تأملات في زمن الحجر الصحي 2


عذري مازغ
2020 / 5 / 29 - 17:41     

بعد مرور أسبوع على بدء الحجر الصحي، انتابني شعور بقرب يوم القيامة، الشوارع فارغة تماما وبين الحين والآخر ترى بعض المارة يمشون في تباعد، وفي المساء تنتظر تلك الدقية الفاصلة عن الثامنة مساء حيث يصدر صفيق عارم من العمارات السكنية ووميض وزفير سيارات الأمن ثم موسيقى تطرب الشارع كاملا، اغنية جميلة عنوانها: "كيداتي إن لا كاسا" (quédate en la casa، إبقى في منزلك) لا أعرف متى وكيف سجلها صاحبها ولا حتى كيف أذاعها لتصل كل العالم الإسبانولاتيني، كان اول ما فكرت فيه بعد التمتع بنغماتها وصوتها هو أن صاحبها نكس بالحجر الصحي، لا أدري لماذا ارتابتني هذه الخلفية السلبية حول شخص وضع لحنا وطربا يكسر هذا الهاجس من قيام القيامة، كان الأسبوع ساكنا وصاخبا في نفس الوقت، ساكنا في الشوارع وصاخبا في بيتي إذ كنت اتابع الأخبار على جهاز البلازما التي لم أكن أستعملها سابقا لسبب بسيط: لم اعقد مع شركات البث التلفزي الخاصة اقتناعا مني بان ما تقدمه القنوات العمومية كاف جدا وكوني لست مستهلكا جيدا ممن يتسابقون على القنوات الخاصة ، تعجبني الأفلام السينمائية كثيرا، لكن المشكلة هو أن الإنتاج السينمائي أبطأ من الإنتاج التلفزي وأغلب القنوات تعيد نفس الأفلام لمدد مملة واكثر من ذلك، الجديد فيها هي أفلام انتجت بتقنية الفوتوشوب كافلام مصاصي الدماء الذين ينبعثون من قبورهم والأفلام القتالية التي يعرفها الجميع والتي أخرجت على مقاس فيلسوف الغرب بيرتراند راسل والتي مفادها أن للإنسان روحان: روح الشر وروح الخير، وبما ان الإنسانية تميل إلى الخير، على المرء، الفنانون العبقريون خصوصا، عليهم أن ينتجوا لروح الشر شيء من غذائها (وحتى لا يتهمني أحدهم بالإفتراء، كتاب هذا الفيلسوف الغربي الذي جاء فيه هذا المفاذ كان حول السعادة).
عادة لا أفتح جهاز التلفزة إلا إذا عشت لحظة فراغ قاتل عند انقطاع النيت وكنت قد مللت من القراءة (للإعتراف لست قاريء جيد ونهم، فقد أقرأ في اليوم مقطع من رواية، مقطع لكتاب فلسفة، قصيدة شعرية، أقصد لم اكن نهما كما كنت في السابق حين كنت ابدأ قراءة كتاب ولا أضعه إلا حين انتهي منه، الآن انظر في فهرس الكتاب وأختار موضوعا أثارني على ان اعود إلى مواضعه الأخرى في مناسبة أخرى، وحتى عندما كنت قارئا نهما، لم أكن استوعب كل ما أقرأه) وساحكي الآن حول موضوع القراءة النهمية قصة حدثت لي، واعتذر مسبقا، هي قصة مملة سيكرهها الكثير من الحداثيون من انصار فلسفة "راسل":
عندما استشهد المفكر اللبناني مهدي عامل في 18 ماي من سنة 1987 كنت حينها في الثانوي ولم اقرأ حينها إلا كتابا له هو "أزمة الحضارة العربية أم ازمة البرجوازيات العربية"، عنوان مثير ومرح حتى لمراهق مثلي ينتمي إلى الطبقة العاملة، قرات الكتاب بنهم، وحفظت الكثير من مقولاته: "العقل العربي هو عقل متخلف لأنه العقل العربي" قارنها ساخرا بالمثل المأثور: فسر الماء بعد الجهد بالماء، نسبت له مقولات ليست له في الحقيقة وهو في الكتاب ذكر مصدرها بأمانة: "يبتديء الفكر بدرس في اللغة، ومن فاته الدرس هذا فاته الفكر والتفكير"، نسبت هذه الفكرة لمهدي عامل بينما هو نسبها إلى هيدغر في كتابه هذا الذي ذكرته، ما أريد قصده هو ان مهدي عامل في مرحلة معينة من عمري أحدث ثورة في أعماقي، كثير من الاعمال التي انتقدها كانت تدرس لنا كحقائق في الثانوية، وكان تفكيكه لها مثير للسخرية، بمعنى ان الكثير مما تلقيناه في الدراسة مثير للسخرية وهنا تجلت خطورة مهدي عامل التي تطلبت قتله من طرف قوى الظلام.. لكن ليس هذا ما أريد قوله.
