ما هو التراث الماركسي الحقيقي؟

جون مولينو
2020 / 5 / 5 - 22:15     


1- مقدمة
يقدم هذا الكراس والذي كتبه المفكر الماركسي البريطاني جون مولينو في منتصف الثمانينات تمييزاً لما يعتبره المؤلف التراث الحقيقي للماركسية عن المدارس الثلاث التي هيمنت على اليسار العالمي لعقود وهي الستالينية، والاشتراكية الديمقراطية الكاوتسكية، والتحرر الوطني في العالم الثالث. ويعتمد المؤلف. على منهج التحليل الطبقي للتمييز بين الماركسية وهذه المدارس الثلاثة.

يبدأ المؤلف بشرح الأساس الطبقي للماركسية، ويوضح أنها لم تكن مجرد نظرية فكرية أنتجها ماركس وإنجلز، بل بلورة للخبرات النضالية للطبقة العاملة والإمكانيات الاجتماعية والسياسية التي طرحتها تلك الخبرات. وينتقل بعد ذلك لإثبات أن الطابع الطبقي للماركسية لا يتناقض مع كونها نظرية علمية شاملة قادرة على تفسير العالم الاجتماعى وتطوره التاريخي. ويصل الكاتب إلى استنتاج أن الماركسية لا يمكن الفصل فيها بين النظرية والممارسة وأنها بالفعل نظرية ثورة الطبقة العاملة العالمية.

ينتقل المؤلف في الجزء الثاني من الكراس إلى تحليل التشوهات التي طرأت على تلك النظرية الثورية على يد الكاوتسكية في أوروبا والستالينية في روسيا وحركات التحرر الوطني في العالم الثالث. ويشرح كيف كانت الكاوتسكية تعبيراً عن البيروقراطية النقابية، والتي أصبح لها مصالح تتناقض مع مشروع الثورة العمالية، وكيف لعبت دوراً توفيقياً بين العمال والرأسمالية. ويصف بعد ذلك.. كيف تحولت الماركسية في روسيا على يد ستالين الى تعبير عن المصالح القومية للبيروقراطية الحزبية التي استولت على الحكم في روسيا، بعد تفكك حكم الطبقة العاملة بفعل الحصار والحرب الأهلية وفشل إنتشار الثورة في أوروبا بعد هزيمة الثورة الألمانية.

أما في الجزء الخاص بالعالم الثالث فيطرح المؤلف أن الحركات التي استولت على الحكم في بلدان مثل الصين وكوبا لم تكن ماركسية فهي حركات قادتها قطاعات من مثقفي البرجوازية الصغيرة واعتمدت بالأساس على قواعد فلاحية وحرب عصابات ريفية ورغم أنها حركات تحرر وطني ناضلت ضد الإمبريالية والاستعمار فيجب ألا نخلط بينها وبين الماركسية الثورية.

نشرت الطبعة العربية الأولى لهذا الكراس المترجم في منتصف التسعينات، وتميزت تلك الفترة بحالة من الإحباط والتفكك الشديدين في صفوف اليسار المصري، وكانت تسود أفكار عن أن الماركسية لم تعد قادرة على تفسير أو تغيير العالم وأن كل أطروحتها قد أثبتت فشلها. فما كان يسمى بقلعة الاشتراكية أي الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية انهارت انهيارا مدوياً وكان الحديث في ذلك الوقت عن تجاوز الرأسمالية العالمية لأزماتها وبداية عصر جديد من الاستقرار الرأسمالي القائم على ثورة المعلومات والتكنولوجيا، وكتب فرانسيس فوكوياما أطروحته الشهيرة عن نهاية التاريخ أي أن الرأسمالية الحديثة وسياسات السوق الحر والديمقراطية البرجوازية في شكلها الغربي هما نهاية المطاف في مسيرة التطور التاريخي، وأن أي حديث عن انهيار النظام الرأسمالي والثورة الاشتراكية لم يعد له معنى في العالم الحديث، كما كان هناك سبباً آخر لحالة التخبط في صفوف اليسار وهو ما بدا إنه بمثابة انتصار نهائي للإمبريالية الأمريكية عالمياً وللمشروع الصهيوني والشرق أوسطي في منطقتنا، وبدت في تلك اللحظة حركات التحرر الوطني ومشاريع التنمية الوطنية المستقلة في حالة مأساوية. فهزم العراق في حرب الخليج الأولى واستسلمت منظمة التحرير الفلسطينية بقبولها لمشروع مدريد ثم أوسلو وتواطأ في تلك المشاريع كافة الأنظمة العربية بما في ذلك الأنظمة التي كان ما زال يعتبرها البعض أنظمة وطنية وتقدمية وتبنت كافة تلك الأنظمة سياسات الليبرالية الجديدة وتعليمات واشنطن والبنك والصندوق الدوليين.

وعلى المستوى الدولي.. انهارت تجربة نيكارجوا، وفتحت فيتنام أسواقها للشركات الأمريكية، وتحولت الصين لتصبح رأس حربة العولمة الرأسمالية في آسيا.

وفي مصر .. كانت التطورات أيضاً تثير التشاؤم لدى الكثير من اليساريين، فالحركة الإسلامية تهيمن على الشارع، والنظام يفكك ما تبقى من القطاع العام والإصلاح الزراعي، ويتبنى سياسات الليبرالية الجديدة دون مقاومة عمالية أو فلاحية قادرة على إيقاف أو حتى تعطيل تلك السياسات،و أصبحت الأقلية الصغيرة التي تتحدث عن أهمية دور الطبقة العاملة وضرورة تنظيم المقاومة العمالية والفلاحية والأزمات والانفجارات القادمة لا محال، أصبح هؤلاء وكأنهم يتكلمون لغة لم يعد يفهمها أو يريد سماعها أحداً في أوساط اليسار.

ولكن اليوم، ونحن ننشر الطبعة الثانية من هذا الكراس، فقد تغير الكثير. فأولاً أثبتت تنبؤات فوكوياما بنهاية التاريخ أنها بمثابة نكتة طوباوية لا مكان لها في القرن الجديد، فعادت الأزمات الرأسمالية الكلاسيكية تعصف بالنظام العالمي وانهارت تجارب الليبرالية الجديدة في بلد تلو الأخرى وعادت الإمبريالية لنفس مناهجها القديمة، ليس فقط في شكل الاستعمار المباشر في العراق وأفغانستان والتدخل العسكري في مختلف أنحاء العالم, ولكن أيضاً في التنافس والصراع بين القوى الإمبريالية على الأسواق والطاقة والنفوذ. وانهارت مشاريع السلام البرجوازي في الشرق الأوسط ولم يؤد تحرير الأسواق والعولمة الرأسمالية إلى الرخاء والسلام بل إلى المجاعات والحروب.
وفي مصر أيضاً .. لم تعد الأمور كما كانت عليه في منتصف التسعينات، فلم تؤدي السياسات الاقتصادية للنظام إلا إلى تعميق الأزمة الرأسمالية بشكل غير مسبوق والى إفقار وتجويع وتشريد الملايين من العمال والفلاحين وإثراء فاحش لقلة صغيرة أصبحت تملك الأخضر واليابس (في مصر اليوم 70ألف شخص يملك كل منهم أكثر من 5 ملايين دولار أمريكي وكل هؤلاء كونوا ثرواتهم خلال العقدين الأخيرين).

وبطبيعة الحال .. لم تمر تلك التغيرات بدون مقاومة، فظهرت حركة مناهضة العولمة الرأسمالية بقوة واتساع لم يكن يتوقعهما أحداً، واندلعت سلسلة من المظاهرات الجماهيرية في مدن الغرب الرأسمالي، وتفجرت من جديد الانتفاضة الفلسطينية لتصبح رمزاً للمقاومة ليس فقط في بلداننا العربية بل في العالم كله، وسرعان ما تحولت إلى شرارة ثورية تهز استقرار النظم البرجوازية العميلة في منطقتنا ومع اندلاع الحرب في العراق ولدت حركة عالمية لمناهضة الحرب والاستعمار تضاهي في اتساعها وعمقها حركة مناهضة الحرب في فيتنام خلال عقدي الستينات والسبعينات.

وتفجرت الحركات العمالية والفلاحية في مختلف أنحاء العالم ضد الرأسمالية وسياسات السوق، خاصة في أمريكا اللاتينية والتي لم يعد يمر شهر بدون اندلاع انتفاضة أو سلسلة إضرابات عمالية، وفي مصر انفجر الغضب أولاً للتضامن مع الانتفاضة الفلسطينية والمقاومة العراقية ولكن الغضب يتصاعد سريعاً اليوم ليشمل القضايا الاجتماعية والاقتصادية والديمقراطية.

فلم تعد غالبية السكان قادرة على الاستمرار في ظل ارتفاع الأسعار ووصول البطالة إلى نسب غير مسبوقة وفي ظل القمع والمهانة التي يتعرض لها كل من يرفع صوته للرفض والمقاومة. وعلى عكس منتصف التسعينات لم يعد يشكك أحداً اليوم في أننا على أعتاب انفجارات اجتماعية كبرى.

كل هذه التغيرات العالمية والمحلية تطرح علينا أسئلة شديدة الإلحاح: كيف نفسر ما يحدث في المنظومة الرأسمالية، وما هي طبيعة الإمبريالية اليوم وما هي إستراتيجيتنا للتغيير ولخلق عالم أفضل؟ وإذا كانت الماركسية هي الطريق والمنهج لتفسير ما يحدث في عالمنا المعاصر وهي المرشد للممارسة الثورية اليوم،فعن أي ماركسية نتحدث؟ هل هي ماركسية الإشتراكية الديمقراطية الإصلاحية والتي تطرح التغيير التدريجي من خلال البرلمان؟ أم ماركسية الاتحاد السوفيتي السابق المعروفة بالستالينية والتي أثبت لنا التاريخ مدى قبحها وفشلها؟ أم أن الحل هو في إعادة طرح إستراتيجية التحرر الوطني والثورة الوطنية الديمقراطية؟ يطرح هذا الكراس الصغير رؤية مغايرة لتلك الأطروحات الثلاث. فهو يقدم رؤية ماركسية ثورية قائمة على الدور القيادي للطبقة العاملة، وتستند على تراث من الممارسة والنظرية الماركسية بدءً بكارل ماركس وفردريك إنجلز وتطورها على يد فلاديمير لينين وليون تروتسكي وأنطونيو جرامشي وروزا لوكسمبورج، ذلك التراث الذي ظل لعقود غائباً عن ساحة اليسار المصري أو مشوهاً بفعل هيمنة الأطروحات الستالينية والقومية.

وهى الرؤية التى يرى مركز الدراسات الاشتراكية بالفعل اليوم إن هناك أهمية فائقة لإزاحة الغبار عنها لتقديم الماركسية الثورية فى ثوبها الحقيقى .. كنظرية انتصار الثورة العمالية عبر نضالات العمال وكافة الكادحين ..خاصة بعد إن عاد اليسار إلى ساحة النضال الطبقى والوطنى بقوة فى السنوات الأخيرة وبات هناك أعداد لا يستهان بها من الجماهير تبحث عن الخلاص من الأوضاع البائسة التى يحيون فى ظلها فى الاشتراكية.

هذا الكراس من تأليف المفكر والمناضل الماركسي البريطاني جون مولينو. ولمولينو عدد من المؤلفات الهامة منها كتاب بعنوان :الماركسية والحزب، وآخر بعنوان : نظرية ليون تروتسكي الثورية، فضلاً عن إسهامه فى إصدار عدد من الكراسات المبسطة للشبيبة مثل: الاشتراكية والطبيعة البشرية، و هل الماركسية نظرية حتمية؟ وله أيضاً العديد من المقالات والدراسات في مجال النقد الفني والثقافي.





2- الجزء الأول: ما هي الماركسية؟
كما يميز المرء في الحياة الشخصية، بين ما يعتقده و يقوله إنسان عن نفسه، وبين حقيقته وحقيقة ما يفعل، فينبغي التمييز لدرجة أكبر فى الصراعات التاريخية، بين مقولات وخيالات الأطراف المشاركة في هذه الصراعات، وبين تكوينهم الحقيقي ومصالحهم الحقيقية، وبين تصورهم لأنفسهم، وبين حقيقتهم. (كارل ماركس: الثامن عشر من برومير: لويس بونابرت).

كل ما أعرفه هو أنني لست ماركسيا – هكذا قال ماركس، إن ما كان في سبعينات القرن التاسع عشر نكتة جدلية لبقة تحول منذ ذلك الوقت إلى مشكلة سياسية كبرى، فقد شهد القرن الذي مضى على وفاة ماركس ظهور عدد لا يحصى من الماركسيات المختلفة والمتصارعة، وهناك حاجة ماسة الآن لحل هذه الإشكالية ووضع معايير قبول الزعم بالانتماء للماركسية وبالتالي الإجابة عن السؤال الشائك: ما هو التراث الماركسي الأصيل؟

ولكن .. دعونا في البداية نكون واضحين بالنسبة لكافة أبعاد المشكلة، فالمشكلة ليست وجود آراء مختلفة حول بعض القضايا، بين الأشخاص الذين يسمون أنفسهم ماركسيين، (ميل معدل الربح للانخفاض مثلاً، أو الطابع الطبقي للاتحاد السوفيتي) فهذا شئ متوقع في أي حركة ديمقراطية حية. المشكلة الحقيقية هي: أننا كثيراً ما نجد “الماركسيون” يسجنون ويقتلون ويشنون الحرب على بعضهم البعض، بل ونجد من يسمون أنفسهم “ماركسيين” على الجانبين المتضادين من المتاريس الثورية في كثير من الصراعات السياسية الكبرى في عصرنا. تأمل بليخانوف ولينين في 1917 ،وكاوتسكى ولوكسمبورج في 1919، والشيوعيون والحزب التوحيدي الماركسي في برشلونة في 1936، والمجر 1956، وبولندا 1981 ،يدفعنا كل ذلك إلى التساؤل حول تعريف الماركسية.

هناك بالطبع من يرفضون هذا التساؤل كلية، وينكرون أي معني للبحث عن ماركسية حقيقية، ويقبلون ببساطة كماركسيين كل الذين يزعمون أنهم كذلك. يتناسب رد الفعل هذا مع البرجوازية ومنظريها الأكثر فجاجة، لأنه يسمح لهم بإدانة الماركسية ككل والماركسيين جميعاً من خلال ربطهم بجوزيف ستالين وبول بوت. ويتناسب أيضاً مع الأكاديميين المتخصصين في الماركسية، فهو يمكنهم من إنتاج العديد من الكتب المربحة عن الماركسية وكل “مدارسها” ،من الماركسية النمساوية إلى ماركسية لويس التوسير. إن هذا المنهج تأملي في جوهره، فالفعل، خاصة الفعل الثوري يقتضي الحسم في النظرية والممارسة معاً. إن الماركسيين الذين يريدون تغيير العالم وليس فقط الارتزاق من تفسيره ليس لديهم سوى خيار واحد وهو مواجهة المشكلة ورسم الخط الفاصل بين الأصيل والمزيف.

إن إحدى طرق محاولة رسم مثل هذا الخط الفاصل، قد تكون بتعريف الماركسية على أساس كتابات ماركس وقياس التابعين بدرجة ولائهم لكلمات الأستاذ. وهذا بالطبع مدخل مدرسي بل وديني، فهو يفشل في الأخذ بالاعتبار أنه إذا كانت الماركسية كما قال إنجلز “دليل للعمل وليس دوجما”، فعليها أن تكون نظرية حية ومتطورة وقادرة على النمو المتواصل وعليها أن تحلل وتستجيب لواقع متغير على الدوام، وهو واقع شهد بالفعل تغيرات ضخمة منذ أيام ماركس. حتى لو كنا لأسباب تاريخية نسمي النظرية تبعاً للشخص الذي قام بالإسهام الأكبر في وجودها فإننا لا نستطيع أن نختصرها إلى أو نحدها فيما كتبه هذا الفرد بذاته، فالثمن آنذاك يكون عجزها الكامل. وكما لاحظ تروتسكي “الماركسية قبل كل شئ هي منهج في التحليل، ليس تحليل النصوص وإنما تحليل العلاقات الاجتماعية”،(1) يشير هذا الاقتباس من تروتسكي إلى اقتراح حل بديل للمشكلة وهو حل يتبناه الماركسي المجري جورج لوكاش. ففي كتاب “التاريخ والوعي الطبقي” تساءل لوكاش، ما هي الماركسية الأصيلة؟ وأجاب بما يلي:

“إن الماركسية الأصيلة لا تعنى تسليماً أعمى بنتائج بحث ماركس، ولا تعني الإيمان بنظرية أو بأخرى ولا تأويل كتاب مقدس، إن الأصالة نسبة إلى الماركسية ترجع على نقيض ذلك إلى المنهج بشكل حصري”(2).
إن هذا طرح أكثر جدية حيث يأخذ في الاعتبار الحاجة إلى التطور، كما يحتوي على حقيقية هامة تتمثل في أن المنهج الجدلي أساسى في الماركسية بلا شك، ومع ذلك فان هذا الطرح لا يصلح كحل لمشكلتنا فليس من الممكن تطبيق مثل هذا الفصل الجاف بين منهج ماركس وبين تحليلاته الأخرى ولا اختزال المضامين الأساسية في المنهج فقط(3)، يتضح هذا من المثل الذي يضربه لوكاش لشرح فكرته:
لو كان الافتراض، دون تسليم به، إن البحث المعاصر برهن على عدم صحة كل تأكيدات ماركس الخاصة بالفعل، فباستطاعة أي ماركسي أصيل رصين أن يسلم دون شرط بقبول هذه النتائج الجديدة ويرفض كل اطروحات ماركس الخاصة بالفعل دون أن يلزم إطلاقاً بان يتراجع عن ماركسيته الأصيلة.(4)

والواقع عكس ذلك تماماً، فإذا افترضنا على سبيل المثال، على عكس تحليلات ماركس لديناميكية التنمية الرأسمالية، إن الرأسمالية تطورت إلى شكل جديد من المجتمع البيروقراطي العالمي بلا تنافس وتناقضات داخلية مما حال دون إمكانية الاشتراكية أو البربرية، فمن الواضح إن الماركسية ستكون قد فندت في حين سيكون قد تم البرهان على صحة ما يذهب إليه أنصار مثل هذا الطرح – ماكس فيبر، برونو ريزي وجيمس بيرنهام – وكما استنتج تروتسكي عندما تناول هذا الطرح الافتراضي، لن يتبقى سوى الاعتراف بأن البرنامج الاشتراكي القائم على أساس التناقضات الداخلية للمجتمع الرأسمالي، قد انتهى بوصفه يوتوبيا.(5)

يبدو أن ما توحي به الحجة السالفة هو أن الماركسية يجب أن تعرف كمنهج مضاف إليه بعض التحليلات والقضايا الأساسية. إلا أن هذا الحل الظاهري ليس في الواقع إلا دفعاً للمشكلة خطوة للوراء، فبأي معيار يمكننا أن نقرر ما هي التحليلات والقضايا الأساسية، وما هي تلك الثانوية، فضلاً عن أن هذا المدخل يحمل في طياته خطر العصبوية النظرية، وهو تعريف الماركسية بأنها الخط السليم حول كل شئ، وبالتالي استنتاج أن روزا لوكسمبورج لم تكن ماركسية عندما اختلفت مع لينين حول الحزب، وان لينين لم يكن ماركسياً عندما قال بالطابع البرجوازي للثورة الروسية وهكذا.

كيف إذن ننفذ خارج هذه الحلقة؟! ليس بمحاولة استخراج بعض الاطروحات من كتابات ماركس، وإنما باستخدام النظرية الماركسية .. بالنظر إلى الماركسية ككل واحد.

1 – الأساس الطبقي للماركسية:
بالنسبة لماركس “ليس الوعي الاجتماعي هو الذي يحدد الوجود الاجتماعي، وإنما الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي”(6)، وبالتالي فان فهم وتعريف أي فلسفة أو نظرية أو أيديولوجية يستلزم ،أولاً وأخيراً، توضيح الوجود الاجتماعي الذي يشكل أساسها. هكذا فان ماركس ينظر إلى الدين بصفة عامة باعتباره “الوعي الذاتي والإدراك الذاتي للإنسان الذي لم يتوصل بعد لنفسه، أو فقد ذاته مرة أخرى بالفعل”(7)، هذه الدولة وهذا المجتمع ينتجان موقف الدين المقلوب رأسا على عقب من العالم، لأنهما عالمان مقلوبان رأسا على عقب.(8) إن ماركس يكشف الأسرة الأرضية باعتبارها سر الأسرة المقدسة(9)، وبالمثل يحلل انجلز المسيحية الأولى بأنها ديانة العبيد والعبيد المتحررين، ديانة الأشخاص الخاضعين أو المشتتين بواسطة روما(10). وفي البيان الشيوعي يعرف ماركس مدارس الاشتراكية القائمة المختلفة مباشرة بالإشارة للمصالح الطبقية التي تمثلها، معطياً إيانا على التوالي الاشتراكية الإقطاعية والاشتراكية البرجوازية الصغيرة والاشتراكية البرجوازية. وهكذا وفي تاريخ لاحق، بين تروتسكي أن مفتاح الأيديولوجية الفاشية بالإضافة إلى الحركة الفاشية يكمن في الوضع الطبقي للبرجوازية الصغيرة المعتصرة بين رأس المال والعمل. يمكن مضاعفة هذه الأمثلة بلا نهاية، ويجب تطبيق نفس منهج التحليل على الماركسية ذاتها – وهذا بالطبع ما فعله ماركس وأنجلز بنفسيهما.
يبدأ انجلز كتاب ضد دوهرنج بتأكيد “إن الاشتراكية الحديثة في مضمونها هي بالأساس نتاج إدراك الصراعات الطبقية القائمة في المجتمع الحديث بين الملاك وغير الملاك، بين الرأسماليين والعمال المأجورين من ناحية، والفوضي التي تحكم الإنتاج من ناحية أخرى”(11)، نستطيع أن نكمل صياغة انجلز بإضافة أن الماركسية هي إدراك هذه التناقضات من وجهة نظر البروليتاريا. وكما يقول ماركس في بؤس الفلسفة “مثلما أن الاقتصاديين هم الممثلين العلميين للطبقة البرجوازية، فان الاشتراكيين والشيوعيين هم منظرو الطبقة البروليتارية”(12) ويقول في البيان الشيوعي: “النتائج النظرية للشيوعيين ليست على الإطلاق مبنية على أفكار أو مبادئ اخترعها أو اكتشفها هذا أو ذاك من المصلحين العالميين. إنها تعبر فقط بشكل عام، عن علاقات واقعية نابعة من صراع طبقي قائم، من حركة تاريخية تسير أمام أعيننا”.(13)

وورد في البيان الشيوعي أيضاً الفقرة الهامة التالية:

يتميز الشيوعيون عن أحزاب الطبقة العاملة الأخرى فقط في الآتي: 1) في الصراعات الوطنية لبروليتاريي البلاد المختلفة، يحددون ويضعون في المقدمة المصالح المشتركة للبروليتاريا كلها. بصرف النظر عن الجنسية، 2) في المراحل المتعددة للتطور الذي يتعين أن يمر به الصراع الطبقة العاملة ضد البرجوازية، يمثلون دائماً وفي كل مكان مصالح الحركة ككل.(14)

إن هذه الفقرة توضح تعريف الماركسية كنظرية الطبقة العاملة بتقرير أن ما هو متضمن في هذه النظرية هو التعبير، لا عن مصالح هذا القطاع أو ذاك من الطبقة، وإنما عن مصالح الطبقة العاملة ككل بصرف النظر عن الجنسية، (ونستطيع أن نضيف اليوم: العنصر أو الجنس) وهي بالتالي تصلح كنقطة انطلاق لتحديد ونقد الانتهازية، التي تكمن في جذورها التضحية بالمصالح الكلية للطبقة لصالح مصالح مؤقتة لمجموعات وطنية أو مهنية أو محلية معينة داخلها.

