سيزيف الهلباوي-5-


محمد فرحات
2020 / 5 / 22 - 16:23     

الخروج عن السياقات المألوفة، ومنطقها الصارم، وأيضا التخلي عن قيم الطبقة التي انتمى إليها واللهاث وراء قيم أخرى لطبقة جديدة، كانت من أسباب مأساة الهلباوي وسقوطه المدوي، ليمثل بحق دور البطل التراجيدي في التاريخ المصري الحديث، والمأساة دائما قادمة من الداخل، صراع القيم الطبقية وبناء هرم الأولويات، لتطفو سريعا في صورة القرارات، ليتخف القدر مرتديا زي الصدفة قابضا على خنجره المسموم للانقضاض على المصائر، سيزيف جديد يصعد للقمة لتنقض به صخرة الاختيار للسفح بلا هوادة، يكبل بقيد سرمدي أبدا، الهلباوي يحاول التبرير، التكفير عن خطيئته، وهذا الشعب الطيب لا يريد النسيان ولا الغفران .

سقط الهلباوي سقوطا مدويا، أطلق عليه الشيخ عبد العزيز جاويش محرر جريدة الحزب الوطني "اللواء"، لقب "جلاد دنشواي".

وحينما أراد حسين باشا رشدي وزير الأوقاف مقابلته لمشورة قانونية، صاح السائق:- هي وصلت يا باشا إنك تروح بيت الهلباوي؟! أنا ماروحش ولو قطعت رأسي.

كسدت أحوال الهلباوي كمحام، فأغلق مكتبه، وعاش بين ضيعاته وأملاكه بالبحيرة يعاني الندم والحسرة، عرض عليه منصب مستشار بمحكمة الاستئناف، ولكن قبوله كان سيؤكد ما اتهم به من قبضة لثمن مرافعته ضد الفلاحين، فرفض المنصب .

وفي العام 1910 يطلق شاب رصاصاته الست أمام وزارة الحقانية، فتصيب رصاصتان رقبة بطرس غالي باشا رئيس الوزراء، من نطق من أربع سنوات بحكمه على فلاحي دنشواي، فترديه قتيلا، كانت أول حادثة اغتيال سياسي في مصر، وكان إبراهيم الورداني الصيدلي دارس الصيدلة والكيمياء في سويسرا وإنجلترا، وعضو الحزب الوطني ومؤسس منظمة سرية تتبنى مبادئ الأناركية أول مرتكب لجريمة اغتيال سياسي بمصر .

وكان من أول دوافعه أن بطرس غالي كان رئيسا للمحكمة المخصوصة التي حكمت على فلاحي دنشواي .

ليصحو الهلباوي على غناء الفلاحات في عزبته بالبحيرة "يا ميت صباح الفل على الورداني ".

جاءت الفرصة لطلب المغفرة من الشعب، ينقض الهلباوي على القاهرة مدافعا عن الورداني، يصول ويجول ويبدأ من دنشواي يقول "إحدى الفواجع الكبرى التي رزئت بها مصر، كانت بلا قانون، بلا نصوص، وكانت مخالفة صريحة للعدالة البشرية..." ويقول "إن المصريين كرهوا جميعا هذه المحكمة واحتقروا كل من شارك فيها، كقاض، أو مدع عمومي..." ثم أخذ في الاعتذار وطلب المغفرة "لسنا هنا في مقام التوجع ولا الدفاع عن أنفسنا، ومع ذلك فإننا نستطيع أن نؤكد أننا احتُقِرنا من الشعب، كما احتُقر أى قاتل أو مرتكب إثم، دون أن يقدر مواطنونا الظروف التي تصرفنا فيه تصرفاتنا... إننا جئنا هنا للدفاع عن الورداني، ومن أجل هذا وجب علينا أن نتنكر لذواتنا... وأن نغفر كل ما وجهه إلينا مواطنونا، اللهم إنا نستغفر مواطنينا عما وقعنا فيه من أخطاء."

