغم. أستمع إلى اللحن كموجات من الأمطار الصوتيّة، المنهمرة في داخلي. إنّ الانقياد للصوت القوى أو الأجمل أو الأعذب عمى ما بعده عمى أيضاً. لأنّ الصوت الأقوى يسرق من شلّال الأصوات وحدة امتزاجها المذهل، يستلّ طيفاً لونيًّا من مهرجان قوس قزح الصوتيّ، ويخصّه وحده بالحبّ والإعجاب. الحبّ بالتجزئة يقتل العشق الحميم، الجوّانيّ، يفكّك الكون المتّحد في الداخل، ويسحب الشعور إلى الخارج، يخرجه من ذاته، فتغدو النفس مجرّدة من شبكة عوازلها الوجدانيّة، المجهريّة، التي صنعت سقوف العرفان لسيدا هارتا، وأوقدت شرارة الوجد في قدحة الحلّاج. بلا عوازل نورانيّة لا تُعلى وحدانيّة الملكوت، ووحدانيّة الأسطورة والواقع، الخيال والخبال، الثورة القصوى والجمال الأقصى.
6
كما لو أنّ غراباً أعرفه يناديني! أنا في الطابق الأرضيّ، أقتلع نبتات القرّاص، التي انتشرت مسرعة بين نبتات الريحان والتوت البريّ (الفراولة). غرابان جاءا من ناحية الغابة. مشاغبان محترفان، يتمازحان بطريقة بهلوانيّة، وهما يتصايحان بجذل. قدّما عرضاً فكاهيًّا مميزاً في الهواء الطلق. معرفتي بالغربان تعود بدرجة أولى إلى عدن. هناك رأيتها وحذرتها، لأنّها كانت تسرق ما نجفّفه من خضراوات في الشرفة. وهناك أيضاً رأيتها في نهاية حرب الأخوة الأعداء، تحطّ على جثث المقاتلين الموتى، المتعفّنة بين الشجيرات، قرب العمارة التي نسكنها. وها أنا أرى الآن الوجه الآخر، المختلف، للغراب في زمن الحجر والوباء، أرى الغراب السويديّ بوجهه الفكه، المسلّي، والمتحضّر.
مفاجأة جديدة ابتدعتها. شرعت بتصوير الحمامة المطوّقة كلّ يوم، ثمّ إرسال الصور إلى أحفادي. وجدت في هذه الهواية عذراً أفحمهم به حينما يكرّرون سؤالهم عن سبب انقطاعنا عن زيارتهم، فأقول لهم: "إنّني مشغول بتربية الحمامة". وحينما يهتفون: "إذاً، دعنا نحن نأتي لنراها!"، أقول لهم بحزم: "لا يجوز! لأنّ الحمامة الأمّ لا تحبّ أن يزعجها الأطفال. الحمام يخاف من صياح الأطفال حينما يضع بيضه. ولكن، أعدكم، سترونها قريباً، وسترون معها مفاجأة المفاجآت، التي لن أكشف لكم سرّها الآن".
7
ترامب يقاتل ذبّان وجهه. في كلّ يوم له معركة: الجرثومة الصينيّة، منظمة الصحّة العالميّة، معاهدة السماء المفتوحة، المفاعلات الإيرانيةّ والامتيازات الأوروبيّة، تغريدات تويتّر، الحزب الشيوعيّ الصينيّ، هونغ كونغ الحرّة، عسكرة تونس، السفن الإيرانيّة، قنابل محمد بن سلمان الدقيقة، حجارة فلسطين الملعونة. خليج خنازير جديد في الشواطئ الفنزولّيّة. يقف ملك العالم مستنفَراً، وهو يرفع الكتاب المقدّس: الطلّاب الصينيّون جواسيس، الجيش والكلاب الشرسة ستواجه المحتجّين أمام البيت الأبيض، الحثالات، اليساريّون والفوضويّون واللصوص ينشرون كورونا، وأخيراً: "القوّة الرائعة" ستمنح أميركا "مجد تسليح الفضاء"!