عندما قرأت كتابه الجميل هذا والمرح، لم أكن بالفعل مستوعبا للكثير من المفاهيم، وحتى عندما قرات " مقدمات نظرية.." لم استوعب قط مفهوم علاقات الإنتاج وعلاقة الطبقة العاملة بها، كان مفهوما غامضا حتى في كتابات مهدي عامل لأنه كان يمر على هذا المفهوم مفترضا أن الكل يعرف تحديده (وهذا الموضوع أثير كثير في حوارات الحوار المتمدن يوم كان الحوار فيه طلقا وعمليا ومتصدعا بين الرفاق أكثر من كونه بين المتناقضين، على الرغم من ذلك كان حوارا رائعا تخلى عنه الحوار المتمدن للأسف ).
في مريرت، في دار الثقافة، ألقى صديق رائع محاضرة حول فكر مهدي عامل (هو الرفيق الزهراوي)، لم أستوعبها على الإطلاق، كانت تركبني خلفية ثقافية حول الأمر: انا الوحيد الذي قرأ الاعمال الكاملة لمهدي عامل في المدينة وبشكل نهم حسب اعتقادي (أكثر من المحاضر نفسه ) وانا لي القول الأخير، وهذا الاعتقاد أسقطني في مغالطات كبيرة، والحقيقة أن المحاضرة تلك علمتني درسا لم أنساه: حين تكون قارئا نهما ومتحمسا، يجب على الأقل ان تكون مستوعبا لما قرأته : لمهدي عامل مفاهيمه النظرية الخاصة لكن في كتاباته يستعمل مفاهيم سابقة على مفاهيمه الخاصة وهنا تحصل مشكلة أساسية: كل الترجمات العربية من دار موسكو لم تعطي لهذا الأمر أية اهمية وهنا اختلط الحابل بالنابل ومن هنا خرج إلينا تحديد غامض لبعض الوظائف حيث أصبح أي شخص وصل الجامعة وله مستوى عالي في الدراسة بورجوازي صغير بالضرورة بينما الحقيقة تتحدد من موقع الشخص من علاقات الإنتاج، هل هو يبيع قوة عمله أم يشتريها، هذا الخلط لم أفهمه إلا عند اندماجي في اليسار الأوربي، وهذه معضلة تتطلب الآن صراعا حول تحديدها خصوصا بعد انطلاق "الربيع العربي" بتونس، حيث اعتبر كل شخص واعي سياسيا وله مستوى جامعي قائدا للحراك هو بورجوازي صغير، بينما كان اغلبهم مثقفين بشواهد لا يملكون لا بيع قوة عملهم ولا هم لهم ملكيات خاصة، هم معطلون تماما بالفهم المغربي يستحيى ان يقال فيهم أنهم من مجتمع الحضيض برغم شهاداتهم الجامعية .
الآن لا أتذكر جيدا الحوار بين رفيقي المحاضر الزهراوي وبيني، لم أستوعب حتى في ماذا كنا نختلف وأعتذر له مسبقا.
سأعود إلى موضوعي السابق : كل قنوات إسبانيا العمومية (أقصد المجانية) هي قنوات تمثل الإيديولوجيات السائدة في إسبانيا، هناك قنوات تصيبني بالسقم لا أستطيع رؤيتها على الإطلاق، هناك قناة لليسار وقناة لليمين وقناة للحزب الشعب واخرى للحزب الإشتراكي وهلم، هناك قنوات محلية لبلديات تهيمن فيها إيديولوجية الحزب المسيطر سياسيا في البلدية او الجماعة او الجهة، باختصار كبير : ليست هناك قناة موضوعية للخبر، وعليه جمدت جهاز التلفاز، حتى الأفلام السينمائية في هذه القنوات، بغض النظر عن إيديولوجية القناة، هي أفلام الجوطية وسبق أن شاهدتها منذ أكثر من عشر سنوات: هي أفلام يكررونها كل سنة وكل شهر او وهذا هو الأصح، هي قنوات مبرمجة تضع اي فيلم حسب برمجته في الرف الإلكتروني .
أما الندوات والاخبار والمحللين والخبراء وهلم جرا ساعترف لكم بأنه من بين 47 مليون نسمة بإسبانيا يوجد فقط عشرون خبيرا في كل شيء واحفظ أسماءهم عن ظهر قلب ويتبادلون الادوار في كل قنوات إسبانيا، لقد رايتهم ينظرون في جميع القنوات ويفهمون حتى في جائحة كورونا الجديدة. فكيف ستمضي اربعينية كورونا بين أربع جدار وخبراء أنت تعرف ماذا سيقولون قبل أن يتكلموا ؟؟