طلب الهلباوي العفو والمغفرة من شعبه، وكسرت رقبة الورداني بحبل شانقيه، واستحوذ سعد زغلول على وزارة الحقانية (العدل) في التشكيل الوزاري الجديد 1910.

برئاسة محمد سعيد باشا والذي خلف بطرس باشا غالي، ومات شقيقه فتحي زغلول عضو محكمة دنشواي على فراشه، ولم يغفر الشعب الطيب للهلباوي.

نسى الشعب كل شيء ولم ينس سقطة الهلباوي، لأن الشعب لم يعشق، وعلى مدار التاريخ لليوم، محاميا كعشقه الهلباوي قبل سقطته، لأن من أحب بقوة ضرب بقوة أيضا.

لم يقنط الهلباوي من رحمة شعبه، وظل يدافع عن المتهمين في القضايا الوطنية دافع عن محمد بك فريد، دافع عن الصحفيين ضد قانون المطبوعات المكبل للحريات، دافع عن مغتالي السير لي ستاك سردار السودان، دافع عن من حاولوا اغتيال اللورد كتشنر المفوض العام البريطاني.

وفي بداية كل مرافعة يطلب المغفرة "أديت واجبي كمحام في قضية دنشواي، نظرت للأوراق، كما أني الآن أقوم بواجبي كمحام وأنظر للأوراق، نعم أخطأت في تقدير الموقف ولكن أما من نظرة عطف وعفو."

تقف له سادية الشعب المحب المفجوع في محبته بالمرصاد، يؤسس مع لطفي باشا السيد حزب الأمة، ويتصدى للخطابة، وتنصت الجماهير لروعة منطقه، تعود الثقة للمعذب ويعلو بحجرة حتى يصل لقمة الجبل، تحدثه نفسه بآمال العفو ، فينبت شاب من أطباق الأرض ليطير حمامة "رمز مذبحة دنشواي" في صوان الاجتماع الجماهيري ويهتف "يسقط جلاد دنشواي"، ليصبح الهلباوي هدفا لثمار الطماطم العاطبة والبيض الفاسد، يسقط سيزيف من القمة للسفح المظلم .

تتملك الهلباوي روح القنوط واليأس تموت زوجته ويهجره ابنه الوحيد، وفي خريف العام 1918 وحينما لاحت بشائر نصر الحلفاء، اجتمع كل من الهلباوي وسعد زغلول ولطفي السيد، وناقشوا فكرة تشكيل وفد يطالب باستقلال مصر بعد انتهاء الحرب، وتم عرض أسماء الوفد المصري لمؤتمر الصلح بفرساي، على مبادئ الرئيس الأمريكي ويلسون، وكان الاجتماع بقصر الأمير عمر طوسون، يقول الهلباوي في مذكراته والحسرات تتقاطر من كلماته "قدم كشف لسمو الأمير وفيه اسمي، فلم يصادف قبولا من سموه، محتجا بأن الذي قام بالدفاع في قضية دنشواي خدمة للإنجليز لا يؤتمن على أن يكون بين القائمين بخدمة الأمة ضد الإنجليز!!" ينفى سعد باشا زغلول، محمد باشا محمود، إسماعيل باشا صدقي، وحمد باشا الباسل إلى مالطا، تشتعل الثورة بكافة أرجاء المحروسة مطالبة بالاستقلال، يتبرع الهلباوي بخمسمائة جنيه للجنة الوفد، هي كل ما يملك من سيولة وقتها، ويترجاه علي باشا شعراوي وكيل الوفد بالاحتفاظ لنفسه ببعض من المال لعلمه بما كان يعانيه من أزمة مالية، فيرفض الهلباوي ويصر على التبرع بكل المبلغ، وينظم الهلباوي أول إضراب بنقابة المحامين، تنتشر حركة الإضرابات بعد ذلك بشتى هيئات مصر الرسمية والأهلية بما في ذلك المحاكم والمصالح الحكومية والسكك الحديدية، أسوة بإضراب المحامين بقيادة الهلباوي.