إن ما طرحناه ليس فقط تعريفاً اجتماعياً، وإنما تاريخياً أيضاً: فهو يفسر كيف ظهرت الماركسية في الوقت الذي ظهرت فيه، فقد وجد الاستغلال والقمع لآلاف السنوات كما وجدت الرأسمالية في صورها الأولية لقرون، إلا أنه لم يكن من الممكن للماركسية أن تظهر إلا عندما طورت الرأسمالية القوى الإنتاجية ومعها البروليتاريا إلى الحد الذي يسمح بإدراك إمكانية إسقاط الأخيرة للرأسمالية وإذا نظرنا إلى سيرة حياة ماركس، علينا أن نلاحظ أنه لم يتوصل للماركسية إلا باتصاله بحلقات العمال الثوريين في باريس في أواخر عام 1843. وفي ذلك الوقت اكتشف ماركس، “تكوين طبقة ذات روابط راديكالية”، وأعلن لأول مرة ولاءه للبروليتاريا التي عندما “تعلن القضاء على النظام العالمي القائم، فإنها تعلن فقط عن سر وجودها، الذي هو في الواقع القضاء على هذا النظام.(15)

إن هذا المدخل فيما يتعلق بأصول الماركسية يختلف بوضوح عن ذاك الذي أعطاه كاوتسكي واتخذه لينين في كتابه ما العمل؟ كجزء من رأيه بأن الاشتراكية يجب أن تأتي للطبقة من الخارج، كتب كاوتسكي “إن الاشتراكية والصراع الطبقي ينشئان جنباً إلى جنب وليس واحد من الآخر.. سيادة العلم ليس للبروليتاريا وإنما للانتلجنسيا البرجوازية”(16). كما ذهب لينين إلى أنه “في روسيا نشأ مذهب الاشتراكية الديمقراطية النظري مستقلاً تماماً عن النمو التلقائي لحركة الطبقة العاملة. لقد نشأ كنتاج طبيعي وحتمي لتطور الفكر عند الانتلجنسيا الاشتراكية الثورية”.(17) لقد حاولت في موضع آخر أن أفند هذا الموقف، وأظهر نتائجه الضارة، واثبت انه كان يمثل فكر لينين فقط حتى تجربته مع الطبقة العاملة الثورية في 1905.(18)

يكفي أن نقول أن نظرية كاوتسكي – لينين هي نموذج للمادية التأملية التي نقدها ماركس في اطروحات حول فورباخ، ويعطي ماركس في البيان الشيوعي تفسيره الخاص لدور الانتلجنسيا الاشتراكية. يقوم قطاع من الطبقة الحاكمة “بالتحديد قسم من الأيديولوجيين البرجوازيين الذي رفعوا أنفسهم إلى مستوى الفهم النظري للحركة التاريخية ككل، بالانفصال عن طبقتهم ويذهبون إلى البروليتاريا”(19). من الواضح أن المرء لا يستطيع أن يذهب إلى طبقة غير موجودة ولم تجعل بعد وجودها محسوساً في الصراع. وأخيراً ..عندما نتناول الأساس الطبقي للماركسية ينبغي أن نؤكد على أن الماركسية، ليست فقط نظرية مقاومة البروليتاريا للرأسمالية ونضالها ضدها، وإنما أيضاً، وقبل كل شئ، نظرية انتصارها، لقد أوضح ماركس نفسه هذه النقطة عندما تنصل من أي فضل له في اكتشاف الطبقات والصراع الطبقي:

لقد وصف مؤرخون برجوازيون قبلي بزمن بعيد التطور التاريخي لهذا الصراع الطبقي، كما شرح اقتصاديون برجوازيون التكوين الاقتصادي للطبقات، أما ما استحدثته أنا فهو 1) برهنت على أن وجود الطبقات لا يرتبط إلا بأطوار التطور التاريخي الذي يحدده الإنتاج، 2) إن النضال الطبقي يؤدي بالضرورة إلى ديكتاتورية البروليتاريا، 3) إن هذه الديكتاتورية نفسها لا تكون إلا مرحلة انتقالية لإلغاء الطبقات والانتقال لمجتمع بدون طبقات.(20)

يؤكد لينين الفكرة نفسها بشكل أقوى عندما يصر في الدولة والثورة على أن الماركسي ليس إلا شخصاً انتقل من الاعتراف بالصراع الطبقي إلى الاعتراف بديكتاتورية البروليتاريا. هذا هو المحك الذي ينبغي اختبار الفهم والوعى الحقيقي بالماركسية على أساسه(21)، لقد كان تأكيد لينين موجهاً بالأساس إلى كاوتسكي الذي انفق عقوداً مقدماً نفسه بوصفه الكلمة الأخيرة في الأصالة الماركسية، ومع ذلك أعطى ظهره للثورة العمالية الفعلية في روسيا. إلا أن تأكيد لينين يحتفظ بصلته الوثيقة بما يحدث اليوم، بحيث لا يوجد نقص في المثقفين المعنيين، بل والمنتمين إلى الماركسية كمنهج لتفسير المجتمع، والذين لا يظهرون أي اهتمام على الإطلاق بالنظرية ، ولا يلتفتون بدرجة كافية إلى الممارسة الخاصة بالنضال من أجل سلطة العمال.

حتى الآن، اظهر تحليل الماركسية كنظرية للبروليتاريا أن هذا المفهوم يحتوي على ثلاثة عناصر: 1) الماركسية كنظرية للمصالح المشتركة للطبقة كلها عالمياً، 2) الماركسية كنتاج ميلاد البروليتاريا الحديثة وتطورات صراعها ضد الرأسمالية، 3) الماركسية كنظرية انتصار هذه الطبقة. إن التعريف الأكثر إيجازا لهذه العناصر الثلاثة هو أن الماركسية هي: نظرية الثورة البروليتارية العالمية.

2 – المكانة العلمية للماركسية:
بالنسبة لكثير من الناس، يتنافى تعريف الماركسية بأنها نظرية طبقة اجتماعية معينة مع ادعائها بأنها نظرية علمية. تسير الحجة في الاتجاهين، فمن ناحية هناك من يعترفون بأن الماركسية قائمة على أساس مجموعة اجتماعية محددة وبالتالي ينكرون مكانتها كعلم. في طليعة ممثلي وجهة النظر هذه عالم الاجتماع كارل مانهايم.(22) ومن ناحية أخرى هناك الذين يرون الماركسية كعلم وبالتالي ينكرون اشتقاقها من وجهة نظر الطبقة العاملة. وأكثر أنصار هذا الرأي أهمية من المعاصرين هو لويس التوسير الذي يرى أن مثل هذا التعريف يختزل الماركسية إلى مستوى الأيديولوجية. هذه الاعتراضات هي نتاج خلط مزدوج، أولا فيما يتعلق بطبيعة العلم الطبيعي، وثانياً فيما يتعلق بعلاقة العلم الطبيعي بالعلم الاجتماعي.

ينظر إلى العلم الطبيعي على أنه مصدر لمعرفة دقيقة (موضوعية) وغير محددة اجتماعياً، وبالتالي فهو يتخذ كنموذج للعلم الاجتماعي (الموضوعي) إلا أن هذا الرأي حول العلم الطبيعي هو نفسه نتاج اجتماعي. فهو في التحليل الأخير مشتق من التحالف بين العلم والبرجوازية الذي كان ضرورياً من أجل المعركة ضد الإقطاع ومن أجل تطوير الصناعة الحديثة. فمثلما صورت البرجوازية قوانين الرأسمالية على أنها طبيعية وخالدة، فقد صورت البرجوازية إنجازات العلم على أنها حقيقة مطلقة. إلا أن تاريخ العلم يظهره كسلسلة من الحقائق النسبية المؤقتة يتم إنتاجها بدافع حاجات إنسانية عملية متطورة والتي تبرهن بدورها على صحتها عمليا، أي بتوفير إمكانية أداء مهام محددة(23)، بالتالي فالعلم الطبيعي ليس مطلقاً وإنما تاريخي ومتغير.

يخضع العلم الاجتماعي بكامله، بما في ذلك الماركسية ، لنفس تلك القيود بالطبع إلا أن هناك أيضاً فارقاً أساسياً بين العلم الطبيعي والعلم الاجتماعي. يمتلك العلم الطبيعي موضوعية(24) ليست متاحة للعلم الاجتماعي. هناك سببان أساسيان لذلك:

المعرفة هي دائماً علاقة بين العارف والمعروف، بين الذات والموضوع. في العلم الطبيعي، موضوع المعرفة هو الطبيعية الموجودة خارج الإنسان، إلا أن المجتمع هو البشر، انه مجموع العلاقات الإنسانية(25). إن الطبيعية وقوانينها ليست من خلق الإنسانية على عكس المجتمع والقوانين الاجتماعية. في إمكان الرجال والنساء أن يغيروا عالم الطبيعية، ولكن فقط على أساس قوانين طبيعية لا يمكن تغييرها. أما القوانين الاجتماعية فيمكن تغييرها، ونتيجة هذه الفوارق هي أن الناس جميعاً لديهم على وجه التقريب نفس العلاقة بقوانين الطبيعة، إلا أن لديهم علاقات مختلفة بوضوح بقوانين المجتمع. هكذا على أساس قانون الجاذبية سيصطدم العامل والرأسمالي الساقطين من برج بيزا المائل بالأرض بنفس السرعة وبنفس النتائج، إلا أن قانون القيمة ليس له نفس النتائج بالنسبة للعامل والرأسمالي، أنه ينتج الفقر لأحدهما والغني للآخر، ولهذا السبب فان فكرة علم طبيعي بروليتاري في مواجهة البرجوازي هي قطعة من الهراء الستاليني(26)، ولكن، “توقع أ، يكون العلم الاجتماعي عبودية الأجر هو بنفس سخافة وسطحية توقع الحياد من أرباب الأعمال حول مسألة ما إذا كان ينبغي زيادة أجور العمال عن طريق تخفيض أرباح رأس المال”(27).

إن هدف المعرفة هو المساعدة في تغيير الواقع. ينطبق هذا بنفس القدر على العلم الطبيعي والاجتماعي. البرجوازية لها مصلحة في تغيير العالم الطبيعي، أنها في الواقع مدفوعة باستمرار لتغييره، من أجل تراكم رأس المال، أنها تحتاج بالتالي العلم الطبيعي. أما فيما يتعلق بالمجتمع، فالمصلحة الحقيقية للبرجوازية ليست في تغييره بل في الإبقاء عليه كما هو وبالتالي فحاجة البرجوازية ليست للمعرفة الاجتماعية، وإنما التبرير الاجتماعي، أي الأيديولوجية.(28) هكذا فان الكثير مما يؤخذ على أنه علم اجتماعي برجوازي ليس علماً من أي نوع، وإنما ببساطة تبرير وتعمية. (تعد نظرية المنفعة الهامشية في القيمة في الاقتصاد ونظرية التعددية في القوة السياسة أمثلة جيدة).

بالطبع تحتاج البرجوازية أن تغير المجتمع داخل حدود معينة، حدود نمط الإنتاج الرأسمالي، وبالتالي يوفي العلم الاجتماعي البرجوازي قدراً محدداً من المعرفة الحقيقية – معرفة يمكن استخدامها ضد الرأسمالية – ولكن هذه المعرفة دائماً ما توضع داخل إطار نظري يعوق الفهم الحقيقي للمجتمع ككل. الطبقة الوحيدة التي لا مصلحة في، وقدرة على، التوصل لفهم المجتمع ككل، هي الطبقة التي لها مصلحة في وقدرة على تغييره ككل – وهي البروليتاريا. وكما ذكر ماركس “إن وجود أفكار ثورية في فترة معينة يفترض وجود طبقة ثورية”(29). هكذا فان الأساس الطبقي للماركسية لا يقلل من مكانتها كعلم، بل على العكس من ذلك هو بالضبط ما يجعل طابعها العلمي ممكناً.

وهناك حجة أخرى ضد هذا الرأي وهي في الواقع امتداد للحجة التي تناولناها أعلاه، هي أن يضيق ويحد بشكل خاطئ من قابلية الماركسية للتطبيق. تقدم بهذه الحجة لوكاش في كتاباته المتأخرة. في دراسته للينين عام 1924 بدأ لوكاش بهذه الجملة “المادية التاريخية هي نظرية الثورة البروليتارية”(30) ولكنه يتخلى عن هذه الفكرة في التذييل الذي كتبه عام 1967 واصفاً إياها بأنها نتاج أفكار ذلك الوقت، كما يعترض على محاولة اختزال الشمول الاجتماعي للمادية التاريخية إلى بعد واحد وعرقلة ثروتها الحقيقية والمنهجية بواسطة مثل هذا التعريف.(31)

هذا الاعتراض مخطئ لان تعريف الماركسية كنظرية طبقية لا يحصرها بأي حال من الأحوال في تحليل الصراع البروليتاري فقط أو حتى المجتمع الرأسمالي فقط (وان كان ذلك بالطبع مهمتها الرئيسية). من الممكن تماماً تحليل التاريخ الإنساني بأكمله من وجهة نظر البروليتاريا. خذ على سبيل المثال مقال إنجلز حول “الدور الذي لعبه العمل في الانتقال من القرد إلى الإنسان” فالفكرة الأساسية لهذا لمقال هي “أن العمل هو الشرط الأساسي الأول لكل الوجود الإنساني.. وأن العمل بمعني ما .. خلق الإنسان نفسه”(32). لم يكن من الممكن التوصل لذلك إلا من خلال فهم عمل الطبقة العاملة الحديثة.(33) وبالفعل فقد تم اشتقاق الفكرة بهذه الطريقة حيث نجدها بشكل جنيني في مخطوطات 1844 والأيديولوجية الألمانية(34) أي قبل قيام ماركس وإنلجز بأية أبحاث أنثروبولوجية، وقبل دارون.

فضلاً عن ذلك، يقوم إنجلز في المقال نفسه بالإشارة إلى الاستنتاج السياسي النابع من طرحه، ألا وهو ضرورة ثورة كاملة في نمط الإنتاج القائم.(35) إن الشمول الاجتماعي الذي يطلبه لوكاش تمتلكه الماركسية بالضبط لأنها قائمة على مصالح البروليتاريا، الطبقة الشاملة، شاملة بمعنى أنها حاملة مستقبل وتحرر الإنسانية كلها – بحكم عدم احتياجها لطبقة فوقها تحكمها أو طبقة تحتها تقوم هي باستغلالها – قادرة على تكون كل الإنسانية. إن اعتراض لوكاش لا يعني أنه فهم الماركسية بشكل أعمق وإنما يعني ببساطة تخليه عن الموقف الطبقي الثوري من خلال استيعابه في الستالينية.

3 – من الممارسة إلى النظرية: وحدة الماركسية
لاستكمال البرهنة على أن جوهر الماركسية، هو التعبير النظري عن الثورة البروليتارية، من الضروري التدليل على الصلات بين ظروف وجود البروليتاريا والمهام التي تواجهها في الصراع (الممارسة الاجتماعية التي هي البروليتاريا) من جانب، والمقولات الأساسية للنظرية الماركسية من جانب آخر. القيام بهذا بشكل شامل وصارم غير ممكن في هذا المقال، انه يقتضي مجلدا على الأقل. كل ما نستطيع عمله هو أن نتعقب الخطوط العامة لبعض أهم هذه الصلات.

دعونا نبدأ بتلك الجوانب التي يمكن تسميتها بالمبادئ السياسية والبرنامج الأساسي للماركسية.. أولاً: الأممية. فلا شك أن الأممية تلعب دورا مركزيا في فكر ماركس، إلا أن الأممية الماركسية لا تدين بأي شئ لالتزام أخلاقي مجرد إزاء الاخوة الأممية للشعوب(36) (وهو في الحقيقة التزام ليبرالي برجوازي) بل تجد جذورها في وجود البروليتاريا كطبقة دولية نشأت بواسطة السوق الرأسمالي العالمي، ومنخرطة في صراع أممي ضد هذا النظام. كثيرا ما انتقد القول في البيان الشيوعي بأن العمال لا وطن لهم، وان الفروق والعداءات الوطنية بين الشعوب تذوب اكثر واكثر يومياً، بفضل نمو البرجوازية، وحرية التجارة والسوق العالمي، والتماثل في أنماط الإنتاج، وظروف الحياة المقابلة لكل ذلك، أقول انه كثيرا ما انتقد هذا القول على انه مبالغة أو خطأ سافر، في ضوء استمرار قبضة الأيديولوجية الوطنية على البروليتاريا، ومع ذلك فهو يظل صحيحاً على مستويين.. أولاً: كتقرير لنزعه وليس واقعا محققا. ثانياً: كتقرير عن البروليتاريا بالنسبة للطبقات الاجتماعية الأخرى. ما هو مشترك اليوم بين أنماط الإنتاج (والثقافة) في اليابان والبرازيل وبريطانيا اكثر بمراحل مما كان عليه منذ قرن. ما فيما يتعلق بالفلاحين، فلم يكن من الممكن حتى الحديث بجدية عن وعي أو تنظيم أممي، كما أن أممية البرجوازية، رغم خلقها للاقتصاد العالمي، ووفرة المنظمات الدولية الخاصة بها، تظل أدنى كيفيا من الإمكانية الأممية للبروليتاريا. فأعلى مستوى يمكن أن ترقى إليه هو الكتلة أو التحالف الدولي المقام ضد كتل دولية متنافسة. وحتى هذه الكتل تضطرب باستمرار بفعل العداءات الوطنية.

إن الطابع الأساسي للأممية الماركسية هو – كما لاحظنا – أولوية الكل (مصالح الطبقة العاملة العالمية) على الجزء. لنجعل هذا الكلام ملموسا: نقول أن العامل الثوري الذي لم يترك بلدته على الإطلاق، ويتحدث بلغته الأم فقط، ومع ذلك يعارض حكومته في وقت الحرب هو أكثر أممية بكثير من الأستاذ المتعلم الذي سافر عبر العالم، ويتحدث أكثر من ست من اللغات، ومتعمق في معرفته بالثقافات المختلفة، ومع ذلك يؤيد حكومته في وقت الحرب. مرة أخرى، بسبب أولوية الكل، فالأممية الماركسية متوافقة تماما، مع الاعتراف بحق تقرير المصير الوطني وتأييد صراعات التحرر الوطني، إذا كانت مصلحة الطبقة العاملة العالمية تقتضيه.(37)

ثانياً: خذ مبدأ ملكية الدولة لوسائل الإنتاج. يرى الكثيرون (خاصة البرجوازية، ولكن أيضاً بعض مدعي الماركسية) إن هذا هو المبدأ الأساسي للماركسية والاشتراكية بصفة عامة وهم يفكرون عامة كالآتي: الرأسمالية التي تساوي الملكية الفردية، غير عاقلة وظالمة، وتسبب الأزمات الاقتصادية والفقر والحروب الخ. أما إذا كان الإنتاج مملوكاً للدولة، وكان هناك تخطيط من الدولة للاقتصاد، سيكون هذا ترتيباً أفضل وأكثر عقلانية، على وجه الإجمال، وستنتهي هذه الشرور. ينظر بعد ذلك إلى صراع البروليتاريا كوسيلة يمكن عن طريقها لهذا الهدف أن يتحقق. حتى إذا استطاعت وسيلة أخرى أن تقدم نفسها نحو هذا الهدف، مثل حرب العصابات الفلاحية أو التشريع البرلماني، فان هذا لا يغير من الأمر شيئاً.

إن التفكير الماركسي مختلف تماماً، فالبروليتاريا محبوسة في صراع طبقي ضد البرجوازية التي تستغلها وتقمعها، والطريقة الوحيدة لانتصارها في هذه المعركة وتحريرها لنفسها هي الانتصار على البرجوازية سياسيا والاستيلاء على وسائل الإنتاج، وهي لا تستطيع أن تفعل ذلك إلا بخلق دولتها. وهكذا تطرح القضية في البيان الشيوعي:

لقد رأينا أعلاه إن الخطوة الأولى في ثورة الطبقة العاملة، هي رفع البروليتاريا إلى وضع الطبقة الحاكمة، أي كسب معركة الديمقراطية. ستستخدم البروليتاريا تفوقها السياسي، لتنتزع على مراحل كل رأس المال من البرجوازية، ولتركيز كل وسائل الإنتاج في أيدي الدولة، أي البروليتاريا المنظمة كطبقة حاكمة، ولزيادة مجموع القوى الإنتاجية بأسرع ما يمكن.

