المهام الآنية النضالية لليسار في عصر كورونا ( 2 )


رضي السماك
2020 / 5 / 3 - 03:46     

إن مقالة المنظّر اليميني المحافظ ، الأميركي من أصل ياباني ، فرانسيس فوكو ياما " نهاية التاريخ " و التي نشرها عشية سقوط جدار برلين في 1989 في مجلة " ناشينول انترست " ، كما أسلفنا ، وبما حظيت من انتشار وردود فعل عالمية واسعة النطاق دفعته لاحقاً لتطويرها والتوسع فيها لإصدارها في كتاب تحت عنوان " نهاية التاريخ والإنسان الأخير " نُشر عام 1992 . ومع أنه - كما قيل - تراجع عن الكثير من أفكاره في المقال المنشور عام 1999 تحت عنوان " الإنسان الأخير في زجاجة " ، إلا أن ذلك لا يغير من جوهر ومضامين أفكاره التي وردت في مقالته الأصلية المنشورة في المجلة المذكورة . وأعترف بأن خطاباً لآخر زعيم للأتحاد السوفييتي جورباتشوف وردت فيه " المنافسة هي جوهر الإشتراكية " هي دافع كتابته المقال الأصلي تحت عنوان " نهاية التاريخ " ، بما أن المنافسة التجارية هي أحد أهم جوانب الرأسمالية . وبدا واضحاً أن فوكو ياما قد استعار عنوانه من عبارة شهيرة لهيجل والذي بداً معجباً به وشغل حيزاً من استشهاداته به في نقد جدل ماركس ، وكذلك نقد الماركسية اللينينية التي ساواها ديماغوجياً تارة بالماركسية وتارة بالستالينية ، وطوراً ثالثاً حتى بالنازية . وبدا مغرماً بأفكار المهاجر السوفييتي في الثلاثينيات في فرنسا الكسندر كوجييف الذي أعتبره بمثابة تلميذ نجيب لهيجل ، ووصف كوجيف بأن له تأثير في الحياة الثقافية للقارة الأميركية على حد زعمه بعد ما كان مجهولاً ، وأن حتى جان بول سارتر الذي يمثل يسار الوجودية ورايموند أرون الذي يمثل يمينها تعرف على هيجل من خلال كوجيف ، وكلاهما استعار الكثير من نظريات هيجل منه !
فلئن أعتبر هيجل الهزيمة التي ألحقها نابليون بالملكية البروسية في المعركة التي دارت حول ايون " نهاية التاريخ " لأنها أعادت الاعتبار لمُثل الثورة الفرنسية العليا ؛ فقد أعتبر فوكوياما بالمثل سقوط المنظومة الاشتراكية الذي بات وشيكاً ، أو بدأ مسلسله بالتوازي مع ما قدمه جورباتشوف حينذاك من تنازلات انتهازية هائلة على حساب المبادئ الاشتراكية بإسم " التفكير الجديد " و البيروسترويكا " هو نهاية للتاريخ وانتصار للقيم الليبرالية الغربية الرأسمالية واقتصاد السوق ( راجع : فوكو ياما ، نهاية التاريخ ، ص 11 - ص 24 ) .
ولهذا لم يكن غريباً أن يفرد فوكو ياماً حيزاً من التقريظ لجورباتشوف ووصف لغته الجديدة التساومية وتنازلاته بمثابة " هجوم ثوري على المعاهد الايديولوجية ومبادئ الستالينية وتبديلها باخرى (… ) حيث يصبح الاقتصاديون من دائرة جورباتشوف أكثر راديكالية مع مرور الزمن ويتوجهون إلى السوق الحرة لدرجة أن بعضهم ، مثل نيكولاي شميلوف ، لا يعارض تشبيههم بميلتون فريدمان " ! ( ص 33 ) .
