التعذيب كأداة استنطاق لدى الأجهزة الأمنية اللبنانية


عديد نصار
2020 / 5 / 11 - 17:00     

تعود قضية الإخفاء القسري وتعذيب السجناء والموقوفين لدى الأجهزة الأمنية والعسكرية اللبنانية الى الواجهة بعد أن تكشفت ممارسة أشكال من التعذيب على ناشطين موقوفين في مدينة صيدا لدى جهاز المخابرات العسكرية، أثناء التحقيق معهم.
فبتاريخ 2/5/2020، افرجت النيابة العامة العسكرية عن ستة موقوفين، من ضمنهم قاصر، اوقفوا على اثر الاحتجاجات الشعبية في صيدا قبل يومين من هذا التاريخ.
ولولا تدخل ومتابعة نقيب المحامين في بيروت ملحم خلف لما كانت اشارة النائب العام العسكري القاضي بيتر جرمانوس السماح لمحامية من لجنة الدفاع عن المتظاهرين بمقابلة الموقوفين إنفاذًا للمادة ٤٧ من أصول المحاكمات الجزائية حيث تبين الآتي:

١ تم نقل الموقوفين من فرع مخابرات الجيش الى الشرطة العسكرية في صيدا فور وصول المحامية الى ثكنة زغيب لمقابلتهم.

٢. لم يسمح للموقوفين باجراء اي اتصال او ممارسة اي من حقوقهم منذ توقيفهم في 30/4/2029 الا بعد تدخل لجنة الدفاع عن المتظاهرين ونقابة المحامين في بيروت.

٣. اكد بعض الموقوفين تعرضهم للتعذيب والضرب لدى فرع المخابرات بشتى الوسائل، لا سيما من خلال الصعق بالكهرباء.

٤. فور الافراج عنهم، أضطر عدد من الموقوفين أن يدخلوا المستشفى للعلاج من آثار التعذيب.

٥. لا يزال موقوف واحد على الأقل محتجز لدى المخابرات في صيدا. وتطالب اللجنة بالإفراج عنه فورا وبوقف كافة أعمال التعذيب والإخفاء القسري واحترام كافة حقوق الموقوفين.
6 . تبين أن بعض الأطباء الشرعيين رفضوا الكشف على الموقوفين و رد ذلك الى احتمال أن يكونوا قد تعرضوا للتهديد.

ليست هذه هي الحالة الأولى التي مورس التعذيب بحق موقوفين أو مسجونين لدى الأجهزة الأمنية المختلفة. فقد سبق للجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة أن خلُصت الى أن التعذيب سياسة ممنهجة لدى أجهزة الأمن اللبنانية.
ففي 3-10-2014، صدر التقرير السنوي للجنة مناهضة التعذيب في الأمم المتحدة. وكان هذا التقرير يهدف الى تحديد مدى تنفيذ اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة او العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة. جاء ذلك نتيجة لتحقيقات سرية أجرتها اللجنة منذ شهر أيار 2012 لغاية شهر نيسان 2013 على خلفية أحداث مخيم نهر البارد وما تسرب من معلومات عن عمليات تعذيب شديد تعرض له الموقوفون على خلفية تلك الأحداث، شملت التحقيقات عقد لقاءات عدة مع مسؤولين رسميين بالإضافة الى ممثلين عن جمعيات المجتمع المدني وبعض المحتجزين وبعض ممن تعرضوا للتعذيب على ايدي الأجهزة الأمنية اللبنانية.
وخلص التقرير إلى أن التعذيب يمارَس ومورس على نحو منهجي في لبنان، ولا سيما في سياق التحقيق، وبغرض انتزاع الاعترافات. واعتبرت اللجنة ممارسة التعذيب متفشية في لبنان، حيث تلجأ إليها القوات المسلحة والأجهزة المكلفة لإنفاذ القانون لأغراض التحقيق، ولضمان استخدام الاعترافات في الإجراءات الجنائية، وأحيانًا لمعاقبة الضحايا على الأعمال التي يُعتقد أنهم قد ارتكبوها، بل كشفت اللجنة عن وجود أدوات غير عادية، وحتى تجهيزات مصممة خصوصًا لممارسة التعذيب، فضلًا عن الجروح البالغة المعاينة خلال الفحوصات الطبية على أجسام الضحايا، توحي بانتشار ممارسة التعذيب وإمكانية إفلات مرتكبيها من العقاب.

