الفوضى المستدامة في العراق ‏...‏


موسى فرج
2020 / 6 / 2 - 20:46     

كعادتهم دائماً، العراقيون قلما اتفقوا في تقييمهم للأمور باستثناء قضايا معدودة من بينها: إن ‏حكامهم بعد 2003 فاسدون أقحاح...وإن وصفهم الذي جاء على لسان المرحوم الجلبي نقلاً عن ‏سفير أمريكي قال له قبل سقوط نظام صدام: إنكم "يقصد ساسة المعارضة في حينه" تنتمون إلى ‏المدرسة الأخلاقية لصدام ذاتها" هذا الأمر بالذات لم يختلف عليه العراقيون...‏
من بين الكم الهائل من الأمور المختلف عليها بين العراقيين قضية: هل أن الأمريكان عند ‏اجتياحهم للعراق عام 2003 كانوا يملكون مشروعاً لبناء الديمقراطية في العراق...؟
على مدى السنوات الـ 17 الفائتة لم يحسم الجدل بشأن تأكيد ذلك أو نفيه منذ انطلاقته لأول مرة ‏بعد سنة أو نحو من ذلك من احتلال العراق وما زال الجدل محتدماً لليوم بينهم: ‏
ـالفريق الأول يقول: إن أمريكا كانت تملك استراتيجية لإسقاط نظام صدام ولكنها لا تملك ‏استراتيجية لحكم العراق بعد صدام ولا تملك مشروعاً لبناء نظام حكم ديمقراطي بعد سقوطه... ‏
ـالثاني يقول: بل إنها بالفعل تملك مشروع سياسي سعت لتطبيقه في العراق لتصنع منه نموذجها ‏في الديمقراطية الذي تسوقه لشعوب الشرق الأوسط والعالم في عصر العولمة ويقوم على نشر ‏الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط ولو بالقوة العسكرية وتغيير أنظمة الحكم الرسمية للدول، ‏وقد عكفوا منذ أحداث أيلول 2001 على إعداد تلك الوصفة الأمريكية لبناء الديمقراطية باعتماد ‏‏"الفوضى الخلاقة" والتي ترجع أصولها إلى ما صاغه "فرانسيس فوكوياما" بعنوان "نهاية التاريخ"، ‏و"صمويل هنتنجتون" في مؤلفه "صراع الحضارات"، و “مايكل ليدين” العضو البارز في معهد ‏‏“أمريكا انتربرايز” أول من صاغ مفهوم “الفوضى الخلاقة” أو “الفوضى البناءة” أو “التدمير ‏البناء” فيما عبر عنه في مشروع (التغيير الكامل في الشرق الأوسط) الذي أعد ‏عام2003...وبعضهم يعود بها إلى أفلاطون...‏
‏... ويقدمون لذلك ثلاثة أدلة:‏
‏1.ما قالته كَونداليزا رايس في عام 2005 لجريدة الواشنطن بوست عن نية الولايات المتحدة ‏نشر الديمقراطية في العالم العربي وتشكيل "الشرق الأوسط الجديد" عبر نظرية "الفوضى الخلاقة" ‏التي هيّئتها واعتمدتها مسبقاً...‏
‏2. ما قاله الرئيس الأمريكي جورج بوش في 2/ 8/ 2004 بعد تأكده من عدم وجود أسلحة ‏الدمار الشامل: "حتى لو كنت أعرف قبل الحرب ما أعرفه الآن من عدم وجود أسلحة محظورة ‏في العراق فإني كنت سأقوم بدخول العراق ".‏
‏3. ما قاله وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد رداً على الانتقادات القائلة بسماح الأمريكان لعمليات ‏النهب والسطو والتخريب واسع النطاق أثناء دخول الأمريكان بقوله: "إن العراقيين ليسوا معتادين ‏على الحرية وان هذه أول فرصة لهم للتعبير عما يختلج في نفوسهم وإن هذه العمليات الفوضوية ‏إيجابية وخلاقة وواعدة بعراق جديد"...هذا الرأي تبناه عدد ليس بالقليل من الباحثين العراقيين ‏وأعدوا في بحثه أطاريح لنيل الماجستير والدكتوراه... ‏
أنا من جانبي أقول: لا هذا ولا ذاك ... إنما احتلال الأمريكان للعراق جاء على خلفية عنتريات ‏صدام وتلويحه بـ "هلط "إسرائيل بالكيمياوي وبسبب محاولته اغتيال بوش الأب أثناء زيارته ‏للكويت ورسم صورة له في مدخل فندق الرشيد تسحقها أحذية الداخلين والخارجين إلى الفندق ‏على مدار الساعة من ناحية، وسعي الأمريكان لتدمير القدرات العسكرية للعراق وتفكيكه وتقسيمه ‏بحيث لا يشكل خطراً على إسرائيل في المستقبل وفي حالة نجاحهم في ذلك سيوسعون النموذج ‏ليشمل كل منطقة الشرق الأوسط والعالم من خلال إشاعة الفوضى المستدامة التي بدأت بانهيار ‏الاتحاد السوفيتي ودول أوربا الشرقية وأزالت دول مهمة كانت قائمة مثل يوغسلافيا ولن يتوقف ‏مسعاهم في الصين ...ساعدهم في ذلك ساسة عراقيون فاسدون ينتمون إلى مدرسة صدام ‏الأخلاقية ذاتها أشاعوا الفوضى وجعلوها فوضى مستدامة لتكون وسيلتهم للحكم والفساد ونهب ‏المال العام ...‏
ليلة البارحة وعلى وقع تصاعد الأحداث الجارية في أمريكا والتي انطلقت على أثر مقتل المواطن ‏الأمريكي جورج فلويد الذي قضى خنقاً تحت ركبة الضابط الأمريكي قال الرئيس الأمريكي ترامب: ‏لقد سمحت بتسخير كافة الإمكانات الفيدرالية المدنية والعسكرية لوقف عمليات النهب والسرقة ‏وفرض القانون وسيتم التحرك فوراً...وسوف أعطي أوامري بتدخل الجيش الأمريكي المدجج ‏بالسلاح بشكل فوري لإنهاء الفوضى...‏
عندما سمعت خطاب ترامب استرجعت كلام رامسفيلد القائل: "إن العراقيين ليسوا معتادين على ‏الحرية وان هذه أول فرصة لهم للتعبير عما يختلج في نفوسهم وإن هذه العمليات الفوضوية ‏إيجابية وخلاقة وواعدة بعراق جديد"...وتساءلت بصدق: لماذا لم يتح ترامب للأمريكيين التعبير ‏عما يختلج في نفوسهم...مثلما سمحوا للعراقيين فعل ذلك...؟‏
صفحة من كتاب: "الفوضى المستدامة في العراق" الذي انتهيت من إعداده قبل أيام وهو في ‏مرحلة التفاوض على الطباعة...‏