الديمقراطية في الخطاب اليساري


محمد علي مقلد
2020 / 5 / 11 - 10:32     

لا شيء أكثر التباساً في الخطاب اليساري من مصطلحي الدولة والديمقراطية، وهو التباس ناجم من الخلط المفاهيمي بين الدولة والسلطة وبين الديمقراطية والحرية، ومن «الفقر المعرفي»، إذ كان يتركز اهتمام فكر اليساريين على الثورة لا على الدولة، بل الثورة على الدولة، وعلى المركزية الديمقراطية لا على الديمقراطية، بل المركزية التي تلغي الديمقراطية، ولم تكن تعنيهم مصادر المعرفة المتعلقة بهذين المصطلحين، لأن التأويلات السوفياتية للماركسية اختصرت، بنظرهم، كل المعارف، وباتت كأنها آخر الديانات غير السماوية. لذلك لم يكتب اليساريون عن الديمقراطية إلا في وقت متأخر، بعد أن فرضت الديمقراطية نفسها مادة وحيدة على جدول عمل التغيير في العالم العربي، ما جعل تلك الكتابات المستلحقة تظهر كأنها دفاع عن الماضي مشحون بالتوتر والروح الكفاحية ضد البديل الوحيد المحتمل، أي الدولة الديمقراطية.
قبل مرحلة الانهيارات كانت مهمة الانتقال إلى الاشتراكية، باعتبارها سمة العصر، ومهمة محاربة الاستعمار تقتضيان الاقتداء بالتجربة الأم، أي الانطلاق من الاستيلاء على السلطة واحتكارها من أجل بناء دولة الطبقة العاملة، أو الدولة القومية، فاستلهمت الحركات اليسارية والقومية في العالم العربي أحد النموذجين اللينيني أو النابليوني اللذين بدا معهما مصطلح «الدولة الديمقراطية» غريباً عن سياق المهمات التي يتطلبها اغتصاب السلطة بقوة السلاح، ولذلك خلت النصوص اليسارية من أية مقاربة للديمقراطية، إلى أن ظهرت إرهاصات الأزمة في النموذج السوفياتي وفي تجارب الانقلابات العسكرية العربية، وبدأت الديمقراطية تحتل حيزاً من الاهتمام في الخطاب القومي واليساري، فنشرت في الثمانينات كتب ومقالات تتناول هذه المسألة، من بينها بحث مطوّل لكريم مروة في مجلة الطريق في بداية العام 1985، وكتاب بيان من أجل الديمقراطية لبرهان غليون عام 1986، وبعدهما مقابلة مع السيد محمد حسين فضل اللّه عن الحريات والديمقراطية في العدد 65 من مجلة المنطلق. سنكتفي باستعراض ما استقر عليه معنى الديمقراطية في بحث كريم مروة الذي شغل لفترة طويلة موقع نائب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني، قبل أن يقوم بقراءة نقدية جذرية لتجربته الفكرية والحزبية بعد أكثر من عقد على نشره هذا البحث.
