ألتمكن بالوعي العلمي او السقوط من قاطرة التاريخ


سعيد مضيه
2020 / 5 / 18 - 10:26     


كورونا ذكر بقيمة الوعي العلمي –حلقة أخيرة

نواصل نداء الحلقة السابقة: على اليسار والآخرين أن يضعوا مسائل الثقافة والتربية في مركز أنشطتهم السياسية ، وذلك من اجل مقاربة حاجات الناس ونضالاتهم. وعليهم القيام بهذا الواجب بلغة مقبولة وعانية . ان قضايا الثقافة والوعي، بمعناها الغرامشي ، تلعب دورا مركزيا في السياسة، وما لم يتكفل اليسار بهذه القضية لن يداخلنا الأمل في تحقيق مقاومة جماعية في إطار حركة ذات قاعدة جماهيرية واسعة". كلمة حق تدعمها الخبرة المعاشة. المدارس والجامعات والمعاهد العليا تخرج للحياة أجيالا من ذوي التفكير السلفي غير نقديين ولا يواكبون الحياة، همهم وظيفة أميرية أهلتهم لها تربيتهم الاتكالية. أزمة المقاومة الفلسطينية مركبة محورها ثقافي ؛ فالتعليم يهمل العقل والتفكير والمراجعة النقدية ، وهي من أساليب الحداثة، فمضت أنشطة المقاومة ردات فعل انفعالية ومبادرات نزقة ارتدت على أصحابها بالهزيمة. تعاقب الانكسارات وخيبات الأمل أغرق الجماهير في الاحباطات وورط القضية الفلسطينية في متاهة حفزت الغرائز الذئبية لدى التحالف المعادي؛ جمهورها حائر مضطرب، أشكلت عليه الأمور فلم يجد أجوبة على تساؤلاته عند اليسار ولاذ باليمين السلفي؛ نظر الى الحياة من نافذة لا تنفتح على التحرر والديمقراطية والتنمية ؛ تغلغلت الثقافة الأبوية في ثنايا الوعي الاجتماعي؛ ترك الهدر الاجتماعي أعطابا تحتاج الى جهد ثوري ينقي النفوس والأذهان من ترسباتها. الماركسية الأصولية غدت عبئا على النضال. فيروس الاندثار أشد فتكا من فيروس كوفيد19.
يصعب حقا توجيه الاقتصاد في ظروف الاحتلال، ويصعب كذلك انتهاج سياسة مستقلة؛ فتلك أمور تتطلب التزاما صارما بالمنهجية العلمية ، غير متوفر لدى القيادة الوطنية . ولكن قضية التربية والثقافة يمكن التحكم بهما وتوجيههما بما يلائم ضرورة الصمود: تربية أجيال تفكر بعقلانية وواقعية، تعي الواجب الوطني وتحافظ على الكرامة الوطنية. طبيعي أن تحكم السلطة قبضتها على العملية التعليمية؛ لكن يمكن العمل بين المعلمين والطلبة لتغليب تعليم عصري يرسي علاقة الاحترام المتبادل وإشاعة التفكير النقدي وروح المبادرة والبحث عن المعرفة. على أحزاب التغيير تناول التربية قضية سياسية بامتياز، قضية تربية الوعي العلمي في شئون السياسة والاقتصاد علاوة على الثقافة والمهارات العملية. الدولة ظاهرة سياسية وثقافية؛ للدولة إيديولوجيتها التي لا تقتصر على النظام التعليمي لإعادة إنتاجها وتدعيمه. " السلطة لا تنوجد في أشكالها المرئية والتقليدية وحسب، بل إنها قائمة ضمنا ومنتشرة في شبكة علاقات تمحي فيها الفاعلية الذاتية، وتتجسد في أنماط فكرية وممارسات اجتماعية محدودة. لهذا نقول مع فوكو ‘ان الإطاحة بنظام مستبد او رجعي لا يضمن بحد ذاته الحرية والعدالة. ومن هنا فإن احد اهم شروط التحرر هو تدمير تصور الحرية القديم الذي أخذت به الأبوية المستحدثة وما زلنا نأخذ به عن وعي أو عن غير وعي’"[1/170]. الديمقراطية الثورية تحيل العملية الديمقراطية تقدما مضطردا بلا تراجع. وقد ثبت أن الديمقراطية الكلاسيكية لم تصمد أمام تغول رأسمالية الليبرالية الجديدة؛ فهي تهمل الجماهير ، ومن ثم لا تحظى بحراسة الجماهير. تغييب الجماهير ظاهرة بارزة في نظم الليبرالية الكلاسيكية. تقلصت الديمقراطية وانحصرت في صناديق اقتراع تضع الناخبين امام خيارات محدودة، حيث يمر الترشح بغربال يفرز خلالها الموالون للاحتكارات أمثال بايدن وجونسون ، بينما يخذل امثال ساندرز وكوربين ، وتقرر السياسات واجبة الاتباع قبل وصول الناخبين الى صناديق الاقتراع.
