ما قبل جائحة الكورونا وما بعدها (2/2)


فؤاد النمري
2020 / 5 / 13 - 20:41     

ما قبل جائحة الكورونا وما بعدها (2/ 2)


المفكرون والمحللون الاستراتيجيون المزعومون أكدوا جميعهم أن النظام الرأسمالي في العالم لم يتحمل وزر جائحة الكورونا لذلك أجمعت البشرية (online) ودون أن تعقد مؤتمراً عاماً لها على أن تستغني عن النظام الرأسمالي القائم لتبني نظاماً بديلا قادراً على مواجهة محتلف الفايروسات مهما كان تطورها الطارئ !!
عهدت خلال عمري الطويل أناساً بلهاء كثيرين لكن ليس بمثل بله هؤلاء الموصوفين بالمفكرين والمحللين الاستراتيجيين فيصل بهم البله لأن يعتقدوا أن بناء أو تفكيك النظام الإجتماعي هو عمل رغبوي بمثل ما يلعب الأطفال بلعبة المكعبات (Lego) .
ما كان الإنسان ليعرف النظام الرأسمالي لو لم يكن هناك الفحم الحجري ؟ يتفكك النظام الإجتماعي بفعل تعاظم قوى الإنتاج والإنسان هو أحد هذه القوى التي تتوحد في محصلة واحدة تقوى حتى نقل المجتمع إلى نظام جديد، الأمر الذي يعني مياشرة أن غياب إحدى هذه القوى يحول دون انتقال المجتمع إلى نظام اجتماعي جديد، وأن انتقال النظام الإجتماعي إلى نظام جدبد لم يكن يوما موضع خيار الإنسان بل إن مشاركة الإنسان برافعة القوى للنظام الجديد وهي قوى العمل إنما هي تحصيل حاصل – بعضهم يعتبر المعرفة قوة بذاتها من قوى الإنتاج غير أن المعرفة لم تكن يوماً مستقلة بذاتها عن العمل البشري (Labour Power) الذي أولى مقوماته هي الوعي .
ما الذي فعلته جائحة الكورونا بقوى الإنتاج ؟ هل فجأة دفع فايروس الكورونا بقوى الإنتاج إلى أعلى فعاليتها مما اقتضى انتقال النظام الإجتماعي الحالي إلى نظام أرقىى يتناسب وفعالية قوى الإنتاج المستجدة !؟
العكس تماماً هو ما يتفق علية الجميع من مفكرين وغير مفكرين ، فجائحة الكورونا أنزلت ضربة قاصمة بمختلف قوى الإنتاج . عشرات الملايين من العمال تعطلوا وفقدوا وظائفهم وباتت غائلة الجوع تنهش عائلاتهم ؛ أدوات الإنتاج لم تتحرك منذ شهرين حتى علاها الصدأ ؛ زيت الوقود انخفض استخدامه بنسبة 70% وبات عبئاً ثقيلاً على من ينتجه . فكيف لأحدهم أن يدعي بأن العالم إكتشف عجز النظام "الرأسمالي" عن مواجهة جائحة الكورونا ولذلك قرر استبداله . مسكينة هي الإنسانية التي ما زال بين أبنائها مثل هؤلاء القوم البله الغفل !!
بله غفل لا يدركون يأن التظام الماثل اليوم ليس رأسماليا ولو كان رأسماليا لما استدعى التغيير بل الثبات والاستمرار.
وبله غفل يعتقدون بأن الإنسان يبتدع النظام الإجتماعي المطابق لطموحاته ورغياته خلافاً للحكمة الماركسية التي تقول .. "نعم الإنسان يصنع التاريخ لكن ليس كما يشتهي" .
وبله غفل أيضاً يدعون اكتشاف مساوئ النظام الرأسمالي بعجزه عن مواجهة الكورونا فقط وهو ما يعني أنهم لا يرون في الحربين العالميتين الأولى والثانية أية مساوئ للنظام الرأسمالي .