ماذا يقول كريم مروة عن الديمقراطية؟ يبدأ مروة من تعريف الديمقراطية بقوله إن «الديمقراطية هي الحرية للجميع ... وهي سيادة الأغلبية» (مجلة الطريق، العدد الأول،1985،ص19)، ثم يقول جازماً «ليس صحيحاً أن الديمقراطية هي دائماً حق الاختلاف، أو حق الاعتراض أو حق التمايز» (ص27) «ومن هنا الرفض المطلق لفكرة (التعدد) تعدد الأحزاب التي تمثل مصالح الطبقة العاملة. ثمة حزب واحد وفكر واحد وبرنامج واحد» (ص29). يظهر بوضوح أن الديمقراطية التي يعنيها اليسار هي تلك التي توفر له حرية الحركة والنضال لبلوغ مرحلة «الاستيلاء على السلطة» (ص31)، لأن اليسار الذي يتعامل مع مسألة الديمقراطية كهدف بذاتها يتحول، بحسب كريم مروه، إلى يسار إصلاحي، وإلا فإن عليه وعلى القوى الثورية طرح الاستيلاء على السلطة كمهمة استراتيجية(ص25). ولهذا فإن أي بحث يتعلق بالديمقراطية ينبغي أن يكون بحثاً عن «توفير الشروط الأفضل لمتابعة النضال الثوري، وصولاً به إلى غاياته، إلى انتصار الثورة... والثورة هنا، في بلداننا هي الثورة الوطنية الديمقراطية»(ص18). إذن هو يقول ما قاله السيد محمد حسين فضل اللّه في المقابلة المشار إليها أعلاه. إنهما مع الديمقراطية ما دامت توفر حرية الحركة لنضال كل منهما من أجل مشروعه، الثورة الوطنية الديمقراطية عند الشيوعيين والدولة الإسلامية عند الإسلاميين. من هنا تبدو الديمقراطية، في نظر مروة، «أداة من أدوات الصراع الطبقي»(ص18)، لأن «الأساس، إذن، في نظرتنا إلى الديمقراطية هو الصراع بين الطبقات... بين الطبقة العاملة المتحالفة مع سائر الطبقات والفئات الاجتماعية التي يستثمرها الرأسمال، وبين البرجوازية كطبقة مسيطرة» (ص19- 20)، وهذا «يفرض على القوى الثورية، وعلى التحالف الطبقي الثوري، موقفاً من مسألة الديمقراطية ينسجم مع البرنامج الذي تطرحه هذه القوى وتتصدى لتحقيقه بالنضال، بكافة أشكاله، بما في ذلك العنف الثوري، رداً على العنف الرجعي»(ص23). وقد حدد مروة ثمانية عناوين لهذا البرنامج: «1 - النضال من أجل انتزاع أكثر ما يمكن من الحقوق في ممارسة النشاط وفي التمتع بحرية العمل. 2 - النضال من أجل الإصلاح الديمقراطي بهدف إضعاف النظام البرجوازي. 3 - النضال السياسي والفكري عبر التنظيمات السياسية والديمقراطية. 4 - النضال لتعطيل دور أجهزة القمع السياسية والإيديولوجية والعسكرية. 5 - النضال دفاعاً عن الحقوق القومية للأقليات. 6 - النضال من أجل الوحدة القومية. 7- الارتقاء بأشكال النضال وصولاً إلى العنف الثوري في مواجهة العنف الرجعي. 8 - اعتماد أرقى أشكال الديمقراطية الثورية عندما تتمكن القوى الثورية من تحرير جزء من الأرض أو قيام شكل من ازدواجية السلطة»(ص25-27)
الديمقراطية، بهذه المعاني والدلالات، ليست إطاراً لتنظيم الاختلاف، بل هي سلاح يستخدمه اليسار للتعبئة والتجييش في مواجهة الدولة وأجهزتها، ولاسيما القمعية منها، لتعطيلها في المرحلة الأولى ثم للاستيلاء على السلطة في مرحلة ثانية، حيث يصبح إلغاء الاختلاف أو طمسه أمراً ممكناً. وبذلك يكون اليسار «الثوري» قد حقق هويته التوتاليتارية. بتعبير آخر، يمكن القول براحة ضمير إن هذه الصورة من الديمقراطية نقيض للديمقراطية التي استخلصنا تعريفاً عنها من كتاب آلان تورين الوارد أعلاه في المقدمة وعنوانه، ما هي الديمقراطية؟ في نص مروة هي ليست مشروعاً للسلام بل للحرب، ولا هي لتنظيم الاختلاف والاعتراف بالتنوع بل للقضاء بالقوة على كل اختلاف وتنوع، وهي ليست جزءاً من منظومة قيم سياسية متحدرة من ضرورة قيام الدولة بل هي وسيلة لتقويض الدولة بحجة أن الدولة سلاح تستخدمه البرجوازية لقمع الطبقة العاملة وحلفائها. فضلاً عن ذلك، الديمقراطية، في النظر اليساري، هي الحرية، مع أنهما ينتميان إلى حقلين معرفيين متمايزين، لا يكفي تقاطعهما في نقطة الحريات السياسية لتبرير هذا الخلط المفاهيمي المسيء لكلا المصطلحين.