الماركسية نظرية علمية متجددة بتجدد الحياة ، مولد حركتها الوعي العلمي للواقع. والواقع العربي محفوف بمخاطر جمة أبرزها ما يتهدد الشعب الفلسطيني من تصفية وجودية غدت بارزة ترى بالعين المجردة. المصير العربي، كل العرب، حسب النظرة العلمية، أدركها الدكتور مصطفى حجازي ولم يدرطها الماركسيون العرب، معلق بين بديلي الثورة على الأبوية او الخروج من التاريخ. " ألإنسان العربي يقف أمام احتمالين: استمرار الضياع في المتاهة ليتحول الى فضلات بشرية والانضمام الى الفئات المستغنى عنها ؛ او التخلص من هوية الفشل وارتهاناتها وبناء هوية النجاح تتمثل في وجود مليء ذي معنى يتصف بالتمكن وحسن الحال". ومنذ فترة زمنية حذر احد كبار الكتاب العرب من احتمالية خروج العرب من التاريخ! والحقيقة ان كتابات المثقفين العرب لا تجد الصدى لدى السياسيين ، خاصة أحزاب التغيير الديمقراطي، ممن يرفعون شعارات التحرر الوطني الديمقراطي والتنموي. الإخراج من التاريخ الذي حذر منه حجازي منذ العام 2006(تاريخ صدور كتابه "الإنسان المهدور") يشكل أحد احتمالات تتداولها دهاليز السياسات الدولية، وتحوم إفرازاتها في أرجاء المنطقة كالبعوض في فضاء مستنقع.
الخطر المحدق واقعي وليس من بنات الخيال؛ أفكار تترجم الى أحداث تجري بين ظهرانينا، تصدر عن الاستراتيجيين الدوليين للرأسمال المالي. خرج هؤلاء بحل لأزمة الربح الاحتكاري ينطلق من واقع أن الاقتصاد العالمي يمكن إدارته بربع عدد السكان الحاليين في العالم؛ وبذا فثلاثة أرباع سكان العالم، ومن بينهم سكان البلدان النامية، فائضون عن الحاجة ، وبتعبير آخر فضلات* يتوجب الخلاص منها. هذه المخططات وتوزيع الأدوار تشي بأنها بنات أفكار مخططين استراتيجيين متمرسين، يقومون بدور مركزي في إدارة شئون العالم، تعيد للأذهان الحكومة العالمية الخفية او نادي بيلدربيرغ ، مخططاته تدرج على سطع المعمورة أذرعه طويلة ومتعددة ، يحركها من خلف حجاب. تضم الحكومة الخفية نخبة النخب في عالم الاقتصاد والعسكرتاريا والإعلام والسياسة والأجهزة السرية من مجموعات دولية ثلاث:الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي واليابان. تعقد اجتماعات سرية تبقى قراراتها سرية. أصدر الكاتب الاسكتلندي شريب سبيردوفيتش عام 1926 كتاب "حكومة العالم الخفية"، وعثر عليه مقتولا في احد فنادق الولايات المتحدة. وفي عام 1958 اصدر الكاتب وليام غاي كار كتاب"أحجار على رقعة الشطرنج"، حوى توثيقا لأسرارما يجري في العالم من أحداث. واغتيل بعد فترة قصيرة. "نخبة عالمية" تخولها هيمنتها المالية والإعلامية سلطة احتكار صياغة حركة العالم، وتحديد خياراته الكبرى سياسيا واقتصاديا، والتحكم في مقدرات الأمم ومصائر الشعوب. ومما لاشك فيه ان للصهيونية الليكودية تأثيرا على توجهات الحكومة الخفية وقراراتها.

