السينما السوفياتية والتراث العلمي العربي


رضي السماك
2020 / 5 / 30 - 22:29     

حظي مقطع من فيلم سوفييتي قديم يعود إنتاجه إلى أواسط القرن الماضي ( 1956 ) ، ويتناول جوانب من حياة وإسهامات الفيلسوف والمفكر العربي - الإسلامي ابن سينا العلمية ، لا سيما في مجال الطب ؛ حظي بإعجاب منقطع النظير لدى كل من شاهده من الروس والعرب على السواء ، وذلك على إثر تداوله على أوسع نطاق في فضاء التواصل الاجتماعي ؛ كما تناولته بالتقريظ العديد من الصحف والقنوات الفضائية العربية . ولا شك أن مبعث الإعجاب جاء لما انبهروا به بما يتمتع ذلك العالم الموسوعي الفذ من معرفة علمية معمقة في المجال الطبي ، مع أن هذا المجال الطبي ليس سوى حقل واحد من عدة حقول علمية نبغ فيها عالمنا إبن سينا . وقد تجلى نبوغه الطبي المُدهش كما يتبين من الفيلم في التدابير التي دونها وأوصى مجتمعه باتباعها للوقاية من عدوى الأوبئة الفتّاكة ، كالطاعون أو ما سُمي " الموت الأسود " المنتشر حينذاك في بلدته ، فضلاً عن تشخيصه الدقيق لخواص الفيروس وكيفية انتشاره ؛ حيث كان كلاهما ( التشخيص وسُبل الوقاية ) شديدي الشبه بما توصل إليه علماء عصرنا بخصوص الأوبئة ، ومنها " كورونا " قياساً بمستوى التطور العلمي والتكنولوجي الذي بلغه مجتمعه والعالم وقتذاك ( عاش بين عام 980 م إلى 1037 ) .
لكن الفيلم يحرك في النفس لواعج من الأسى لما آلت السينما الروسية من مآل قهقري ليس اليوم فحسب ؛ بل وإبان الدولة العظمى السوفييتية ، وذلك باعتبارها سينما ذات تاريخ عريق يضرب بجذوره إلى أواخر القرن التاسع عشر حيث ظهرت بُعيد فترة قصيرة من نشأة السينما العالمية في باريس ، وإن كان مؤرخو السينما الروسية يعتبرون المحطة التاريخية الأبرز لولادتها جاءت خلال عامي 1907 و1908 حيث أنتج الكسند درانكوف أول فيلم روائي " ستينكا رازين " ، وتأسست أول مجلة سينمائية روسية مختصة.
وعلى إثر ثورة اكتوبر الاشتراكية 1917 بقيادة لينين دخلت السينما الروسية طوال ما يقرب من قرن حتى سقوط الاتحاد السوفييتي 1991 في مرحلة جديدة من الصعود والهبوط ؛ وكان لينين نفسه قد أدرك منذ البداية الدور الخطير الذي يلعبه " الفن السابع " في الثقافة والتوعية السياسية بين الجماهير ؛ فرفع شعاره الشهير " السينما هي الأكثر أهمية لنا بين جميع الفنون " ، وكان خير من جسّد هذا الشعار وآمن به بعمق -كرسالة نضالية اشتراكية وإنسانية– الفنان الكبير والمخرج سيرجي ايزنشتاين مخرج الفيلمين الرائعين " المدرعة بوتمكين و " الإضراب " ، وهما أول فيلمين كبيرين اُنتجا بعد تأسيس الأتحاد السوفييتي . وبشهادة معظم كبار النقّاد في العالم اُعتبر الفيلم الأول هو الأجمل على الأطلاق في تاريخ السينما العالمية . ومع أن عدد الأفلام التي أخرجها هذا المخرج العظيم خلال حياته ضئيل إلا أنها عُدت بمجملها مهمة وإبداعية تعكس بصمات ليس موهبته الإبداعية فحسب ؛ بل وقدراته التنظيرية الفريدة في الفن السابع ، ولا سيما في طرائق الأنتاج الذي يختزل أهميته الفائقة بتعبير مكثف قائلاً : " هو الفيلم بأكمله " .
على إن هذا الفنان العبقري العظيم ايزنشتاية لم يحظَ للأسف برعاية رسمية كافية خلال سيرته الفنية القصيرة في ظل الدولة السوفييتية ؛ وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بحاجته إلى هامش من الاستقلالية لتحقيق طموحه وأحلامه السينمائية الكبرى التي وأدت بفعل الوصاية الرعناء المتعسفة من قِبل قيادة الحزب الشيوعي الحاكم ، وبخاصة خلال الدكتاتور " ستالين " ، مثله في ذلك مثل ما تعرض له سائر المبدعين من أترابه من فنانين وشعراء ومثقفين ، فقد اُخضعت بعض مشاريع أعماله السينمائية للتضييق أو التبييت دون الترخيص بالمضي فيها قُدماً ؛ من ذلك فيلمه " ايفان الرهيب " الذي صدر جزؤه الأول عام 1945 ،وظل جزؤه الثاني محجوزاً لدى الرقابة حتى عام 1958 ، فيما حال رحيله المبكر سنة 1948 ( عن 50 عاماً ) دون تحقيق طموحه بإنجاز الجزء الثالث . وكالعادة لم ينجُ ايزنشتاين من التهم التنميطية الجاهزة التي تُلفق حينذاك للأدباء والفنانين ، كالشكلانية والانحراف عن مبادئ الثورة وغيرها ، و عندها أدرك أن المطلوب منه تأليه " القائد الفولاذي " أكثر من مباديء الاشتراكية وثورة اكتوبر ، رغم أنه نذر حياته النضالية الفنية من أجلها ، هو القائل : " إذا كانت الثورة هي التي قادتني إلى الفن ، فإن الفن أغرقني في الثورة كلياً " .
