المستطرف في أفكار علماء الفيزياء الفلكية


عبدالرزاق دحنون
2020 / 5 / 7 - 20:42     

إلى الصديق سلام إبراهيم محمد

هل الكون يتوسع؟

مضى أكثر من خمسين عاماً على إعلان بعض العلماء عن اكتشاف دليل قاطع على توسع الكون بدءاً من حالة كان فيها شديد الحرارة والكثافة، فقد عثروا على الشفق البارد للانفجار الكبير. والشفق البارد تشكل في الظروف القاسية التي رزح تحتها الكون في بواكيره، حيث أصدرت المادة المؤينة، المشردة، شفقاً جرى احتجازه فيها، مثلما يحدث لضوء في ضباب كثيف. تنامت بلازما الفوتونات والجسيمات المشحونة وخلال مرحلة الاتحاد ثانية تكوّنت أولى الباريونات baryons وهي المادة نفسها التي تتألف منها النجوم والمجرات والبشر.

بيد أنه في سياق توسع الكون وتبرده، انضمت الإلكترونات والبروتونات بعضها إلى بعض لتكوّن ذرات متعادلة، ومن ثم فقدت المادة قدرتها على احتجاز الضوء. واليوم، بعد مرور 14 بليون سنة على ذلك الحدث الكوني تُكون الفوتونات المنبعثة من ذلك، الإصدارَ الهائلَ لإشعاع الخلفية الكونية الميكروي الموجة cosmic microwave background. أي الإشعاع المتبقي من الانفجار الكبير، ومنذ ذلك الحين صار توسع الكون وتبرده هو النظرية التي وحّدت ما طرحه علماء الفلك من موضوعات.

ما معنى توسع هنا؟ عندما تتوسع أشياء مألوفة مثل بطيخة أو ثمرة يقطين، يتضخم حجمها في الفضاء المحيط من حولها لأنها لها مركز وأطراف. وفي خارج الأطراف ثمة متسع كي يجري التوسع فيه؛ ولكن الكون ليس له على ما يبدو طرف ولا مركز ولا خارج، فكيف يمكن أن يتوسع؟ إن شكل التوسع الكوني يشبه التطور البيولوجي للأحياء فهو سياق تنمو وتتكون فيه على مر الزمن بنى بسيطة تصبح فيما بعد معقدة. وثمة وجه شبه من نوع آخر بين توسع الكون والتطور البيولوجي وهو أن معظم العلماء يظنون أنهم يفهمونه، مع أنهم قلما يتفقون على معناه. لقد مضى على صدور كتاب " أصل الأنواع " ما يزيد على قرن ونصف القرن ولا يزال علماء البيولوجيا يتجادلون حول آليات ومقتضيات نظرية داروين، وليس حقيقتها، في حين أن معظم الجمهور لا يزال يتخبط في جهالة ما قبل الداروينية.

قام بعض الفيزيائيين المشهورين وبعض مؤلفي الكتب الجامعية في فيزياء الفلك، وكذلك بعض الذين يبسّطون العلم للناس، بطرح أسئلة وعبارات مضللة حول توسع الكون, إن التوسع فكرة ببساطتها خادعة؛ ولكن ما الذي يعنيه بالضبط قولنا إن الكون يتوسع؟ عندما حلل علماء الفلك أضواء المجرات المجاورة وجدوا لها طيوفاً أي مجموعات من الخطوط الضوئية ناجمة عن مختلف العناصر، شبيهة بطيوف الشمس والنجوم القريبة من الأرض أو الأصح قرب الأرض من هذه النجوم. وهذا يبرهن على انتظام وتجانس أكيد في المادة، لا على مقياس المجرة فحسب, بل على مقياس الكون.