وفي السويد هجوم عنيف على السياسة الوبائيّة السويديّة "الكارثة". قاد الهجوم إلى تراجع، غير متوقع، قام به مهندس نظريّة "مناعة القطيع"، أو "مقبرة القطيع" أندش تيغنل، الذي اعترف للمرّة الأولى قائلاً: "الوضع سيئ جدًّا في ما يتعلق بإعداد الموتى من الكبار في السن". لكنّه لحس اعترافه في اليوم التالي، حينما حصل على جرعة معنويّة من المرشد الأعلى، الإمام ترامب قدّس الرأسمال سرّه، الذي أعلن فجأة : "أميركا لن تمارس سياسة الإغلاق إذا عدت مجدّداً في الخريف. ثمّ أرفق تهديده بممارسة ضغط سياسيّ مباشر على أوروبّا، تحت شعار "معا نتحدّى كورونا، وننقذ الاقتصاد، باعتباره إله الحضارة البشريّة الأوحد.
ولكن، أقول بثقة ولكن، لم تكن الصورة سوداء ومظلمة في كلّ مكان. فقد أعلنت تونس والصومال عن إصرارهما الكبير على مساعدة إيطاليا في محنتها القاسية، بإرسال مساعدات عاجلة إلى البلد العليل!
8
وأنا في الطابق الثاني ألحظ عودة متكرّرة، للغرابين المرحين. لسبب ما أحسست أنّ مزاحهما الفكاهيّ زاد عن الحدّ، ولم يعد مسليًّا. من شبّاك الطابق الثاني أخذت أراهما بعيون مغايرة، فلم أعد أنظر إليهما من أسفل إلى أعلى، بل على العكس، هما الآن يطيران ويهبطان ثمّ يرتفعان تحت مدى بصري. يخترقان الغابة، الملاصقة للبيت، ثمّ يهويان مسرعين تحت الشرفة وهما يتصايحان ويتمازحان، ثمّ يتصنّعان العراك العنيف. التفاتة منّي إلى عشّ الحمامة المطوّقة أذهلتني. الأمّ تنفش ريشها، حتّى بات حجمها ضعف حجمها الطبيعيّ. وللمحة خاطفة رأيتها تمدّ منقارها تحت صدرها وتعدّل وضع كائنات صغيرة، كانت تتململ تحت جناحيها. أمّا الغرابان فما انفكّا يواصلان لعبتهما المسليّة، مناورة الهجوم السريع، والانقضاض الوهميّ، المصحوب بالصراخ الحادّ، المفزع. نظرت شزراً إلى الغرابين، ونزلت مسرعاً إلى الدور الأرضيّ، وقذفتهما بأوّل حجر عثرت عليه.
من قلب الظلمة تناقلت وسائل الإعلام معجزات عربيّة من العيار الثقيل. السلطة الليبيّة وسلطة غزّة تقودان ثورة عربيّة تنويريّة مضادّة في مواجهة تجبّر كورونا. التعليم عن بعد للجميع. وللجميع تعني للجميع من دون استثناء، زنقة زنقة، في بقعة مضطربة بلا كهرباء دائمة، ولا انترنيت فعّال، ولا هاتفاً محمولاً يعمل بانتظام !
ما يشغلني الآن هو الأمان الخادع، الذي عاشته الحمامة المطوّقة الأمّ، وهي تحمي وجود صغارها. لماذا أعادت الأمّ بناء عشّها هنا، في هذا الركن المكشوف، وليس في مكان آخر، أكثر أماناً؟
ترى هل هذه الحمامة، العائدة إلى قرب عشها القديم، هي الأمّ أم ابنتها، التي ولدت العام الماضي على الشجرة؟ من يعرف! لماذا يفوق حبُّنا لأحفادنا حبَّنا لأولادنا؟ ربّما لأنّ الأحفاد ليسوا دمى للتسلية، نتسلّفهم من آبائهم ثمّ نعيدهم إليهم. إنّهم ميزان الموت والحياة، وعدّاد الوجود الرقميّ.

