هل هناك ضرورة نظرية لتخطي الماركسية؟ (1) في ضرورة المفاهيم النظرية لحركة يسار جديد وديمقراطي


هشام عمر النور
2006 / 6 / 18 - 11:07     

هذا السؤال يعيدنا مع خصومنا في هذه القضية إلى وضع يمكنّنا من التفاهم معاً. فهو ابتداءً يفترض إمكان تجاوز الماركسية، فهي شأن فكري لا تحصنه أي قدسية أو محرمات ويحتمل التخطي مثله مثل أي شأن فكري آخر، وأظن أن خصومنا يتفقون معنا في هذا. ومع ذلك فإن السؤال يفترض أن هنالك ضرورة ما يجب أن تتوفر لكي نتخطى الماركسية، أي أن أمر تخطيها ليس أمر مجاني وإنما أمر يجب أن تتوفر له شروط. ونحن نتفق مع خصومنا في ذلك. كما أن السؤال يضع أيضاً احتمال أن تكون هنالك ضرورات أخرى لتخطي الماركسية غير الضرورة النظرية، ولكننا معنيين، الآن، بالضرورة النظرية.
إن التراكم المعرفي الذي يؤدي إلى تعميمات فلسفية جديدة شرط لتخطي الموقف النظري السائد وتأسيس موقف نظري جديد. هذا التراكم المعرفي لا يشترط أن يتم في مجال الفلسفة، بل هو بالأحرى يتم في المجالات المعرفية الأخرى، ولكن يجب أن يؤدي بالضرورة إلى تعميمات فلسفية جديدة. ومن المهم أيضاً التأكيد على أن توفر التعميمات الفلسفية القائمة على معارف جديدة هو مجرد شرط، توفره لا يعني الانتقال تلقائياً إلى موقف نظري جديد في الفلسفة، وإنما الأمر يحتاج أيضاً إلى تركيب هذه التعميمات الفلسفية أو تأليفها مع بعضها البعض ومع ما سبق من تعميمات فلسفية حاضرة في الموقف الفلسفي السائد وفي تاريخ الفلسفة. هذا التركيب أو التأليف النظري ليس مجرد جمع ومواءمة بين تعميمات فلسفية وإنما إبداع وابتكار لمنهج فلسفي جديد يخرج من بين هذه التعميمات الفلسفية ويشملها جميعاً.
وهذا ما نعنيه بأن تجاوز الماركسية لا يعني نفيها نفياً مطلقاً وإنما نفيها نفياً ديالكتيكياً، يحتفظ بأفضل ما فيها وينتقل بها إلى طور جديد من أطوار الفكر الإنساني. إن المواقف النظرية الجديدة في الفلسفة تأتي دائماً كتعميم لقمم الفكر الإنساني وأهم منجزاته. ولهذا السبب فهي تكتسب طابع عصرها وعلومه ومعارفه. وإذا كان طابع عصرنا وعلومه ومعارفه التعددية والاختلاف والقيم التي تقوم عليهما من حرية وديمقراطية وتسامح واحترام وقبول الآخر وحقوق الإنسان فإن الطابع النظري لموقفنا الفلسفي يجب أن يعبر عن هذا كله. وهذه أول ضرورة نظرية لتخطي الماركسية، إذ أن أساسها النظري يفتقد للتعددية والاختلاف وبالتالي يفتقد لكل القيم التي ذكرنا أنها تقوم عليهما. مما يعني أن الماركسية لم تعد تعبر عن عصرنا وخصائصه وأن علوم ومعارف عصرنا قد تخطت الماركسية مما يستوجب تخطيها إلى موقف نظري جديد في الفلسفة.
لقد انتقلت الفلسفة دوماً من موقف نظري إلى آخر اعتماداً على تعميمات فلسفية قائمة على الكشف عن معارف جديدة في حقول العلوم الأخرى. وأول موقف فلسفي عبّر بوضوح عن هذا الأمر هو الفلسفة النقدية عند كانط، ولذلك لم يكن مفارقاً أن يكون كانط هو أول من صاغ مفهوم التركيب أو التأليف synthesis فلسفياً وهو المفهوم الذي لعب الدور الرئيس في صياغة فلسفة كانط النقدية، وهو الذي نعتمد عليه في الدلالة على ضرورة تخطي الماركسية وإن كان له أيضاً عند كانط دلالة منطقية خاصة. وليس من المصادفة أيضاً أن يطلق كانط على فلسفته اسم الفلسفة النقدية إذ أن من الواضح أن تأليف وتركيب التعميمات الفلسفية والمعارف الجديدة لا يتم إلاّ بنقدها جميعاً ومن ثم الوصول إلى موقف فلسفي جديد يقوم على منهج جديد يستوعبها جميعاً. وهو ما أنجزه كانط بامتياز.