فبالنسبة لأنصار اشتراكية الدولة، يكون الهدف هو ملكية الدولة، والطبقة العاملة هي الوسيلة، أما بالنسبة للماركسية يكون الهدف هو تحرر الطبقة، وملكية الدولة هي الوسيلة. إن الفرق بين ما أسماه هال دريبر “روحي الاشتراكية”، كان له أهمية ضخمة في المائة عام الأخيرة، وسنعود إليه مراراً وتكراراً.

الهدف النهائي للماركسية – المجتمع اللاطبقي – هو بالطبع أمنية إنسانية قديمة. ما يميز الماركسية هو أنها تطرح المجتمع اللاطبقي، كإمكانية واقعية، من تطور البروليتاريا، فهي “طبقة لا تستطيع بحكم وضعها الكلي في المجتمع – أن تحرر نفسها إلا بالإلغاء التام لكل حكم طبقي وكل عبودية وكل استغلال”(38)، لنستشهد بالبيان الشيوعي مرة أخرى:

كل الطبقات السابقة التي نالت اليد العليا، حاولت أن تحصن مكانتها المكتسبة بالفعل عن طريق إخضاع المجتمع ككل لظروف استيلائها، لا يستطيع البروليتاريون أن يصبحوا سادة القوى الإنتاجية في المجتمع إلا بإلغاء خط الاستيلاء السابق الخاص بهم، وبذلك إلغاء كل أنماط الاستيلاء السابقة أيضاً. ليس لديهم شئ خاص بهم لتأمينه أو تحصينه، رسالتهم هي إلغاء كل التأمينات والضمانات السابقة للملكية الفردية.

فيما يتعلق بالنظرية، لم يكن الانتقال من الرأسمالية إلى الشيوعية – ديكتاتورية البروليتاريا – (كما أشرنا) سوى مد الصراع الطبقي البروليتاري إلى نقطة الانتصار. ومع ذلك، فان الشكل المحدد لهذه الديكتاتورية، لم يكتشفه ماركس أو أي منظر ماركسي آخر، وإنما اكتشفه العمال الثوريون أنفسهم، أولا بواسطة العمال الباريسيين في كوميونة عام 1871 الذين بينوا أنه من الضروري تدمير جهاز الدولة القائم وليس الاستيلاء عليه، والذين أشارت ممارستهم إلى المبادئ الأولى للديمقراطية العمالية – حصول جميع المسئولين على أجور العمال وانتخاب واستدعاء جميع المندوبين واستبدال الجيش النظامي بالعمال المسلحين، الخ.. ثانياً بواسطة عمال بتروجراد (ثم كل روسيا) الذين خلقوا الشكل التنظيمي الفريد في قدرته إلى التعبير عن سلطة العمال – السوفيت.

إن الفضل العظيم للسوفيت هو أنه لم يقم على أساس العامل كمواطن فرد في منطقة جغرافية ما، وإنما على أساس العامل كجزء من جماعة في وحدات الإنتاج، وأنه ينشأ داخل الرأسمالية كتطور طبيعي لصراع العمال ضد الرأسمالية وكانت نقطة انطلاقه التاريخية هي لجنة إضراب موسعة. يجب أن نلاحظ أيضاً أن النظرية الماركسية حول المسألة (الحرب الأهلية في فرنسا، الدولة والثورة، ومقالات جرامشي في جريدة اوردينو نوفو) هي تعميم مباشر لأكثر تجارب الطبقة تقدماً.

ينبغي أن نتحول الآن من برنامج الماركسية إلى أسسها النظرية: الفهم المادي للتاريخ والتحليل النقدي للرأسمالية.

ما هو أساس المادية التاريخية؟ يمكن الاقتراب من السؤال تحليلياً (بتناول مفاهيم ومقولات هذه النظرية) أو تاريخياً (بتتبع تكوينها وتطورها في كتابات ماركس). المنهج التحليلي هو الأكثر أهمية حيث أن التكوين التاريخي لنظرية قد يتضمن كل أنواع العوامل والتحولات العرضية.

فلنبدأ بمسألة المادية في مقابل المثالية. إن المثالية، وهي الاعتقاد بأولوية العقل (الروح، المثل، الله.. الخ) على المادة، والفهم المثالي للتاريخ (التاريخ باعتباره محددا بتطور الأفكار، والوعي، الخ..) لهما أساس مادي. أنه يكمن في تقسيم العمل الذهني واليدوي، وظهور طبقة حاكمة متحررة من العمل اليدوي – أي أنها تحيى من عمل الآخرين.

لا يصبح تقسيم العمل حقيقياً إلا منذ لحظة تقسيم العمل المادي والذهني في نفس الوقت يظهر الشكل الأول من الأيديولوجيين، الكهنة.) ابتداء من هذه اللحظة يستطيع الوعي أن يبالغ في إطراء نفسه بأنه شئ آخر غير الوعي بالممارسة القائمة، وانه يمثل شيئاً حقيقياً دون أم يمثل شيئاً واقعياً، منذ هذا الوقت. يتكون الوعي في الوضع الذي يسمح له بتحرير نفسه من العالم والبدء في تكوين النظرية “النقية” واللاهوت والفلسفة والأخلاق.. الخ.(39)

على العكس من ذلك المادية هي النظرية (الطبيعية) لطبقة منتجة تصارع من اجل تحررها.(40) إلا أننا بالطبع لا نستطيع أن نوحد بين المادية التاريخية والمادية – لقد سبقت المادية الماركسية بأكثر من ألفي سنة، وفي القرن الثامن عشر كانت المادية هي وجهة نظر البرجوازية الصاعدة، ما الذي يفرق المادية البرجوازية عن المادية الماركسية؟ هكذا عبر ماركس عن هذا الفارق:
الخطأ الأساسي لكل نزعة مادية في الماضي (بما في ذلك مادية فورباخ) هو أن الواقع والعالم الحسي كان ينظر إليها فقط على شكل موضوع التأمل وليس كنشاط إنساني ملموس في ميدان العمل، ليس ذاتياً”.(41)

بتعبير آخر: المادية البرجوازية هي مادية ميكانيكية. إنها تعامل الكائنات البشرية على أنهم سلبيون، كأنهم مجرد نتاج للظروف المادية، كأشياء. هي بقيامها بذلك إنما تعكس الوضع الفعلي للرجال والنساء في المجتمع الرأسمالي – العامل كملحق للآلة والعمل كعنصر للإنتاج معادل للعناصر الأخرى (الأرض والآلات، الخ) العمل الحي بوصفه خاضعاً للعمل الميت وجزاً منه، المادية الميكانيكية مع ذلك غير قادرة على الاتساق الكامل، فهي في شكلها المتسق تكون حتمية وجبرية كاملة، والفعل في العالم مستحيل على هذا الأساس. وبالتالي فهي تحتوي دائماً على فقرة استثناء لنفسها خفية بدرجة أو بأخرى، تعيد المثالية الدخول بواسطتها من خلال الباب الخلفي، باعتبارها معرفة أو علم أو أحياناً “إرادة” النخبة:

العقيدة المادية المتعلقة بتغير الظروف والتنشئة، تنسى أن الظروف والتنشئة، تنسى أن الظروف تتغير بواسطة الناس وانه من الضروري تعليم المعلم نفسه لابد لهذه العقيدة إذن أن تقسم المجتمع إلى جزأين أحدهما متفوق على المجتمع.(42)

تغلب ماركس على هذا التناقض من خلال مفهوم الممارسة: “إن اتفاق تغيير الظروف مع النشاط الإنساني، أو التغيير الذاتي، لا يمكن إدراكه وفهمه عقلانياً إلا كممارسة ثورية”(43). لقد كان النموذج، بالنسبة لمفهوم الممارسة هذا، هو العمل الإنساني، الوسيلة التي تشكل وتغير بها الإنسانية الطبيعية، وتخلق نفسها. يقول ماركس إن إنجاز هيجل المتميز:

هو أولاً أن هيجل يستوعب الخلق الذاتي للإنسان كعملية.. وانه يستوعب طبيعة العمل، ويفهم الإنسان الموضوعي (الإنسان الحقيقي لأنه واقعي) كنتيجة لعمله.(44)

ويواصل ماركس قائلاً: “إلا أن العمل كما يفهمه ويعترف به هيجل هو العمل العقلي المجرد”(45). استطاع ماركس أن يتخطي هيجل، وان يوقفه على قدميه ويعترف بالنشاط كنشاط عملي ملموس، باعتباره أساس الإنسان والتاريخ “الحقيقية البسيطة التي أخفيت في الماضي بفعل تضخم الأيديولوجيا”(46) لأنه، وفقط لأنه، رأي في البروليتاريا، أول طبقة منتجين مباشرين، قادرة على أن تحول المجتمع وتصبح سيدته. هذا الفهم لدور العمل والإنتاج يشكل نقطة الانطلاق المنهجية والإمبريقية للنظرية الماركسية في التاريخ. فمنه تم تطوير المفاهيم الماركسية الأساسية “قوى الإنتاج” و “علاقات الإنتاج” و “نمط الإنتاج” التي تبلغ أوجها بدورها في نظرية الثورة الاجتماعية:

في الإنتاج الاجتماعي لحياتهم، يدخل الناس في علاقات محددة، تتسم بالضرورة والاستقلالية عن إرادتهم، علاقات إنتاج تقابل مرحلة محددة في تطور قواهم الإنتاجية المادية، يكون المجموع الكلي لعلاقات الإنتاج هذه، الهيكل الاقتصادي للمجتمع الأساس الحقيقي الذي يقوم عليه بناء فوقي قانوني وسياسي، والذي تقابله أشكال محددة من الوعي الاجتماعي في مرحلة معينة من تطورها، تتناقض قوي الإنتاج المادية مع علاقات الإنتاج القائمة – أو – وهذا مجرد تعبير قانوني عن نفس الشئ مع علاقات الملكية التي كانت قوى الإنتاج تعمل في ظلها في السابق، تتحول هذه العلاقات من أشكال لتطور قوى الإنتاج إلي قيود لها.. هكذا يبدأ عهد الثورة الاجتماعية.(47)

عند هذه النقطة ينبغي أن نزيل خلطا هاما. لقد تعرضت المادية التاريخية كثيرا لتشويه مادي ميكانيكي تفسر جدلية قوى وعلاقات الإنتاج في إطاره كمجرد تضاد بين وسائل الإنتاج التقنية (القوى) ونظام الملكية (العلاقات)، وهو تضاد يحدث بشكل مستقل عن النشاط الإنساني، وبذلك يتم التوصل إلى نظرة حتمية تكنولوجية. في هذا التفسير يتم اختزال معنى مفهومي ماركس الأساسيين، بالنسبة لماركس قوى الإنتاج تعني ليس فقط الوسائل بمعني الأدوات والآلات، الخ.. وإنما القدرة الإنتاجية الإجمالية للمجتمع، بما في ذلك النشاط الإنتاجي للطبقة العاملة، “من بين كل وسائل الإنتاج، القوى الإنتاجية الأعظم هي الطبقة الثورية نفسها”(48). علاقات الملكية من جهة أخرى، ما هي إلا تعبيرا قانونيا عن علاقات الإنتاج، هكذا فإن التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، ليس منفصلا عن الصراع الطبقي وإنما هو الأرضية ذاتها التي ينشأ الأخير على أساسها.

هذا البرهان النظري على أن المادية التاريخية هي التاريخ منظور إليه من وجهة نظر البروليتاريا هو أهم، كما أشرنا، من مسألة كيفية تطوير ماركس للنظرية، ولكن في الواقع هناك توازي شبه تام بين تكوينها التاريخي ومنطقها النظري. إن أول عرض شامل للمادية التاريخية كان الأيديولوجية الألمانية في 1845، وقد سبق هذا العمل مباشرة، نصان هامان هما، المخطوطات الاقتصادية والفلسفية 1844 ومقدمة نقد فلسفة الحق لهيجل. تبدأ مخطوطات 1844 ليس بالفلسفة أو الاغتراب وإنما بالصراع الطبقي، تقول جملة الافتتاح “تحدد الأجور بواسطة الصراع المر بين الرأسمالي والعامل”(49) التحليل الاقتصادي الذي يلي ذلك هو بمعايير ماركس اللاحقة، بدائي، ولكن ماركس يطرحه صراحة من وجهة نظر العامل، انه يهدف إلى إظهار أن:

العامل ينخفض إلى مستوى السلعة، وهي سلعة شديدة البؤس أيضاً، وان بؤس العامل يزداد مع قوة وحجم إنتاجه، وان النتيجة الضرورية للمنافسة هي تراكم رأس المال في أيدي قليلة، وبالتالي إعادة الاحتكار بشكل شديد الفظاعة، وأخيراً إن التفرقة بين الرأسمالي ومالك الأرض، وبين العامل الزراعي والعامل الصناعي، يجب أن تختفي لكي ينقسم المجتمع كله إلى طبقتين، وهي الملاك والعمال الذي لا يمتلكون شيئاً.(50)

في محاولة تفسير هذا الوضع، يحلل ماركس طبيعة عمل العمال. ينتج العمال ثروة الرأسماليين وبؤسهم هم، لأن عملهم مغترب، هكذا يصل ماركس إلى فهم الطابع المزدوج للعمل، العمل باعتباره الوسيلة التي يخلق الناس بها حياتهم وعالمهم، والعمل المغترب باعتباره الوسيلة التي يفسدون بها حياتهم ويخلقون بها عالما يقف فوقهم وضدهم وهو دور مزدوج يحمل ضمنياً إمكانية التحرر الإنساني، مع إلغاء العمل المغترب، وهو بذلك يشير بنقطة انطلاقة وكذلك نتيجة الفهم المادي للتاريخ.

ومع ذلك فإذا رجعنا خطوة أخرى إلى الوراء، إلى مقدمة نقد فلسفة الحق لهيجل (أوائل 1844) فإننا نجد بالفعل ما يبدو بعد ذلك كنتيجة تحليل العمل المغترب ونتيجة المادية التاريخية، نعني الدور الثوري للبروليتاريا: “عندما تعلن البروليتاريا القضاء على النظام الاجتماعي القائم، فإنما تعلن فقط عن سر وجودها، إذ أنها في الواقع القضاء على هذا النظام”(51)، وكما رأينا من قبل فان إدراك ماركس لهذا الدور، كان هو نفسه نتاجاً لخبرته مع حلقات العمال الثوريين في باريس. هكذا فمن الناحية النظرية والحياتية، يمكن تعقب فهم ماركس العام لتاريخ المجتمع إلى أساسه المادي – النضال البروليتاري.

التحليل الماركسي للرأسمالية الذي يشار إليه عادة بالاقتصاد الماركسي، مع انه في الواقع “نقد للاقتصاد السياسي” كان مقصوداً منه إعطاء أساس علمي راسخ للحركة العمالية عن طريق كشف قانون حركة نمط الإنتاج الرأسمالي. من البديهي أن التحليل كله يتم القيام به من وجهة نظر الطبقة العاملة الثورية، فتعميماته الأساسية تتضمن: تفسير لكيفية استغلال العمال كدليل على أن النظام كله قائم على هذا الاستغلال وتوقع أن هذا النظام يجب بالضرورة أن ينهار لأنه قائم على الاستغلال.(52) ولكن لأن هذا الجانب من الماركسية كثيراً ما تم تقديمه على انه (موضوعي “متجرد من القيم”) متجرد من الطبقات، فانه هناك ما يبرر بعض الملاحظات حول تكوين ومنطق نقد ماركس للاقتصاد السياسي. انه بالطبع تطبيق النظرية المادية التاريخية على نمط الإنتاج الرأسمالي، ويجد جذوره – مثل المادية التاريخية – في تحليل العمل(53) – تحليله كعمل مغترب. لا يمكن المبالغة في القول بأن نظرية ماركس في الاغتراب ليست نظرية حول شعور العامل نحو العمل، أو الحالة العامة للوعي الإنساني، وإنما نظرية عمل مغترب، أي عمل يجبر العامل على أداءه لآخر، على بيعه. العمل المغترب هو العمل الأجبر، ليس مجرد حالة ذهنية وإنما واقع اقتصادي(54)، إلا أنه أيضاً واقع اقتصادي لا يمكن إدراكه إلا بالنظر للعمل من وجهة نظر العامل. وبالفعل، فقد كان ماركس أول فيلسوف وأول اقتصادي في تاريخ العالم يحلل عملية العمل من وجهة نظر العامل. يمكن أن نرى مدى مركزية نظرية العمل المغترب بالنسبة للتحليل الماركسي للرأسمالية من اثنين من أطروحات ماركس. أولا أنه “على الرغم من انه يبدو أن الملكية الفردية، هي أساس وسبب العمل المغترب، فإنها في الواقع نتيجة للأخير”(55)، ثانيا أن ما يميز الرأسمالية تحديداً هو أن قوة العمل تصبح سلعة في ظلها.

يوجد طريق نظري طويل بين مخطوطات 1844 ورأس المال وبين العمل المغترب ونظرية فائض القيمة. انه طريق يتحول خلاله النقد العام المبكر للرأسمالية من خلال الجهد المضني، إلى أداة تحليلية دقيقة لكشف جميع آليات الاقتصاد الرأسمالي. إلا أنه خلال هذه العملية لا يتم نسيان أو رفض المفهوم الأصلي. انه يبقي في قلب التحليل. انظر الفقرات التالية:

كل هذه النتائج ناتجة عن أن العامل يتصل بناتج عمله كشئ غريب. حيث من الواضح بناء هذا الافتراض انه كلما زاد العامل من عمله، كلما زادت قوة عالم الأشياء التي يخلقها في مواجهة ذاته واصبح أشد فقرا في حياته الداخلية. وأقل انتماء لنفسه، الأمر مماثل تماماً للدين، كلما زاد ما ينسبه الإنسان من نفسه لله، كلما قل ما يتبقي له في حياته.(56)

كيف يكون الأمر على خلاف هذا، في نمط إنتاج يحيا فيه العامل لتلبية حاجات النمو الذاتي للقيم القائمة، بدلاً من – على العكس من ذلك – أن توجد الثروة المادية لتلبية حاجات تطور العامل. وكما أن الإنسان في العالم الديني، يسيطر عليه نتاج دماغه، كذلك هو في الإنتاج الرأسمالي يسيطر عليه نتاج يده.(57)

في قوانين الاقتصاد السياسي، يتم التعبير عن اغتراب العامل في عمله بالطريقة التالية “كلما بلغ إنتاج العامل أكثر، كلما قل استهلاكه، كلما خلق قيمة أكثر، كلما انخفضت قيمته، كلما ازداد إنتاجه تهذيباً. كلما ازداد العامل فجاجة وتشوها، كلما ازداد الإنتاج تحضراً، كلما ازداد العامل بربرية، كلما أصبح العمل أقوى. كلما ازداد العامل ضعفاً كلما أظهر العمل ذكاء أكثر، كلما انخفض ذكاء العامل وأصبح عبداً للطبيعة.(58)

… جميع طرق زيادة الإنتاجية الاجتماعية للعمل، داخل النظام الرأسمالي، تأتي على حساب العامل الفرد. جميع وسائل تنمية الإنتاج تتحول إلى وسائل للسيطرة على المنتجين واستغلالهم، وهي تجعل من العامل إنساناً مبتوراً وتنخفض به إلى مستوى ملحق بالآلة وتدمر كلما يتبقى من جاذبية في عمله، وتحوله إلى كدح مكروه، كما يجعله في اغتراب عن الإمكانيات الثقافية لعملية العمل، بمقدار ما يندمج العلم في هذه العملية كقوة مستقلة، وهي تشوه الظروف التي يعمل في ظلها وتخضعه أثناء عملية العمل لاستبداد كريه جداً لحقارته، وهي تحول حياته بكاملها إلى وقت عمل، وتطرح زوجته وأولاده تحت عجلات آلة الكون الخاصة برأس المال.(59)

الفقرات (1)، (3) من مخطوطات 1844 و(2)، (4) من رأس المال بعد عشرين سنة الفكرة الأساسية نفسها.. بل وأحياناً بنفس اللغة تقريباً. وما هذه الا بعض الفقرات العديدة التي يمكن اقتباسها من جميع أعمال ماركس النظرية، من الايدولوجية الألمانية إلى نظريات فائض القيمة.(60)

وأخيراً، بعض الملاحظات حول النظرية الماركسية في الأزمة، وخاصة الجزء الأكثر أهمية فيها، انخفاض معدل الربح. إن ميل معدل الربح للانخفاض ليس أطروحة فردية منعزلة يمكن تجريدها من باقي فكر ماركس، وإنما هو نقطة التقاء لكل نظرياته الكبرى، انه اشتقاق مباشر من نظرية فائض القيمة التي تقول أن مصدر الربح هو وقت العمل غير المدفوع للعمال، ومن أطروحة خضوع العمل الحي بشكل متصاعد – في ظل الرأسمالية – لسيطرة العمل الميت المتراكم (وهي فكرة موجودة منذ 1844). في الوقت نفسه هو التعبير الاقتصادي الملموس عن النزاع بين قوى وعلاقات الإنتاج – إثبات أن علاقات الإنتاج الرأسمالية أصبحت قيدا على قوى الإنتاج، وان “العقبة الحقيقية أمام الإنتاج الرأسمالي هي رأس المال ذاته”(61)، فضلاً عن ذلك، وهكذا يعيدنا إلى نقطة البداية، لم يكن من الممكن صياغة هذه النظرية إلا من وجهة نظر البروليتاريا، فقد لاحظ الاقتصاديون البرجوازيون الكلاسيكيون ظاهرة انخفاض معدل الربح ولكنهم عجزوا عن تفسيرها، حيث أن قيامهم بذلك كان يقتضي الاعتراف بالطابع المحدد تاريخياً والانتقالي للرأسمالية(62).

بالنسبة لبعض “الماركسيين” يبدو أن تحليل ماركس لتناقضات الرأسمالية منفصل عن التزامه بالثورة البروليتارية، ومن أنصار هذا الرأي الحاليين لوسيو كوليتي(63)، إلا أن الفكرة تعود إلى الأممية الثانية هكذا فقد كتب رودلف هلفردنج أن “الاعتراف بضرورة ما أمر مختلف تماماً على أن يضع المرء نفسه في خدمة هذه الضرورة”(64) مما يؤدي إلى استنتاج أن الانتقال مما هو واقع من انهيار رأسمالي إلى ما ينبغي من اشتراكية، يقتضي التزاماً أخلاقياً إضافياً (عادة ما يؤخذ من المبادئ الأخلاقية للفيلسوف الألماني كانت)، إلا أن هلفردنج قد قلب المنطق الحقيقي للماركسية. إن الالتزام نحو البروليتاريا هو الذي جعل كشف تناقضات الرأسمالية ممكناً وقد نبع ما ينبغي من هذا الالتزام من الوجود الخارجي السابق عليه للبروليتاريا التي كانت قد بدأت بالفعل صراعها من أجل التحرر الذاتي.