بعد أن اعتزل كريم مروه العمل الحزبي أصدر بغزارة مجموعة من المؤلفات تناول فيها التجربة بعين نقدية وبجرأة دفعت حراس النصوص إلى رميه بالردة. قبل اعتزاله، أي في كلامه هذا عن الديمقراطية، لم يكن يعبر عن رأيه الشخصي فحسب، بل كان ينطق بلسان الحزبيين وبخاطر كل المنتمين إلى الأممية. فأحزاب اللّه التوتاليتارية تجعل الأفراد نسخاً متشابهة تتكرر عندهم الأفكار ذاتها في كل النصوص وكل الخطابات، ولاسيما فيما يتعلق بالطابع الطبقي للدولة، وبمصطلحات غائمة، غير محددة المعنى عن «القوى الديمقراطية» و»المؤسسات الديمقراطية» و»النضالات الديمقراطية»، مشحونة بمعنى وحيد هو الاعتراض، فهي قوى ومؤسسات ونضالات معارضة، في مواجهة سلطة يفترضون انها سلطة البرجوازية، أو البرجوازية الكولونيالية المرتبطة بالاستعمار والرأسمالية العالمية.
القراءة النقدية التي توصل إليها مروه وحزبيون سابقون ظلت تحمل بعض سمات من منهج التفكير القومي أو هي ظهرت على شكل توليفة أو مصالحة مع الفكر الديني. من أول نص نقدي وضعه حين كتب عن رسالة الخميني إلى غورباتشيف حتى آخر إصداراته، التجديد في الإسلام كالتجديد في الاشتراكية، الدار العربية للعلوم، 2018، يتكرر لديه ميل إلى المصالحة بين الدين والماركسية، نابع من اعتقاده بأن مصادر المعرفة على اختلافها، الغيبي منها والعلمي، يمكن أن توضع في خدمة الإنسان، وهذا صحيح، ويمكن توظيفها بالسوية ذاتها لتجديد عملية النهضة ومعالجة أعراض التخلف، وهذا غير صحيح، لأن من الثابت أن الماركسية، وإن تساوت مع الدين في جانبها الإيديولوجي، فهي ظهرت في ظل ظروف ثقافية لم تتوفر للديانات السماوية، تم فيها افتتاح قارات معرفية وثورات علمية فرضت مناهجها على طرق التفكير وطرق العيش وحتى على الإيمان وطقوس العبادة، بحيث باتت المصالحة بين مناهج البحث ضرباً من الوهم. غير أن الهاجس المشروع سعياً وراء إلغاء التوتر بين الدين والعلم لا يعالج بمصالحة مستحيلة بل بالديمقراطية، على قاعدة التنوع والاعتراف بالآخر وبحق الاختلاف، وانطلاقاً من أن المعارف الجديدة لا تلغي القديمة بل تتجاوزها تجاوزاً إيجابياً، فيكون لكل عصر معارفه الصحيحة التي لا تتبدد مع الزمن بل قد تفقد، كما كل قديم، بعضاً من صلاحيتها وفاعليتها وجدواها. نعم. حتى في الثقافة والمعرفة الحل بالديمقراطية.
جاد الكريم الجباعي أصدر عام 2010 عن دار رياض الريس في بيروت كتابه، طريق إلى الديمقراطية، الذي شكل إضافة مهمة على ما سبق نشره عن قضية الديمقراطية، لأنه رأى فيها حلاً لآفة الاستبداد الرابضة على صدر العالم العربي من محيطه إلى خليجه، وتكمن أهميته في كونه صدر عن كاتب من سوريا، وقبل اندلاع أحداث الربيع في بلده. ذلك أن النظام السوري، الذي يديره واحد من أحزاب اللّه القومية، شكل أبشع نموذج لأنظمة الاستبداد الجمهورية، مموهاً مواقفه برفعه راية المواجهة مع الأمبريالية والصهيونية والاستعمار، واضعاً شعبه، ككل نظام مماثل، بين خيارين، دوام الاستبداد أو الحرب الأهلية. وقد عرّف الجباعي الاستبداد قائلاً «إن المشاريع الإيديولوجية القومية والإسلامية والاشتراكية، على السواء، قائمة على مبدأ القضاء على المختلف... لنلاحظ أن الطائفة أو الحزب سلطة تشريعية وسلطة قضائية وسلطة تنفيذية في يد واحدة، ذلك هو الاستبداد» (ص128). من جملة الخسائر التي تسبب بها نظام الاستبداد في سوريا تعميم مفاهيم ملتبسة حول الثورة والوطن والدولة والأمة، وحول الديمقراطية على نحو خاص. وقد استبقنا، في المقدمة، توضيح مثل هذه الالتباسات وتبديدها.
