استراتيجة (ثلاثية الأبعاد)


خالد صبيح
2020 / 5 / 17 - 00:17     

قد تكون خلفية السيد الكاظمي الصحفية زائدا تشبعه بالثقافة الأمريكية، المولعة بالنزعة الاستعراضية، بحكم إقامته هناك، قد أعاناه أو أوحيا إليه باستخدام مؤثرات الصورة (الفوتوغراف) لبث رسائل بمضامين موحية. فقد دأب الرجل منذ يومه الأول على الاعتناء بطلته الإعلامية، وحرص على أن يجسد لحظاته المهمة فوتوغرافيا لخلق تاثير نفسي في المتلقين، كل المتلقين.

تقنية التأثير بالصورة ليست جديدة، وقد استخدمها أغلب سياسيي العراق والعالم، لكن قيمة وتاثير هذه التقنية تنجح إذا أُجيد استخدامها وتوقيتها. وأستطيع القول أن الكاظمي أجاد حتى اللحظة في استخدام هذه التقنية، وصوره زائرا لمراكز القوة الجديدة: وزارة الدفاع، ومكافحة الإرهاب، تكرس هذا الانطباع.

لكن صورته بشكل خاص مع فريق مكافحة الإرهاب تعطي دلاله خاصة. (حيث ظهر رفقة الفريق " عبدالوهاب الساعدي" قائد الفرقة، متوسطا قوة كوماندوز بكامل عدتها الحربية). فهذه القوة تنافست مع الحشد الشعبي على سمعة نيل شرف مواجهة داعش ودحره، إضافة إلى أن قائدها صُنعت له، أو صنع هو لنفسه هالة واسم أشاع من حوله سرديات مختلفة منها تهيئته للقيام بانقلاب لصالح الأمريكان كما أشاعت عنه بعض قوى الإسلام السياسي الشيعي وقت اندلاع انتفاضة تشرين وقبيل ابعاده عن منصبه.

والصورة مع فرقة مكافحة الإرهاب زائدا الحفاوة الاعلامية (على وسائل التواصل الإجتماعي) بعودة قائدها لمنصبه من جديد، تبث رسالة محددة فحواها أن القوة أصبحت الآن بيد أصحابها. وهذا يحيلنا الى ما أرى أنه تصور أولي لاستراتيجية السيد الكاظمي المكونة من ثلاث مراحل لتحقيق (مشروعه) المعد أمريكيا.

المرحلة الأولى من هذه الاستراتيجية سوف تحمل عنوان "تجميع القوة". ومن دلائل وإشارات هذه المرحلة هو وضع رجال أقوياء في مراكز القرار الأمني الرئيسية (الداخلية والدفاع) بعيدين عن تاثيرات الميليشيات وتهديدها، (فوزير الداخلية يحميه منها ثراؤه وانتمائه العشائري، ووزير الدفاع يحميه انحداره المناطقي والمذهبي)، لكن رغم ذلك، ورغم التحفيزات وبعض التحريض لرئيس الحكومة، من أطراف مناهضة لجماعات الحكم والقرار، للشروع باستخدام القوة من خلال تركيزها على مطالب محاسبة قتلة المتظاهرين، والبدء فورا بعملية حصر السلاح بيد الدولة، وهذه كلها مطالب مشروعة، بل هناك من ذهب أبعد من ذلك واستحضر لغة القمع، الأثيرة عراقيا، وطالب الكاظمي بخلع قفاز الحرير واستبداله بقبضة فولاذية، أقول: رغم ذلك إلا أن السيد الكاظمي أخذ ينشر رسائل طمأنة للجميع، حيث قدم وعودا لقطاعات اجتماعية وسياسية عريضة خالية من التهديد والوعيد، ولا تستفز أي طرف سواء كان محليا أو إقليميا، وهذا يؤشر الى، أولا، أن التصعيد بالمواقف والإجراءات لم يئن أوانه بعد، وثانيا، لأن اي عاقل سوف يفضل الطريقة الهادئة والسلمية لحل المشاكل التي يريد رئيس الحكومة التصدي لها، وأهمها وأولها، حصر السلاح بيد الدولة، الذي يعني حرفيا تجريد اذرع ايران والأحزاب المسلحة (الميليشيات) من قوتها.

من المؤكد أن هذا الهدوء سوف يستمر حتى حزيران المقبل، موعد التباحث مع الأمريكان، لتنظيم وشرعنة وجودهم في العراق، وحتى استكمال مكونات الاستراتيجية الأخرى.