لنوجز ما تقدم كله: نظرياً، تبدو الثورة البروليتاريا كنتيجة لنظريات المادية التاريخية، وفائض القيمة، الخ.. ولكنها في الواقع أساس هذه النظريات أيضاً. التأكيد الامبريقي لهذه الأطروحة يوجد في واقع أن ثورات العمال عادة ما تبدأ تلقائياً – باريس 1848، 1871، بتروغراد 1905، 1917 ألمانيا 1918، أسبانيا 1936 المجر 1956 فرنسا 1968 الخ.. دور الماركسية ليس خلق أو إطلاق الثورة وإنما إرشادها للنصر. نحن الآن في وضع يسمح باستيعاب الوحدة الأساسية للماركسية وطابعها التطوري – على أساس الصراع البروليتاري ضد رأس المال. هاتان القوتان الاجتماعيتان العظيمتان المنخرطتان في المعركة، تتغيران وتتطوران باستمرار وهو ما يحدث أيضاً لتواز القوى بينها، ولتفاعلها مع الطبقات الأخرى، الماركسية أيضاً يجب أن تتغير وتتطور إذن، ولكنها يجب أن تفعل ذلك دون أن تتحول عن وجهة نظر البروليتاريا، فهي عندما تجري هذا التحول تتوقف عن أن تكون ماركسية، لقد وصف لينين الماركسية ذات مرة بأنها كتلة من الصلب. إن سلامة هذا المجاز ذات طابع محدد بصرامة، إلا أنه أفضل بكثير من الرأي الشائع القائل بأن الماركسية تتكون من أجزاء منفصلة يمكن طرحها جانبا واستبدالها كما يحلو لنا. الأكثر دقة هو قول لينين: “إن ماركس أرسى أحجار الزاوية للعلم الذي ينبغي للاشتراكيين أن يطوروه في كل الاتجاهات إذا أرادوا ألا يتخلفوا عن الأحداث”(65)، انه لمن طبيعة الاتجاهات المراجعة أن تحاول إزاحة أحجار الزاوية تلك (وهي ليست تعسفية وإنما تعبيرات نظرية عن الوجود الاجتماعي للبروليتاريا) وبذلك تتحول عن وجهة نظر البروليتاريا إلى وجهة نظر طبقة أخرى.




3- الجزء الثاني: تحولات الماركسية
لعله قد بات واضحاً بالفعل – بالمعيار الذي تم إقراره في هذا المقال – أن كثيراً من الأيديولوجيين والأنظمة التي ادعت الماركسية في المائة سنة الأخيرة ليست ماركسية على الإطلاق. وقبل الشروع في البرهنة على ذلك فيما يتعلق بأمثلة محددة، من الضروري أن نبدي بعض الملاحظات الأولية حول الموقع الاجتماعي للبروليتاريا ووعيها في ظل الرأسمالية.

تتجاوز البروليتاريا الرأسمالية بالإمكانيات الكامنة لديها، ولكن طالما استمرت الرأسمالية فإنها (البروليتاريا) تظل طبقة مضطهدة ومستغلة في الأوقات العادية، بالتالي تسيطر الأيديولوجية البرجوازية على وعي غالبية العمال (الأفكار السائدة هي أفكار الطبقة الحاكمة) ولكن العمال في نفس الوقت مضطرون بحكم وضعهم الاقتصادي لمقاومة هجمات رأس المال والكفاح لتحقيق تحسينات في أوضاعهم حتى عندما لا يكونون مستعدين لتحدي النظام ككل. بما يتمشى مع هذا التناقض، تنشأ أيديولوجيات هجينة تجمع عناصر من الأيديولوجية البرجوازية وعناصر من الأيديولوجية الاشتراكية.
إلا أن هذه الأيديولوجيات الهجينة لها أيضاً أساسها المادي المتفرد في الطبقة التي يتسم وضعها الاجتماعي ذاته بأنه جزء برجوازي وجزء بروليتاري ألا وهو الفئة المتوسطة المعروفة في الماركسية عادة بالبرجوازية الصغيرة. إن مصطلح البرجوازية الصغيرة، لها صلاحية عامة ولكن لا ينبغي أن يسمح لها بطمس واقع أنها في العالم الحديث، تغطي عدداً من الشرائح الاجتماعية التي تختلف فيما بينها بشدة فيما يتعلق بظروف وجودها – أهم هذه الشرائح هي: أ) البرجوازية الصغيرة القديمة المكونة من أصحاب الدكاكين الصغيرة وغيرهم من أصحاب صغار الأعمال. ب) الطبقة المتوسطة الجديدة المكونة من الموظفين ذوي المرتبات الذين يوجدون في مواقـع السلطة فوق الطبقة العاملة. ج) بيروقراطية الحركة النقابية والعمالية. د) الفلاحون (في أغلب البلاد).

إن هذه المجموعات جميعاً تحيط بالبروليتاريا (أنهم على اتصال يومي بها أوثق من اتصال البرجوازية بها) وتمارس تأثيراً على وعيها. إلا أن كلاً من هذه المجموعات تميل لتوليد الأيديولوجية البرجوازية الصغيرة الخاصة بها وممارسة نوعها الخاص من التأثير على العمال، يوجد وعي البروليتاريا إذن، ومعه النظرية الماركسية، في حالة حصار دائم، وقد كان تاريخ الماركسية تاريخ معارك مع الأيديولوجية الهجينة للبرجوازية الصغيرة: ومن هنا مجادلات ماركس ضد برودون وباكونين، وانجلز ضد دوهرنج، وبليخانوف ولينين ضد الشعبويون وهكذا.

إن الإشكالية التي يتناولها هذا المقال، مع ذلك هي النزاعات داخل الماركسية أو بالأحرى بين النزعات النظرية والسياسية التي تدعي أنها ماركسية. السؤال الذي ينبغي طرحه هو ما إذا كانت أكثر هذه النزاعات أهمية هي أيضاً صراعات بين وجهة نظر البروليتاريا ووجهة نظر البرجوازية الصغيرة أو طبقات أخرى. وإذا كانت هذه ظاهرة يمكن إثباتها، فإنها تحتاج أيضاً إلى تفسير.

لقد اقترح لينين أن “جدلية التاريخ تجعل الانتصار النظري للماركسية، يجبر أعداءها على التنكر كماركسيين”(66)، ولكن على الرغم من أن هذا التفسير يحتوي على عنصر حقيقة هام، فانه مبالغ بعض الشيء في التآمرية، لعله أدق تاريخياً أن نقترح إن العملية عادة ما تجرى وفقاً للطريقة الآتية: يتوصل زعماء أو حركات إلى تصور للثورة البروليتارية ويتبنون الماركسية، وبعد ذلك لأسباب عديدة (في التحليل الأخير ضغط الرأسمالية) يتخلون عن هذا التصور ولكن يحتفظون باسم ولغة الماركسية، إما من خلال خداع الذات أو رغبة في الحفاظ على أوراق اعتمادهم الراديكالية أو الاثنين معا – في الوقت الذي يحولون فيه مضمونها الحقيقي. متى حدثت هذه العملية يتم نقل هذه الماركسية المحولة، لزعماء وحركات أخرى لم يكن لها أي صلة في أي وقت بالثورة البروليتارية(67)، إلا إن هذا تنبؤ بنتائج ينبغي البرهنة عليها أولا بالتحليل التاريخي. من حيث القوة المادية وعدد المناصرين، سيطرت ثلاث نزعات على تاريخ الماركسية منذ ماركس: 1) الاشتراكية الديمقراطية للأممية الثانية. 2) الستالينية. 3) وطنية العالم الثالث. من الواضح أننا لا نستطيع داخل حدود هذا المقال تقديم تحليل شامل لأي من هذه النزعات، دع عنك الثلاث جميعاً، سأتناول كل منها بالتالي من حيث أهم سمات أبرز ممثليها.

1 – الكاوتسكية
أبرز أحزاب الأممية الثانية كان الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني. إن الحزب الذي أسس في عام 1875 في مؤتمر جوته، والذي وحد المؤيدين الألمان لماركس مع أتباع لاسال(68) قد نما من خلال فترة شبه شرعية (قوانين بسمارك ضد الاشتراكية) إلى وضع قوة ذات أهمية داخل الدولة الألمانية، مع نهاية القرن التاسع عشر. كانت هذه فترة تقدم عام للرأسمالية الألمانية أتاحت للحركة العمالية النامية كسب تنازلات وتحسينات في أوضاعها، كانت هذه المكاسب بالطبع نتيجة صراع – الرأسمالية لا تعطي أي شئ دون معارك – إلا أنها لم تقتضي مواجهة شاملة، أو معركة حياة أو موت طبقياً (في الواقع كان مستوى الاضرابات في ألمانيا منخفضاً جداً)(69). إجمالا كانت فترة سلام اجتماعي نسب. وانتهزت الطبقة العاملة الألمانية هذه الفرصة لبناء الحزب الاشتراكي الأوسع والأفضل تنظيما في العالم – حزب له مئات الآلاف من الأعضاء ومئات المنظمات الحزبية وأكثر من ثمانين جريدة يومية بالإضافة إلى العديد من المنظمات الاجتماعية والثقافية.

منذ أواخر التسعينات من القرن التاسع عشر انقسم هذا الحزب إلى أغلبية ماركسية أرثوذكسية وأقلية مراجعة (متنامية) ادعت الأخيرة بزعامة إدوارد برنشتاين، إن الرأسمالية على العكس من النظرية الماركسية، كانت تجاوز تناقضاتها بالتدريج وان الحزب الاشتراكي الديمقراطي بالتالي لا يستطيع ولا ينبغي أن يكون أكثر من حزب ديمقراطي للإصلاح الاجتماعي، وحيث أن المراجعين كانوا بدرجة أو بأخرى معادين للماركسية صراحة فإننا لا نعني بهم بشكل خاص في هذا المقال، انه الجناح الأرثوذكسي الذي يعنينا هنا. لقد الزم الحزب الاشتراكي الديمقراطي نفسه بالماركسية في مؤتمره في إيرفورت في 1891، عندما أقر برنامج ايرفورت الذي اعد مسودته كارل كاوتسكي الذي كان يلقب ببابا الماركسية. لقد ظل هذا البرنامج بالإضافة إلى التعليق الذي كتبه كاوتسكي أيضاً(70)، الطرح الأساسي حول الرؤية العالمية للحركة، كما ظل كاوتسكي ابرز منظريها حتى الحرب العالمية الأولي. لاشك أن برنامج ايرفورت كان مقبولا بوجه عام، كبيان للماركسية الأرثوذكسية، القسم الأول منه هو “تحليل للمجتمع الحاضر وتطوره”(71)، ويتكون من عرض مكثف ومبسط لنظرية التنمية الرأسمالية التي وضع ماركس خطوطها العامة في البيان الشيوعي وينتهي بأطروحة “أن الملكية الفردية لوسائل الإنتاج أصبحت غير منسجمة مع استخدامها الفعال وتطورها الكامل”(72)، ويطالب القسم الثاني بحل هذا التناقض عن طريق “تحويل الملكية الفردية إلى ملكية جماعية وتحويل الإنتاج السلعي إلى إنتاج اشتراكي يتم لمصلحة وبواسطة المجتمع”(73)، ويتناول القسم الثالث “الوسائل التي تؤدي لتحقيق هذه الأهداف”(74) وهي الصرع الطبقي للبروليتاريا، أما عن طبيعة هذا الصراع فالبرنامج يقول:
صراع الطبقة العاملة ضد الاستغلال الرأسمالية هو بالضرورة صراع سياسي، لا تستطيع الطبقة العاملة تطوير تنظيمها الاقتصادي وشن معاركها الاقتصادية بدون حقوق سياسية أنها لا تستطيع إنجاز نقل وسائل الإنتاج للمجتمع ككل دون الحصول أولاً على السلطة السياسية.(75)

مازلنا هنا على أرض الأرثوذكسية. فقد أصر ماركس مرارا وتكرارا على أن صراع طبقة ضد طبقة هو صراع سياسي، وان “الاستيلاء على السلطة أصبح بالتالي الواجب العظيم للطبقات العاملة”(76)، ولكن ما هو مضمون هذا الصراع السياسي، وهذا الاستيلاء على السلطة السياسية؟ بالنسبة لماركس كما رأينا، كان هذا المضمون هو تدمير الدولة البرجوازية وإقامة ديكتاتورية البروليتاريا – كانت كوميونة باريس المثل الملموس لها، أما المقصود بالنسبة لكاوتسكي والحزب الاشتراكي الديمقراطي فهو يظهر بوضوح في تعليق كاوتسكي على البرنامج – صراع برلماني حصرا.. للبرهنة على درجة اختصار إستراتيجية الحزب الاشتراكي الديمقراطي على الناحية البرلمانية، نحتاج للأسف لاقتباس طويل:

مثل كل طبقة أخرى، يجب أن تسعى الطبقة العاملة للتأثير على سلطات الدولة لتثنيها نحو أغراضها – الرأسماليون العظام يستطيعون التأثير على الحكام والمشرعين مباشرة، ولكن العمال يستطيعون ذلك فقط من خلال النشاط البرلماني بانتخاب ممثلين في البرلمان يستطيع العمال بالتالي، ممارسة تأثيرهم على السلطات الحكومية.

إن نضال جميع الطبقات التي تعتمد على النشاط التشريعي في الحصول على التأثير السياسي يتجه في الدولة الحديثة، نحو زيادة قوة البرلمان من ناحية، وزيادة تأثيرهم هم داخل البرلمان من ناحية أخرى. تعتمد قوة البرلمان على طاقة وشجاعة الطبقات التي تقف خلفه وطاقة وشجاعة الطبقات التي يفرض إرادته عليها، يعتمد تأثير طبقة داخل البرلمان، أولا على طبيعة القانون الانتخابي القائم، وهو يعتمد بالإضافة إلى ذلك على تأثير الطبقة المعنية بين الناخبين وأخيراً مدى استعدادها للعمل البرلماني..

البروليتاريا مع ذلك في وضع ملائم للنشاط البرلماني.. نقاباتهم هي مدرسة برلمانية ممتازة بالنسبة لهم، فهي تتيح فرصا للتدرب على القانون البرلماني والخطب الهامة.. وهي تجد فضلا عن ذلك في صفوفها عددا متزايدا من الأشخاص لتمثيلها في القاعات التشريعية.

متى انخرطت البروليتاريا في النشاط الانتخابي كطبقة واعية بذاتها، تبدأ طبيعة الحياة البرلمانية في التغير. إنها تتوقف عن أن تكون مجرد أداة في أيدي البرجوازية. إن هذه المشاركة من جانب البروليتاريا أثبتت نفسها كأكثر الوسائل فعالية لهز أقسام البروليتاريا التي كانت في السابق غير مكترثة، وإعطائها الأمل والثقة. إنها أقوى رافعة يمكن استخدامها لإخراج البروليتاريا من انحطاطها الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي – البروليتاريا بالتالي ليست لديها أي سبب لعدم الثقة في النشاط البرلماني.(77)

تم إقرار هذا التوجه البرلماني كرد فعل للانتصارات الانتخابية الباهرة للحزب الاشتراكي الديمقراطي، فقد ارتفع عدد الأصوات التي حصل عليها من 550.000 (9.7%) في 1884 إلى 1427000 (19.7) في 1890 – وقد مثل هذا التوجه تحولا جازما إلى اليمين عن المواقف السابقة. كتب كاوتسكي في 1881 أن الاشتراكية الديمقراطية ليس لديها أوهام عن إمكانية إنجازها لأهدافها مباشرة من خلال الانتخابات، من خلال الطريق البرلمان، وان الخطوة الأولى في الثورة القادمة ستكون “تدمير الدولة البرجوازية”(78). ولكن منذ تسعينيات القرن التاسع عشر فصاعدا، ظل الطريق البرلماني الإستراتيجية المسيطرة لكاوتسكي والحزب الاشتراكي الديمقراطي معا، هكذا، فعندما يبدو كاوتكسي أثناء المجادلات مع المراجعين، كأنه المدافع عن الثورة فهو دائماً يدافع عن تصور “الثورة البرلمانية” أي أن حزب العمال سيستمر في المعارضة – رافضاً أية ائتلافات أو المشاركة في حكومات برجوازية، حتى يأتي ذلك الوقت الذي يكون فيه، قد حقق أغلبية في البرلمان وشكل الحكومة، وعندئذ يستخدم موقعه لتشريع التحول إلى الاشتراكية.(79) كون أن هذه الإستراتيجية تضمنت الاستيلاء على، وليس تدمير، الدولة الرأسمالية قد أكده كاوتسكي نفسه في سجاله ضد باكونين عام 1912:

هدف صراعنا السياسي يظل كما هو حتى الآن: الاستيلاء على سلطة الدولة من خلال الحصول على أغلبية في البرلمان، ورفع البرلمان إلى وضع قيادي داخل الدولة بالقطع ليس تدمير سلطة الدولة.(80)
من بين دعامات الإستراتيجية البرلمانية كان النظر للانتقال إلى الاشتراكية على انه النتيجة الحتمية بشكل أو بآخر للتطور الاقتصادي، نمو الرأسمالية يعني نمو البروليتاريا، متى نمت البروليتاريا سيرتفع وعيها، وسيعنى هذا أصوات أكثر للاشتراكية الديمقراطية، حتى ذلك الوقت الذي ستوجد فيه أغلبية كأسلحة للاشتراكية. كتب كاوتسكي “أن التطور الاقتصادي.. سيؤدي بشكل طبيعي لتحقيق هذا الهدف”(81)، ستسير العملية كلها بسلاسة وحتمية وبلا صراعات حياة أو موت، بشرط فقط ألا تقع قيادة الحزب في المغامرة وتثير معركة سابقة لأوانها، النشاط الفعلي الوحيد المطلوب هو التنظيم والتعليم:

بناء التنظيم وكسب كل مواقع التي نستطيع كسبها والاحتفاظ بها بشكل آمن من خلال قوتنا الذاتية، ودراسة الدولة والمجتمع، وتعليم الجماهير، لا نستطيع بشكل واعي ومنظم، أن نضع أهدافاً أخرى لأنفسنا أو لمنظماتنا.(82)

السؤال الذي يجب أن نطرحه الآن وفقاً للمنهج الذي تم إقراره في الجزء الأول من هذا المقال هو ماذا كان الأساس الاجتماعي لإيديولوجية التوقع السلبي هذه؟ بمعني من المعاني كانت القاعدة الاجتماعية هي فترة تخفيف حدة التوتر بين البروليتاريا والبرجوازية والتي رافقت ازدهار وتقدم رأس المال الألماني في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. في الوقت نفسه مع ذلك عبرت هذه الأيديولوجية داخل هذه الحالة العامة، لا عن مصالح الطبقة العاملة وإنما عن مصالح الشريحة الاجتماعية التي كان وجودها ذاته نتاج هذه الهدنة الاجتماعية، ألا وهي البيروقراطية الواسعة للحزب الاشتراكي والنقابات – جيش الموظفين ذوي الامتيازات – التي نمت لتدير منظماتها الجديدة. أفضل ما يوضح هذا هو موقف هؤلاء الزعماء النقابيين والحزبيين من تلك المسألة الجوهرية في الصراع الطبقي: الإضراب العام، وهي مسألة أصبحت ملحة في ألمانية كنتيجة لدور الإضراب العام في ثورة 1905 الروسية(83). وقف الزعماء النقابيون ضد الإضراب العام بتصلب وفي مؤتمر كولون للنقابات العمالية في مايو 1905 اتخذوا قراراً يدينه إلا أن الحزب في جينيا في سبتمبر 1905 مرر قرارا يوافق على الإضراب العام من حيث المبدأ دون تحديد ما ينبغي عمله إزاءه. وقد تطلب بعد ذلك اندلاع حركة جماهيرية في ساكسوني من أجل توسيع حق الانتخابات حل هذا التناقض عملياً:

في أول فبراير 1906 عقد مؤتمرا سريا لمسؤولي الحزب والنقابات كشف هذا الاجتماع سريعاً توازن القوى الحقيقي بين المنظمتين، استسلم الحزب للنقابات ملزماً نفسه بمحاولة استخدام قوته لمنع الإضراب العام.(84)

وقد تلا ذلك حل وسط في مؤتمر الحزب في مانهايم في سبتمبر 1906 حيث توصلت النقابات والحزب لاتفاق على أساس “الموافقة النظرية المشتركة – على إمكانية اللجوء للإضراب العام في المستقبل غير المحدد ولكن فقط بموافقة زعماء وأعضاء النقابات”(85). كان دور كاوتسكي في هذه العملية هو دور ناقد يساري للزعماء النقابيين، وقد انتقد رؤيتهم الاقتصادية الضيقة – وطالب بسيادة الروح الاشتراكية الديمقراطية في النقابات إلا انه رفض القيام بقطع معهم وهاجم في الوقت نفسه دعاة الإضراب العام الحقيقيين مثل روزا لوكمسبورج، على أنهم “ملفقون للثورة”(86). عندما واجه الاختيار ضحى كاوتسكي بمتطلبات الصراع الطبقي من أجل وحدة المنظمات.