9
أصغي إلى نداء الحمامة الأمّ. تغمرني نشوة وأنا أرى الأمّ ترفع رأسها وتفتح منقارها البرتقاليّ، وصغيريها يتسابقان على غرس منقاريهما الداكنين في جوفها. أراهما معاً يتنازعان، بقوّة خارقة، لاحتلاب نبض وجودهما من عصارة روحها.
10
شيئاً فشيئاً بدأت فترات مغادرة الحمامة الأّم تطول، وحينما تعود تأتي محمّلة بالغذاء إلى حدّ التخمة، ثم يأتي الذكر بعدها بمعدة مملوءة أيضاً. فترات تنظيف أجنحة الصغار وتدريبهم على تحريكها بدأت تطول.
أمّا خارج العشّ، فعلى غير عادتها، تتّصل حفيدتي إيزابلّا قبل المساء، وتقول فور انفتاح الخطّ: "جدّو! مفاجأة كبيرة لك. أنظر!". تنطق ذلك وتقرّب شاشة الهاتف من فمها، فأرى المفاجأة: فجوة مستطيلة في أسنانها العليا. سقطت سنها اللبنيّة الأولى! لا تمهلني كي أنطق، تبدأ فوراً مساوماتها الماكرة: " بابا يريد أن يشتري السنّ منّي، لكنّي أستطيع أن أبيعها لك. لا تخف! نظّفتها ماما وعقّمتها. ما رأيك؟". أقول وأنا أخمّن أهدافها: "صحيح هي مفاجأة مفرحة، ولكن، ما الثمن؟" تردّ مسرعة: "الحمامة! أن تسمح لنا برؤية الحمامة"، أقول:" أنا أرسل إليك صورها كلّ يوم"، تردّ بحزم: "مع ذلك، أريد رؤيتها حقيقة". أتساءل :"كيف؟"، فتردّ:" نأتي عندكم، غداً يوم سبت على أيّة حال". هنا يصبح المغزى واضحاً. تريد أن تخدعني لتحلّ معضلة تؤرّقها، ولا تجد لها حلاً أو فهماً. عقلها لا يستطيع أن يستوعب معنى الحظر والتباعد الاجتماعيّ المفروض علينا. ومن جانبنا لا نستطيع الحديث بعمق عن الموت، والسنّ، ودرجات الخطورة ومراتبها، وزيف سياسات الحكومات الأوروبيّة وطبيعتها الأنانيّة المنافقة، ونواقصها الإنسانيّة المشينة. أقول وأنا أفكّر في طريقة لتغيير دفّة الحديث:" ولكن، غير مسموح لأحد أن يقترب من الشرفة. لقد أخبرتك أنّ الأمّ تخاف على صغارها، وإذا خافت ربّما تهرب ويبقى صغارها بلا طعام وماء. هل يرضيك هذا؟". تقول بدهشة: "وأنت! ماذا تفعل؟"، فأرد "أنا أيضاً لا أفتح باب الشرفة"، تواصل أسئلتها المحيّرة والمباغتة: "ومن يسقي ورود الشرفة؟ والوردة التي زرعتها لي؟"، أجيب: " لا أحد"، فتقول: "وهل ماتت الورود؟"، أجيب كاذباً: "لا، الورود القريبة من سياج الشرفة تشرب ماء المطر". تصمت لحظات، ثمّ تردّ بأسى وقنوط: "سيند! (خطيئة!)". فجأة يندفع "تيو" إلى الهاتف ويحشر وجهه في الشاشة وينطق مثل ببغاء، مردّداً ما قالته أخته: "ثيند، جدو! ثيند!". اغتنم تدخّل "تيو" لكي أهرب من إلحاح إيزابلّا، الذي أعرف جيّداً أنّه لن ينتهي إلّا بنوبة حزن عميقة. "تيو" الملعون يتصنع الانشغال وهو ينصت إلى ما نقول. أسأله لكي أعرف خططه السريّة: " تيو، من تعني بـ ثيند (خطيئة)؟"