خلال النصف الثاني من القرن الماضي والمنطقة العربية عرضة لدسائس وتدخلات محورها كيد امبريالي-صهيوني لحركة التحرر العربية . إن ربط الخيوط وتجميعها وإلقاء نظرة تقصي شمولية قد تعطي مشهدا يوجب اليقظة. نبدأ بمكمن الأعطاب في النضال التحرري العربي والفلسطيني، حيث الفصل بين الصهيونية وإسرائيل من جهة وبين الامبريالية ودسائسها وأعمالها العدوانية تجاه المنطقة من جهة أخرى. النضال الفلسطيني عبر تقلب أوضاعه لم يكف عن الاستنجاد بالامبريالية ضد الصهيونية وإسرائيل، لم يجن سوى الخديعة. وحتى أثناء حمل السلاح لم يحمل النضال الفلسطيني مفهوم الثورة، لأنه لم يتوجه بالعداء المباشر والصريح لقوى الامبريالية، بل اتكأ على أنظمة أبوية محدثة، خذلته كلما اقتضت تبعيتها للامبريالية وأداتها الصهيونية. وحين انتقلت قيادة المنظمة داخل فلسطين المحتلة قبلت الدخول في قفص محكم، مكبلة أيديها ، عاجزة عن وقف الاستيطان والتهويد،غاية عدوان حزيران.

بعد النكبة مباشرة وضع كل حزب ماركسي في العالم العربي وكل حركة تحررية بندا في برنامجه السياسي اعتبر اغتصاب فلسطين قضيته المباشرة، و دمج استعادة الحقوق الفلسطينية بالنضال لتصفية نفوذ الامبريالية بالمنطقة. تشكلت منظمة التحرير الفلسطينية ونصبت قيادتها نفسها رأس حربة النضال العربي ورفعت شعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ، أي معركتها وقضيتها بالذات، وما على الأشقاء العرب سوى الالتحاق بركبها. اتضح خطأ التكتيك في عدوان 1982 على لبنان، حيث عزلت المقاومة الفلسطينية واللبنانية عن البعد الاستراتيجي وانفردتا بالتصدي للغزو العسكري وسط صمت عربي . منذ ذلك الحين والموضوع الفلسطيني يدرج بند تضامن في بيانات اللقاءات العربية، بما فيها لقاءات الأحزاب الماركسية واليسارية. المسيرة المتعثرة راكمت ما يكفي من خبرات، لو أخضعت لمراجعة نقدية، وتم الالتزام بنتائج المراجعة لأدرجت موضوع تحرير فلسطين من جديد مكونا عضويا داخل حركة التحرر العربية، يقابل إحالة تهويد فلسطين مكونا عضويا في استراتيجية الامبريالية. جبهتان متناحرتان يبرز الموضوع الفلسطيني احد جبهات الصراع .

جوهر التحرر الوطني والديمقراطية والتنمية صراع ضد هيمنة الامبريالية والرأسمالية من اجل الاشتراكية؛ فالطريق مسدود اما تطور برجوزية وطنية في كنف نظام ابوي مستحدث. كيف يتصرف حزب ماركسي حين تتردد القيادة الوطنية أو تستنكف عن القيام بدورها، نظرا لطبيعتها البرجوازية الصغيرة، وفي لحظة حرجة وخطر داهم؟ " يستمد العمل الثوري فعاليته من القاعدة العلمية؛ فهو عمل ثوري لأن الوعي العلمي للواقع هو الذي يقوده. من هنا كان ارتباط التفكير النظري عند لينين بالواقع الاجتماعي التاريخي ضرورة نظرية وعملية معا. فالممارسة النظرية عنده كانت ترد على حاجة عملية ثورية، كما كان الأمر عند ماركس. لذلك نجد لينين في ممارسته النظرية شديد الانتباه للشروط التاريخية الجديدة التي هي حقل فكره ونضاله"[3/217]. ان الانتباه للمستجدات وأخذها بالاعتبار ضرورة فكرية وعملية. كلما كان هيكل الحزب جامداً والحياة الحزبية مختلة، يضعف تفاعل الحزب مع المهام المتجددة في الصراع الطبقي ويتباطأ.