وبدا واضحاً أن فوكو ياما في سطور أطروحته ليس مغتبطاً بتنازلات جورباتشوف الفكرية فحسب ، بل وقلقاً على مصيره من المحافظين أو ممن عُرفوا ب " الحرس القديم " ، كما بدا يطمح من جورباتشوف في المزيد من التنازلات العميقة ، إلى درجة يفهم القارئ ضمنياً من سطوره على الفور مطالبته برفع الراية البيضاء والقاء سلاحه الايديولوجي وتبني الفكر الرأسمالي الليبرالي بحذافيره ، وإن لم يذكر ذلك بصريح العبارة . وهو لا يجد أي مواربة في أعطاء وصاياه أو أوامره إن شئت إلى جورباتشف لخلع معطفه الماركسي وارتداء معطف مصمم على مقاس الرأسمالية " أن المبادئ الرئيسية لكثير من الإصلاحات تؤكد أنه يجب على الشعب أن يقوم بإدارة أموره بنفسه ، وأن السياسات العليا يجب أن تكون مسؤولة أمام الهيئات الدنيا وليس العكس ، وقوة القانون يجب أن تكون فوق الشيطان البوليسي ، ويجب أن يكون هنالك فصلاً للسلطات ومحاكم مستقلة وحماية حقوق للملكية " . وهذه المباديء حسب تعبيره لا تتحقق إلا بقطيعة عن الماركسية اللينينية السوفييتية ! ( ص 34 ) .
ومع أن هذه الانتقادات التي يوجهها فوكو ياما إلى الحزب الشيوعي الحاكم الوحيد في الاتحاد السوفييتي والدولة بخصوص تغييب الديمقراطية هي بوجه عام صحيحة ومن أسباب سقوط الدولة السوفييتية مطلع تسعينيات القرن المنصرم ، إلا أنه من نافلة القول أن كلامه كان بمثابة حق يُراد به باطل ، إذا ما علمنا بأن التجارب الغربية في الدول الديمقراطية الأقدم نشوءاً من الاتحاد السوفييتي ما زالت تُعد تجارب غير ناجزة ، وعلى الأخص على نحو ما نشاهده في النموذج الأميركي ؛ فإذا كان فوكو ياما يعيب على الدولة السوفييتية المنهارة بأن قوة القانون فيها ليس فوق الشيطان البوليسي ؛ فهل الحال كذلك في الولايات المتحدة اليوم ؟ أليس الشيطان البوليسي المخابراتي فوق قوة القانون بالقانون ؟ ثم هل يوجد فصل حقيقي للسلطات في الولايات المتحدة لا تشوبه شائبه خاصة في ظل السلطات المطلقة المعطاة للرئيس كرئيس للسلطة التنفيذية ؟ ثم هل الهيئات السياسية العليا مسؤولة أمام الهيئات الدنيا ؟
ثم كم من المآسي وجرائم الحروب وأخطار الإبادة الشاملة والتدمير الوحشي العنصري التي تعرضت لها شعوب عديدة من دول العالم منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى انتهاء الحرب الباردة ارتبطت بالامبريالية الاميركية وحلفائها الغربيين ؟ دع عنك التدمير المنهجي للبيئة التي تنغمس فيه شركاتها في أرجاء المعمورة . ثم لماذا تجاهل فوكو ياما الحريص على نشر قيم الحرية والمساواة والعدل الليبرالية عن حقبة طويلة مُظلمة يندي لها جبين البشرية ارتبطت بالتاريخ الكولونيالي الاستعماري القديم للدول الغربية الكبرى الحليفة للولايات المتحدة وعلى الأخص بريطانيا وفرنسا ؟ فعن أي نهاية للتاريخ يحدثنا فوكو ياما ؟ وعن أي نموذج ليبرالي يبشرنا بقيمه ويبشر شعوب العالم قاطبةً باُفول الاتحاد السوفييتي ؟ وماذا عساه يقول اليوم ازاء الفضائح التي تكشفت عنها أنياب الرأسمالية المتوحشة لبلاده خلال جائحة كورونا والذي يٌعد الرئيس دونالد ترامب بممارساته وسياساته المتهورة الوقحة خير تمثيل وتجسيد لها وهي فاقدة لكل معايير خُلقية ولأبسط المُثل الإنسانية في مواجهة الأخطار المشتركة الواحدة التي تهدد البشرية جمعاء ؟