وكان لبنان قد وقع على الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب سنة 2000، وعلى البروتوكول الملحق بها سنة 2008، في حين تضمنت مقدمة الدستور اللبناني في فقرتها الثانية التأكيد على الالتزام الكامل بالاعلان العالمي لحقوق الانسان.
وبالرغم من الجهود التي بذلتها اللجنة الدولية، وبالرغم من تكرار المسؤولين اللبنانيين التزامهم بالاتفاقيات الدولية، وعلى الرغم مما ورد في التقرير المنوه عنه أعلاه، تواصلت أعمال التعذيب في المعتقلات اللبنانية على يد الأجهزة الأمنية والعسكري الرسمية، وتكررت أحداثها.
في شهر أكتوبر 2014 اقتحمت قوات من الجيش اللبناني مخيمات النازحين السوريين في عرسال على مرحلتين ونكلت بهم ما أدى الى وفاة رجل في الستين من عمره واعتقلت 450 من النازحين بينهم أطفال، بحسب تقرير للجنة السورية لحقوق الانسان صدر بتاريخ 17 نوفبر 2014.
تكرر المشهد نفسه مع مخيمات النازحين السوريين في 31 مايو 2017 حيث نتج عن اقتحام الجيش لمخيمات النازحين مقتل طفلة واحدة واعتقال 400 شخص تعرضوا لعمليات تعذيب شديد في مراكز التوقيف
أما في شهر مارس 2019 فقد تكرر المشهد، لكن هذه المرة في ظل برد الشتاء الذي يأتي شديدا في أعالي عرسال، وحيث لاقى أكثر من تسعة معتقلين من النازحين السوريين حتفهم اثناء اعتقالهم مع المئات من اللاجئين على يد الجيش اللبناني. وفي حين نفت قيادة الجيش موت المعتقلين تحت التعذيب مدعية أنهم ماتوا لأسباب صحية، لم يحصل أن حققت في الأمر أية جهة مستقلة.
وجاءت شهادة أحد اللاجئين لتعبر بدقة عن الوضع:

كان الموقع الاخباري الإلكتروني "أخبار الآن" قد التقى بأحد اللاجئين السوريين في بلدة عرسال بعد دخول الجيش اللبناني إلى مخيمات اللاجئين والتعرض بالضرب والإهانة للنساء والشيوخ.

يقول اللاجئ السوري في عرسال: "نحن في أحد المخيمات اللبنانية، والسوريون هنا هربوا من القصف والدمار وإجرام الأسد، ولكننا صدمنا بإجرام أكثر من إجرام النظام. الجيش اللبناني يقترب من الدموية في التعامل مع الناس".

ويضيف الشاهدة على سوء تعامل فريق من الجيش اللبناني مع السوريين: "في لبنان كان هناك حرية وديموقراطية كنا نفاخر بها، لكننا اكتشفنا أنه لا يختلف عن الأنظمة القمعية مثل التي في كوريا الشمالية وسوريا التي لا تعترف بالحرية.