خلال العقود االتالية على النكبة ملأت أجواء العالم العربي أسراب االبعوض الامبريالي- الصهيوني من مستنقع الأبوية المستحدثة. من جهة مقولة الصراع الحضاري، استعدت الإسلام والمسلمين، أحد بنود المخطط العولمي ؛ وكذلك تحميل الإسلام من قبل الليبراليين العرب والأجانب اوزار التخلف العربي، ليس فقط بهدف تبرئة الهيمنة الامبريالية من جرائم إفقار الشعوب من خلال نهب ثرواتها، وإنما لشيطنة العرب والمسلمين ضمن مخطط إسقاطهم من قاطرة التاريخ، وقذفهم يجريمة تلويث قيم الحضارة، مستغلين تصرفات عناصر التعصب والجمود. المفارقة الصارخة تبعية الأبوية المستحدثة لليبرالية الجديدة وهي تقيم حكمها على الدفاع عن الإسلام المدعومة من قبل الغرب نفسه. لعب دورا في المطاعن ضد الإسلام المستشرق برنارد لويس، اعتبر الإسلام لا يأتلف مع القيم الأوروبية. دعا الى تجزئة العالم العربي الى دويلات طائفية وعرقية . حمّى الكيد للاسلام والمسلمين حشدت قوى شعبية اوصلت الى سدة الحكم متعصبين عنصريين يمينيين، امثال ترمب وبولسونارو وأودي ونتنياهو والحكام اليمينيين الذين باتوا يشكلون ظاهرة دولية .
كيف يجري الخلاص من الشعوب بموافقة حكامها؟ بزغت في ميادان الثقافة أسطورة التنميط الثقافي، تستقطب النخب المالية من أنحاء العالم، خاصة الخليجيين ممن استفاقوا على ثروات لم يتعبوا في تحصيلها ويسهل عليهم تبديدها او إهدارها في سوق الليبرالية الجديدة ومقامرات نادي التنميط الثقافي، حيث بالمال تشترى القيمة الاعتبارية عند الغرب. تستهوي نخب الخليج قصار النظر الدعوة للانضواء تحت يافطة النمط الثقافي بجوهره الامبريالي الأميركي. اخترعت فكرة مكملة تهزأ بالانتماء القومي فكرة بالية التورط بشباكها مصادفة، بينما الانتماء الحقيقي هو الموضع في الشراكة المالية العولمية بحماية الرأسمال المالي الأميركي. الكيانات القومية فكرة بالية يحسن التنصل منها. هكذا بدل حكام الخليج هويتهم وطبّعوا مع حكومة نتنياهو وأشهروا عداءهم للشعب الفلسطيني وقضيته. ومثل التلميذ يظهر نجابته في حضرة المعلم، يبرز حكام الخليج وزمر الكتاب والصحفيين التابعين نجابة في حفظ الدرس، مؤكدين ولاءهم للهوية العولمية الجديدة.

تزامن بروز هذه الأفكار الجهنمية مع تشكل السلطة الوطنية الفلسطينية ، كانت أشبه بقفص مغلق يروض داخله الإنسان الفلسطيني المحتل؛ تسارع التوسع الاستيطاني بالضفة، والهدم والتخريب والإخلاء ؛ تم إقرار قانون قومية دولة إسرائيل الذي استثنى شعب فلسطين على طرفي الخط الأخضر من الحقوق الوطنية، ونفذ قرار إعادة تسمية المواقع والشوارع في فلسطين بأسماء توراتية ، وجرى إقرار صفقة القرن ويجري الإعداد لضم الضفة لإسرائيل، وتحويل ما تبقى معالم توراتية مثل غنمات هزيلات مع راع مهلهل الثياب، تبرز على جوانب الطرق الاستيطانية! تم قطع الدعم المالي الأميركي للأونروا؛ كما جرى تدبير الفتن الطائفية وحروب داعش والنصرة لتفتيت المجتمعات العربية او تقويضها بالحروب الداخلية. نجد سوريا والعراق وليبيا واليمن عرضة للتدمير وتعاني أوضاعا اقتصادية مزرية.