إن بيروقراطية الحركة العمالية هي جزء من البرجوازية الصغيرة، أنها تقف بين العمل ورأس المال ودورها الموضوعي هو دور الوسيط بين الطبقات، فهي بالمقارنة بجماهير العمال، متميزة فيما يتعلق بالدخل وضمان الوظيفة وظروف العمل وأسلوب الحياة إلا أن موقعها وبالتالي سلوكها السياسي مختلف عن البرجوازية الصغيرة التقليدية المكونة من صغار رجال الأعمال، وأصحاب الدكاكين الذين يكونون، وباعتبارهم أصحاب ملكيات فردية، في الأوقات العادية تحت الهيمنة الكاملة للبرجوازية الكبيرة. أما في أوقات الأزمات عندما يكونون معتصرين بين العمل ورأس المال يمكن أن ينجذبوا خلف الطبقة العاملة بواسطة حركة ثورية قوية تظهر عزمها وقدرتها على حل أزمة الرأسمالية. أما في غياب مثل هذه الحركة يمكن أن يذهبوا إلى أقصى اليمين ويكونوا القاعدة الجماهيرية للفاشية. في المقابل فان البيروقراطية العمالية مربوطة تنظيمياً بالطبقة العاملة وبالتالي لا تستطيع كشريحة اجتماعية أن تندفع إلى نفس البعد في اليمينية (وهذا هو السبب في أن نظرية “الفاشية الاجتماعية” مجرد لغو سخيف). إلا أنها في الوقت نفسه تتمتع بعلاقة بالطبقة الحاكمة أوثق كثيراً من علاقة صحاب العمل الصغير بالأخيرة فدورها كممثلة (برلمانية أو نقابية) يجعلها على اتصال يومي مع الرأسماليين ودولتهم، وهي تعتمد في التأييد الجماهيري لها على التنازلات التي تستطيع الحصول عليها منهم وكونها مهددة بالمثل بالفاشية التي ستدمر منظماتها والثورة التي ستدمر دورها التفاوضي يجعلها محافظة بعمق. إنها تخشى قبل كل شئ العمل الجماهيري الذي قد يخرج من اليد ويصيب المنظمات بالاضطراب ويثير هجوماً من الطبقة الحاكمة ويقوض عملها الحساس في الموازاة بين الطبقات. إن حاجتها السياسية هي لأيديولوجية تجمع بين الاشتراكية قولا والسلبية والحلول الوسط فعلا، فهي تحتاج الطبقة العاملة كجيش يمكن دفعه للمعركة للحصول على تنازلات تبقى بدورها على تأييد المنظمات إلا أنها تحتاج الطبقة العاملة تحت سيطرتها. لقد ناسبت أيديولوجية الاشتراكية الديمقراطية الألمانية هذه الحاجات كأنها فصلت لها، كانت ماركسية كاوتسكي نظاماً نظرياً كيف نفسه في كل القضايا لحاجات البيروقراطية.

كان هذا صحيحاً حتى على مستوى الفلسفة. فالمادية الميكانيكية، وهي الرؤية الفلسفية المميزة لكاوتسكي والأممية الثانية ككل، هي كما بينا موقف برجوازي في الأساس، إنها تعامل الطبقة العاملة كمجرد نتاج سلبي للظروف المادية، فهي تستبعد الدور الثوري النشط للعمال وللحزب خاصة.(87)
ومتى تم فهم هذا الأساس الاجتماعي لماركسية الأممية الثانية (وما كان صحيحاً بالنسبة لكاوتسكي والحزب الاشتراكي الديمقراطي كان صحيحاً أيضاً بل وأصح بالنسبة لأغلب الأحزاب الاشتراكية الأخرى)، فان الاستسلام للشوفينية في الحرب العالمية الأولى يصبح مفهوماً. فمن ناحية كانت البيروقراطيات المتعددة قد أصبح لها مصلحة خاصة في ازدهار رؤوس الأموال الوطنية وقوتها الإمبريالية. كلما زاد هذا الازدهار كلما سهل عليهم التفاوض على التنازلات. ومن ناحية أخرى لم يكن في استطاعتهم المخاطرة باتخاذ موقف غير شعبي قد يعرض للخطر شرعيتهم ومنظماتهم وتأييدهم، هكذا في أغسطس 1914 كان تصويت الحزب الاشتراكي الديمقراطي لاعتمادات الحرب خيانة للشعارات الأممية والمعادية للحرب في السنوات السابقة، إلا انه كان أيضاً استمرارا وتتويجا لممارسة سياسية ثابتة.(88)

أن وصف الكاوتسكية بأنها أحد أشكال الماركسية أو أحد جوانب التراث الماركسي هو خلط بين الشكل والمضمون. فمن ناحية المضمون كانت نظريته طبقة أخرى وكان برنشتاين المعادي للماركسية وكاوتسكي “الماركسي” الأرثوذكسي أقرب جدا لبعضهما البعض مما كان أيا منهما بالنسبة لنظرية ماركس الثورية. انهما لم يختلفا حول الممارسة السياسة التي ينبغي القيام بها وإنما حول الوصف الذي ينبغي وصفها به. سنترك الكلمة الأخيرة لكاوتسكي نفسه في نعيه لبرنشتاين عام 1932 كتب أن سجالاتهم عند نهاية القرن كانت مجرد حادث عرضي وانهما وقفا معا أثناء الحرب العالمية وفيما تلا ذلك “تبنيا دائماً نفس وجهة النظر فيما يتعلق بجميع قضايا الحرب والثورة وتطور ألمانيا والعالم”(89).

2 – الستالينية
كانت نقطة انطلاق الستالينية مختلفة جداً عن تلك الخاصة بالكاوتسكية. لقد ظهرت الستالينية داخل الحزب البلشفي في السنوات التالية للحرب الأهلية، وصعدت للقمة داخل الاتحاد السوفيتي خلال صراع مرير داخل الحزب في العشرينيات، وأخيراً حققت السيطرة المطلقة في 28 – 1929. إن نقطة البداية إذاً لتطور الستالينية كانت اللينينية، وهي تطور الماركسية الذي عبر عن وأرشد إلى النصر ثورة العمال في أكتوبر 1917. وأهم خصائص اللينينية هي الصلابة الثورية، والأممية الحادة، وتحليل الإمبريالية والنضال ضدها والإصرار على تدمير الدولة البرجوازية، بواسطة السلطة العمالية القائمة على السوفييتات، ومفهوم الحزب كتنظيم طليعي تدخلي. إلا أن الحالة المادية التي ولدت الستالينية في ظلها كانت تقريباً على عكس تلك المعبر عنها في نقطة بدايتها النظرية. فالطبقة العاملة الروسية، التي كانت في 1917 قد وصلت إلى أعلى مستوى من الوعي والصراع الثوري شهده العالم حتى ذلك الوقت، هذه الطبقة كانت قد توقفت عن الوجود فعلياً بحلول عام 1921 أثناء الحرب الأهلية، كانت الغالبية الواسعة من أكثر العمال نضالية ووعياً سياسياً قد قتلت في المعارك أو رفت إلى وضع مسئولي الدولة، في ظل الأثر المركب للحرب الأهلية، والثورة نفسها والحرب العالمية التي سبقتها، كان الاقتصاد الروسي قد انهار تماماً وانخفض إجمالي الإنتاج الصناعي إلى 31% عن مستواه عام 1913 والإنتاج الصناعي واسع المدى إلى 21% وإنتاج الصلب إلى 4.7% وأصبح نظام المواصلات خرابا، كما احتدمت الأوبئة والمجاعة، وانخفض مجموع العمال الصناعيين من حوالي ثلاثة ملايين في 1917 إلى مليون وربع في 1921، وكان الباقون قد أنهكوا سياسياً. وكما ذكر لينين في 1921:

فقدت البروليتاريا الصناعية في بلادنا وضعها الطبقي، بسبب الحرب والفقر المدقع والخراب،، أي أنها زحزحت من أخدودها الطبقي وتوقفت عن الوجود كبروليتاريا.(90)

وجد الحزب البلشفي نفسه معلقا في الهواء، لكي يدير أمور الدولة كان عليه أن يأخذ ويستخدم جيشاً واسعاً من الموظفين القيصريين، ورغم إرادته “تبقرط” هو نفسه. إن جوهر البيروقراطية هو أساساً هرم من الموظفين غير الخاضعين للرقابة الشعبية من أسفل. وقد كانت في روسيا، القوى الاجتماعية التي اعتمد علهيا الماركسيون (خاصة لينين) لمنع نمو البيروقراطية وهي طبقة عاملة ثورية نشطة كانت قد قطعت من تحت أقدام الحزب. في هذا الوضع، كان من المستحيل تنفيذ البرنامج الماركسي بشكل خالص.
كان من الممكن لفترة القيام بعملية تماسك اعتمادا على الالتزام الاشتراكي الذي اشتد لدى الحرس البلشفي القديم، والتشبث بالأماني الثورية مع القيام بالتنازلات العملية الضرورية (مثل السياسة الاقتصادية الجديدة) وانتظار المعونة من الثورة العمالية. في الجوهر، كان هذا هو الخط الذي سار فيه لينين، إلا أن فشل الثورة العالمية (وقد فشل بالفعل) طرح اختيار صعباً للغاية. إما الاستمرار في الإخلاص لنظرية وهدف الثورة البروليتارية مع إمكانية فقدان السلطة في روسيا أو التشبث بالسلطة والتخلي عن الهدف والنظرية. كان الوضع شديد التعقيد ولم يره المشاركون بهذا الوضوح ولكن في الأساس كانت التروتسكية نتاج الخيار الأول والستالينية نتاج الخيار الثاني.(91)
ولكن الستالينية بالطبع لم تتخل عن اللينينية أو الماركسية بشكل علني، ومن أجل أن تحتفظ بشذا ومكانة اللينينية، كان على الستالينية أن تقوم بعمليتين منفصلتين: أولاً، أن تحول الماركسية اللينينية من نظرية متطورة ذات توجه عملي إلى دوجما ثابتة، معادلة لديانة دولة. يظهر طموح ستالين في هذا الاتجاه بوضوح في القسم اللينيني الذي ألقاه بعد وفاة لينين بقليل:

عندما تركنا الرفيق لينين، أوصانا أن نمسك عالياً لقب عضوية الحزب العظيم ونحتفظ به نقياً، ونحن نعاهدك يا رفيق لينين، أننا سنتشرف بتنفيذ وصيتك هذه.. عندما تركنا الرفيق لينين، أوصانا أن نحرس وحدة حزبنا مثل عيننا، نعاهدك يا رفيق لينين أننا سنتشرف بتنفيذ هذه الوصية أيضاً.. عندما تركنا الرفيق لينين، أوصانا أن نحرس ونقوي ديكتاتورية البروليتاريا.. نعاهدك يا رفيق لينين أننا لن نبخل بجهد في التشرف بتنفيذ هذه الوصية أيضاً.(92)

عبر عن هذه النزعة أيضاً كتاب ستالين أسس اللينينية، وهو تقنين متصلب لمبادئ لينين والكتلة الضخمة من النصوص “الماركسية”، والتعليقات الأكاديمية السوفيتية الرسمية التي استمرت في التدفق من دور نشر الحزب. بهذا الشكل انفصلت الماركسية الستالينية تماماً عن ممارسة الطبقة العاملة وأصبحت بالتالي ميتة تماماً (ليس صدفة أنه باستثناء المعارضين، لم يظهر مفكر ماركسي واحد ذو قدر رفيع في روسيا الستالينية أو روسيا ما بعد ستالين) أما وهي لم تعد مهتمة بتغيير الواقع، فقد أصبحت وظيفتها هي إخفاءه. أصبحت الماركسية الستالينية أيديولوجية بمعنى الكلمة، إذا كان ستالين قد أراد لهذا الغرض أن يبقي اللينينية كما هي، محنطة مثل جسد لينين في ضريحه الفخم، فانه على الرغم من ذلك لم يستطع. فالفجوة بين النظرية والواقع أصبحت من الاتساع بحيث أصبحت بعض التعديلات على النظرية لا غني عنه إذا كان لمجرد مظهر التطابق بينهما أن يستمر.(93) هكذا فقد نشأت عملية ثابتة – مراجعة اللينينية والماركسية بما يتناسب مع الممارسة الستالينية الفعلية كنتيجة ضرورية للعملية الأولى. نستطيع بالتركيز على هذه العملية أن نتناول رؤية أوضح للهيكل الحقيقي للماركسية الستالينية والمصالح التي مثلتها.

لعل أهم هذه التعديلات كان نظرية “الاشتراكية في بلد واحد”، التي عرضها ستالين لأول مرة في خريف 1924. يجب تناول ظهور هذه النظرية من أكثر من زاوية: كيف تم هذا طرحها، لما تم طرحها؟ وما هي المصالح الاجتماعية التي خدمها؟ وما هي نتائجه؟

أولاً: منهج ستالين: مثلت “الاشتراكية في بلد واحد” قطعا درامياً مع الموقف الأممي الذي صاغه ماركس وانجلز منذ 1845 و 1847 (94) وكرره مرارا وتكرارا فيما يتعلق بالثورة الروسية(95). كما أنها تناقضت أيضاً مع ما كتبه ستالين نفسه في أسس اللينينية في إبريل 1924:

المهمة الأساسية للاشتراكية – تنظيم الإنتاج الاشتراكي – تظل أمامنا الآن.. هل يمكن إنجاز هذه المهمة؟.. هل يمكن تحقيق الانتصار النهائي للاشتراكية في بلد واحد دون الجهود المشتركة لبروليتارية عدة دول متقدمة؟ لا إن هذا غير ممكن.(96)

حل ستالين هذا التناقض عن طريق إعادة كتابة هذه الفقرة بحيث يقول العكس، “بعد تعزيز سلطتها وقيادة الفلاحين على طريقها تستطيع بروليتاريا البلد المنتصرة كما يجب عليها بناء مجتمع اشتراكي”(97)، مع منع توزيع الطبقة الاولى. لم يكن هناك تحليل جديد، وإنما مجرد تأكيد لأرثوذكسية جديدة (تم نسبها بأثر رجعي إلى لينين) وبالفعل باستثناء هذه الفقرة الواحدة، ترك باقي النص كما هو في ذلك الفقرات التي عكست بوضوح التصور السابق.(98) ولم يتم تلفيق “تحليلات” لتبرير الخط الجديد إلا في وقت لاحق. لم يكن هذا الإجراء مثلاً منعزلا.. وإنما كان نموذجيــاً .. عندمـا تحولت الاشتراكية الديمقراطية (وفقا لستالين) من حليف (25 – 1927) إلى العـدو الرئيسي ( 28 – 1933) ثم إلى حليف مرة أخرى (34 – 1939) لم يكن تغيير الخط مبنيا على أي تحليل جديد للاشتراكية الديمقراطية. لقد كان هذا التحول ببساطة أمراً رسمياً كان على التحليل أن يكيف نفسه معه فيما بعد. لم يكن سر هذا المنهج هو أن ستالين لم يكن لديه تحليل، وإنما هذا التحليل لم يكن له أن يعلن صراحة لأن معاييره الحقيقية وأهدافه الحقيقية توقفت عن أن تكون الخاصة بالنظرية التي احتفظ التحليل بلغتها.

ما هو إذن السبب الذي دعا ستالين لطرح “الاشتراكية في بلد واحد” في 1924؟ من الواضح أن هذا كان رد فعل (رد فعل انهزامي) لفشل الثورة الألمانية في 1923 والاستقرار النسبي للرأسمالية الذي تلا ذلك.. لم يكن ستالين في أي وقت معنيا كثيراً بالثورة العالمية (لقد كان الأضيق أفقا من بين البلاشفة البارزين)، إلا أن هذا لا يفسر لماذا لم يستمر في التظاهر بالولاء للأممية القديمة. الجواب هو أن الاشتراكية في بلد واحد ناسبت بالضبط حاجات وتطلعات البيروقراطيين المسيطرين على البلاد الآن. لقد اشتاقوا للعمل العادي، غير معقد بمغامرات ثورية دولية. في نفس الوقت كانوا يحتاجون لراية يجمعون أنفسهم حولها، لشعار يحدد هدفهم، وكما قال تروتسكي “الاشتراكية في بلد واحد عبرت بما لا يدع مجالاً للشك عن مزاج البيروقراطية، عندما تحدثوا عن انتصار الاشتراكية كانوا يعنون نصرهم هم”(99). لقد كانت بالنسبة للبيروقراطية ما كانته “كل السلطة للسوفييتات” بالنسبة للطبقة العاملة في 1917.

أدخل ستالين، كما رأينا، نظريته الجديدة بالحد الأدنى من الضجة (بالتحديد لإخفاء جدتها) ولكنها في الواقع مثلت تحولا حاسماً في التوجه كانت له أشد النتائج بعدا في الأثر. لقد انعزل الاتحاد السوفيتي في مواجهة عالم رأسمالي معادي – عالم كان قد برهن بالفعل على تلهفه على خنق الثورة من خلال تدخله في الحرب الأهلية، واستمر كما أكد لينين أقوى اقتصادياً وعسكرياً من الدولة العمالية الفتية. إن إستراتيجية السنوات المبكرة للثورة – إستراتيجية لينين وتروتسكي – تضمنت بالطبع الدفاع العسكري الأشد عزما، ولكنها ركزت في آخر الأمر على تحضير الثورة العالمية لإسقاط الرأسمالية. غيرت سياسة الاشتراكية في بلد واحد هذا التركيز.

وكان الدفاع عن الدولة السوفيتية يتطلب قوات مسلحة مساوية لتلك الخاصة بأعدائها، وفي العالم الحديث كان ذلك يعني صناعة مكافئة وفائض مكافئ. كان انجلز قد استوعب في 1892 هذا الواقع الهام للاقتصاد والسياسة في القرن العشرين:

من اللحظة التي أصبحت عندها الحرب جزءاً من الصناعة الكبيرة (السفن الحديدية، المدفعية الثقيلة، المدافع سريعة الطلقات والرشاشة، البنادق الآلية، الطلقات المغطاة بالصلب، البارود غير المدخن) أصبحت الصناعة الكبيرة التي لا يمكن صنع كل هذه الأشياء بدونها، ضرورة سياسية لا يمكن حيازة كل هذه الأشياء بدون صناعة معدنية شديدة التطور. ولا يمكن حيازة هذه الصناعة بدون تطور مواز في جميع فروع الصناعة الأخرى وخاصة النسيج.(100)

ولم يكن استيعاب ستالين لهذه الحقيقة أقل حدة:

لا يا رفقا.. لا يجب إبطاء السرعة! على العكس، علنيا أن نزيدها بأقصى ما تسمح به قوانا وقدراتنا. إبطاء السرعة سيعني التخلف، والذين يتخلفون يهزمون. لا نريد أن نهزم. لا، لسنا نريد ذلك. في تاريخ روسيا القديمة.. هزمت بلا انقطاع لتخلفها، للتخلف العسكري، والتخلف الثقافي، والتخلف السياسي، والتخلف الصناعي، والتخلف الزراعي.. إننا متأخرين عن البلاد المتقدمة بخمسين أو مائة سنة، يجب أن نعرض هذا التلكؤ في عشر سنوات. إما أن نفعل أو يسحقوننا.(101)

ولكن روسيا كانت فقيرة، شديدة الفقر بالمقارنة بمنافسيها، وإنتاجية العمل فهيا كانت منخفضة. كان تصنيعها يقتضي استنفاراً وإعادة استثمار هائلين، وبدون معونة دولية كان هناك مصدر واحد ممكن لهذا الاستثمار، عمل عمالها وفلاحيها. أصبح من اللازم استخراج فائض ضخم وإعادة استثماره في النمو الصناعي. ولكن حيث أن غالبية السكان كانت تحيا على مستوى ليس أعلى كثيراً من مستوى سد الرمق فلم يكن من الممكن أن يتم استخراج وإعادة استثمار هذا الفائض طوعيا عن طريق القرار الجماعي للمنتدبين المتعاونين. لقد كان ذلك ممكنا فقط من خلال الاستغلال القسري، وتطلب هذا بدوره وكالة لتطبيق هذه العملية – طبقة اجتماعية متحررة من أعباء عملية تراكم رأس المال وان كانت تحصد ثمارها وهي طبقة تلعب نفس الدور التاريخي الذي لعبته البرجوازية في أوروبا الغربية. هكذا، فان نتيجته “الاشتراكية في بلد واحد” عمليا، كانت عكسها المباشر: “رأسمالية الدولة في بلد واحد”.
كان للاشتراكية في بلد واحد نتائج نظرية أيضاً. لم يكن من الممكن حصرها بصرف النظر عن إرادة ستالين، كتعديل طفيف للأرثوذكسية. كانت الغالبية الكاسحة من السكان في روسيا تتكون من الفلاحين وليس العمال. وعلى الرغم من إدراك كلاً من ماركس وإنجلز لإمكانية تحالف ثوري بين العمال والفلاحين لإسقاط الرأسماليين وملاك الأراضي، إلا انهما أصرا دائماً على أن الفلاحين ليسوا طبقة اشتراكية: “الحركة الفلاحية.. ليست صراعا ضد أسس الرأسمالية وإنما صراع لتنقية هذه الأسس من بقايا القنانة”(102). ولكن إذا كانت روسيا بذاتها ستنجز الانتقال إلى الاشتراكية، فقد أصبح من اللازم مراجعة هذا الموقف من الفلاحين. لذلك فلفترة تقدم ستالين وحليفه بوخارين بمفهوم تطور الفلاحين إلى الاشتراكية. عمليا بالطبع، كان الفلاحون قد سحقوا بواسطة التجميع القسري في 1921 – 1933، حيث أنهم كانوا يشكلون عقبة لا أمام الاشتراكية فحسب وإنما أمام رأسمالية الدولة أيضاً، إلا أن ذلك لم يحدث إلى بعد أن أدخل تشويش التمييز بين الطبق العاملة والفلاحين إلى الأيديولوجيا الستالينية.
كانت نظرية الإمبريالية ضحية أخرى. لقد طور هذه النظرية لكمسبورج وبوخارين ولينين كتحليل لآخر مراحل الرأسمالية العالمية، وقد أكدت النظرية قبل كل شئ على أولوية الاقتصاد العالمي على الأجزاء الوطنية المكونة له. وهذا ما ترفضه الاشتراكية في بلد واحد قطعياً. وبالفعل، ففي محاولته الدفاع عن نظريته ضد اعتراضات المعارضة اليسارية بأن ماركس وانجلز كانا قد رفضا صراحة الاشتراكية “الوطنية”. ذهب ستالين إلى انه في حين الاشتراكية في بلد واحد كانت مستحيلة في ظل الرأسمالية الصناعية القائمة أيام ماركس فأنها ممكنة في ظل الإمبريالية التي تتميز بقانون النمو اللامتكافئ(103). بهذه الطريقة فرغت الستالينية النظرية اللينينية حول الإمبريالية من مضمونها التحليلي الحقيقي واختزلتها إلى مجرد العداء للاستعمار، وهذا ليس على الإطلاق موقفا ماركسيا.

