الإدمان على النفط ومعالجته الملحّة


جلبير الأشقر
2020 / 5 / 13 - 09:04     


تنشر صحيفة «فايننشال تايمس» هذا الصباح مقابلة مع المدير التنفيذي الجديد لشركة «بي بي» (شركة «النفط البريطانية» سابقاً)، نشرت صباح الأمس تلخيصاً لأهم ما جاء فيه. وأبرز ما ورد في كلام المدير الذي تسلّم مهامه قبل ثلاثة أشهر، أنه لا يستبعد ألا يستعيد قط انتاج النفط العالمي المستوى الذي بلغه في العام المنصرم بحيث يكون العالم قد تعدّى «ذروة النفط» (peak oil). كانت هذه التسمية تُطلق على الذروة المطلقة للقدرة على الإنتاج النفطي، التي بعدها سوف يدخل استخراج النفط بالضرورة في انحدار طويل الأمد، إذ يكون مخزون كوكبنا من النفط بشتى أنواعه (خام وصخري) قد أخذ ينضب بالمطلق. ذلك أن النفط، كما هو معلوم وبديهي، ليس مورداً متجدّداً، بل هو من الموارد الطبيعية التي يحتوي عليها جوف الأرض والتي لا بدّ أن تنضب في المدى الطويل إذا تواصل استخراجها.
والملفت أن مدير الشركة البريطانية والصحافيين الذين استجوبوه لم يستخدموا تعبير «ذروة النفط» تدليلاً على طاقة الاستخراج، وقد رأينا خلال العقد الأخير كيف تعاظمت تلك الطاقة بسبب تطوّر تقنيات استخراج النفط الصخري. أي أنهم لم يشيروا إلى العوامل الطبيعية والتكنولوجية التي يستند إليها مفهوم «ذروة النفط»، بل إلى الظرف الاقتصادي. وقد قصدوا أن طلب النفط وليس عرضه، أي الرغبة في استهلاكه بدل القدرة على انتاجه، طلب النفط إذاً هو الذي بلغ ذروة في العام المنصرم، أي مستوىً من احتياجات الاستهلاك والتخزين لن يستعيده قط في المستقبل.
أما سبب ذلك فهو أزمة كوفيد-19 بالطبع، لكن ليس بمعنى الأزمة الصحّية الناجمة عن الجائحة والتي تأمل البشرية أنها سوف تتخلّص منها عندما تفلح المختبرات في إنتاج تلقيح فعّال ضد الفيروس القاتل. بل إن سبب اعتقاد المدير ومن استجوبه بأن البشرية قد تكون تعدّت «ذروة النفط» هو بالتأكيد أن الأزمة الاقتصادية العظمى الناجمة عن الجائحة، والتي لا تني تتفاقم، سوف يطول عمرها عمر الجائحة بوقت طويل، وأن العالم لن يعود قط إلى مستوى الاستهلاك النفطي السابق للجائحة. ذلك أن التنقّل العالمي سوف يتقلّص بصورة هامة مع توسّع دائرة العمل من المنزل توسّعاً كبيراً وتزايد استخدام الإنترنت في الاجتماعات والمؤتمرات والمحاضرات، إلخ، ناهيكم من مقتضيات الكفاح ضد التلوّث الناتج عن المحروقات والذي يشكّل السبب الرئيسي في التغيّر المناخي الذي بدأت نتائجه العالمية الكارثية تتجلّى بازدياد.
كل هذه المعطيات مجتمعة ترجّح بقوة أن طلب النفط العالمي لن يستعيد قط المستوى الذي بلغه في العام الماضي. هذا يعني أن الكميّات المستخرجة والمستهلكة سوف تبقى دون ما بلغته في الأمس، بل على منحنى انحداري في الأمد الطويل، ولو عادت إلى بعض الارتفاع المحدود عند زوال الجائحة. وهذا يعني أيضاً أن أسعار النفط سوف تستمرّ في الانحدار الذي بدأ قبل ستة أعوام، هذه المرّة بدون «حرب نفطية» تخوضها المملكة السعودية، بل بفعل قانون العرض والطلب على خلفية طلبٍ يتقلّص واستخراجٍ لا يمكن ضبطه على النطاق العالمي مهما حاول «المحاربون».