يجري أيضا ضمن هذا السياق تيئيس الجماهير من إمكانيات تنمية الاقتصاد الوطني، بتحويل الوطن الى مكان لا يليق العيش فيه بكرامة ، ومن ثم يشيع الحل في الهجرة الى حيث الوفرة والرفاه. في نفس الوقت تتكثف دعاية اليمين العنصري لتأليب الشعوب الأوروبية ضد المهاجرين ، تسعّر الكراهية العرقية بدل النضال الطبقي.
والشعب الفلسطيني، لو نجحت خطط التهجير لن يترك بأمان، سيطارد وستحرض الدسائس على وجوده أينما يحل به الترحال. وإذا نجحت إسرائيل في تجريم التضامن مع الفلسطينيين باعتباره لاسامية فسوف تتسع تهمة اللاسامية لتشمل النطق بكلمة فلسطين وتصاريفها . القيادة الفلسطينية تستجير وتستجدي التضامن، وما أكثر القضايا الإنسانية المستحقة للتضامن! والتضامن يحركه ويلهبه صدام - لا يتوجب ان يكون مسلحا ـ وتنشأ بالنتيجة قضية تحرك الوجدان. والليبرالية الجديدة، شأن إسرائيل كافحت مفهوم التضامن مع ضحاياها؛ حتى كتابة هذه لسطور لم نشهد نفيرا في المناطق الفلسطينية المحتلة للرد على نوايا ضم مناطق فلسطينية لإسرائيل. لا نجد نفسا ثوريا يلهب حماس الجماهير. طوال عهد السلطة الفلسطينية بالضفة لم تنفد سياسات تعزيز الصمود في قطاعات الزراعة والصناعة والتعليم ورعاية الشباب وتوفير مجالات العمل لخريجي المعاهد والجامعات. علما ان الرئيس الفلسطيني المح مرارا الى نوايا التهجير. النضال المناهض للاحتلال عمل ثوري يتطلب تحالفا ثوريا يلتف حول الحزب الثوري، المسترشد بنظرية ثورية. وفي حال انتكاس الثورة او انحرافها او تعثرها فإن "أشد خطر يتهدد الحزب الثوري هو أن تفوته السيرورة الثورية؛ إذا انحرفت هذه او انتكست او تعثرت كان الحزب ذاك حينئذ ، بغيابه عنها السبب الأول لانحرافها أو انتكاستها او تعثرها "[3/185].
العالم العربي يبحر في مركب واحد؛ إذا استُهدِف الشعب الفلسطيني أولا فإن انهيار مقاومته ستكون بمثابة انهيار سد يغرق ما حوله بالفيضان؛ حينئذ تتمكن إسرائيل داخل قلعتها، ويشتد سعارها إذ تتسع قاعدة أصدقائها ، مثلما حدث بعد عدوان حزيران؛ وتنتعش ، من ثم، شهيتها للتمدد وفرض نفسها دولة إقليمية تملي رؤيتها على مجريات الأمور في دول المنطقة. فلا يليق أن يستمر التضامن مع فلسطين مجرد بيانات مشتركة؛ الرؤية العلمية توجب إرجاع القضية الفلسطينية مركزية حقا، ونضالا ضد الامبريالية التي يشكل نشاط إسرائيل جزءا من استراتيجيتها حيال المنطقة. يجب ان تكون المناسبات الفلسطينية مشتركة بين الشعوب العربية يحتشد حاملو رسالتها في ساحات المدن وشوارعها.