الطوران الآخران من استراتيجية الكاظمي (وقد يبدو هذا الكلام من نسج خيال قصصي أكثر منه تحليل وقائع) هي كسب موقف مرجعية النجف لنيل رضا عامة الناس و لإضفاء شرعية اجتماعية وأخلاقية على خطط الحكومة المقبلة، وذلك باتجاهين: الأول رفعها القداسة والحماية عن الميليشيات المتخفية وراء الحشد الشعبي، كأن يكون بإبطال فتوى الجهاد الكفائي لعدم الحاجة إليها، أو بإخراج هذه الميليشيات تحديدا من خيمة الفتوى. والثاني بوقوف المرجعية على الحياد ما يعني بالمحصلة رفع الحماية أيضا عن الميليشيات في حال اضطرت أجهزة أمن الدولة للاصطدام معها.

والطور الثالث هو بناء سياج سياسي برلماني يشكل قاعدة للمشروع ويتكون من كتلة قوية تنخرط طواعية في مشروع واستراتيجية الكاظمي الأمريكية. وهذه القوى هي قيد التشكل الآن، لكن يمكن الاستثمار فيها لتنفيذ توجهات الحكومة. وعماد هذه الكتلة هم منتسبو الخط الثاني لأحزاب العملية السياسية، الذي نشأ وتربى وبنيت قيمه ومفاهيمه في ظل العملية السياسية الجارية منذ 17 عاما. وما يحرك هؤلاء في توجهاتهم الجديدة هو دافعان أساسيان، الأول، انتهازيتهم واستعدادهم للتحول بحسب حاجاتهم ومصالحهم، وأيضا بحسب ميلان كفة ميزان القوى، والثاني، بسبب تململهم من هيمنة الرعيل الأول من قادة الأحزاب والكتل، على مقاليد العملية السياسية، الذي تحركه الآيدلوجيا أكثر من السياسة، ووقوفه بحكم تلك الخلفية وماتولده من تصلب بالضد من الحاجات العملية والنفعية (البراغماتية)، الذي يتبناه وتبشر به الجماعات الجديدة وفق مفهومها للسياسة المنبثق عن العملية التي نسجت وعيها ووعي الجيل المتاخر من السياسيين والبرلمانيين.

إن هذه الكتلة السياسية البرلمانية الجديدة تؤذن، بتطلعاتها واستعداداتها وممارساتها، بولادة نخبة سياسية (اقتصادية واجتماعية ايضا) جديدة، متشكلة من هذا الجيل وتوابعه من إعلاميين ومثقفين ووجوه اجتماعية، بنيت لها مصالح وقيم بعيدة بعض الشيء عن أسس التفكير التقليدي للأحزاب القديمة وقادتها، من سماتها أنها عابرة نسبيا للطائفية بحكم ارتباط المصالح والمنافع والمفاهيم المشتركة التي ربطت جميع "الطوائف" حولها، والتي تجاوزت الأطر المحددة طائفيا وطوبوغرافيا التي انقسمت عليها وحولها (النخب) السياسية التقليدية طوال المرحلة الماضية.

هذه العوامل المركبة إذا أضفنا لها انتفاضة تشرين ومطاليبها، وما عكسته من تذمر جماهيري ورغبة صادقة لتغيير الأوضاع بمجملها، بغض النظر عن الاندساسات والتوظيفات المشبوهة والمشوهة فيها، ستشكل برميل بارود بحاجة إلى صاعق يفجره، وبظني أن شخص الكاظمي، ومن يقف وراءه، سيكونون هذا الصاعق المفجر، هذا إن أخذ السيناريو الأمريكي المرسوم لهذه الحكومة وتلك المرحلة مداه دون كوابح.

يدرك المتتبع للشأن العراقي أن رغبة التغيير التي تعتمل في النفوس هي رغبة شاملة في المجتمع، ودائما كان هناك أمل لدى عامة الناس في وجود مسؤول أو حاكم "منقذ" يتخطى محدوديته الطائفية والحزبية لينتقل الى مشروع، ولو بحد أدنى من الوطنية، يأخذ البلد إلى أفق ومسار ينمي ويطور نفسه بآلياته وقدراته الذاتية. هكذا كان الأمر مع العبادي وإلى حد ما مع سلفه، المالكي، لكنهما لم يكونا مؤهلين لهكذا دور ومهمة،لذا يبدو أن قدر العراق وطالع شؤمه جعل من ممكنات التغيير فيه، كما كل شيء آخر، لا يتحقق إلا بأيد أجنبية.

للتذكير فقط:

عند تشكيل حكومة الكاظمي، تلقى جميع المعنيين رسائل تهديد وتحديد مهام للقبول بولايته وتمريرها في البرلمان، وذلك (كل حسب حاجته (موقفه)، وكل حسب قدرته (موقعه).

***

ملاحظة عابرة:

كان سيكون مفيدا لو توفرت إمكانية ارفاق صور مع المقال تكون إضافة بصرية له، توضح الفكرة وتساعد على فهمها أكثر، لكن موقع الحوار المتمدن لايتيح، للأسف، هذه الخاصية.