في غمرة مواجهة الإنسانية لجائحة الكورونا المميتة يفجؤها مفكرو البورجوازية الوضيعة ومحللوها الاستراتيجيون الأفاقون بالإدعاء أن النظام الرأسمالي العالمي ينهار الآن بفعل الكورونا ّ!! ما عساها تكون خصيصة هذه الكورونا التي لا تصيب الإنسان فقط بل وتصيب النظام الاجتماعي أيضاًّ !! ؟
لن تكون الكورونا أبلغ أثراً من الطاعون (Back Death) الذي قتل في اروربا الغربية أكثر من 250 مليون إنسان في أواسط القرن الرابع عشر وأًعتبر أحد العوامل الرئيسة التي قوّضت النظام الإقطاعي لكن ليس قبل إنقضاء قرنين أو ثلاثة قرون رغم أن نسبة الوفيات قد تجاوزت 13% من سكان العالم، ومع ذلك يخبرنا مفكرو البورجوازية الوضيعة ومحللوها الاستراتيجيون أن النظام الرأسمالي قد بدأ بالإنهيار بسبب الكورونا دون أن تتجاوز نسبة الوفيات في سكان العالم 0.0000001%

هل لمتثاقفي البورجوازية الوضيعة أن ينبئونا عن أي أمر هام اجتمع لأول مرة في التاريخ قادة الدول الرأسمالية الخمسة (G 5) في رامبوييه في باريس في 16 نوفمير 75 !؟
القرارات الخمسة عشر التي اتخذها أول مؤتمر لؤلائك الخمسة الكبار تفصح عن نفسها . تعاملت جميعها مع اضطراب أسعار صرف عملاتهم في أسواق المال، وتأمين أسواق تجارية لمنتوجات الدول الخمسة بعد أن فقدت أسواقها المعتادة في الدول الأطراف بفعل ثورة التحررالوطني . مختلف السياسات التي اعتزمت هذه الدول تطبيقها تشير بقوة إلى انهيار الرأسمالية في حصونها وقد فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق أي هدف من أهداف المؤتمر حتى وبعد الإجتماع السنوي على مستوى القمة منذ خمسة وأربعين عاماً . هبطت قيمة سائر العملات الأخرى كي تبقى أسعار الصرف ثابتة كما شاءها الخمسة الكبار . القيمة الحقيقية لنقودهم تدنت بصورة مزرية، ففيما كانت قيمة الدولار الأميركي نصف غرام ذهباً خالصاً في العام 70 وصلت قيمته في العام 2012 إلى 2 سغم . أما بخصوص إحياء الأسواق في البلدان التي تحررت حديثاً فقد وصلت سياسة القروض السهلة والمساعدات المالية في العام 82 إلى الأبواب المغلقة دون أن تستطيع الدول المدينة أن تخدم ديونها . وعندما إضطرت إذاك الدول الرأسمالية الكبرى الخمسة أن تفتح باب التجارة لأول مرة مع الدول الاشتراكية كان ذلك متأخراً بعد أن سدت تلك الدول بقيادة الاتحاد السوفيتي طريق الاشتراكية ولم تعد تنتج غير الأسلحة التي لا يحتاجها أحد سواء كان في الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي أم خارجه .