الفلسفة النقدية عند كانط تعبّر عن قمم المنجزات المعرفية والفلسفية لعصرها. فهي تعبّر عن منطق أرسطو الصوري وعن فيزياء نيوتن، ونقدهما معاً ونقد التعميمات الفلسفية المستندة عليهما هو الذي أدى إلى تركيبهم وتأليفهم وتكوين الفلسفة النقدية. فمنطق أرسطو الصوري يعبّر عن قوانين الفكر التي هي في ذات الوقت قوانين الواقع، وهذا ما يعتمد عليه التيار العقلاني في الفلسفة الذي يعتبر أن العقل هو مصدر المعرفة. بينما فيزياء نيوتن لا ترى في قوانينها قوانين للفكر وإنما ترى فيها الواقع نفسه، وهذا ما يعتمد عليه التيار التجريبي في الفلسفة الذي يعتبر أن التجربة هي مصدر المعرفة. إن الفلسفة النقدية كما تعبّر عن منطق أرسطو الصوري وفيزياء نيوتن تعبّر أيضاً عن عقلانية ليبنتز وتجريبية هيوم، ولكن بعد نقدها وتركيبها على أسس جديدة تتجاوز الرؤية الأحادية لكل منها التي تشوش الواقع، كما يرى كانط. وحتى لا يساورنا الشك ويقع في ظننا أن التركيب مجرد تلفيق بين هذه التيارات لا بد من النظر إلى ما قام به كانط من نقد وتركيب وتأليف.
يعتقد كانط أن التيار العقلاني يرى أن كل المعرفة الإنسانية تتأسس على قضايا تحليلية (وقَبْلية) وهما مفهومان صاغهما كانط للدلالة على القضايا التي يؤدي نفيها إلى تناقض (قضايا تحليلية) والقضايا التي لا يحتاج إثباتها إلى تجربة أو معرفة حسية (قضايا قَبْلية) بينما التيار التجريبي يرى أن كل المعرفة الإنسانية تتأسس على قضايا تركيبية بَعْدية وهما أيضاً مفهومان صاغهما كانط للدلالة على القضايا التي لا يؤدي نفيها إلى تناقض (قضايا تركيبية) والقضايا التي تحتاج إلى التجربة لإثباتها (قضايا بَعْدية).
وينتقد كانط كل المعرفة الإنسانية ليثبت أنها كلها تقوم على قضايا تركيبية قَبْلية، وهي الفكرة الأساسية التي يقوم عليها كتاب نقد العقل الخالص، وهي مهمة نظرية عسيرة يثبت فيها كانط أن المعرفة الإنسانية تقوم على قضايا لا يؤدي نفيها إلى تناقض وعلى الرغم من ذلك فإنها قضايا لا يحتاج إثباتها إلى تجربة أو معرفة حسية. وعلى هذا الأساس الفلسفي تم تعميم المعارف التي تنطوي عليها فيزياء نيوتن ومنطق أرسطو الصوري مما أدى إلى إنتاج مقولات كانط الفلسفية، وهي مقولات متعالية بمعنى أنها سابقة على التجربة وحملها على الإدراك الحسي هو الذي يكون الموضوعات التجريبية. وهكذا استطاع كانط تركيب المنطق الصوري والفيزياء الكلاسيكية والعقلانية والتجريبية في فلسفته النقدية. إن الفلسفة النقدية كانت تركيب لقمم معارف عصرها ومع تراكم المعارف والتعميمات الفلسفية الجديدة لم تعد تعبّر عن ذلك.
وما ينطبق على الفلسفة النقدية ينطبق أيضاً على الماركسية، فهي أيضاً تركيب لقمم معارف عصرها ولكنها الآن لم تعد تعبّر عن معارف عصرها وخصائصه. وهذا هو موضوعنا التالي.