مع أن هشام شرابي فرغ من كتابه موضع العرض عام 1988، إلا انه تنبأ محذرا من أحداث العقد الثاني من القرن الجديد."الخطر الذي يواجه المجتمع العربي اليوم لا يرد من مصادر خارجية فحسب ، بل كذلك من الداخل ، من التفكك العربي والانهيار الداخلي والحروب الأهلية التي يمكن وقوعها في بلدان عربية عدة. وما من قوة تمنع التفكك والانهيار الداخلي والحروب الأهلية تنبع من الداخل" [1/172]. النزعة النقدية داة أساسية في البحث العلمي ، وهي المرحلة الأولى للنفاذ الى الجديد واكتشافه.
يتساءل شرابي: ما هو الموقف المطلوب لإحداث تحول يلزم السلطة للجوء الى القانون والتخلي عن القمع؟ ما هو المطلوب لحمل الدولة على استخدام لغة القانون بدل القوة؟ كيف السبيل الى إجبار الحكومات على الأخذ بقوانينها على محمل الجد، وهي الأساليب التي تمكننا كخطوة أولى من إحداث هذا التحول[1/173]؟
ليس غير الضغوط من أسفل ، من الحراك الشعبي الديمقراطي. الطريق الى التجديد تستلزم منهجية تكون نقدية وصدامية في آن"تتطلب هذه الممارسة (الثورية) أشكالا عدة من التنظيم القائم على نشاطات الأفراد المستقلين والنقابات العمالية والجمعيات النسائية والاتحادات الطلابية ، إضافة الى الأحزاب والتجمعات السياسية ، أساتذة جامعات وفنانون وأطباء ومحامون ورجال دين وعمال... بعض الأنظمة منفتحة على التغيير ، فيما البعض الآخر منغلق عليه. وبمقدور اهداف النضال أن تكون مقبولة تتبناها الأكثرية الشعبية لكونها أهدافا عامة مشروعة وقابلة للتنفيذ في الساحة السياسية. اما أهداف النضال الأخرى فتركز على تشكيل مؤسسات قطرية وقومية للتغيير الاجتماعي والثقافي، كالجمعيات الأكاديمية وجمعيات النقابات المهنية والثقافية والفلاحية واتحادات الشباب والطلبة والنساء وحركة تحرير المرأة رأس حربة التغيير الاجتماعي والثقافي : الدرع الواقي وحجر الزاوية لنظام الحداثة"[1/174] .
في مقدمة الطبعة العربية من الكتاب(ص13) يشير شرابي الى كتاب ألان تورين،"عودة الغائب: النظرية الاجتماعية ما بعد المجتمع الصناعي " الذي اطلع عليه بعد الفروغ من الكتاب، مبرزا تركيز تورين على ما أسماه" الحركات الاجتماعية التي أصبحت في صوب نهاية القرن(العشرين) القوة الاجتماعية القادرة على تحدي الوضع القائم ومجابهة سلطته المركزية دون اللجوء الى اساليب الثورة التقليدية. وشدد تورين على مفهوم التعدديه في بنية الحركات الاجتماعية بكونها تمثل المجتمع في جميع مستوياته الاجتماعية والطبقية وتنظيماته السياسية واتجاهاته الأيديولوجية. من هنا كانت مطالب الحركات الاجتماعية عريضة وشاملة: الحريات الديمقراطية، حقوق الإنسان،العدالة الاجتماعية الخ. في هذا السياق طرح شرابي " النضال الشعبي والعصيان المدني النهج الثوري الحقيقي" في هذه المرحلة.
تلك هي شروط التغيير الديمقراطي وليست خطة عمل أو برنامج نضال. توفرت هذه الشروط في موجات الانتفاضات الجماهيرية خلال العقد الأخير. فشلت لأنها لم تحظ بقيادة ٌثورية ؛ فمنذ صعود الحركات الأصولية خففت الأنظمة ملاحقاتها للشيوعيين ، وقنع هؤلاء بنصف العلنية انتهزوها بياتا شتويا غابوا خلاله عن الأعين وعن البال، وعن مستجدات الفكر العلمي.