انهار النظام الرأسمالي قبل السبعينيات وكانت أولى علا ئم ذلك إعلان الدولار الأميركي مكشوفاً في العام 71 وجهدت الدول الرأسمالية الكبرى في سبيل إنقاذه فكان أن تحققت من فشلها في العام 82 حين بدأت الدول المدينة تعلن إفلاسها . إذّاك لم يكن من منجاة لأنصار الرأسمالية سوى فوضى الهروب من الاستحقاق الإشتراكي وقد تعلموا الدرس من عصابة خروشتشوف التي تعاونت مع الجيش للهروب من استحقاق الإشتراكية في العام 53 حيث أطاحت بالقيادة الجديدة للحزب وألغت كافة مقررات المؤتمر العام التاسع عشر للحزب وأهمها الخطة الخمسية الخامسة التي كانت ستحقق الانتصار العالمي الحاسم للإشتراكية موازيا لانتصار الاتحاد السوفياتي في الحرب على النازية .
في العام 71 رأى علماء وازنون في الإقتصاد في أميركا نفسها أن انكشاف الدولار وما تبعه من هبوط لا يتوقف، هو دلالة قاطعة على انهيار النظام الرأسمالي في أميركا . إذاك ارتكز اهتمام الإدارة الأميركية على الحفاظ على القيمة التبادلية للدولار فكانت زيارة نكسون للصين في العام 72 ولقاؤه مع زعيم الصين الجديد دنغ هيساو بنغ الذي عاد لقيادة الحزب الشيوعي بعد أن فشلت ثورة ماو الثقافية في العام 68 وكان اتفاق نكسون المعادي للشيوعية مع بنغ المعادي لاشتراكية ماوتسي تونغ على بناء اقتصاد هجين (اقتصاد المؤامرة) الذي لا يخضع لأي من ميكانزمات السوق مثل النظام الرأسمالي . اتفق الطرفان على أن تصنع الصين ما وسعها أن تصنع وتشتري أميركا مختلف الصناعات الصينية بأسعار تفضيلية . ما يلزم التوقف عنده بعمق في هذا المقام هو أن البضاعة الصينية ليست بضاعة بالمعنى العلمي للبضاعة ولا الدولار هو نقد بالمعنى العلمي للنقد أيضاً . فالبضاعة الصينية لا تعرض في السوق وهي لذلك ليست ذات قيمة تبادلية حيث يتم انتاجها لتستبدل لدى جهة معينة وبنقود مفرغة من كل قيمة ومع ذلك تستبدل ساعة العمل الصينية بعشر أو خمس عشرة ساعة عمل أميركية - ورحم الله ايام الامبريالية يوم كانت ساعة عمل العامل البريطاني او الفرنسي لا تستبدل بأكثر من ضعف ساعة عمل في البلدان الأطراف . أما الدولار فلم يعد منذ العام 71 بعد إعلان انكشافه لم يعد سندا بستوجب إيفاء قيمته الاسمية وقد بدأت أميركا تطبع الدولار دون حساب لأكثر مما تتحمل أسواق مبادلته وفق القيمة التي تحددها الصين وليس أميركا بعد أن فقدت أول رموز سيادتها .

وهكذا قام في العقود الأربعة الأخيرة نظام دولي شائه يرتكز على عمودين اصطناعيين من طينة هشة ؛ نقود أميركية ليست كالنقود وبضاعة صينية ليست كالبضاعة ؛ باقي نقود العالم اندغمت بالدولار الأميركي وباقي بضائع العالم اندغمت بالبضاعة الصينية طالما أنها هي التي تحدد القيمة الفعلية للدولار بديل أي بضاعة أخرى . وهكذا بدأ العالم يعيش في "نظام" ليس فيه نقد حقيقي وليس فيه بضاعة حقيقية، في نظام غريب يمثل انحرافاً عن قوانين تطورالحياة الإجتماعية . لن تتعايش معه المجتمعات البشرية وسينتهي هذا النطام المخلوق غير الطبيعي لتعود االمجتمعات البشرية إلى مسار تطورها الطبيعي .
من المفيد جداً التعرف على دواعي اختلاق مثل هذا "النظام" الطارئ على مسار التاريخ .
الداعي الأول بدأ باستيلاء البورجوازية الوضيعة السوفياتية على مقاليد الأمور في الإتحاد السوفياتي بعد اغتيال ستالين في العام 53 والبورجوازية الوضيعة هي أصعب أعداء الإشت راكية فكان أن سدت طريق الاشتراكية ووظفت كل قوى الإنتاج في التسلح .
الداعي الثاني هو فشل نهج ماوتسي تونغ في بناء الاشتراكية عام 68 مما سمح لدنغ هيساو بنغ المعادي لنهج ماو بالعودة لقيادة الحزب الشيوعي الصيني الذي لم يعد شيوعياً .
الداعي الثالث هو انهيار النظام الرأسمالي بعد أن فقدت الدول الإمبريالية أسواقها فيما وراء البحار بفعل حركة التحرر الوطني العالمية 1946 – 1972 . رفض قادة تلك الدول الخمسة (G 5) حقيقة انهيار النظام الرأسمالي الإمبريالي جعلهم يتخذون قراراً أخرق يستبدل التسلط الإمبريالي بالتسلط المالي .