، يقول مسرعاً: "الحمامة"، أقول: "لماذا ثيند؟"، ينطق بعد تردّد: "لأنّها أكلت وردة إيزابلّا". أردّ: " وما الخطيئة في ذلك؟"، يجب بجديّة تامّة: " مشت في المطر"، أقول: "وهل هذه خطيئة؟"، يردّ برصانة شاهد إثبات: " الحمامة بلّلت ملابسها"، أقول مستوضحاً: "كلّ ملابسها؟"، يجيب مسرعاً: "نعم، كلّها"، أقول وأنا أوقعه في الفخّ: "حتّى قميصها وسروالها وجواربها؟". يبتسم بخجل، متهرّباً من سخرية سؤالي، ثمّ يصيح وهو يهرب: "ثيند جدو! ثيند!". "تيو"، بشهور عمره الثلاثين، يملك مثلنا تصوّراً ما عن العالم، يستطيع به أن يعطي تفسيراً للحياة على مقاس لغته المتواضعة، فكيف يمكن لنا أن نُفهمه معنى "مناعة القطيع"! كيف لنا أنّ نُفهم أنفسنا أنّ بلاده المتطوّرة تحتلّ أعلى المراتب عالميًّا في عدد الموتى قياساً بعدد من تماثلوا إلى الشفاء. وأن هذه النسبة تفوق النسبة العالميّة ليوم 30 أيار، التي ترجح الشفاء على الموت، بنسبة 5،2 حالة شفاء مقابل 1 حالة موت . لكنّ مملكة السويد تسجّل 1،1 حالة شفاء مقابل كلّ حالة موت!! ماذا نوضّح وكفتا النجاة والموت تتناصفان المصير بديمقراطيّة قاتلة؟
11
في اليوم السابع والعشرين من عمرهما يتحرّك الصغيران، بعد تمرين مكثّف على الرفرفة والوقوف على حافّة العشّ. فجأة يفقد أضعفهما توازنه ويخرّ ساقطاً على أرض الشرفة. لكنّه يستجمع قواه، ثمّ يقفز إلى سياج الشرفة. تلاحظ الأمّ تردده، فتحاول تشجيعه وحثّه على العودة إلى العشّ. تقترب منه حتّى تلامسه، ثمّ تقفز نحو العشّ. لكنه لا يستجب، تهيباً من محاولة القفز إلى أعلى. أمّا الأقوى فيقوم بالقفز ويحطّ قرب شقيقه بضع دقائق، لكنّه سرعان ما يطير برشاقة ويهبط على شجرة الصنوبر القريبة، ثمّ يطير مجدّداً مخترقاً صفّ أشجار التنوب. تطير الأمّ وتحطّ على الأرض قرب حافّة الغابة، وتدعو ابنها إليها. يتردّد الطائر الفتيّ قبل أن يقرّر القفز في الهواء. يستجمع شجاعته ويقذف جسده خارج الشرفة، لكنّه لا يقوى على الارتفاع عالياً، فيتهادى هابطاً، منساباً باتجاه المنحدر الحرجيّ، ويختفى بين الشجيرات.
12
الدول والشركات والرؤساء، الذين افتتحوا بازارات دوليًّة يعلنون فيها تجريبهم اللقاح المنقذ بنجاح، ثمّ شرعوا يتبارون في تحديد بدء تعميمه على البشريّة كافّة، أصابهم الخرس فجأة. منذ أسابيع، باتفاق كونيّ عجيب ومريب، صمتوا جميعهم، دفعة واحدة، كما تصمت جوقات الغربان بعد دفن الضحايا.
13
حياة الفيروس القصيرة جدًّا، التي قيّل لنا أنّها لا تتجاوز بضع ساعات على الأسطح، بدت أطول مما نعتقد، بدت لا نهاية لها وهي تعيش في أبداننا وأرواحنا.