من آثار هذه الالتباسات في المفاهيم والمصطلحات على نص الجباعي اعتبار «المسألة الوطنية والمسألة الديمقراطية وجهين لعملة واحدة أي لمسألة واحدة»(ص19)، ويعود ذلك إلى التباس في مصطلح الوطن بالذات، الذي بسببه نشبت نزاعات بين من لا يعترفون إلا بوطن عربي واحد وأمة عربية واحدة (البعث) ومن لا يعترفون إلا بالأمة الإسلامية، ويجعلون الوطن العربي جزءاً منها (الأحزاب الإسلامية). أما الشيوعيون الذين ينشدون الأممية فيعترفون بوجود أوطان عربية تشكلت مع الاستقلال، مع أنهم يدينون الاستعمار وسايكس بيكو والتجزئة. كما يعود ذلك إلى «خلط مفاهيمي» بين الدولة والوطن. يقول الجباعي: «الدولة، وفق تعريف الحقوقيين، أرض وشعب وسلطة سياسية عليا ذات سيادة. الشعب والأرض والسلطة السيدة ثلاثة وجوه لحقيقة واحدة هي الدولة الوطنية»(ص28). إننا نميل إلى الاعتقاد بأن مصطلح «الدولة الوطنية» متحدر من مشروع التحرر الوطني المعتمد في أدبيات الشيوعيين خاصة واليساريين عموماً الذي يندرج في إطار التحرر من الاستعمار على طريق الاشتراكية، ولهذا يحصل الخلط بين الدولة والوطن. والصحيح أن الوطن، وليس الدولة بحسب الجباعي، وفق تعريف الحقوقيين، هو أرض وشعب وسيادة، والسيادة تجسدها الدولة، وتمثلها السلطة التي هي سلطة القانون. إن هذا الخلط المفاهيمي هو من موروثات لغة الأحزاب القومية التي جعلت الأولوية للسطلة على الدولة وللدولة على الأمة وللأمة على الوطن، فاستحدثت مصطلحاً جديداً هو «الدولة الوطنية»، الذي تعني الوطنية فيه الانتماء إلى إطار يناهض الاستعمار، وبموجبه يكون الوطني مرادفاً للمناضل الحزبي ونقيضه هو العميل للاستعمار. المعنى المتداول والضمني لمصطلح الوطني في اللغة اليسارية أكثر تأثيراً في الوعي العام من المعنى القانوني والقاموسي الذي يعرفه الجباعي جيداً ويورده في قوله إن «الوطنية مرادفة لكلية المجتمع ولعمومية الدولة.... فيقال اقتصاد وطني إنتاج وطني ودخل وطني وثقافة وطنية ومؤسسات وطنية وجيش وطني وأمن وطني ... وبالمعنى نفسه نقول سلطة وطنية ونعني سلطة الدولة فقط لا سلطة العشيرة ولا سلطة الحزب ولا سلطة الطائفة ولا سلطة الطغمة ولا سلطة الفرد. وسلطة الدولة هي سلطة القانون لا غير»(ص48).