تشتعل الحناجر وتموج المظاهرات بكل مدن مصر وقراها تشتعل الحناجر مرددة اسم سعد زغلول ومصر، هو القدر يا هلباوي، ماذا كان عليك لو انتظرت هذا القطار البائس، تراهم كانوا يهتفون باسمك أنت؟

يكتب الهلباوي في مذكراته "اجتمع جميع أعضاء لجنة الوفد المركزية في بيت الأمة، وقد كنا نحو السبعين عضوا، وذهبنا إلى دار البطريركية بالدرب الواسع، لتقديم واجب المعايدة لإخواننا الأقباط… كان ركبنا مكونا من نحو ثلاثين عربة تجري متتابعة، وكانت الشبيبة من طلبة وصناع على جانبي الطريق تحيي هذا المشهد الرائع، الذي هو صورة من صور الوحدة الوطنية بين المسلمين والأقباط، كانت تحيي هذا الجمع بعبارات توجه إلى كل جماعة في عربتها، إلا عربتي فكانت تحيتها نداء بسقوطي ونعتي بالخيانة الوطنية… كنت محاطا في أثناء دخولي بهذه الجماهير التي تقابلني بعبارات لا تتفق حتى مع الظرف الذي نحن فيه... شغلنا في الحديث عن سماع تلك الأصوات والنداءات البذيئة."

لم تغفر له الجماهير بالرغم من كل ما بذله وقدمه.

ينسحب الهلباوي من لجنة الوفد المركزية، ويشتد الخلاف بين عدلي باشا يكن وسعد باشا زغلول لتنقسم الأمة إلى سعديين وعدليين، وينحاز الهلباوي لعدلي يكن ويؤسس معه حزب الأحرار الدستوريين عام 1922.

وفي عام 1930 يصبح شيخا سبعينيا مهدما، هرما، مفلسا تماما، يحجز على أطيانه، وترفع عليه دعوى طرد من منزله الذي لم يعد يملك سواه .

يدخل الهلباوي قاعة المحكمة مستندا على أحد تلامذته يترافع مرافعته الأخيرة والدموع لا تغادر عينيه الواهنتين.

يخاطب عطف وعدالة المحكمة متوسلا "انهزمت في كل بقعة من أرض، وكانت المحكمة ساحة انتصاري دائما، وإذا طردت من داري فلن يكتب على التشرد، فالمحكمة داري التي بنيتها بسني شبابي وجهادي ."

ليبكي القضاة وكل من حضر الجلسة، ويحكم له بالبقاء في منزله منتفعا لآخر عمره .

لا يكف الهلباوي عن طلب العفو والمغفرة، وتظل قسوة الشعب لغزا عسيرا على الفهم .

يموت البطل التراجيدي أخيرا عام 1940 وهو ابن الثالثة و الثمانين.

وتظل صورته كأول نقيب للمحامين -ديسمبر 1912- على طابع هيئة البريد المصري التذكاري، ويصيح كمساري أتوبيس خط النيل منبها ركابه في الرواح و الغدو "الجراج"، "محطة الهلباوي"، وقصيدة شعر لحافظ إبراهيم ..

لا جرى النيل في نواحيك يا مصر

ولا جادك الحيا حيث جادا

أنت أنبت ذلك النبت يا مصر

فأضحى عليك شوكا قتادا

إيه يا قدرة القضاء ويا من

ساد في غفلة من الزمان وشادا

أنت جلادنا فلا تنس أنا

قد لبسنا على يديك الحدادا

المراجع :- حكايات من مصر ، صلاح عيسى.

مخطوطات محاكمة دنشواي ، متحف دنشواي .

تقرير ، ويلفيرد بلانت ، لمجلس العموم البريطاني .1907، ترجمه حسن مرعي تحت عنوان

"فظائع العدالة الإنجليزية في مصر" و نشر بجريدة المؤيد المصرية تباعا 1907 .

مذكرات الهلباوي بك ، الهيئة العامة الكتاب المصري .

مذكرات سعد زغلول ، الهيئة العامة الكتاب.