أما محصّلة كل ما سبق، فهي أن المداخيل النفطية للبلدان العربية المصدّرة للنفط سوف تتقلّص هي أيضاً إلى حدّ كبير وفي الأمد الطويل، وسوف يكون لهذا الأمر أثرٌ عظيمٌ على المنطقة العربية برمّتها، إذ هي أكثر مناطق العالم إدماناً على المحروقات من نفط وغاز. طبعاً، ليس إدمانها من باب الاستهلاك، كما في الإدمان المعهود، بل من باب الاعتماد على المداخيل الناجمة عن بيع المحروقات. ولو استمررنا في مجاز الإدمان بصيغته الأشهر، أي الإدمان على المخدّرات، لقلنا إن منطقتنا ليست مدمنة على طريقة المسكين الذي لم يعد قادراً على العيش بدون استهلاكها، بل على طريقة تاجر المخدّرات الذي لم يعد يعرف كيف يرتزق بغير التجارة التي اعتاد عليها.
وتفيد أحدث أرقام البنك الدولي أن المحروقات شكّلت أكثر من نصف صادرات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (أي البلدان الناطقة بالعربية وإيران) في عام 2018، مع أسعار نفطية منخفضة عن المستوى الذي بلغته قبل سنة 2014، علماً بأن حصة المحروقات من صادرات المنطقة قد بلغت الثلثين في عام 2013. ولا يتعلّق الإدمان بالدول التي يعتمد الحكم والاقتصاد فيها على صادراتها النفطية وحسب، بل يشمل كافة بلدان المنطقة التي باتت الحكومات والاقتصاديات فيها مدمنة على الدولارات النفطية التي تأتيها من أثرى الدول المصدّرة للمحروقات المنتمية إلى مجلس التعاون الخليجي.
هذا يعني أن الأزمة الاقتصادية العالمية سوف تبلغ في منطقتنا حدّاً أعلى مما سوف تشهده مناطق العالم الأخرى، لاسيما أنها كانت قبل ذلك تتميّز بأدنى مستويات النمو الاقتصادي بين المناطق النامية وبأعلى نسب بطالة الشباب بين كافة مناطق المعمورة. هذان العاملان اللذان شكّلا أساس دخول منطقتنا في سيرورة ثورية طويلة الأمد منذ «الربيع العربي»، سوف يزدادان سوءاً بالضرورة في السنوات القادمة. وهذا يعني أن الأزمة المزمنة التي انفجرت في منطقتنا منذ ما يناهز عشر سنوات قادمة على تفاقم خطير. وقد شاهدنا في السنوات الأخيرة كيف أن المدّ الثوري الأول لسنتي 2011 و2012 تلاه جزرٌ اتّخذ أشكالاً بشعة للغاية، من قمع على طريقة نظام السيسي في مصر إلى تدخّلات أجنبية فتّاكة في حروب أهلية في سوريا واليمن وليبيا.
أما السؤال الكبير فهو إن كان المدّ الثوري القادم لا محال في منطقتنا، بعد موجتي 2011 و2019، سوف يشهد بروز قوى قادرة على الاستفادة من دروس التجارب السابقة، مثلما رأينا في السودان حيث لا تزال السيرورة جارية حتى الآن بالرغم من المخاطر المتصاعدة في وجهها، وقادرة على قيادة العملية الثورية نحو تحقيق التغييرات الضرورية، ليس بإشاعة الديمقراطية وحسب، بل أيضاً وفي المقام الأول بإحداث تغيير جذري في السياسات الاقتصادية، لا بدّ منه لإعادة وضع المنطقة على سكّة التنمية، على أن تكون هذه المرّة تمنية مستدامة تقترن بالديمقراطية وبالحرص على البيئة مع توفير ضمان صحّي واجتماعي للشعب بأكمله.