نموذج آخر في تناول موضوع الديمقراطية نجده في كتاب من منشورات دار الفارابي، 2010، عنوانه «ديمقراطية، عولمة... وحروب» مع عنوان فرعي: بين وهم الحداثة ومأساة ما بعدها، لمؤلفه الدكتور حسن خليل، القيادي في الحزب الشيوعي اللبناني. ونظن أن الكتاب هو نسخة منقحة ومعدلة، أي مترجمة بتصرف كبير، من أطروحة دكتوراه أعدها الكاتب نفسه في باريس ونشرتها دار الفارابي أيضاً بنصها الفرنسي، بعنوان Democratie. Le grand Degout . قد تكون الفوارق بين النسختين كبيرة، لكن الأساسي والمشترك بينهما يتمثل في أمرين، الأول هو «الخلط المفاهيمي» بين مصطلح الديمقراطية وما سمي في اللغة المعاصرة بالأنظمة الديمقراطية التي تتجه دلالتها نحو الرأسماليات الكبرى وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية ولاسيما في ظل العولمة والأحادية القطبية؛ والثاني هو أن الموقف السلبي من الديمقراطية يظهر منذ البداية على صفحة الغلاف. ففي العنوان الفرعي من النسخة العربية تظهر الديمقراطية كأنها «مأساة» الحداثة وما بعدها، وفي النسخة الفرنسية تبدو»مقززة ومقرفة»(بالحرف الفرنسي الكبير)، إلى أن تُسمّى في متن الكتاب العربي «الديمقراطيات القاتلة» و»ديمقراطيات الخوف»، وفي متن الكتاب الفرنسي ««الكذبة» الديمقراطية الكبرى».
لا نستطيع أن نتصور ديمقراطية من غير وطن(آلان تورين، م.س.ص41). وهو يعني أن الديمقراطية تفترض وجود مجتمع تنتظم الصراعات والعلاقات فيه بين أفراده وبين جماعاته وبينهم وبين الدولة على أساس استبعاد العنف. أما العلاقات بين الدول فتحكمها المصالح وموازين القوى، وقد توصلت الدول الرأسمالية الكبرى بعد الحربين العالميتين، وبضغط نتائجهما المدمرة، إلى تسوية، ضمت في دائرتها الأولى الدول التي شاركت في الحربين، تقضي باستبعاد العنف المسلح في تنظيم نزاعاتها، من غير أن تستبعد أشكالاً أخرى من العنف تفرضها آليات السيطرة على الأسواق العالمية وعلى مصادر الطاقة، وما لبثت الدائرة أن اتسعت لتضم دولاً كثيرة أخرى، من غير أن تنجح التسوية، وربما لن تنجح، في تحويل العلاقات بين الدول إلى علاقات ديمقراطية بالمعنى الذي استقرت عليه داخل كل دولة من دول الرأسماليات الكبرى.
نعتقد أن الموقف السلبي من الديمقراطية المعتمد لدى أحزاب اللّه العربية نابع من الاعتراض على قيام الأوطان، بالصيغة المعروفة بعد الحرب العالمية، والدعوة، بالتالي، إلى النضال لإلغائها ثم استبدالها إما بأمة عربية أو بأمة اسلامية أو بأمة أممية. لقد بينت التجربة أن اتفاق الأحزاب على مجافاة الأوطان لم يحل دون اختلافها على حدود «الأمم»، ما أدى إلى اتهام بعضها بعضاً بالخيانة والعمالة وإلى نزاعات دموية حتى بين التفرعات الحزبية. لقد تجسدت هذه الحالة، وهي عامة في كل العالم العربي، في التعامل مع اليسار اللبناني بصفته وكيلاً لقوى خارجية (يسار دولي أو فروع لأحزاب قومية بعثية أو ناصرية) ورمي اليمين اللبناني بتهمة العمالة للصهيونية والغرب الاستعماري. إن النظر إلى الآخر المختلف داخل الوطن شكل أفضل تمهيد سياسي وإيديولوجي وأسرع تحضير تعبوي للحروب الأهلية المتنقلة في أرجاء الأوطان العربية.
الديمقراطية في نظر اليسار الماركسي سلاح إمبريالي ضد شعوب العالم الثالث. يقول حسن خليل: «فمن «وعد الحداثة» الذي أطلقته الإمبريالية الأوروبية في بدايات القرن العشرين، والذي ترجمته بالانتداب والاستعمار المباشر، إلى «وهم الديمقراطية» الذي انفردت به الأمبريالية الأميركية وترجمته بالغزو والوجود العسكري المباشر وسياسة الفوضى البناءة في نهاية القرن العشرين، ضاع الشرق الأوسط في زواريب المصالح وكذب الشعارات»(ديمقراطية، عولمة...ص111-112). إذا تعاملنا مع الكتاب الذي اقتبسنا منه هذا النص القصير كعمل أكاديمي، يصح في منهجه وفي جامعة باريس الثامنة، التي حصل الكاتب على شهادته الأكاديمية منها، ما قلناه أعلاه عن كتاب أمل سعد غريب، «حزب الله، الدين والسياسة» وجامعة برمنغهام. ذلك أن الدراسات الأكاديمية الأوروبية خلال النصف الثاني من القرن العشرين اهتمت بتجميع المعلومات أكثر من اهتمامها بمناهج البحث العلمي، فغلب الجانب الإيديولوجي في إصداراتها على الجانب المعرفي.