في ظروف كالتي نجتازها ، حيث الهوة واسعة تفصل أحزاب التغيير الثوري عن القاعدة الجماهيرية، تلزم الضرورة الاسترشاد بمعطيات علم النفس الإيجابي، وهو موضوع جديد يقارب مهمات بناء الاقتدار الذاتي وإخراج الجماهير من محجرها، تمكينها على مختلف الصعد الذهنية والسلوكية والمهنية والاجتماعية العامة. يتضمن التفكير الإيجابي او الواقعي، ونواته العلاج المعرفي بالاستناد الى علم النفس المعرفي، انتشال الجماهير من حضيض الهدر الاجتماعي. تنطلق صيرورة اكتساب الصحة النفسية في أبعادها العاطفية والوجدانية والوجودية وصولا الى بناء الحياة الطيبة مثل الرضى والتفاؤل والأمل والانطلاق والدافعية الذاتية والسعادة والأمن النفسي ومهارة التعامل الاجتماعي من منطويات الذكاء الاجتماعي.
تترسب تجرحات الهدر وعقده في النفوس والأذهان والأبدان طبقات خمس أجملها حجازي : طبقة اليافطات للتستر على الذات، وطبقة الدوران والألعاب للتواصل مع الذوات الأخرى، وطبقة المأزق دفاعات عصابية تتضمن الصراعات والقلق وهدر الطاقات النفسية؛ ثم تأتي رابعا طبقة الموت الوجودي او الانهيار الداخلي حين تفشل الدفاعات في عملها لدرء القلق. "عندها يجد الإنسان المهدور ، كما العصابي ، أنه امام تلك النقاط المميتة او المولدة للذعر من عالمه الداخلي. والطبقة الخامسة وأعمقها طبقة الطاقات الحية الوثابة الطامحة للنماء والتوسع، تدفن تحت الطبقات الأربع السابقة. إنها تمثل الجانب الأصيل من أنفسنا ، يؤذن بلوغها الدخول في اتصال حقيقي مع الذات في كل مشاعرها ووجداناتها العامرة بالفرح والرغبة والامتلاء ، أو الغضب والثورة والتمرد. الوصول اليها يعني التحرر من كل الأقنعة وسقوطها ، والاستجابة والتصرف بحرية ومسئولية ولقاء ذاتي مع الرغبات والميول ، وتحرر الطاقات الحيوية. يسترد الإنسان طاقة التعبير عنها ، ويدخل في وفاق ووئام كياني"[2/301].
هذه الحقيقة السيكولوجية تبرر الثقة بالجماهير واحترام قراراتها ومواقفها، ولو تضاربت مع الضرورة ومع طروحات الحزب الثوري. احزاب البرجوازية الصغيرة تلوم الجماهير وتقسو عليها، وأحيانا تمارس الإكراه والقيادة الأوامرية بدل التثقيف وإجراء الحوارات. القيادات السياسية تتحمل مسئولية أخطاء الجماهير. إن التنقيب عن الطبقة الأعمق في النفسية المهدورة وتفعيلها تتيح للحزب الثوري التعمق في سيكولوجية الجماهير وتكييفها لاكتساب ثقتها . وكلما ارتفعت خبرة كوادر الحزب الثوري بعلم النفس، وتمرست في التفكير الإيجابي يرتفع مردود نشاطها في أوساط الشعب وتتعمق جذور الحزب الثوري في التربة الاجتماعية. علم النفس الاجتماعي وفرعه الأهم علم النفس الإيجابي مستشار زاخم بالخبرة لمن يتعامل مع الجماهير، كتابا وفنانين وعاملين في الخدمة الاجتماعية ومناضلين سياسيين. وعلى العكس من علم النفس المرضي يركز علم النفس الإيجابي على أوجه القوة لدى الإنسان بدلا من أوجه القصور ، وعلى الفرص بدل الأخطار، وعلى تعزيز الإمكانات بدلا من التوقف عند الصعوبات. إنه يهدف الى تنشيط الفاعلية الوظيفية والكفاءة والصحة الكلية للإنسان. .