وإلى جانب هذا المخرج برز مخرجون آخرون كبار من نظرائه السوفييت أمثال المخرجة إسفير شوب ، و فسيفولود بودو فكين ، وبوريس بارنت ، وغيرهم ممن برزوا بعد رحيل ستالين حتى انهيار الاتحاد السوفييتي . إن غايتنا من كل العرض السابق هو التنويه بأنه إلى جانب دور السينما السوفييتية في الداخل للترويج للفكر الاشتراكي ، فقد كان لها أيضاً دور موازٍ مشهود لنشر رسالة هذا الفكر اُممياً في الخارج ، علاوة على دعم حركات التحرر العالمية ، ومنها حركة التحرر الوطني العربية التي نرى ثمة تقصير كبير تجاهها ، رغم ما حققته من انجازات في هذا الصدد ، ومنها الفيلم السوفييتي " إبن سينا " الذي تناولناه آنفاً .
وأياً كان الأمر ، فقد شاب تلك المسيرة السينمائية الروسية السوفييتية طوال عمرها فيما يتعلق تحديداً بدعم بلدان حركات التحرر الوطني العربية غياباً أو قصوراً في الجانب الإعلامي السينمائي ، بحيث كان يتوجب ألا يقتصر دعم الاتحاد السوفييتي لهذه البلدان على الجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية فحسب ، بل أن يشمل سينمائياً الجوانب التراثية الفكرية الفلسفية والعلمية من الحضارة العربية - الإسلامية ؛ لاسيما أن روسيا كانت ومازالت أكثر دولة في العالم اهتماماً بالاستشراق وتزخر بمئات المستشرقين والمستعربين الذين قدموا دراسات تاريخية ولغوية موضوعية رصينة بخصوص التراث العربي الإسلامي ؛ بل وفي تقديرنا أنه لولا هذه الدراسات المنشورة بالروسية لما أمكن كتابة سيناريو فيلم " إبن سينا " . وربما وُجدت بعض الأفلام الروسية من هذا القبيل لكن الأرجح لم يتم الاكتراث بترجمتها إلى العربية .
ولا شك أن مثل ذلك الدور لو أعتنت الدولة السوفييتية به لكان من شأنه تعزيز مكانتها لدى مختلف فئات الشعوب العربية الإجتماعية علاوة على تياراتها السياسة ، وليس اليسارية فقط ؛ وهذا ما يعزز قوتها الناعمة التي كانت مقتصرة في الغالب على الدول العربية التي تربطها بها علاقات استراتيجية وثيقة . فلئن كان مقطع من فيلم يتناول جانباً من منجزات علَم واحد من أعلام الحضارة العربية الإسلامية قد حقق كل ذلك النجاح والشهرة في العالم العربي ؛ فلنا أن نتخيّل لو كانت الدولة الروسية اليوم لديها مخزون وفير من الأفلام الروسية الجاهزة المترجمة مسبقاً إلى العربية وتتناول التراث العربي بهذا الشكل أوذاك ، وهي أفلام تتميز عن السياسية - الدعائية بأنها دائمة المنفعة ولا يتخطاها الزمن ، كالفيلم الروسي الآنف الذكر ، ومن ثم يمكن إعادة عرضها مرات ومرات . صحيح هي في زمان الاتحاد السوفييتي ماكانت لتحقق ذلك الانتشار الذي تحققه الآن مع التطور الهائل وسائل التواصل الاجتماعي ، لكن كان بالإمكان تحقيقها درجة من الانتشار من خلال عرضها في المراكز الثقافية السوفييتية في عدد من العواصم العربية ودور السينما التجارية فيها ناهيك عن حديث وسائل الإعلام العربية عنها ، وبخاصة في الصحافة .
وحتى قناة RT التي توجهها الحكومة الروسية وتقدم نفسها دعائياً كامتداد لسياسات الاتحاد السوفييتي في تبني القضايا العربية لم تتجاوب سريعاً مع ما حققه مقطع الفيلم من نجاح بحيث تبادر إلى ترجمته كاملاً؛ لولا أن قام بذلك المذيع اللغوي الفلسطيني في قناتها محمد أبوسمية بمبادرة تطوعية لترجمته أثناء الحجر المنزلي ، كما صرح بذلك إلى الإعلامي العراقي الدكتور سلام مسافر في برنامجه الشائق " قصارى القول " . وصفوة القول أن الاتحاد السوفيتي السابق كان للأسف أكثر اهتماماً بترجمة الأفلام الدعائية رغم ندرة ما هو مترجم منها ، فضلاً عن ندرة أو انعدام وجود ترجمة للأفلام التي تتناول بهذا القدر أو ذاك التراث العربي الحضاري كفيلم إبن سينا ، ناهيك عن الأفلام التي تتناول أعلام التراث الأدبي الروسي العظيم ، رغم ما يحظى به هذا التراث من شعبية كبيرة لدى النخبة الأدبية العربية وسائر القراء من عشاق الأدب الروسي وبخاصة الأعمال الروائية .