من ناحية أخرى، نجح «الغرب الإمبريالي»، في تلك الفترة، في أن يعمم على الرأي العام العالمي صورة عن الصراع الدولي بدت فيها الولايات المتحدة الأميركية مع حلفائها مدافعين عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في مواجهة الاتحاد السوفياتي وحلفائه من دعاة الثورة والعنف المسلح و»الإرهاب الدولي». من هذه الزاوية يمكن القول إن كتاب حسن خليل، مع مقدمته المكتوبة بقلم الأمين العام للحزب، لا يصنف في خانة البحوث الأكاديمية، بل هو تعبير سياسي عن موقف الأحزاب الشيوعية، ومن بينها الحزب الشيوعي اللبناني، من الصراع العالمي بين المعسكرين ومن القضايا المتعلقة بالديمقراطية والوطن والدولة.
يستند هذا الموقف إلى ما ورد في الكلاسيكيات الماركسية من أسس نظرية ركزت على الطابع الطبقي للدولة وأكدت على خضوعها لمالكي وسائل الإنتاج وتبعيتها للمسيطرين على الاقتصاد. استناداً إلى ذلك رأى الماركسيون أن الديمقراطية الرأسمالية ليست إلا شأناً ظاهرياً (خدعة أو وهم بحسب تعبير خليل)، وأن التفاوتُ الاقتصادي يطيح بالأساس المادي للحرية، وأن تغيير البنية الرأسمالية والانتقال إلى الاشتراكية ثم إلى الشيوعية هو السبيل الوحيد للوصول إلى الديمقراطية الحقيقية. لقد استند الماركسيون إلى صحة الفرضية القائلة بالطابع الطبقي للدولة، فقرروا القضاء على الدولة، في طريقهم لإنجاز مهمتهم التاريخية الرامية إلى إلغاء الصراع الطبقي، ولم يلحظوا أن كلام ماركس عن اضمحلال الدولة بموجب قانون النفي الجدلي لا يعني القضاء عليها بقرار سياسي (راجع كتابنا، هل الربيع العربي ثورة؟).
في الواقع، مضى اليساريون بعيدا في عمليات التأويل والاجتهاد، وأحاطوا النصوص الماركسية بهالة من القداسة وتعاملوا معها كما يتعامل بعض المؤمنين مع النصوص الدينية، غير أن التعميمات السوفياتية كانت أكثر تأثيراً على الوعي اليساري من «الكلاسيكيات» الماركسية ولا سيما في ما يتعلق بالرأسمالية، إذ استند اليساريون، في موقفهم من الرأسمالية، لا إلى نصوص ماركس بل إلى تأويلات لينينية وستالينية أطلقوا عليها إسم الماركسية اللينينية. لذلك يظهر بوضوح أن مصطلحات الإمبريالية والرأسمالية والعولمة والاستعمار والغرب والتحرر الوطني والتحرير والاحتلال والشرق الأوسط الكبير الجديد والسياسة الأميركية وأحداث 11 أيلول والعولمة تتكرر في كتاب حسن خليل أضعاف المرات أكثر من مصطلح الديمقراطية، بحيث يبدو الكتاب كأنه بحث في مسألة التحرر الوطني لا في موضوع الديمقرطية.