الرئيس الروسيّ بوتين سارع فجأة في مدّ يد المساعدة لسدّ الخرق في الثوب الإيطاليّ، لكنّه ترك موسكو الجميلة مهترئة الثياب، يتكدس في أسرّة مستشفياتها عشرات الآلاف من المصابين بالوباء، يفوق عددهم عدد المصابين الإيطاليين! من فاجأ من في لعبة الروليت الروسيّة؟
خطّةُ مفاجأةِ المفاجأة، التي جعلتها ستراتيجيّة روحيّة وقائيّة ضاربة، فشلت. لم تصل هداياي إلى أحفادي، بفضل خداع شركات الانترنيت. والصور والأفلام التي بعثتها إليهم أضحت مجرد رسائل لا معنى لها. الغرابان عادا إلى هدوئهما. أمّا العشّ الفارغ، الذي غادره الطائران الفتيّان يوم أمس، فقد بدا مثل صندوق بريد خال من الرسائل.
استمع إلى فرانس ليست، إلى القطرات اللحنيّة المنهمرة من البيانو مثل حبيبات الندى المتدافعة. أنزع قميصي وأجعل منه شبكة لاصطياد طيوف الخيال، ثمّ أبدأ بجمع حبيبات الندى المتناثرة من أنامل الساحر. أغمض عينيّ لكي لا تهرب مني قطرة نغم، أو لكيلا تسقط إحداها خارج وعاء روحي.
الملك الخفيّ المتوّج، كورونا، يرتّل علينا قارئاً مزموره الإيقاظيّ، القاسي والبليغ، المكرّس لصياغة قوانين الموت وقوانين الحياة!
14
اليوم هو التاسع والعشرون من أيار. سجّلت البرازيل اليوم أكبر عدد من الضحايا الجدد في العالم( 1124) وفاة جديدة و (26923) مصاباً في يوم واحد فقط. وسجّلت ألمانيا، إحدى الدول التي أبدت حرصاً مقبولاً في مواجهة الوباء (726) إصابة جديدة، هي الأعلى منذ عشرة أيّام. وسجّلت ستوكهولم (259) إصابة جديدة، هي ثالث أكبر زيادة منذ ظهور الوباء قبل عدّة أشهر. وارتفعت نسبة الموتى في السويد إلى (440) لكلّ مليون، بينما لبثت النسبة في النرويج عند العدد (47) لكلّ مليون. ولم تسجّل النرويج وفاة جديدة منذ أسبوع. فارق إجمالي الوفيات بين البلدين الإسكندنافيّين الجارين قدره (4092) حالة وفاة. أمّا نسبة الشفاء إلى الوفاة في السويد، التي وصفت لدى المنتقدين بالكارثيّة، فهي مرعبة حقّا، تترجم سياسة "مناعة القطيع" بصيغتها الأكثر وحشيّة وإجراميّة، حيث كادت نسبة الوفيات تعادل نسبة الشفاء: (4350) وفاة و(4971) شفاء، بفارق إجمالي قدره (4092) وفاة مقارنة بالنرويج، وبنسبة إجماليّة معدّلها30 حالة شفاء مقابل حالة موت واحدة في النرويج، وفي الدانمارك بلغ معدّل حالات الشفاء 13،1 حالة مقابل حالة وفاة واحدة. وفي فنلندا 15،4 حالة شفاء مقابل حالة وفاة واحدة. أمّا في الصين الشيوعيّة، بلد السفّاح ماو تسي تونغ، كما نعتته الصحف السويديّة فتبلغ النسبة 13،4 حالة شفاء مقابل حالة موت واحدة. ويبلغ الفارق بعدد الإصابات في السويد قياساً بعددها في الدانمارك 26 ألف حالة. وهي نتيجة جنونيّة في دولة متقدمّة كالسويد، تمتاز بضعف الكثافة السكانيّة، وتمتلك أحدث وأشهر شركات صناعة أجهزة التنفس في العالم، وأكثر المؤسسات الطبيّة تطوّراً وتبجّحاً.