في سبعينيات القرن االماضي وقد خفا أوار الثورة الإشتراكية حتى بات قائدها بريجينيف يستعطف زعماء الدول الرأسمالية في مؤتمر هلسنكي 75 ليلاقوه في منتصف الطريق فلا يخسر أي من الطرفين (!!) ورافق ذلك إنسداد الأفق أمام الدول المستقلة حدبثا الأمر الذي سمح للدول الرأسمالية الخمس العظمى في أول اجتماع لها على مستوى القمة (G 5) في رامبوييه بباريس أن تقيم نظاماً دولياً هجينا يؤمن تسلطها الدولي بعد أن عجزت عن إنقاذ امبرياليتها المنهارة وامتنع عليها إنتاج البضاعة بعد أن فقدت أسواقها الخارجبة فقررت الفصل التام بين قيمة النقد عن قيمة البضاعة خارقة بذلك القانون الدولي المكتوب لأول مرة في معاهدة بربتون وودز والذي يقول أن النقود إنما هي التعبير الحسّي عن قيمة البضاعة والتي بدورها هي التعبير الحسي عن قيمة قوى العمل المختزنة فيها . قرر أولئك الخمسة التحول من إمبرياليين إلى لصوص بافتراض أن نقودهم "اىلصعبة" تحمل القيمة بذاتها مستقلة عن البضاعة وقوة العمل التي هي القيمة الوحيدة في الحياة البشرية .

وهكذا طفقت الولايات المتحدة تطبع الدولار بغير حساب، لكن كفالة شركائها الأربعة الأخَر لسعر الصرف لم تحمِ الدولار من الانهيار ؛ استمر يتدحرج هابطاً إلى أن تلقتة البضاعة الصينية بقيمة 2 سغم ذهباً بعد أن كان بقيمة 50 سغم في العام 1970 . كي يحافظ الحزب الشيوعي الصيني على قيمة الدولار 2 سغم ذهبا حمّل عمال الصين خسارة تقدر بـ 5 ترليون دولاراً من أجل الاستمرار في الهروب من الاستحقاق الإشتراكي الذي كان قد بدأه دنغ هيساو بنغ "خروشتشوف الصين" بوصف ماوتسي تونغ .

في السنوات العشر الأخيرة طبعت الولايات المتحدة ما يزيد على 100 ترليون دولارا بحساب أن مئات الملايين من عمال الصين سيغطون قيمتها التبادلية . لم يكن من المتوقع أن يستمر ذلك لسنوات قليلة أخرى علما بأن الولايات المتحدة تنفق سنوياً بضعة عشر ترليون دولاراً على إنتاج الخدمات دون مقابل .
الجديد في الموضوع هو جائحة الكورونا التي اقتضت أن ينفق العالم أكثر من عشر ترليونات دولارا دون مقابل هي بالتالي عبئ إضافي على الدولار الأميركي طالما أنه الغطاء الوحيد لمختلف نقود العالم . هل لعمال الصين أن يرزحوا تحت ثقل 25 – 30 ترليون دولارا خلال هذا العام !؟
الجواب عند عمال الصين .
العمال لن يتحملوا أكثر فوضى الهروب من الاستحقاق الإشتراكي .