ووجه اللاجئ السوري رسالة إلى اللبنانين وقال: " أوجه رسالة إلى الشعب اللبناني، إحذروا من هذه التصرفات التي يمسارها الجيش فإنه سيعتاد على الإجرام وبعد أن يعود السوريون إلى بلادهم سيستمر بممارستها بحق اللبنانيين انفسهم".
"شاهدناهم يتعرضون بالضرب والإهانة للنساء وللشيوخ، وهناك شباب اعتقلوا ورجعوا جثثا" يقول الشاهد ذاته.
في شهر يونيو 2015 ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بفيديو مصور لحالات تعذيب بشعة تعرض لها الموقوفون في سجن رومية حيث بدوا عراة مكبلين يتعرضون للضرب بالعصي والقضبان الحديدية حيث فقد البعض منهم عيونهم وتحطمت عظام آخرين. انتشار هذا الفيديو مثّل فضيحة دفعت وزير الداخلية حينها الى الاعلان عن محاكمة الفاعلين وتسريحهم من وظائفهم.
وفي سياق آخر، تم تلفيق تهمة التواصل مع عميلة استخبارات اسرائيلية للممثل المسرحي زياد عيتاني فأوقفه جهاز أمن الدولة بتاريخ 23 نوفبمر 2017، وتحت التهديد والترويع والتعذيب الممنهج، نفسيا وجسديا، انتزعت منه اعترافات تحت الضغط والاكراه عن أحداث لم تقع أبدا. اعترافات بددها الحكم اللاحق الصادر ببراءته التامة ومنع الملاحقة والمحاكمة عنه، لكنه حتى اليوم لم يتمكن من الحصول على التعويض المادي والمعنوي عن الأضرار الجسدية والنفسية التي لحقت به.
في ليل الثامن عشر من يناير 2020 ضجت وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الاخبارية بأشرطة مصورة تظهر عناصر قوى الأمن وهي تعتدي بالضرب على موقوفين من الناشطين وهم ينزلون من شاحنة قوى الأمن الداخلي داخل ثكنة الحلو سحلا ورميا، ويتعرضون للضرب والتعنيف والشتائم.
وفي حين يردد المسؤولون في وسائل الاعلام وعلى أعين الناس أن هناك محاسبة، ضمن القانون والنظام، لكل من يتورط بإيذاء الموقوفين، لم يظهر على الملأ ولو مرة واحدة أن عسكريا أو ضابطا تعرض لمحاكمة أومحاسبة حقيقية على تورطه حتى يكون عبرة لآخرين لا يزالون يمارسون التعذيب والتعنيف لكل من تقع أيديهم عليهم من الموقوفين.
في إطار الانتفاضة الشعبية الكبرى التي شهدها لبنان منذ 17 أكتوبر 2019، تعرض مئات من الناشطين للتوقيف والاعتقال، والاخفاء القسري حيث إذيقوا صنوفا من التعذيب كان آخرها ما ورد في مطلع هذه المقالة. في حين يتوقع الناشطون في الانتفاضة أن تتابع أجهزة الأمن والجيش ممارسة الاعتقال والاخفاء القسري والتعذيب بحق الناشطين السلميين الذين يواصلون نشاطهم في إطار الانتفاضة الشعبية المستمرة احتجاجا على السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية للسلطات والتي تعرض مزيدا من اللبنانيين الى الإفقار والتهميش.
كل هذه الوقائع تؤكد على صدقية تقرير اللجنة الدولية لمناهضة التعذيب في قوله إن التعذيب عملية ممنهجة لدى أجهزة الأمن اللبنانية.
وحيث أكدت منظمة الـ”هيومن رايتس ووتش” (Human Rights Watch) في تقرير أعدته عن تعذيب الشرطة في لبنان للفئات المستضعفة تحت عنوان “جزء من عملنا“، على شيوع التعذيب في المخافر اللبنانية الذي وصل إلى حد اعتباره أمرًا مبتذلًا، وخلص تقرير المؤسسة إلى أن “التعذيب ممارسة متفشية في لبنان تلجأ إليها القوات المسلحة والأجهزة لإنفاذ القانون لأغراض التحقيق والإهمال المتعمد للضمانات القانونية للأشخاص مسلوبي الحرية”.
فإن على الجهات الدولية المسؤولة عن إنفاذ اتفاقية مناهضة التعذيب التي وقعها لبنان وأكد التزامه بمضامينها، كما وقع على البروتوكول الملحق بها، أن تلاحق هذا النمط من التعاطي مع الموقوفين لدى الأجهزة الأمنية والعسكرية اللبنانية، الذين لا حول لهم أمام معنفيهم، والذين يهول عليهم كل مرة بقانون الارهاب إرهاب لهم ولغيرهم كوسيلة لكم الأفواه. كما تقع على الجهات الدولية المعنية ملاحقة الأفراد والمؤسسات وكل من يظهره التحقيق من المتورطين في هذه الأعمال الجرمية بحق المعتقلين والموقوفين بغض النظر عن خلفية توقيفهم.