بلغت القراءة المزيفة حداً قياسياً في كتاب «الرأسمالية...الوغد الوسيم» للكاتب الكويتي وليد الرجيب، وقد صدرت طبعته الأولى عام 2015 بالرغم من أن انهيار التجربة الاشتراكية كان قد اكتمل فصولاً وبات الخروج من لغة الحرب الباردة ومصطلحاتها ضرورة من ضرورات التقدم. يقرأ الكتاب من عنوانه. الوغد، لغةً، تعني الأحمق الدنيء الرذل الضعيف الجسم الضعيف العقل. هذه هي الرأسمالية، بلغة الكاتب. هي وغد، لكنه وغد وسيم، أي أنها أنيقة المظهر جميلة القد والهندام. في متن الكتاب يمكن لنا أن نرى كيف تحولت أفكار ماركس، عبر التأويل والاجتهاد، إلى محاكمة لإنجازات الحضارة الرأسمالية، ولاسيما للاكتشافات والاختراعات التي ما كانت لتظهر لو لم يكن في ظهورها مصلحة للرأسمالية «هي تزيد من أرباح الرأسمالي»(ص24)، وبالمعيار ذاته تدان الإنجازات الكبرى في مجال المواصلات البرية والبحرية والجوية ووسائل الاتصال والتواصل من الباخرة إلى سكة الحديد إلى الهاتف والإذاعة والتلفزيون، وصولاً إلى «المخترعات الدوائية والعلاجية»(ص29) «لأن الرأسمالية لا يمكن أن تخترع وتطور شيئاً إلا إذا كان يأتي لها بالربح»(ص31)، ولأنها «لا تهمها حياة الإنسان أو سلامته أو صحته ولا حتى سعادته أو تطوره، كل ما يهمها هو الربح ولا شيء سواه»(ص44). القول ذاته ينطبق على السيارة والمصباح الكهربائي والتلغراف والفاكس وأخيراً الأنترنت (ص35)، وعلى الأجهزة الإلكترونية والهواتف الذكية والألواح الرقمية(ص38). حتى الكمبيوتر، استخدمته الدول الرأسمالية في البداية لأغراض استخباراتية(ص36). يحق لأي باحث أن يجزم بأن هذه الأفكار ليست متحدرة من الماركسية، أو أنها تجسيد حي لما أطلق عليه سمير أمين الماركسية المبتذلة. يمكن أن يكون الشيوعي ضد استثمار الإنسان للإنسان في الرأسمالية كما في سواها من الحضارات وأنماط الإنتاج، أما أن يعارضها جملة وتفصيلاً فهو من باب التعصب الأعمى للأفكار الذي لا يترك أي مجال لاحترام الرأي الآخر، الركن الأساس للديمقراطية.
رداً على هذا الرأي الأصولي سأقتبس، على سبيل المقارنة، نصاً عن الديمقراطية للناشط والمعارض السوري لؤي حسين وهو أحد خريجي المدرسة الشيوعية، نشره على صفحته (الفيسبوك) بتاريخ 23-5-2019، لأبيّن أن فئة من الشيوعيين أجرت قراءة نقدية للتجربة وطورت خطابها السياسي. يقول النص: «الديمقراطية شكل من أشكال إنتاج السلطات وطريقة محددة بوضوح ودقة لضبط صلاحية السلطات كل على حدة، ووضع تخوم واضحة المعالم بين السلطات، ونواظم محددة للعلاقة بين السلطات، كمؤسسات دولة، وبين الأفراد كمواطنين يتمتعون بحقوق اصطلح على تسميتها «حقوق الإنسان» على قاعدة المساءلة والمحاسبة للسلطات. يقوم بذلك الناس، البشر... من خلال إحدى مؤسسات الدولة الديمقراطية كالسلطة القضائية أو مجلس النواب...». من الواضح أن النص يخلو من أي عبارة أو مفردة أو مصطلح من تلك التي كانت تقتضيه ضرورات النضال الأممي ضد الإمبريالية والصهيونية والاستعمار، بقيادة الاتحاد السوفياتي، وليس ذلك تعبيراً عن موقف من تلك المواجهات، بل للقول إن المعايير التي تقاس بها الصراعات الدولية ليست هي ذاتها التي تحدد طبيعة المهام المتعلقة ببناء الدولة والوطن، ولاسيما منها مهمة بناء الديمقراطية.
ملاحظة: هذا فصل من كتاب أحزاب الله الصادر في بيروت عن دار غوايات 2020