الجهد التطهري المساعد على التخلص من كدمات الهدر وتجرحاته وعقده يتم بمطالعة الأعمال الأدبية والتردد على معارض الفن والمسارح وعروض الفنون الأخرى. الثقافة علاج، مثلما هي ضوء ينير الدرب؛ الثقافة ليست اختصاصا للنخبة، إنما الفنون والآداب والثقافة السياسية ينبغي ان توضع بمتناول الجماهير. المواضيع السياسية تلهم وتنير الدرب ، والفنون والآداب تعزز القيم الإنسانية في النفوس والأذهان، خاصة قيم الانتماء الاجتماعي والتضامن والتعاطف مع المسحوقين، تلك القيم التي تكافحها ثقافة الليبرالية الجديدة بثقافة الكراهية والعنصرية والعنف والقسوة . " المعركة لكشف الهدر الذاتي الذي تم اجتيافه(أي ابتلاعه) وتمثله والحفاظ عليه وإعادة إنتاجه ذاتيا ، لا تقل أهمية عن المعركة مع الهدر الخارجي [2/322]. اكتساب الصحة النفسية وعي بالوجود والسيطرة على عملياته."الوعي هو أساس امتلاك الذات ، او بالأحرى استرداد الذات المضيعة وصولا الى توجيهها والتعامل النشط مع الدنيا والناس"[2/323]. بالوعي تتحقق الصحة النفسية، كذلك فإن النضال الوطني العملي، وليس بالأقوال، من شانه أن يشفي من العقد الموروثة عن عهود الهدر؛ فالالتزام بقضية وطنية يملآ الوجود ويعيد التوازن غير المصطنع ويعطي القيمة للأفراد. يغدو الوجود بكل محنه وشدائده وهدره المادي ذا معنى يحمل القيمة. تصبح الجهود والمعاناة، وحتى العذابات، هي التضحيات التي تشكل الكلفة المستحقة يدفعها المرء عن طيب خاطر. بهذا يأخذ الكيان بعدا وقيمة ودلالة تتجاوز حدوده الذاتية ، بما فيها من عجز وقصور وثغرات. بهذا يزول الفراغ وتتلاشى الهوة ويمتلئ الكيان.
وكذلك الترياق من أمراض الرتابة والتصلب الذهني الموروثة عن ظروف الهدر والتشبث بالعادات التقليدية والجمود والتكرار، يكمن في " المرونة الذهنية وتوسل السبل المطروقة والسهلة، من اجل تملك القدرة على تدبير الأمور في الظروف الصعبة او المهددة بالمخاطر، او حتى حالات المحن بمقاومة فعالة وناجعة. انها عبارة عن تملك القدرة على تعبئة الطاقات الذهنية المهارية بغية القيام بالتصرف الجيد في الظروف التي تعترض المعوقات بنجاح . نحن يصدد بناء شخصية الصمود بوجه المحن والخروج منها بنتائج إيجابية"[2/332]. فما احوج الفصائل السياسية الى تربية كوادرها وإكسابهم المرونة الذهنية. التخلص من هوية الفشل وبناء هوية التمكن وحسن الحال، بما يضمن بقاء شعب فلسطين وبقية الشعوب العربية على مسرح التاريخ ـ تفرض نفسها قضية قومية واحدة طالما الأعطاب مصدرها واحد.

ربما يسخر المشعوذون باسم الدين ترسبات الهدر الاجتماعي لتجريم الناس بالابتعاد عن الدين، والعلم يبرز الأفراد ضحايا البيئة الاجتماعية. الاسترشاد بالعلم يرفد النضال الوطني الديمقراطي بالقوة الاجتماعية المعطلة ، او المحجوزة خلف جدران التيار الديني. لا بدّ من حظر اشعوذة المتمثلة في تسخير الجهل لتجريم ضحايا الأوضاع الاجتماعية المختلة. الفتاوى الدينية ، كي لا نظلم الدين فدوره لن يغيب عن مسيرة التقدم والتحرر، ينبغي ترشيدها بمعطيات العلوم ، وخاصة معطيات علم النفس الاجتماعي.
الوعي العلمي او الاندثار!
1-هشام شرابي: البنية الأبوية إشكالية اللتخلف الاجتماعي
2-مصطفى حجازي: الإنسان المهدور
3-مهدي عامل: مناقشات وأحاديث في قضايا حركة التحرر الوطني وتميز المفاهيم الماركسية عربيا-شركة المطبوعات اللبنانية ، بيروت 1990