وفي عام 1929 لاحظ أدوين هَبُل في مرصده الفلكي أن خطوط أطياف المجرات منزاحة نحو الأحمر انزياحاً منظماً دائماً. وكل أطوال أمواج الأشعة قد عراها الازدياد، وتكبر هذه الزيادة كلما كان بعد المجرة عنا أكبر. وكان لهَبُل معاون ممتاز لا غنى عنه اسمه وملتون هوماسن. وكان في أول الأمر يرعى قافلة الحمير التي تحمل الزاد إلى جبل ولسن حيث أقيم المرصد، ثم عيّن ليعمل في المرصد، فبرهن عن صبر واحتمال طويلين في أخذ الصور الطويلة التعريض للضوء، حتى أن تعريضها كان يدوم أحياناً أسبوعاً بكامله. وهكذا درسا أكثر من 150 مجرة, وتبين أن قانوناً سيخرج من هذه الدراسة, وهو أن انزياح خطوط الطيف يتناسب مع بعد المجرة. أي أن معدل ارتداد مجرة ما عن مجرتنا يتناسب طرداً مع المسافة التي تفصلنا عنا.

ومن المعلوم أن الطيف الضوئي يتألف من سبعة ألوان تبدأ بالأحمر وتنتهي بالبنفسجي. فإذا رصدنا جرماً سماوياً وشاهدنا أن طيفه ينزاح باتجاه اللون الأحمر، فيفترض أن هذا الجرم يتحرك بعيداً عنا. وأعتٌبر اكتشاف أدوين هَبٌل أقوى دليل تجريبي على صحة نظرية الانفجار الكبير. وعندما عٌرضت هذه النظرية على الأوساط العلمية لاقت رواجاً عظيماً، فعلى الرغم من بساطتها المفرطة، فقد شرحت وبشكل مقنع عملية توسع الكون، كما تنبأت بنسبة الوفرة لأهم عنصرين شائعين في الكون وهما الهيدروجين والهليوم اللذان تشكلا في الدقائق القليلة الأولى بعد الانفجار الكبير.

وعلى الرغم من التماسك الواضح لهذه النظرية فإن علماء الفلك استمروا في اعتبارها غير متكاملة, فهي لا تقدم الحلول المقنعة للعديد من الظواهر الملاحظة في الكون، وكمثال، عندما فحص علماء الفلك الإشعاع الخلفي المكروي وجدوه موحّد الخواص بشكل لا يصدّق, وبدا بنفس درجة الحرارة في أيّ اتجاه من الفضاء, ولم تستطع نظرية الانفجار الكبير أن تقدّم التفسير المناسب لهذه المعضلة, ولم يفهم العلماء الوسيلة التي قاربت بين المادة الموجودة في الجزء القريب من الكون والمادة في الجزء البعيد منه ليصلا معاً لهذا التوازن الحراري الموحد الخواص.

على أن ثمة سؤالاً يطرح نفسه بإلحاح، هل هذا التوسع حقيقة فعلية؟ هناك شكوك ترد، وان بعض العلماء يقدرون أن من الجرأة أن يوافق الإنسان أو يصدق ظاهرة خارقة بهذه الدرجة من الغرابة، وذلك بالاعتماد على برهان واحد فقط. وهل يمكن التأكيد بأن انزياح خطوط الطيف نحو الأحمر يعبر حتماً عن توسع الكون؟ لقد كان نموذج الانفجار الكبير إشكالياً باستمرار، إذ أن الكون ليس ممهداً على معظم المستويات، بل هو متكتل، فالمادة تتجمع في نجوم، والنجوم تتجمع في مجرات، والمجرات في حشود تصل امتداداتها إلى ما يقرب من 100 مليون سنة ضوئية. وبما أن نموذج الانفجار الكبير مبني على أساس نظرية النسبية العامة لأينشتاين فهي تحتاج إلى كون آخذ في الاتساع. ومهما كانت وجهة النظر المتخذة، فربما كان هذا النقاش الكبير حول توسع الكون هو بنوع ما مسألة كاذبة.