المطوّقة تعود إلى العشّ الفارغ بين الحين والآخر، تتحسّس العيدان وبقايا الريش الناعم. أفطن إلى مجيئها حينما أسمع هديلها الموحش. لحنها الكونيّ المعروف في الحواضن كافّة، بصرف النظر عن اختلاف اللغة والترجمة والموطن، يظلّ دائماً وأبداً واحداً. مقطعان متماثلان في الطول والقوّة، يشبهان الصوت والصدى: "ياكوكتي...وين أختي!". أمّا الآن فلا أسمع ترنيمة الهديل المعروفة، بل أتحسّس نصال النحيب تجرح أعماقي. اللحن لم يزل مقطعين نغميّين مثل الصوت والصدى، لكنّ أوّلهما صار أكثر خفوتاً وغموضاً، مثل غرغرة متقطعة، مثقلة بالتعب والرجاء وفقدان الإرادة. أمّا المقطع الثاني فهو مختلف تماماً، يشبه خيطاً من الدخان السامّ، تخترقه حشرجة مكبوتة تصدر من صدر مختنق بوحشة البعاد، تنتهي بأنّة مشحونة بالأسى، واهنة، مرتجفة، مشبعة بلوعة الفراق الأبدي.
15
ترامب، بعفويته المدهشة، يفتت المفاهيم المتحجّرة. يعيد قراءة و"ترتيب" ماركس ماركسيًّا، وحصريًّا قراءة مقولته الشهيرة: "الإنسان أثمن رأسمال". ليس من أحد سوى ترامب يقرأ المقولة الماركسيّة على حقيقتها المرسومة في وعي النظام العالميّ القائم: "الرأسمال أثمن إنسان!".
في الفترة القصيرة، التي ساس فيها ترامب، تعلّمت منه ما لم أتعلّمه من ماركس خلال خمسين عاماّ من القراءة المملّة والعسيرة، عدا نصّ البيان الشيوعيّ الرومانسيّ والجميل.
بفضل سلاسة وتربويّة ترامت غدوت خبيراً بما فاتني من مفاهيم ماركس المعقّدة والعسيرة وتطبيقاتها العمليّة الفاشلة. فهو، أعني ترامب، وليس لينين، من أعاد النظريّة إلى أرض الواقع. لذلك أحسب أنّه المجدّد الحقيقيّ لنظرية "الدولة والثورة"، التي نسيها المثقّف المستحوَذ، وهو يغرق في مباهج فوضى الحرّيّة.
16
المساجد والكنائس تتسابق مع نوادي القمار والخمّارات على كسر الحظر الصحيّ. إذا كان لاعبو القمار يحمون أرباحهم واضعين سرعة استعادتها فوق أرواح البشر، فلماذا يستعجل القساوسة والأئمة؟ حقاً، لا بدّ للأرباح المقدّسة من رب يحميها!
17
صباح اليوم، استلمت رسالتين من شركتيّ السفر والسياحة. الأولى من شركة طيران "بيغاسوس" تخبرني بإلغاء الرحلة واستعدادها لتعويض "رحلة العودة"، من دون ذكر رحلة الذهاب! أمّا شركة الفنادق، التي رفضت إعادة مبالغ الحجز. فقد خصتني بحبها الكبير في رسالة ترحيب مفرحة، مزيّنة بوجوه طافحة بالسعادة والأمل، تقول: "تذكروا! لم يتبقّ لكم سوى يومين للاستمتاع بعطلتكم البهيجة، فاحزموا حقائبكم فوراً!".
لا أعرف لماذا خيّل إليّ أنّني قرأت كلمة "توابيت" بدلاً من "حقائب".
18
على أيّة حال، ومع ذلك، شكراً لحمامة الله المطوّقة، التي ضاعفت من تضييق سجني المكانيّ وهي تعينني على التقليل من وحشة سجني الروحيّ؛ والشكر موصول للغراب أيضاً، فقد كان معلّماً مرحاً في أشدّ حالات غدره، معلّماً ضروريًّا، لا غنى عنه لفهم أسرار الولادات الحتميّة في الأماكن المكشوفة والأزمان الموبوءة.