أخيراً، خرب منطق الاشتراكية في بلد واحد النظرية الماركسية حول الدولة. ففي عام 1934 كان ستالين يدعي أن الاشتراكية قد تحققت في روسيا. كان هذا على أساس أنه مع تحول الفلاحين إلى موظفين لدى الدولة، لم تعد الطبقات قائمة ولم تكن البيروقراطية بالطبع، بالنسبة لستالين طبقة. كان مصير الدولة في ظل الاشتراكية، وفقا للماركسية، هو الزوال. إلا أن دولة ستالين لم يكن لديها أدنى نية للزوال، وكان هذا واقعا. لم يكن لأي مقدار من الدعاية أن يخفيه. عالج ستالين هذا التناقض الخاص عن طريق تأكيد أن ماركس وانجلز كانا قد توقعا زوال الدولة لأنهما رأيا الاشتراكية كظاهرة عالمية. في حين أن الاشتراكية عندما توجد في بلد واحد فقط فان هذا الأمر يقتضي تقوية الدولة(104). هذه الحجة من النوع الذي يدور في حلقة مفرغة. والذي يكون مقنعاً تماماً عندما يكون الشخص الذي يشير إلى الطابع الدائري للحجة مرشحاً للإعدام رمياً بالرصاص. فإذا كانت هذه الحجة قد بررت وجود الدولة، فقد تركت بلا حل الطابع الطبقي لهذه الدولة. لم يكن ممكنا أن تكون دولة عمالية تحديدا. إذا كانت روسيا مجتمعا لاطبقيا وقد كان بالضبط متضمنا في الادعاء بأن روسيا اشتراكية. الحل الوحيد كان القول بأن الدولة السوفيتية قد أصبحت دولة “الشعب كله” وهو رأي برجوازي تماماً حول الدولة وقد هاجمه ماركس بقوة في نقد برنامج جوته وكذلك لينين في الدولة والثورة. فضلاً عن ذلك كان هذا رأياً حول الدولة تبنته البيروقراطية الستالينية لنفس السبب بالضبط الذي دعا البرجوازية دائماً لرؤية دولتها على أنها دولة الشعب كله، وهذا السبب هو رفضها الاعتراف بوجودها كطبقة حاكمة.

ومن المفيد عند هذا الحد أن نشير إلى نقاط التشابه والاختلاف الأيديولوجي بين الستالينية والكاوتسكية. لقد تضمنت الاثنتان فصلا منظماً بين النظرية والممارسة على نقيض هدف وحدة النظرية والممارسة، وأظهرت الاثنتان تعلقاً قوياً بالدولة على نقيض هدف وحدة النظرية والممارسة، وأظهرت الاثنتان تعلقا قويا بالدولة على نقيض العداء الحاد لها من جانب ماركس ولينين. كما سقطت الاثنتان من الأممية إلى الوطنية. ومع ذلك فان الاختلافات ليست أقل لفتا للنظر. قضت الكاوتسكية على ثورية وحدة الماركسية في النظرية أولاً ثم في الممارسة وتحدثت عن الثورة الاجتماعية “من خلال البرلمان” ومارست التوفيق مع البرجوازية، أما الستالينية فقد احتفظت بخطابة أكثر ثورية ومارست عكس هذه الخطابة تماما، فقد تحدثت عن الثورة وعن ديكتاتورية البروليتاريا وفي نفس الوقت مارست القمع السافر للطبقة العاملة. لقد انجذبت الكاوتسكية إلى سلطة الدولة وانبهرت بها، وبالتالي لم تكن راغبة في التفكير في تدميرها، أما الستالينية فقد طورت نظاماً دينياً إيجابياً يقدس الدولة. وعلى حين أن ديكتاتورية البروليتاريا عند ماركس ولينين كانت بالفعل “شبه دولة” أو ليست دولة بالمعنى السليم للكلمة(105)، فبالنسبة للستالينية كان الطريق الاشتراكي (وحتى الشيوعية) يكمن في تقوية الدولة بلا نهاية. سلمت الكاوتسكية للوطنيين في 1914 والخجل يبدو على وجهها وتحت غطاء شعارات “السلام” أما الستالينية فبإقحامها الوطنية على الماركسية رسميا من خلال “الاشتراكية في بلد واحد”، انحطت إلى الشوفينية الروسية الأكثر فجاجة إلى درجة تعظيم الماضي الإمبريالي القيصري لروسيا(106).

عكست نقاط التشابه والاختلاف هذه التشابه والاختلاف في القواعد الاجتماعية للأيديولوجيتين. كانت الاثنتان أيديولوجيتين لبيروقراطيتين صعدتا من حركة الطبقة العاملة، ولكن في حالة الكاوتسكية وقفت البيروقراطية في منتصف الطريق بين البروليتاريا والبرجوازية، في حين أن البيروقراطية الستالينية – ممع فناء البرجوازية القديمة والقضاء عليها فعليا كطبقة – وجدت نفسها في الواقع في السلطة. ظهرت الكاوتسكية بالتالي بمظهر ماركسية معتدلة، حذره تدفع إلى الأمام عناصر الماركسية المقبولة من البرجوازية(107)، وفي حين أن الستالينية أخذت شكل “ماركسية” عنيدة، قاسية، غير معنية بمشاعر البرجوازية، فإنها قد حولت مضمون هذه النظرية إلى عكس التام، ومع ذلك، فمثلما أن ما هو مشترك بين الكاوتسكية وبين خصمها برنشتاين كان أكثر مما بين الكاوتسكية والماركسية، فان الستالينية في الجذور ورغم كل إدانتها اللفظية، كانت أقرب بكثير للكاوتسكية منها إلى النظرية الثورية لماركس ولينين.

يصبح التوازي مع الاشتراكية الديمقراطية أوضح عندما نختبر الستالينية كظاهرة عالمية. فحتى الآن، تركز انتباهنا على الستالينية داخل روسيا، إلا أنها كانت ذات تأثير عظيم خارج حدود روسيا أيضاً، أولاً وأساساً من خلال أحزاب الأممية الشيوعية (الكومنترن) والتي استوعبت جميعها سريعاً الرؤية العالمية الستالينية. منذ البداية، سيطر الروس على الكومنتون، وهو شيء متوقع حيث انهم (الروس) كانوا مؤسسة وكانت تقف خلفهم السلطة المستمدة من الثورة الناجحة. إلا أن السنوات الأولى شهدت جدلاً كاملاً وحراً، وكان الزعماء الشيوعيون الغربيون قادرين على تحدي الروس حتى لو تغلبت في النهاية وجهة نظر الأخيرين. ومع ذلك فان هزيمة الموجة الثورية الأوروبية بين 1919 و 1923 قللت من ثقة الأحزاب الغربية وشددت على إحساسهم بالدونية إزاء الروس الذين كان يبدو أنهم منتصرين. إن هذا فضلاً عن الاستخدام المتزايد للضغط البيروقراطي والمساعدات المادية أكد وكشف السيطرة الروسية على الكومنتون إلى الدرجة التي سمحت باستخدامه لتحويل الأممية بشكل جوهري عن غرضها الأصلي وهو الثورة البروليتارية العالمية. كان الوسيط الأيديولوجي الذي تحقق من خلاله هذا التحول هو نظرية الاشتراكية في بلد واحد مرة أخرى، فإذا كانت المهمة الأساسية، وهي تحقيق الاشتراكية يمكن إنجازها في بلد واحد، فان الثورة العالمية إذن قد أصبحت إضافة اختيارية، هدف بعيد يهرب المرء عن ولاءه له بين الفينة والأخرى، وليس ضرورة فورية ترشد النشاط العملي. إحدى نتائج ذلك كانت تحويل دور الأحزاب الشيوعية إلى “حرس الحدود” للدولة السوفيتية. كان واجبهم الأول هو عرقلة أي إمكانية تدخل عسكري ضد روسيا. ومن أجل هذا الهدف حملوا على العمل كجماعات ضغط إصلاحية على برجوازياتهم مقللين من أهمية السياسة الثورية خوفاً من تنفير الأصدقاء والحلفاء المحتملين.

كانت الثمار الأولى لهذا التوجه هو إخضاع الحزب الشيوعي الصيني للكومينتانج الوطني البرجوازي “التقدمي” وهو ما أسفر عن تحطيم ثورة 1925 – 1927 الصينية بواسطة نفس الكومينتانج، وإخضاع الحزب الشيوعي البريطاني لزعماء “اليسار” في المجلس العام لاتحاد نقابات العمال الذين كانوا في نفس الوقت يقفون كأصدقاء للاتحاد السوفيتي في اللجنة النقابية الانجلو – سوفيتية ويخرنون إضراب 1926 العام. تضمنت الثمار اللاحقة الجبهات الشعبية في أواسط الثلاثينات والتي ضحت بالثورة الأسبانية (وبالتالي بالجمهورية الأسبانية) لفرانكو، من أجل تحالف سوفيتي محتمل مع بريطانيا وفرنسا الديمقراطيتين البرجوازيتين، كما تضمنت هذه الثمار أخيراً حل الكومنترن نفسه في 1934 إظهار لحسن النوايا تجاه الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.

إلا أن التحكم في أحزاب الكومنترن بهذه الطريقة لم يكن ممكناً بدون تحويل هذه الأحزاب تنظيمياً وأيديولوجياً أيضاً. كان أغلبية أعضاء الأحزاب الشيوعية بلا شك عمالاً مخلصين انضموا لأحزابهم من أجل إسقاط الرأسمالية. وإذا كانوا قد قبلوا “الاشتراكية في بلد” واحد نظرياً فقد كان ذلك تحديداً لأنهم لم يفهموا استتباعاتها، فضلاً عن ذلك كان وضعهم الطبقي سيدفعهم باستمرار للعمل بطرق تتجاوز دور حرس الحدود السوفيت وبالتالي، فقد أقتضي الأمر فرض هذا الدور عليها من خلال تخليص أحزاب الكومنترن من سيطرة أعضائها وأصبح من الضرورية بقرطة هذه الأحزاب عن طريق وضع هرم من السمؤولين على رأسها يمكن الاعتماد عليهم في إخضاع مصالح الطبقة العاملة (ومصالح العمال الأعضاء في هذه الأحزاب نفسها) لمصالح البيروقراطية الحاكمة في روسيا، من خلال القوة والمكانة والأموال المتوفرة لديها. لم يكن من الصعب على الستالينية إنجاز هذه المهمة – وبنهاية العشرينات – كان الكومنترن وأحزابه تحت السيطرة التامة لقيادات ستالينية يعتمد عليها تماما. على أنه ينبغي أن يفهم أن هذه العملية كانت لها حدود طبيعية. فإذا كان لأحزاب الكومنترن أن تكون حرس حدود فعال، أكثر فعالية من الهيئة الدبلوماسية السوفيتية، فيتعين إذن أن تمتلك بعض القوة عن طريق التأييد الجماهيري لها، ولأسباب تاريخية كان لهذا التأييد أن يأتي أساساً من الطبقة لعاملة، لكسب هذا التأييد والاحتفاظ به كان على هذه الأحزاب أن تكون مستجيبة إلى حد ما لحاجات هذه الطبقة. هكذا فمثلما أن البيروقراطية الاشتراكية الديمقراطية تتوسط بين البروليتاريا والبرجوازية لمصلحة الأخيرة، فان بيروقراطية الأحزاب الشيوعية توسطت بين مصالح البروليتاريا المحلية في بلاد تلك الأحزاب ومصالح رأسمالية الدولة الروسية لمصلحة الأخيرة أيضاً. في نفس الوقت، مع ذلك ولدت الاشتراكية في بلد واحد نزعة ثانية، ومتناقضة، داخل الشيوعية الدولية، فبوصفها نظرية وطنية منطبقة على روسيا، فتحت الباب للوطنيين داخل كل حزب شيوعي وكما طرحها تروتسكي في ذلك الوقت:

إن كان ممكنا تحقيق الاشتراكية في بلد واحد، إذن فالمرء يستطيع أن يتقد في هذه النظرية ليس فقط بعد وإنما قبل الاستيلاء على السلطة. إذا كانت الاشتراكية ممكنة التحقيق داخل الحدود الوطنية لروسيا المتخلفة، فهناك إذن أسباب أقوى للاعتقاد بإمكان تحقيقها في ألمانيا المتقدمة.. ستكون تلك هي بداية تفكك الكومنترن وفقاً لخطوط الوطنية الاجتماعية.(108)

في البداية ظلت هذه النزعة الوطنية نائمة. حيث غطى عليها الولاء لروسيا ولكن عملية العمل كحرس حدود سوفيتي، وبناء جسور للبرجوازية الوطنية في البلاد المتخلفة (الصين) أو الزعماء النقابيين الإصلاحيين (بريطانيا) أو البرجوازية الديمقراطية (الجبهات الشعبية في أسبانيا وفرنسا)، هذه العملية ذاتها قوت العدوى الوطنية، لقد ظهر خضوع النزعة الوطنية لنزعة حرس الحدود حتى الحرب العالمية الثانية من خلال الموافقة العامة للكومنترن على الخط السوفيتي القائل بأن هذه الحرب كانت حربا إمبريالية (وهو خط أملاه تحالف ستالين المؤقت مع هتلر). حصلت النزعة الوطنية بعد ذلك على دفعة هائلة من التحول السوفيتي في 1941 (والذي سببه الغزو الألماني لروسيا) إلى الخط القائل بأنها كانت حرباً شعبية ضد الفاشية تطلبت التوقف الكامل لصراع الطبقة العاملة المستقل واقتضت من الشيوعيين العمل كوطنيين من الدرجة الأولى.

نمت بعد الحرب النزعة الوطنية حثيثا. في تلك البلدان التي وصلت فيها الأحزاب الشيوعية للسلطة بجهودها الخاصة (الصين، يوجوسلافيا، ألبانيا) انتصرت بالكامل أسفرت عن قطيعة صريحة مع موسكو، ولكنها ظلت أضعف في تلك الأحزاب التي وضعت في السلطة بواسطة الجيش الأحمر (بولندا، المجر، ألمانيا الشرقية) وفي الأحزاب التي كانت ضعيفة أو مضطهدة أو منفية وبالتالي اعتمدت على الرعاية السوفيتية (مثل اليوناني والبرتغالي). لقد أصبحت النزعة الوطنية مسيطرة في الأحزاب ذات القاعدة الجماهيرية الضخمة في الطبقة العاملة والتي طمحت في دور في الحكم (الحزب الإيطالي على الأخص)(109) كانت ظاهرة الشيوعية الأوروبية هي الانعكاس الأيديولوجي لهذه العملية.
لندع الآن جانبا للحظة مسألة الستالينية في البلدان المتخلفة ونتناول بالعرض العناصر التي تتبعناها في تطور الستالينية الغربية: سياسة جماعات الضغط الإصلاحية والاعتماد على زعماء النقابات والتحالفات مع “يسار” البرجوازية والوطنية والمنظمات البيروقراطية. ما هذا إن لم يكن نسخة كربونية للعناصر التي كونت الاشتراكية الديمقراطية؟ لا يجب التعجب إذن من أن المواقف الأيديولوجية للستالينية الغربية مثل الطرق البرلمانية الوطنية للاشتراكية والرفض الصريح لديكتاتورية البروليتاريا.. الخ، أصبحت بشكل متزايد غير قابلة للتمييز عن تلك الخاصة بالاشتراكية الديمقراطية. بل أن التوازي يمتد للتقسيم إلى شيوعية أوروبية يسارية ويمينية. الشيوعية الأوروبية هي عودة بدرجة أو بأخرى للكاوتسكية من حيث تصورها لانتقال برلماني سريع بدرجة أو بأخرى إلى الاشتراكية يؤيده ضغط جماهيري بالطبع(110). إن الشيوعية الأوروبية اليمينية مساوية بدرجة أو بأخرى للكاوتسكية من حيث تصورها لشئ أكثر راديكالية من الائتلافات (المساومة التاريخية الإيطالية) وهي بالتالي على يمين الجناح اليساري للاشتراكية الديمقراطية التقليدية. (قارن بين المواقف الحالية “للماركسي” اريك هوبسباوم وغير الماركسي توني بين في بريطانيا).

ختاماً، اتخذت الماركسية الستالينية شكلين الأول في روسيا كانت أيديولوجية البيروقراطية المضادة للثورة التي أقامت نفسها باسم الاشتراكية كطبقة حاكمة في ظل رأسمالية الدولة. الثاني في أوروبا أساساً، تطور من أيديولوجية الوكلاء البيروقراطيين لروسيا إلى أيديولوجية قسم من بيروقراطية الحركة العمالية لصالحها هي. هذان الشكلان مختلفان ولا يمكن ببساطة المساواة بينهما، ولكن فيما يتعلق بالمسألة الجوهرية وهي ثورة العمال الأممية والتحرر للطبقة العاملة العالمية فانهما متحدان في معارضتهما. ليس أي منهما جزءاً بأي معنى من التراث الماركسي الحقيقي.

3 – وطنية العالم الثالث
كان لينين أول ماركسي يدرك أهمية حركات التحرر الوطني في العالم الثالث. فقد أوضح في تحليله للإمبريالية: “الاستعباد الكولونيالي والمالي للغالبية الواسعة من سكان العالم بواسطة أقلية محدودة من أغنى البلاد الرأسمالية وأكثرها تقدماً”(111). كما اظهر أن هذا الاستعمار سيثير حتما موجة من ثورات وحروب التحرير. ما تصوره لينين كان تحالفاً عالمياً بين الثورة البروليتارية في الغرب وحركات التحرر الوطني في الشرق، لسحق الإمبريالية بحركة كماشة. لذا فقد أصر على الأهمية القصوى لتأييد الشيوعيين لهذه الحركات الوطنية خاصة في الصراعات ضد “إمبرياليتهم”.

في نفس الوقت، أدرك لينين أن هذه الإستراتيجية تحمل معها خطر تشويش التمييز الماركسي “بين مصالح الطبقات المضطهدة ومصالح جماهير العاملين والمستغلين والمفهوم العام للمصالح الوطنية ككل، والذي يعنى ضمنا مصالح الطبقة الحاكمة”(112). وبالتالي فقد أكدت أطروحات لينين حول هذه المسألة في المؤتمر الثاني للكومنترن على ما يلي:

الحاجة لنضال صارم ضد محاولات إعطاء لون شيوعي لتيارات التحرير الديمقراطية البرجوازية في البلاد المختلفة… يجب أن تدخل الأممية الشيوعية في تحالف مؤقت مع الديمقراطية البرجوازية في البلاد المستعمرة والمتخلفة ولكن عليها ألا تندمج معها، وعليها تحت كل الظروف الحفاظ على استقلالية الحركة البروليتارية حتى لو كانت في أكثر أشكالها جنينية.(113)

حذر لينين أيضاً من الخداع الذي تمارسه القوى الإمبريالية باستمرار لإقامة دول مستقلة سياسياً من الناحية الصورية، ولكنها تابعة بالكامل من الناحية الاقتصادية والعسكرية. فقد كان استنتاجه كما يلى:

في ظل الظروف العالمية الحالية لا يمكن إنقاذ الأمم التابعة والضعيفة إلا باتحاد جمهوريات سوفيتية… لا يمكن تحقيق انتصار كامل على الرأسمالية إلا إذا قامت البروليتاريا، ومن خلفها جماهير العاملين في كل البلاد والأمم في العالم بالكفاح الواعي من أجل التحالف والوحدة.(114)
في ظل حكم ستالين، مع ذلك، سارت سياسة الكومنترن، والتي أملتها الحاجة لكسب أصدقاء للاتحاد السوفيتي، في نفس الاتجاه الذي حذر منه لينين. كانت الصين المثال الكلاسيكي بالطبع، حيث لم يكتف الحزب الشيوعي الصيني بالانضمام لحركة الكومنتانج الوطنية البرجوازية فقط بل وافق على فرض حظر على نقد مبادئ مؤسسها – صن يات صن – وسلم قائمة عضويته لقيادة الكومنتانج، ونصب شانج كاي شيك عضواً شرفياً في الأممية الشيوعية. وحصلت عملية إعطاء الحركات الوطنية “لونا شيوعياً” ودمج الشيوعية مع الوطنية البرجوازية على تكثيف إضافي بعد الحرب العالمية الثانية عندما أصبح هاماً في صراع الاتحاد السوفيتي العالمي مع الولايات المتحدة(115). بحلول الخمسينات والستينات، أصبحت من ناحية كل الأنظمة والحركات الوطنية في العالم الثالث تسمي نفسها “اشتراكية” كما ادعي كثير منها الماركسية، ومن ناحية أخرى أصبحت قطاعات عريضة من اليسار في البلاد المتقدمة، بما في ذلك اليسار غير الستاليني وبما في ذلك بعض ذوي الأصول التروتسكية، تنظر لحركات التحرر الوطني وللثورة الاشتراكية على انهما متطابقان عملياً.

تتسم حركات التحرير هذه بالتحديد لأنها وطنية، بالتنوع الشديد في الممارسة والنظرية بحيث أن أيا منها لا يصلح للتحليل “كممثل” للباقين (كما كان ممكناً للحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني بالنسبة للأممية الثانية) في نفس الوقت، لا يمكن مناقشة كل أو حتى عدد من الأنظمة الأيديولوجية المتمخضة عن هذه الحركات بحكم حدود المساحة. ما نقترحه بالتالي هو فحص “ماركسية” العالم الثالث الوطنية من خلال ما أصبح الصفة المركزية لكل تجسيداتها تقريباً وهى حرب العصابات من أجل الاستقلال الوطني، مع إشارة خاصة للصين وكوبا، الحالتين الأكثر نقاء لهذا النوع من الثورات. كما أن لهما أهمية إضافية تتمثل في انه في حين بدأت الماوية داخل الستالينية ثم طورت إستراتيجيتها المستقلة ومارست قطيعة مع روسيا بعد أن وصلت إلى السلطة، فان الكاستروية (نسبة إلى فيدل كاسترو) بدأت غير شيوعية وغير ماركسية لكي تتحرك إلى المعسكر السوفيتي وتتبني أيديولوجية “ماركسية” بعد أن وصلت إلى السلطة فقط. إن هذا الأسلوب – على الرغم من قصوره – كفيل رغم ذلك بكشف جوهر هذا النوع من “الماركسية” أي أساسه الطبقي.

