أيمن صفية والحجر داخل الغيتو ..


قاسم حسن محاجنة
2020 / 5 / 31 - 15:24     

للغيتو صيتٌ سيء ، وتستذكر الذاكرة الجمعية للإنسانية ، الغيتوات التي أنشأها النازيون في أنحاء أوروبا لحجر وحشر اليهود فيها ... ومن ثم سوقهم الى افران الغاز .
لهذا كان من المتوقع أن تتكون لدى اليهود حساسية شديدة ، تجاه الغيتو وما يمثله من عنصرية وصلت الدرك الأسفل من التوحش .
مركز الأبحاث "عكفوت" ( ومعناها بالعبرية – ألأثر) ، يبحث في أرشيف الجيش الإسرائيلي ، الدولة والحزب الحاكم عن تعامل دولة إسرائيل ومنذ قيامها مع الأقلية العربية ... ويهمنا في هذا السياق هو القرار بتركيز العرب الفلسطينيين الذين تشبثوا بالبقاء في مدنهم داخل حي أو حيين في المدينة (حيفا ، يافا، اللد وسائر المدن) وإحاطة هذه الأحياء بالأسلاك الشائكة ... وخصوصا في يافا وحيفا !!! الأمر الذي أثار حفيظة بعض الأفراد المشاركين في تلك الجلسات السرية التي تقرر فيها تركيز العرب في حي واحد في المدينة ، والذين عبروا عن امتعاضهم ومعارضتهم لإنشاء الغيتوات العربية ، لما تحمله من الأثر السيء في الذاكرة اليهودية.
قاوم الفلسطينيون في إسرائيل سياسات الحشر والحجر في غيتوات كبيرة وصغيرة ، وكان فرض الحكم العسكري على الفلسطينيين، وسيلة السلطات ، لمنع التنقل خارج القرى إلّا بتصريح من الحاكم العسكري . وسقطت الغيتوات المادية والمعنوية ، رغم ان التهميش والتمييز ما زال يُلاحق الفلسطيني مواطن دولة إسرائيل ، في كافة مناحي الحياة . وسأُحاول التطرق الى البروتوكولات التي نشرها مركز الأبحاث على صفحته الفيسبوكية ، في مقال لاحق.
هذا بخصوص الغيتوات السلطوية ، أما ما يُعاني منه المجتمع الفلسطيني في إسرائيل ، أشدّ المُعاناة ، فهو الغيتو " الطوعي" الذي يتم فرضه باسم الثقافة والدين ، العادات والتقاليد ..
فأنصار وأتباع " الصحوة الوهابية "، التي موّلتها ، ساندتها ودعمتها ، أموال الوهابية ، وتغاضي السلطات عنها ، تُريد فرض الوهابية بالترهيب والترغيب ... فالمسرح حرام ، الموسيقى حرام ، والفن بمجمله حرام. ناهيك عن التركيز المرضي على الجنس وثقافة ما بين الفخذين ...!!
ومن السخرية بمكان ، بأن "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ، قد ولّت الى غير رجعة في السعودية، مهد الوهابية إلّا أنها ما زالت ، تُمارس نشاطها في مجتمعنا وتحديدا على وسائل التواصل الاجتماعي وبعض المواقع الالكترونية ... وقد كانت هناك محاولات لترهيب الفنانين ، على سبيل المثال، لمنعهم من تقديم عروضهم في بعض القرى والمدن ، وقد نجحت بعض هذه المحاولات في إلغاء بعض العروض، في بعض المدن والقرى العربية في إسرائيل ، وذلك بعد إلقاء قنابل صوتية على مكان العرض المزمع ..
ويأتي الدور على الفنان المرحوم- الراقص أيمن صفية ، الذي أبتلعته أمواج البحر ، في عتليت بالقرب من حيفا ... ولم يُعثر على جثته إلّا بعد أربعة أيام ، حيث أبدت السلطات عبر أجهزتها لا مُبالاة تامة بمصيره ، ولم تُشارك إلّا في اليوم الأخير من البحث ، بينما تطوع المئات من الفلسطينيين مواطني دولة إسرائيل في البحث عنه.... وكانت هذه نقطة مضيئة في الظلام الدامس ..
ورغم ظروف الحجر والكورونا ، فقد شارك المئات في مراسيم الدفن ، بما في ذلك تقديم رقصة من زملاء وزميلات أيمن ، على أنغام موسيقى حزينة ... كان أحد زملاء ايمن قد قال وعبر مكبر الصوت بأن هذه الرقصة عمل فني ، وقال جملته الأشهر، " نحن فنانون وننتج فنا وسنقدمه ، ومن لا تعجبه هذه الحال ، فليتفضل بالمُغادرة...!!" .
لم تكن مشكلة المرحوم أيمن ، بأنه راقص حاز على شهرة عالمية ، وهذا بحد ذاته خروج من الغيتو "الوهابي" ، بل كان أيمن مثليا ، لم يخجل بمثليته وظهر في برنامج تلفزيوني مع مثليين آخرين من فلسطينيي إسرائيل ، وأشاد بدور عائلته المساند والمتفهم لمثليته ..
وانطلقت جوقة " الوهابية" والتي "عيّنت نفسها وكيلة الله على الأرض" " وأمتلكت مفاتيح الجنة والنار"، الى العمل ، ضد من شاركوا أو حزنوا على وفاة فنان فلسطيني واعد ، فهو وإلى جانب أنه راقص ، فقد نشأ في جوقة الشبيبة الشيوعية في بلده ، درس في بريطانيا وقدم عروضا كثيرة وفي دول متعددة ، وصمم رقصات تستمد الهامها من الرقص الفلسطيني وهو فوق كل هذا مثلي ... يحظى بدعم عائلته المسلمة !!! والأنكى وفي نظر "الوهابيين" ، هو مشاركة الالاف في تشييع جثمانه ، من كافة الديانات والتوجهات ..
مات الفنان أيمن ، لكن الغيتو "الوهابي" ما زال قائما ... ويبدو بأن التغلب على هذا الغيتو أصعب بكثير من التغلب على الغيتو السلطوي ...