المدينة المسحورة


نايف سلوم
2020 / 5 / 21 - 14:44     

أنا الدكتور "لامدا" وقد سمّاني أبي بهذا الاسم وكان مدرساً للفلسفة في الجامعة العليا، مفتوناً باللغة اليونانية. ولأنّي ولدتُ في اليوم الحادي عشر من الشهر القمري الحادي عشر (ذو القعدة) وهو ما يوافق الحرف الحادي عشر من اللغة اليونانية (لامدا أو لامبدا( ، ورسمه باليونانية:λάμδα ؛ هو أحد حروف الأبجدية الإغريقية، وترتيبه الحادي عشر. يأخذ الحرف شكلين الكبير (Λ) و الصغير (λ) في نظام الأرقام اليونانية لامدا لديه قيمة عددية 30 . يرتبط لامدا بالحرف الفينيقي لاميد ، وبالحرف العربي لام.
اعترضت أمي ، وهي ربة منزل، على الاسم لكن سرعان ما انحلت معارضتها وتلاشت. وعرفتُ لاحقاً عندما كبرت أنها لطالما كانت تشتهي تسميتي ب"مال" لحبها للنقود والتسوُّق.
لن اطيل عليكم أيّها الأحبة بالحديث عن نفسي وسيرتي ، لأن ما دفعني في واقع الحال إلى هذا الحديث ، ليس العُجْب بالنفس ، ولا الزهُوّ؛ فأنا لا أملك شيئاً لنفسي، ولكن الذي دفعني وأشجاني هو هذه اللعنة التي ضربت المدينة التي أعيش فيها ، وأمارس مهنتي بين أهلها وناسها.
بالمختصر المفيد: درست الطب وكان اختصاصي ب"أمراض المفاصل والروماتيزم والعضلات" . كنت أشكو دوماً وأتبرَّم من قلة المرضى والمراجعين. فالناس أصحاء وفي حركة دائبة ، وكانت هذه الصحة تثير حنقي المهني من حين لآخر ، فأضع عندها على صدري مقابل القلب لزقة طحين مُبرّد علّها تُطفئ حنقي.
حتى جاء ذلك المساء المشؤوم الغريب ، جاء ومعه مريض يشكو من أعراض لم أر لها نظيراً من قبل!: التصاق في رؤوس الأصابع الثلاثة (الإبهام والسبابة والوسطى) مع تجمّد خفيف في عضلات الوجه كمن يعاني من برد شديد ، أو برداء(بَرديّة) ، مع اصطاك خفيف في الأسنان وهمهمة عند الكلام مرفقة بابتسامة غامضة كتلك التي نراها على وجه لوحة دافنشي(الجوكندا) مع تحوير بسيط : هي ابتسامة على قرب من حافة السخرية.
المهم، وأنتم تعلمون أيها الأحبة أن وضع تشخيص لمرض غامض كهذا المرض يحتاج لأخذ قصة مَرَضيَّة ، واستقصاء في الماضي والحاضر. لكن ما أعاقني في استقصائي وأعاق أجوبة المريض هو ذلك التشنج الغريب في عضلات الوجه والفكين، فاستعنت على ذلك بجهاز الكتروني ، كان قد أرسله لي صديق قديم يعيش في أمريكا، له أزرار ملوّنة بعدد منازل القمر الثمانية والعشرين، يعمل على خاطر المريض. فإذا سألت المريض وخطر خاطر بباله يختار بشكل تلقائي- آلي زراً لا على التعيين ، فيظهر جزءاً من صورة على شاشة عرض ملونة أمامي.
لقد نسيت أن أخبركم عن حال المدينة في هذه الأيام، (وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ )[الكهف: 63 ] . لم أخبركم أن المصالح تعطلت في المدينة ، والجيوش توقفت عن اطلاق النار، وحتى الاتصالات تأزّمت ونقصت واضطرب كل شيء ، وقعدت المدينة المنهكة وهي تضع يدها على خدها كأرملة عظيمة. بقول آخر، كأن شللاً كبيراً ضرب مفاصل المدينة، وعليكم بقبول عذري لكوني استعير عباراتي من مجال اختصاصي بالمفاصل الذي برعت فيه من دون زبائن .
المهم، لن أطيل عليكم ، وبعد سلسلة من الأسئلة المكثفة والتفصيلية ، راحت الشاشة أمامي تُظهر شخصاً طويلاً طولاً فيه مبالغة كبيرة أخضر اللون مع بقع سوداء اشبه بعيون فارغة، حولها رسوم ، أو بدقة أكبر، وشم ميزتُ بين رسومه شكل عين كأنها عين تمساح أو شكل صفر بالعربية(0) وهرم مقطوع الرأس يشع من رأسه المقطوع ضوء أحمر خافت مشؤوم يكاد يضيء نفسه فحسب، أو كأنّه بقايا نار تثقب الظلام من بعيد! ولقد ميزتُ أيضاً صورة رجل كأنه حاكم لبلد كبير، وحروف رومانية كأقدام الفيلة.
كان الشخص الذي ظهر أمامي على شاشة العرض طويلاً بشكل مبالغ فيه ، وكان يتلوى كحية شجر خضراء مرقّطة ، برأس أخضر وعينان فارغتان كمحجري جمجمة ، ولسان طويل أحمر كالنار مشقوق عند نهايته كلسان أفعى وأسنان كبيرة قوية بيضاء كحبات البَرَد ، وشدق كبير وشفتان غليظتان.
وسأفضي لكم بسريرتي، فما أن اكتملت صورة هذا الكائن الأخضر الطويل حتى شعرت بشيء من الخوف والجوع.
وأنا على هذا الحال مع مريضي الوحيد راح رأس الليل يشيب ، تخالط سواده خيوط الفجر البيضاء . كانت المدينة المرهقة تتنفس بصعوبة ، وأصوات الأذان المعتادة مع الفجر تأتي عبر نافذة العيادة على شكل همهمات عريضة فظّة تزداد شدتها بالتدريج ، كأنها همهمات حشد من الجنود المتقدمين بعناد وإصرار.
ومع استيقاظ الجميع تبين لي لاحقاً أن الوباء الخطير قد ضرب المدينة بالكامل واقعدها عن العمل.
الحق أقول لكم! أنني شعرت بالخوف والجوع ، وهذا الشعور المزدوج لم يوزرني منذ سنوات طوال . المهم ، نقلت صورة الشخص الأخضر على موبايلي الشخصي ، ووضعت له اسماً حتى استحضره وقت اللزوم ، وكان الاسم "الساحر الأخضر" . وأنتم أيها الأحبة تعرفون تمام المعرفة ، وربما أكثر مني بكثير، كيفية عمل أجهزة الموبايل التي تعتمد تقنية اللمس، ولشدة انفعالي بالمرض اللعين، فتحت مجلد الصور ولمست أيقونة "الساحر الأخضر" ، كبّرتُ الصورة بأصابعي وسبابتي فزادت الهمهمة في المدينة حدة وشدة ، لكن كم كانت دهشتي عظيمة وجديدة ، أنني حين صغّرت الصورة وأنقصت حجم "الساحر الأخضر" إلى الثلث، كم كانت دهشتي حين انخفضت الهمهمة وكادت أن تلامس حدود التلاشي . عندها فقط تبينتُ أن المدينة مسحورة بهذا الشيء الأخضر الموشوم المشؤوم ، فتهيأتُ لرصد حركاته وسكناته ومسلكه، وأعددتُ خُطّة لرُقْيَة هذا الشبح الشرير.