تتضمن حرب العصابات أولاً، نقل مركز الصراع الثوري من المدينة إلى الريف. وكان ماو تسى تونج أول ماركسي يتخذ هذه الخطوة وقد فعلها كرد فعل لسحق الطبقة العاملة الصينية بواسطة الكومنتانج في 1927. كان الدافع هو إنقاذ بقايا الحزب الشيوعي من الحكم الإرهابي ل “شانج كي شيك” في المدن(116). وقاد ذلك ماو إلى كيانجسي أولاً ثم، عندما هوجم بالقوة، إلى “المسيرة الطويلة” الهائلة إلى بيينان في الشمال الغربي، إحدى أكثر أجزاء الصين تخلفاً ونأيا. هذا الاعتبار العملي – الصعوبة الأكبر التي يواجهها الجيش والبوليس في تعقب الثوار في الريف – ظلت له أهمية كبرى بالنسبة لدعاة حرب العصابات. هكذا فان تشي جيفارا، بعد أن يعلن بان “حركات العمال غير المشروعة تواجه صعوبات هائلة” يكتب بأن “الوضع في الريف المفتوح ليس بهذه الصعوبة. هناك في الأماكن التي لا تطولها قوات القمع، يمكن تأييد السكان بواسطة العصابات المسلحة”(117).

إلا أن حرب العصابات لا تعنى فقط تحولا في موقع الصراع، وإنما أيضاً تحولا في مضمونه الاجتماعي. لا يستطيع العامل أن يصبح جندياً في حرب العصابات إلا إذا توقف عن أن يكون عاملاً، وبالنسبة للطبقة العاملة ككل أو حتى بالنسبة لقسم هام منها فان حرب العصابات هي استحالة واضحة. على أى طبقة اجتماعية إذن أن تحل محل الطبقة العاملة كفاعل الثورة؟ الجواب الأساسي لمنظري حرب العصابات هو: الفلاحون!(118)

لقد ذكرنا في الجزء الأول من هذا المقال بالفعل ما يزيد عن الكفاية لبيان أن مثل هذا الاستبدال بالفلاحين للبروليتاريا ليس متسقاً مع الماركسية، ولكن من المفيد التأكيد على أن الأمر ليس على الإطلاق مجرد مناقضة لآراء محددة لماركس ولينين حول القدرات الثورية للفلاحين. إن البروليتاريا بالنسبة للماركسية، كما أظهرنا، هي الجوهر. الطبقة العاملة ليست أداة الثورة، وإنما الثورة هي أداة الطبقة العاملة. لان الطبقة العاملة ترتبط كما تجسد قوى وعلاقات الإنتاج التي يمكن أن تحمل الإنسانية إلى الأمام نحو مرحلة أعلى للمجتمع لا توجد فيها طبقات.

هكذا، فمثلما انه كان من المستحيل إقحام مفهوم الاشتراكية في بلد واحد على الماركسية دون أن يحتم ذلك سلسلة كاملة من المراجعات التي تتبع ذلك، فان نظرية الثورة الاشتراكية الفلاحية تحطم هيكل المادية التاريخية بأكمله. فالفلاح ليس هو نتاج لعلاقات إنتاج رأسمالية وإنما ما قبل رأسمالية. إذا كان الفلاحون هم الطبقة الاشتراكية، إذن فأن الثورة الاشتراكية كان من الممكن أن تحدث في أي وقت في الألف سنة الأخيرة. وتكون الرأسمالية والثورة الصناعية في هذه الحالة مراحل غير ضرورية في التاريخ الإنساني ويكون قد تم التخلي تماماً عن الدور التحديدي لتطور قوى الإنتاج. كل ما هو مطلوب هو قوة الإرادة والأفكار السليمة. يظهر هذا المفهوم بالضبط في حجج الماويين، ورفاق طريقهم المثقفين مثل شار بتلهايم، القائلة بأن الاشتراكية يمكن بناؤها في الصين أو غيرها مهما كانت نقطة البداية الاقتصادية متخلفة وفقيرة بشرط سلامة القيادة السياسية(119). كما يبدو هذا المفهوم أيضاً في موقف كاسترو – جيفارا – ديبريه القائل بعدم ضرورة انتظار نضج الظروف الموضوعية للثورة، لان الثوريين (رجال حرب العصابات) يمكنهم خلقها بأنفسهم(120) – النتيجة ليست مادية ماركسية وإنما مثالية مفرطة.

إحدى محاولات تجاوز هذه المشكلة، والتي حاولها، مثل ماو، الذين شعروا ببعض الانتماء الأيديولوجي للتراث الماركسي (كما عكسته الستالينية) كان الحديث دائماً عن “قيادة بروليتارية” للفلاحين(121). ولكن حيث أن البروليتاريا لم تلعب أي دور على الإطلاق في الثورة الصينية (كتب ماو في 1949: يرجي أن يستمر العمال والموظفون في كل المهن في العمل وان يستمر العمل كالمعتاد)(122) فان هذا لا يمكن أن يعني سوى قيادة الحزب “البروليتاري”. وحيث أن الحزب الشيوعي الصيني لم يكن به عملياً أعضاء من الطبقة العاملة (123)، فان هذا بدوره لا يمكن أن يعني سوى قيادة الأيديولوجية “البروليتارية”. مرة أخرى نعود للمثالية. الأيديولوجية، منفصلة عن قاعدتها الاجتماعية تتحول إلى طبقة اجتماعية أخرى وتقوم افتراضياً بإعادة تشكيلها.

في الواقع إن المثالية المتطرفة والنوع الفج منها، نظرية “الرجل العظيم” راسخة في الماوية. تتراوح الأمثلة من تصور أن الاتحاد السوفيتي انتقل من ديكتاتورية البروليتاريا إلى دكتاتورية البرجوازية مع تغير الزعامة من ستالين إلى خروشوف، إلى استخدام المصطلحات الطبقية (برجوازي – مالك أرض – الخ) كأوصاف أخلاقية(124)، إلى العبادة السخيفة لفكر ماو تسي تونج، وعبادة ماو نفسه “موجة الدفة العظيم” و “الشمس التي لا تغيب أبداً”(125).

من المهم ملاحظة انه على حين أن عبادة ستالين ظهرت فقط بعد وصوله للسلطة، فان عبادة ماو تعود إلى ما قبل الاستيلاء على السلطة. ذلك لان الطبقة العاملة لن تتسامح مع قائد غبي وبالتالي فقط على ستالين أن يستحق الطبقة العاملة قبل أن يفرض عبادته، في حين أن الثورات القائمة على الفلاحين عادة ما تعتبر قادتها نصف مقدسين. بالفعل ليس على المرء إلا أن يفكر في عبادة كيم ايل سونج – وهو شي منه – وفيدل كاسترو – وشي جيفارا لكي يرى أن هذه المثالية الفجة ليست فقط من الخصائص المشتركة لماركسيات التحرر الوطني وإنما أيضاً خاصية يشتركون فيها مع حركات وطنية غير ماركسية صراحة (مثل غاندي وصن يات صن).

إننا هنا نجد ماركس مقلوباً على رأسه. ليس الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي، وإنما الوعي الاجتماعي (الزعامة) هي التي تحدد الوجود الاجتماعي. إذ لو كان منظرو حرب العصابات متسقين لتنصلوا من الماركسية تماماً. بالفعل إذا كان الادعاء المركزي لهؤلاء المنظرين – إن حرب العصابات هي الطريق للاشتراكية – صحيحاً تكون الماركسية إذن قد فندت في أهم أطروحاتها وأكثرها جوهرية. ومع ذلك فإذا تركنا جانبا لهذه اللحظة فكرة أن الصين وكوبا وفيتنام الخ.. هي أنظمة اشتراكية، فان الطابع المثالي لنظريات حرب العصابات يشير فوراً إلى أن العلاقة بين جيش العصابات والفلاحين ليست على الإطلاق كما يدعي: لان المثالية نفسها لها جذور اجتماعية – وجود طبقات أو شرائح تصل، من خلال أنها تحيا من عمل الآخرين، إلى الاعتقاد بأن أفكارها هي مفتاح المجتمع.

لتوضيح هذه المشكلة من الضرورية أن نعود لتحليل ماركس للفلاحين الفرنسيين في الثامن عشر من برومير – لويس بونابارت:

الفلاحون ذوو الملكيات يشكلون جمهوراً واسعاً يحيا أعضاؤه في ظروف متشابهة ولكن دون الدخول في علاقات متعددة فيما بينهم فخط إنتاجهم يعزلهم عن بعضهم البعض بدلاً من أن يدخلهم في علاقات متبادلة.. بمقدار ما تحيا ملايين العائلات في ظروف معيشية اقتصادية تفصل خط حياتهم وثقافتهم عن تلك الخاصة بالطبقات الأخرى وتضعهم في موضع الرفض العدائي للآخرين فانهم يشكلون طبقة بمقدار ما أن هناك فقط اتصال محلي فيما بين هؤلاء الفلاحين ذوي الملكيات الصغيرة، وان وحدة مصالحهم لا تؤدي إلى تعاون ولا رابطة وطنية ولا تنظيم سياسي فيما بينهم، فانهم لا يشكلون طبقة. انهم بالتالي غير قادرين على فرض مصالحهم الطبقية باسمهم هم… انهم لا يستطيعون تمثيل أنفسهم وإنما ينبغي تمثيلهم. يجب أن يظهر ممثلهم في ذات الوقت كسيدهم كسلطة فوقهم، كقوة حكومية غير محدودة تحميهم ضد الطبقات الأخرى وترسل لهم المطر والشمس من السماء.(126)

وضع ماركس هنا إصبعه على الخاصية الجوهرية للفلاحين والتي تحددها الظروف الاجتماعية لوجودهم، عدم قدرتهم على التحرر الذاتي. يستطيع الفلاحون أن يحاربوا، وهم يفعلون ذلك بجسارة ولكنهم لا يستطيعون أن يكونوا الطبقة الحاكمة في المجتمع. يمكن للقرية أن تهزم المدينة في أي عدد من المعارك، ولكنها لا تستطيع أن تكسب الحرب، لأن القرية لا تستطيع أن تدير المدينة حيث توجد القوى الإنتاجية. كان هذا صحيحاً عند “وات تيلر” في 1381، و “اميليو زاباتا” في المكسيك، والانتفاضات الفلاحية التي لا تحصى على مدار التاريخ الصيني(127). لكي تتماسك كقوة سياسية وطنية تحتاج طبقة الفلاحين قايدة طبقة أو قسم من طبقة مدينية خارجية. بالنسبة للينين وماركس وتروتسكي كان مقدرا لهذه القيادة أن تكون الطبقة العاملة “ليس بالذهاب إلى الريف” وإنما بالقتال لإسقاط الدولة في المدن. بالنسبة لماو وكاسترو وشركائهم، كانت القيادة هي كوادر وقادة جيش العصابات الذين يأتون (ولم يكن من الممكن جلبهم من مصدر آخر) تقريباً بالكامل من الانتلجنسيا المدنية.

ما هي العلاقة بين القيادة والفلاحين في حرب العصابات؟ أولاً جنود جيش العصابات سيكونون في غالبيتهم الساحقة فلاحين من حيث التكوين، إلا أن أقلية ضئيلة فقط من الفلاحين ستشارك بهذه الطريقة (في كوبا، كانت قوات كاسترو المسلحة تبلغ بضعة آلاف بالكثير، في الصين كانت الأعداد هائلة 300 ألف في بداية المسيرة الطويلة، 20 ألف في نهايتها، وبضع ملايين في أشد أوقات الحرب – ولكن كانت مع ذلك نسبة ضئيلة من بين 500 مليون فلاح صيني). وحيث أن جوهر حرب العصابات هو قابلية الحركة السريعة وتكتيكات الكر والفر تجعل ذلك لا مفر منه، وتتضمن هذه التكتيكات أيضاً أن فلاح العصابات يتوقف عن أن يكون فلاحاً ويصبح جندياً محترفاً، تنفصل أعماله وأيديولوجيته عن أصلها الطبقي ويعاد تشكيلها تحت النظام العسكري بواسطة قيادة الجيش الآتية من الطبقة المتوسطة. العلاقة إذن مختلفة تماماً عن تلك القائمة بين العمال في حزب لينين حيث يستمر الأعضاء العمال عمالاً وحيث يشترط في اشتراك المثقفين، وهو أمر ضروري، أن يقبلوا بوجهة نظر وقواعد النضال البروليتاري.(128)
العلاقة بين جيش العصابات والفلاحين ككل مختلفة تماماً أيضاً عن العلاقة بين الحزب اللينيني والطبقة العاملة. الحزب اللينيني معني بقيادة الطبقة العاملة ككل في صراع من أجل تحقيق مصالح الطبقة العاملة. أما جيش العصابات معني بالعمل نيابة عن جمهور الفلاحين بالتأكيد وهو يمنح في المقابل مساندة وحماية وإغراء الإصلاح الزراعي. بلا قصد، أعطى جيفارا تعبيراً نقياً عن النخبوية المثالية المتأصلة في إستراتيجية حرب العصابات:

لقد سبق أن وصفنا محارب العصابات أنه شخص يشارك الشعب في اشتياقه للتحرير ويقوم – متى استنفدت الوسائل السلمية – ببدء المعركة ويحول نفسه إلى طليعة مسلحة للشعب. منذ لحظة بداية الصراع تكون لديه نية تحطيم نظام ظالم، وبالتالي نية خفية بدرجة أو بأخرى – لاستبدال القديم بشيء جديد. لقد سبق أن قلنا أيضاً أنه.. تقريباً في جميع البلاد ذات التنمية الاقتصادية الناقصة، يمنح الريف الشروط المثالية للمعركة هكذا، فان أساس الهيكل الاجتماعي الذي سيبنيه محارب العصابات يبدأ بتغيرات في الملكية الزراعية.(129)

أولاً: يأتي محارب العصابات بمثله عن نظام اجتماعي عادل، “كاهن حقيقي للإصلاح” كما يسميه جيفارا، ثانياً اختيار الأرض على أسس عسكرية، ثالثاً، برنامج الإصلاح الزراعي.. يكمل جيفارا:
يجب أن يساعد الفلاح دائماً تقنياً واقتصادياً وأخلاقياً وثقافياً. سيكون محارب العصابات نوعاً من الملاك المرشد الذي نزل إلى المنطقة يساعد الفقراء دائماً ويسبب أقل مضايقة ممكنة للغني في مراحل الحرب الأولي.(130)

بالمثل كان جيش ماو الأحمر يعمل تحت تعليمات صارمة في تعامله مع الفلاحين: “كن مجاملاً، وساعد عندما تستطيع. أعد كل الأشياء التي تستعيرها. استبدل كل الأشياء المحطمة.. ادفع ثمن كل الأشياء المشترة.. الخ”(131). ما ينبغي استيعابه هن هو علاقة القوة بين الفلاح والمحارب التي تجعل هذه الأوامر الأخلاقية ضرورية لأن هناك في الواقع اغراءا مستمراً بالسلوك على عكسها.

الأساس الحقيقي لهذه النخبوية ليس مجرد الثقافة المتفوقة لقيادة حرب العصابات أو حتى امتلاكها للسلاح. وإنما اختلاف الأهداف الطبقية. فالهدف الطبقي الجوهري للفلاحين هو امتلاك الأرض. أما الهدف الجوهري للانتلجنسيا الثورية التي تشكل قيادة العصابات هو الاستيلاء على سلطة الدولة لتحقيق التحرير الوطني. تستخدم قيادة حرب العصابات الفلاحين لرفع نفسها، وليس الفلاحين إلى السلطة ويظهر انطباق ذلك على جيش وحزب ماو من الطريقة التي أوقف بها الحزب الشيوعي الصيني الصراع التلقائي للفلاحين من أجل الأرض، وذلك للإبقاء على الائتلاف الوطني في الحرب ضد اليابان.(132)
إن صراع أمة مضطهدة من أجل التحرر، سواء كان ضد وضع استعماري رسمي مثلما كان الوضع في الجزائر أو كان ضد نظام عميل للإمبريالية مثل حالة كوبا، هذا الصراع تقدمي ويجب تأييده إلا أنه يظل أساساً مهمة ديمقراطية برجوازية فالدولة القومية هي نتاج الرأسمالية، أما رسالة البروليتاريا هي تخطي تقسيم العالم إلى دول. وبالتالي فان التأييد الماركسي للتحرير الوطني يختلف في الدوافع والوسيلة عن التأييد البرجوازي والبرجوازي الصغير. يشكل التحرير الوطني بالنسبة للبرجوازية صراع لتأسيس أرضها في ركن العالم الخاص بها الذي تحكمه وبالتالي فهي تنظر له على أنه هدف مهيمن في ذاته، ينبغي أن تتوحد حوله كل الطبقات “الوطنية”. أما بالنسبة للماركسيين، يشكل التحرير الوطني وسيلة فقط، صراع للتخلص من الاضطهاد القومي الذي يشكل عقبة أمام التوحيد الطوعى للطبقة العاملة العالمية في “اتحاد جمهوريات سوفيتية” مأمول انه بالتالي صراع يجب أن تحتفظ فيه البروليتاريا باستقلالها الطبقي لكي تحمل الثورة أبعد من الحدود الاجتماعية والوطنية التي سترضى بها البرجوازية والبرحوازية الصغيرة، في عملية ثورة دائمة. مما سبق يتضح أن إستراتيجية حرب العصابات (إلا إذا كانت جزء من ثورة عمالية) ليست متناسبة مع هذا الأفق الأممي البروليتاري، كما يتضح بالمثل من نظريتهم وممارستهم أن أيا من “ماركسي” العالم الثالث الوطنيين لم ينجح في تجاوز الموقف الوطني، ويشير هذا إلى أن الأساس الطبقي “لماركسيتهم” ليس البروليتاريا وإنما البرجوازية الصغيرة.(133)

ويبقى جانب إضافي للمشكلة ينبغي تناوله: متى تحقق التحرر الوطني (إذا لم يتم تجاوزه بحدوث ثورة عالمية) ينبغي تعزيزه والحفاظ عليه في ساحة الرأسمالية العالمية الضارية التنافس. النخبة المحاربة البرجوازية الصغيرة التي دفعت إلى السلطة بواسطة حرب الفلاحين تجد نفسها إذن في نفس الموقف بالأساس الذي وقفت فيه النخبة البلشفية بعد تدمير الطبقة العاملة في الحرب الأهلية، مع فارق أنها ليست مرتبطة عضوياً بالطبقة العاملة العالمية من خلال حزب ثوري أممي(134)، وبالتالي فليس لديها خيار غير البديل الستاليني وهو الصراع من أجل النمو الاقتصادي من خلال تراكم رأس المال القائم على استغلال العمال والفلاحين، وهو ما يعني بدوره أن عليها أن تعزز نفسها كطبقة حاكمة جديدة.(135)

في هذه الحالة يحدث شيئان: 1) تتحول عبادة المحارب الذي يضحي بنفسه لشعبه إلى أيديولوجية تضحية ذاتية من الطبقة العاملة (والفلاحين) من أجل الأمة وتصبح الاشتراكية عقيدة تقشف (ممجدة في الغرب بواسطة بتلهايم وغيره، كنقد للاقتصادوية). 2) هياكل الثورة الوطنية الراديكالية المائعة تستقر على الشكل الستاليني لدولة الحزب الواحد البيروقراطية. التوازي بين وطنية العالم الثالث والستالينية السوفيتية هو إذن أكثر من مسألة أصول أيديولوجية وتنظيمية مشتركة (موجودة في الصين ولكن ليس في كوبا)، أو اعتماد ضرورية على المعونة الروسية (كما هو الحال في كوبا ولكن ليس في الصين منذ أوائل الستينات). إن هذا التوازي يأتي من وضع طبقي مشترك ومهام اقتصادية مشتركة.

خلاصة القول أن “ماركسية” العالم الثالث الوطنية، مثل الكاوتسكية والستالينية هي في أصولها ليست أيديولوجية ثورة بروليتاريا وإنما أيديولوجية قسم من البرجوازية الصغيرة يقف بين العمل ورأس المال. في حالة الكاوتسكية والستالينية، كانت بيروقراطية الحركة العمالية هي التي رفعت نفسها فوق قاعدتها في الطبقة العاملة. أما في حالة وطنية العالم الثالث، لعبت انتلجنسيا الطبقة المتوسطة المضطهدة من الإمبريالية الدور الأساسي ومثل الستالينية في روسيا وأوروبا الشرقية (ولكن ليس الكاوتسكية أو الستالينية في الغرب) استطاعت في ظل ظروف معينة(136) أن تحول نفسها إلى الطبقة الحاكمة. كأيديولوجية هي أبعد كثير من الناحية الصورية عن الماركسية من أي من الكاوتسكية أو الستالينية، وكان من الممكن قبولها كماركسية أو كنوع من الماركسية فقط بسبب الدور السابق للستالينية في دفن التراث الأصيل تحت جبل التشويه، وبسبب الضعف الشديد للماركسية البروليتاريا في الخمسينات والستينات.

هكذا فعلى الرغم من كل اختلافاتهم، فان الكاوتسكية والستالينية، ووطنية العالم الثالث بينهم الكثير مما هو مشترك – قبل كل شئ التزام إزاء الدولة الوطنية (الوطنية وملكية الدولة) ورفض للتحرر الذاتي للطبقة العاملة. تلك الخصائص والتي تم التوصل إليها من خلال أساليب تاريخية مختلفة – قام انجلز بتحليلها في كتابه ضد دوهرنج على أنها خصائص أساسية للمرحلة النهائية للتطور الرأسمالي، للعلاقة الرأسمالية “ليس وقد تم التخلص منها” ولكن وقد بلغت الذروة(137). ما حدث إذن لهذه الماركسيات هو أنها بتركها المواقع الطبقية للبروليتاريا، انتهت إلى تأييد المرحلة التالية للرأسمالية.

لقد انهينا الآن عرضنا للتحولات الرئيسية للماركسية منذ وفاة ماركس ونستطيع الآن أن نعود لنقطة بدايتنا: التراث الماركسية الأصيل.

4 – التراث الماركسي الأصيل
ليس من الصعب تحديد التراث الماركسي الأصيل. انه يسير من ماركس وانجلز، مرورا بالجناح اليساري الثوري للأممية الثانية (خاصة في روسيا وألمانيا) وصولاً إلى الاوج مع الثورة الروسية والسنوات المبكرة للكومنترن، ويستمر – في أصعب ظروف ممكنة – بواسطة المعارضة اليسارية والحركة التروتسكية في الثلاثينات.

انه تراث كان أبرز ممثليه، بعد مؤسسيه، هم بوضوح لينين ولكسمبورج وتروتسكي، إلا أنهم محاطون بشخصيات عديدة أقل منهم بقليل فقط في المكانة مثل ميهرينج وزيتكن وبوخارين الشاب وجميس كونالي وجون ماكلين وفكتور سيرج والفريد روزمر وهكذا فضلاً عن مئات الآلاف من محاربي الطبقة العاملة.
انه تراث حاول دائماً توحيد النظرية والممارسة وبالتالي لم يكن أبدا راضياً بالحكمة الموروثة أو الدوجما الثابتة وإنما سعي لتطبيق الماركسية على عالم متغير. أهم إسهاماته تتضمن نظرية الحزب (لينين)، الإضراب الجماهيري (لكسمبورج)، الثورة الدائمة (تروتسكي)، الإمبريالية والاقتصاد العالمي (لكسمبورج، بوخارين، لينين، تروتسكي)، دور الستالينية المضاد للثورة (تروتسكي)، الفاشية (تروتسكي) وإعادة العنصر الفاعل الجدلي في الفلسفة الماركسية (لينين، جرامشي، لوكاش).

لقد كان في أغلب فترة وجوده، باستثناء السنوات الثورية 1917 – 1923، تراث أقلية ضئيلة، وهذا أمر مؤسف ولكن لا مفر منه “الأفكار الحاكمة هي أفكار الطبقة الحاكمة” وجماهير العمال يصلون للوعي الثوري في الصراع الثوري فقط. إن التعايش الدائم بين حركة ماركسية جماهيرية والرأسمالية هو بالتالي مستحيل. إن مجرد وجوده يشكل تهديداً للنظام الرأسمالي. وهو تهديد سيزول إذا لم يتحقق. انه بالتالي تراث يعكس في تقدمه وتأخره، في التحليل الأخير، تقدم وتأخر الطبقة العاملة. انه ليس تراثاً أحادياً جامداً، وإنما يتم بالجدال القوي (خذ مثلاً لكسمبورج ولينين حول الحزب وحول المسألة القومية، أو لينين وتروتسكي حول طبيعة الثورة الروسية، أو الجدالات الداخلية للحزب البلشفي قبل وبعد 1917 ولا هو تراث خالي من الخطأ (أنظر تحليل تروتسكي لروسيا كدولة عمالية) ولكنه موحد بالأساس الطبقي الذي يقف عليه، الطبقة العاملة العالمية، وبالتالي تراكمياً بمعني هام، حيث يبني كل جيل ماركسي على إنجازات سابقيه.

إنه تراث الاشتراكية الثورية الذي سعي الثوريون أن يكملوه ويطوروه على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، لم تواجهنا الظروف التاريخية بعد بمشكلات الحرب والثورة والثورة المضادة. تلك هي الأحوال التي تضع الحركات والنظريات موضع الاختبار، كاشفة عدم كفايتها ولكن سامحه لها أياً بتحقيق قدراتها الكامنة. وبالتالي، فان الإنجازات، نظرياً وعملياً تبدو صغيرة عند المقارنة بالسابقين، ومع ذلك، فان أهم الإسهامات النظرية والمواقف السياسية المتميزة مثل تحليل رأسمالية الدولة في الدول الستالينية ونظرية الثورة الدائمة المنحرفة في العالم الثالث وتحليل رخاء اقتصاد السلاح والأزمة الاقتصادية الجديدة ونقد البيروقراطية النقابية، يجمع بينها شيئان: 1) أنه تم تطويرها كاستجابات لمشكلات حقيقية واجهتها الحركة العمالية في الصراع من أجل تغيير العالم، و 2) واتخذت كمنطلق لها وأكدت كاستنتاج لها، المبدأ الجوهري للماركسية، ألا وهو التحرر الذاتي للطبقة العاملة. في كتيب الشيوعية اليسارية كتب لينين “إن النظرية الثورية الصحيحة.. تأخذ شكلها النهائي فقط بتفاعلها اللصيق مع النشاط العملي لحركة جماهيرية بالفعل وثورية بالفعل”، وتحقيق هذه الوحدة هو بالطبع، المهمة الكبرى التي تواجهنا في المستقبل”.


4- الهوامش
1. تشير الهوامش إلى مراجع منشورة باللغة الإنجليزية
2. تروتسكى، الثورة الدائمة ونتائج وتوقعات، (نيويورك، 1969)، ص1.
3. لوكاش، التاريخ والوعى الطبقي، (لندن، 1971)، ص1.
4. يظهر هذا الإختزال للماركسية حالياً في كتابات وخطب تنظيم “ميليتانت” في بريطانيا.
5. لوكاش، المصدر السابق، ص1.
6. تروتسكى، دفاعاً عن الماركسية، (لندن 1966)، ص11.
7. ماركس، مقدمة في نقد الاقتصاد السياسى.
8. كارل ماركس، كتابات مختارة، تحرير د. ماكلينين، (أكسفورد، 1978)، ص63.
9. المصدر السابق، ص 63.
10. أنظر أطروحات فيورباخ.
11. انجلز، حول تاريخ المسيحية المبكرة، في ماركس وانجلز، كتابات أساسية في السياسة والفلسفة، (نيويورك، 1978)، ص209.
12. انجلز، ضد دوهرنج، (بكين، 1976)، ص 18.
13. كارل ماركس، كتابات مختارة، مصدر سابق، ص 212.
14. المصدر السابق، ص 231.
15. المصدر السابق، ص 231.
16. نحو نقد فلسفة الحق عند هيجل: المقدمة (1844)، المصدر السابق، ص 73. لابد أن نسجل الدور الهام الذي لعبه انجلز في هذا الوقت، على أساس تجربته مع الطبقة العاملة الانجليزية في مانشستر.
17. ذكر في لينين، ما العمل؟، (موسكو، 1969)، ص40.
18. المصدر السابق، ص32.
19. انظر جون مولينو، الماركسية والحزب، (لندن، 1978)، ص46 – ص 50.
20. كارل ماركس، كتابات مختارة، المصدر السابق، ص 229.
21. ماركس الى فيدماير، 5 مارس 1882، المصدر السابق، ص 341.
22. لينين الأعمال الكاملة، (موسكو، 1962)، المجلد 25، ص412.
23. أنظر كارل مانهايم، الأيديولوجيا واليوتوبيا، (لندن، 1976)، يعرف مانهايم المثقفين المستقلين على أنهم المجموعة الأكثر قدرة على تجاوز موقعهم الاجتماعي والوصول إلى بلورة لكل وجهات النظر المحددة اجتماعياً. وقد لاحظ نايجل هاريس التشابه بين هذه الرؤية ورؤية المثقفين النخبوية لكاوتسكى، المعتقدات في المجتمع (لندن، 1971) ص222.
24. أنظر أطروحة ماركس الثانية حول فيورباخ.
25. طالما يفهم المرء “الموضوعى” بما يعنى كما طرح جرامشى، “الموضوعى الإنسانى” وليس “الموضوعية اللاتاريخية واللاإنسانية”. أنظر جرامشى، مختارات من مذكرات السجن، (لندن، 1971)، ص445 – 446.
26. لأن أساس المجتمع الرأسمالى هو العمل المغترب، يظهر هذا المجتمع كوجود مستقل عن البشر وخارج سيطرتهم. ولذا ارتكب عالم الاجتماع البرجوازي اميل دركهايم، الذي اعتبر المجتمع واقع أخلاقى خارج نطاق البشر، وأيضاً الفيلسوف الستاليني لويس ألتوسير، والذي طرح أن التاريخ هو عملية بدون فاعل، ارتكب نفس خطأ التشيى، وهو عملية ثقافية تعكس الواقع المادى للاغتراب.
27. هناك إمكانية أن يكون متاحاً في المستقبل التمييز بين علم الحقبة البرجوازية وعلم الحقبة الاشتراكية.
28. لينين، المصادر الثلاث والمكونات الثلاث للماركسية.
29. لم تكن البرجوازية دائماً في هذا الموقع. في أيامها الأولى، حين كانت تصارع من أجل تكوين نفسها كطبقة حاكمة، كانت تحتاج لتغيير المجتمع. ولذا الإنجازات العظيمة لمنظريها في الفلسفة (من ديكارات إلى هيجل) والسياسة (من ماكيافيلي إلى ورسو) والاقتصاد (سميث وريكاردو).
30. ماركس، الأيديولوجية الألمانية، (نيويرك، 1947)، ص40.
31. لوكاش، لينين، (لندن، 1970)، ص9.
32. المصدر السابق، ص90.
33. ماركس وانجلز، الأعمال المختارة، (موسكو، 1962)، المجلد الثانى، ص80.
34. طرح ماركس نفس الفكرة المنهجية عندما كتب أن “التشريح البشرى يتضمن المفتاح إلى تشريح القرد” ماركس، الجروندرسة، (هارمندسورث، 1973)، ص105.
35. مثلاً: “يبدأ البشر في تمييز أنفسهم عن الحيوانات في اللحظة التي يبدءوا فيها إنتاج أدوات معيشتهم، كارل ماركس، الكتابات المختارة، المصدر السابق، ص 160.
36. ماركس وانجلز، أعمال مختارات، مصدر سابق، المجلد الثاني، ص91.
37. أنظر ماركس، نقد برنامج جوتة، المصدر السابق.
38. لنفس السبب لا يكون تأييد حق تقرير المصير الوطنى مطلقاً. هناك حالات يكون فيها تقرير المصير معادياً للمصالح الكلية للطبقة العاملة ولذلك رجعى. مثلاً: القومية السلافية في القرن التاسع عشر والصربية في الحرب العالمية الأولى.
39. انجلز، “كارل ماركس”، في ماركس وانجلز، الأعمال المختارة، مصدر سابق، المجلد الثاني، ص163.
40. كارل ماركس، كتابات مختارة، المصدر السابق، ص7 – 168.
41. كارل ماركس، كتابات مختارة، المصدر السابق، ص154.
42. ماركس، الأطروحة الأولى حول فيورباخ.
43. ماركس، الأطروحة الثالثة حول فيورباخ.
44. المصدر السابق.
45. كارل ماركس، الكتابات المبكرة، المحررت. ب. بوتومور، (لندن، 1963)، ص202.
46. المصدر السابق، ص203.
47. انجلز، “خطابات أمام قبر كارل ماركس”، ماركس وانجلز، أعمال مختارة، المصدر السابق، المجلد الثاني ص167.
48. انجلز، “مقدمة في نقد الاقتصاد السياسى”، كارل وماركس، أعمال مختارة، المصدر السابق، المجلد الثاني ص167.
49. المصدر السابق، ص214.
50. ماركس، الكتابات المبكرة، مصدر سابق، ص69.
51. المصدر السابق، ص120.
52. المصدر السابق، ص59.
53. “الانهيار” ليس بمعنى التفكك الذاتى ولكن بمعنى السقوط في أزمة عنيفة تخلف إمكانية الإطاحة به.
54. ليست مسألة تقنية أو صدفة أن جوهر رأس المال هو نظرية قيمة العمل وأن الطبيعة المزدوجة للسلعة تأتى من الطبيعة المزدوجة للعمل (العمل المادى والمجرد).
55. ماركس، الكتابات المبكرة، مصدر سابق، ص129.
56. المصدر السابق، ص132.
57. المصدر السابق، ص122.
58. ماركس، رأس المال، المجلد الأول، (لندن، 1974)، ص582.
59. ماركس، الكتابات المبكرة، المصدر السابق، ص604.
60. ماركس، رأس المال، المجلد الأول، المصدر السابق، ص604.
61. لكثير من هذه المقاطع لدحض نهائى لأطروحة ماركس الشاب / الناضج أنظر: اتسفان متزاروى، نظرية ماركس في الاغتراب، (لندن، 1975) ص253 – 267، لتحليل مغلوط ولكن عبقرى لمركزية العمل المغترب في بنية ومنطق رأس المال أنظر: رايا دونايفسكايا، الماركسية والحرية (نيويورك، 1964).
62. ماركس، رأس المال، المجلد الثالث (موسكو 1966) ص250.
63. لوكاش، التاريخ والوعى الطبقى، مصدر سابق، ص53 – 54 وص63 – 64 ودونايفسكايا، الماركسية والحرية، المصدر السابق، ص143.
64. أنظر لوسيو كوليتى، “الماركسية: علم أم ثورة؟” في من روسو إلى لينين.
65. هيلفردينج، مقدمة رأس المال المالى.
66. لينين، “برنامجنا”، 1899.
67. لينين، “المصير التاريخى لتعاليم كارل ماركس”، 1913.
68. هذا الجزء يدين بالكثير إلى طرح نايجل هاريس حول تحولات الماركسية في المعتقدات والمجتمع، مصدر سابق.
69. يتضح أن بذور الإصلاحية كانت موجودة في الحزب الاشتراكى الديمقراطى منذ بداياته من ماركس “نقد برنامج جوته” ومن ماركس وانجلز “الخطاب الدائرى”، المراسلات المختارة، (موسكو، 1965)، ص327.
70. فى الفترة بين 1900 و1905 كان متوسط الإضرابات 1171 إضراب في العام يشترك فيه متوسط 122606 مضرب فى العام.
71. كارل كاوتسكى، الصراع الطبقى (برنامج ايرفورت)، (نيويورك، 1971).
72. المصدر السابق، ص7.
73. المصدر السابق، ص8.
74. المصدر السابق، ص88.
75. المصدر السابق، ص7.
76. المصدر السابق، ص159.
77. ماركس، الأممية الأولى وما بعدها، (هارمندسورث، 1974)، ص80.
78. كاوتسكى، الصراع الطبقى، المصدر السابق.
79. مذكور فى م. سالفادورى، كارل كاوتسكى والثورة الاشتراكية، (لندن، 1979)، ص22.
80. لاحظ التشابه مع إستراتيجيات تنظيم “ميليتانت” في بريطانيا.
81. مذكور في م. سالفادورى، المصدر السابق، ص162.
82. كاوتسكى، الصراع الطبقى، المصدر السابق، ص189.
83. كاوتسكى، مذكور في لينين، الماركسية حول الدولة، (موسكو، 1976)، ص78.
84. أنظر روزا لوكسمبورج، الإضراب الجماهيرى والحزب السياسي والنقابات.
85. م. سالفادوري، المصدر السابق، ص108.
86. المصدر السابق، ص111. لاحظ التشابه مع رؤية كاوتسكى.
87. أنظر جون مولينو، نظرية ليون تروتسكى الثورية، (هاسوك، 1981).
88. لعب غياب بيروقراطية عمالية متطورة دوراً هاماً في الفهم المادى لخصوصية التطور الروسى.
89. إن غياب بيروقراطية عمالية متطورة في روسيا هو عامل مهم في التفسير المادي لخصوصية التطور الروسى.
90. ذكر فى م. سالفادورى، المصدر السابق، ص324.
91. لينين، الأعمال الكاملة (موسكو، 1962)، المجلد 33، ص65.
92. أتحدث عن الاختيار لأن الكوادر البلشفية كان عليها بالفعل الاختيار بين السلطة والمبادئ.
93. مذكور في إسحاق دويتشر، ستالين (هارمندسورث، 1976)، ص272.
94. كان ستالين شخصية مناسبة جداً للعب هذا الدور، فقد أصبح النفاق، والأكاذيب عناصر عضوية في شخصيته.
95. أنظر كارل ماركس، الأيديولوجية الألمانية، المصدر السابق، ص171، أنظر أيضاً إنجلز، مبادئ الشيوعية، (لندن) ص15.
96. “إن الانتصار النهائى للاشتراكية في بلد واحد هو مستحيل بالطبع. إن كتيبة العمال والفلاحين في السلطة السوفيتية هي إحدى كتائب جيش عالمى عظيم.” لينين، الأعمال الكاملة، المجلد 26، ص470 – ص 471. جمع تروتسكى أغلب مقولات لينين حول الاشتراكية في بلد واحد فى كتابه، تاريخ الثورة الروسية، (لندن، 1977)، الملحق الثانى، ص1219 – ص1257.
97. مذكور فى تروتسكى، الأممية الثالثة بعد لينين، (نيويورك، 1970)، ص36.
98. ستالين، أسس اللينينية، (بكين، 1975)، ص212.
99. 89. أنظر المصدر السابق، ص28 – 29.
100. تروتسكى، الثورة المغدورة، (لندن، 1967)، ص212.
101. رسالة إنجلز إلى دانيلسن، سبتمبر 1892، مذكور فى ن. هاريس، الخبز والسلاح، (هارمندسورث، 1983)، ص168.
102. خطاب لستالين أمام رجال أعمال عام 1931، مذكور في إسحاق دويتشر، المصدر السابق، ص328.
103. لينين، الأعمال الكاملة، المصدر السابق ، المجلد 10، ص411.
104. أنظر ستالين، حول المعارضة، (بكين، 1974)، ص595 – ص619.
105. أنظر ستالين، الماركسية ومشاكل اللغة، (بكين، 1976)، ص48.
106. إنجلز، مذكور في لينين، الدولة والثورة، (بكين، 1970)، ص76.
107. أنظر إسحاق دويتشر، المصدر السابق، ص472 – ص479.
108. لينين، الدولة والثورة، ص6.
109. تروتسكى، الأممية الثالثة بعد لينين، ص82.
110. هناك عناصر أخرى في هذه العملية: انخفاض حاجة الاتحاد السوفيتى للستالينية الغربية بعد وصوله إلى المساواة النووية مع الغرب وفقدانها لقوتها الإيديولوجية بعد نقد خروشوف لستالين عام 1956 والآثار المتراكمة لانشقاقات يوجوسلافيا والصين والثورات المجرية (1956) والتشيكية (1968).
111. يحاول بعض الإصلاحيين إعادة إحياء الفكرة الوسطية حول المزج بين المجالس العمالية والبرلمان.
112. لينين، “اطروحات حول المسألة القومية والاستعمارية”، أطروحات وقرارات وبيانات المؤتمرات الأربع الأولى للأممية الثالثة، (لندن، 1980)، ص77.
113. المصدر السابق، ص77.
114. المصدر السابق، ص80.
115. المصدر السابق، ص80 – ص81.
116. لابد من ملاحظة أن موقف الستالينية مختلف تماماً بالنسبة للحركات القومية داخل معسكرها، سواء كانت داخل الاتحاد السوفيتى أو فى أوروبا الشرقية أو مناطق النفوذ مثل أفغانستان. فى كل هذه المناطق تم قمع الحركات القومية بشكل وحشى.
117. أنظر نايجل هاريس، ماركس وماو فى الصين المعاصرة، (لندن، 1978)، ص16 – ص18.
118. جيفارا، حرب العصابات، (نيويورك، 1967)، ص16.
119. إن هذا التعريف للفلاحين عادة ما يتم تمييعه من خلال استخدام كلمة “الشعب” بنفس الأسلوب الذى استخدمها النارودنيين في روسيا القيصرية.
120. بتلهايم، الصراع الطبقى في الاتحاد السوفيتى: 1917 – 1923، (هاسوك، 1976).
121. “ليس من الضرورى الانتظار حتى تكون كل شروط الثورة موجودة، فالانتفاضة ستتمكن من خلقها”، جيفارا، المصدر السابق، ص15.
122. يختلف هذا عن الذين يتبنون الثورة الفلاحية ويطرحون أفكار معادية للثورة البرولتيارية.
123. مذكور في ت. كليف، الثورة الدائمة.
124. “اعترف الحزب أن العمال شكلوا فقط 10% من العضوية عام 1928 و3% عام 1929 و2.5% في مارس 1930 وقاربت الصفر فى نهاية نفس العام. ومنذ ذلك الحين وحتى انتصار ماو النهائى لم يكن فى الحزب نسبة تذكر من العمال الصناعيين”، المصدر السابق، ص20.
125. إن مثال جيد لهذا هو اتهام دنج زياو بنج عام 1976 بأنه “قيادة حزبية مرتبطة بالبرجوازية وملاك الأرض والفلاحين الأغنياء وأعداء الثورة والعناصر السيئة”. وتبع هذا الاتهام اتهام مضاد لعصابة الأربعة عام 1977 بأنهم “ممثلين نموذجيين في حزبنا لملاك الأرض والفلاحين الأغنياء وأعداء الثورة والعناصر السيئة”، مذكور في دافيد بكستين، “وداعاً آخر لكل ذلك”، الفلسفة الراديكالية، صيف 1979، ص32.
126. أنظر ى. جلوكستين، صين ماو، (لندن، 1957)، ص378.
127. كارل ماركس، كتابات مختارة، المصدر السابق، ص317 – ص318.
128. أنظر ى. جلوكستين، المصدر السابق، ص174 – ص178.
129. كانت هذه إحدى النقاط الأساسية التى قطع على أساسها لينين مع المناقشة فى 1903، أنظر لينين، خطوة للأمام خطوتان للخلف، (موسكو، 1969)، ص66، وجون مولينو، الماركسية والحزب، المصدر السابق، ص53.
130. جيفارا، المصدر السابق، ص43.
131. المصدر السابق، ص43.
132. بعض النقاط الثمانية التى يحفظها ويكررها كل يوم جنود الجيش الأحمر والبقية لها نفس الطبيعة.
133. لمراجعة ذلك أنظر ى. جلوكستين، المصدر السابق، ص180 – ص184، ون. هاريس، ماركس وماو فى الصين المعاصرة، المصدر السابق، ص24 – ص28.
134. تم تحليل كيف لعبت البرجوازية الصغيرة هذا الدور (على عكس توقعات نظرية الثورة الدائمة) فى ت. كليف، الثورة الدائمة، المصدر السابق.
135. هناك اختلاف آخر وهو أنها ليست مثقلة بتراث السلطة العمالية المؤسسة وبالتالى لا تواجه المعارضة التى واجهتها الستالينية ولا تحتاج أن تقوم بالثورة المضادة كما فعل ستالين.
136. أنظر تعليق لينين على هذين الجانبين من التحرر الوطنى، لينين، ملاحظات نقدية حول المسألة القومية، أكتوبر – ديسمبر، 1913.
137. وهى ضعف وتفكك البرجوازية وسلبية الطبقة العاملة.
138. ماركس وإنجلز، الأعمال المختارة، المجلد 2، ص149.