ماركس والسُكّان الأصليين في المُستعمرات (2 – 2)


غريب عوض
2020 / 5 / 2 - 20:00     


بقلم: John Bellamy Foster
الترجمة: غريب عوض
كان كتاب William Howitt “الإستعمار والمسيحية” يتضمن أكثر من خمس مائة صفحة ومن ضمنها فصول مُنفرِدة حول مُعاملة السكان الأصليين عن طريق القوى الإستعمارية في مناطق مُتعددة في العالم، مع اثني عشر فصلاً مُخصصة لكيفية تصرف الأسبان والبرتغاليون فيما يتعلق بالسكان الأصليين في العالم الجديد، ثلاثة فصول عن المستوطنين الإنجليز والسكان الأصليين في أمريكا الشمالية، وفصلين عن “معاملة الهنود في الولايات المتحدة”، وخمسة فصول عن اللغة الإنجليزية في الهند، وفصل واحد حول اللغة الإنجليزية في مستعمرة كيب Cape في جنوب أفريقيا، وفصل واحد لكلٌ من الهولنديين في الهند وإندونيسيا (جاوة) والهولنديين في أستراليا وجُزُر المحيط الباسفيكي، وفصل واحد عن الفرنسيين في مستعمراتهم. وأخيراً، كان الاستعمار والمسيحية أكبر خُلاصة للفظائع العالمية للإستعمار الإستيطاني كُتِبَت في زمنها، والتي تحتوي على تفاصيل وفيرة، غالباً ما كانت تعتمد على التقارير التجارية والحكومية. وكما كتب ماركس: “إن William Howitt هو رجلٌ مُتخصص في كونهِ مسيحياً، عن النظام الاستعماري المسيحي، “إن وحشية ويأس ما يُسمى الجنس المسيحي، في جميع أنحاء العالَم، وعلى كل الشعوب التي تمكنوا من إخضاعها، لا يمكن موازاتهِ بذلك الموجود في أي جنس آخر، مهما كانت شراستهُ، ومهما كان غير متعلم، ومهما كان لا مبالي وعديم الرحمة والضمير، في أي عصر من عصور كوكب الأرض.”
ونظراً لأن ماركس كان مُهتماً بالدور الذي لعبهُ الإستيلاء الاستعماري على أراضي الشعوب الأصلية، والشعوب التي لعبت دوراً في نشأة الرأسمال الصناعي، فقد ركّزَ على معاملة رأس المال الصناعي لهذهِ الشعوب خاصةً على يد الهولنديين والإنجليز، باعتبارهما الدولتان اللتان قادتا الطريق في عملية التنمية الرأسمالية الصناعية. وفيما يتعلق بالهولنديين، أشار ماركس إلى أنهُ في عام 1648، في ذروة قوتها، كانت هولندا تُسيطر بشكل كامل تقريباً على تجارة الهند الشرقية. وفي كتاب رأس المال، ركّز ماركس، بشكل خاص، على دور الهولنديين في جاوة كما هو مُفصّل في كتاب Sir, Thomas Stamford Raffles “تاريخ جاوة”، (حيثُ ركز بشكل أساسي على الفقرات التي تم ملاحظتها في كتاب Howitt “الاستعمار والمسيحية). هُنا دور تنظيم “الرجال اللصوص”، يتكون من “السارق، والمُترجم، والبائع”، جميع هؤلاء اشتركوا بشكل مُمنهج في “سرِقة الرجال” الذي غالباً ما يُقيّدون بالسلاسل، ويتم إخفاؤهم في سجون سِرية، ويُسحبون إلى سُفن الرقيق التي تنتظر، تم تصوير هذا الدور بعناية. وكما ذكر ماركس، “كان عدد سكان مقاطعة بانجوانغي Banjuwangi التابعة لجاوة Java يبلغ أكثر من 80,000 نسمة في عام 1750 وانخفظ إلى 18,000 نسمة فقط في عام 1811”. وصرخ ماركس بسخرية مريرة، “هذهِ هي التجارة السلمية!” على أساس المُصادَرة الاستعمارية، وجادل ماركس، إن “رأس المال” الكُلي للجمهورية الهولندية أرتفع إلى نقطة في منتصف القرن السابع عشر والتي ربما تجاوزت رأس مال دول أوروبا مُجتَمِعة.
ولكن الهمجية الاستعمارية للرأسمالية الهولندية يتم تجاوزها فيما بعد في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من قِبَل الإنجليز. ووضح ماركس على إثرَ كتاب Howitt، أن الحاكم البريطاني لشركة الهند الشرقية أَصَرَ على “احتكارها الحصري” في تجارة الشاي، وكذلك التجارة مع الصين وأوروبا.لكن مسؤولي الشركة المُفضلين تمكنوا من السيطرة على احتكارات الملح والأفيون و التنبول (البيتيل)، والسلع الأخرى التي تُهيّمن على التجارة الساحلية. “وظهرت الثروات الهائلة مثل فطر الأرض بين عشية وضُحاها”، على أساس واحدة من أكثر أشكال المُصادرة شراسة في تلك الفترة”. وبإعتمادهِ على كتاب Howitt كمصدراً لهُ، كتب ماركس: “بين عامي 1769 و 1770 أوجدَ الإنجليز مجاعة حينما اشتروا كُل الرُز ورفضوا بيعهِ مرة ثانية، إلا بأسعار عالية.” وفي هامش سُفلي، أضاف قائلاً: “في العام 1866 مات أكثر من مليون هندوسي من الجوع في إقليم أوريسا Orissa وحدهُ. ومع ذلك، جَرت مُحاولة لتمويل الخِزانة الهندية (الاستعمارية) بالسعر الذي بيعت بهِ وسائل المعيشة للناس الذين يتضوّرون جوعاً.”
كان النهبُ هائلاً. كتب ماركس: “إن الكنوز التي تم الاستيلاء عليها خارج أوروبا من خلال النهب السافر والاستعباد والقتل”، عاد إلى البلد الأُم. أعلن النظام الاستعماري بأن جني الأرباح هو الهدف الوحيد والنهائي للبشرية.” وكانت تجارة الرقيق، بشكل خاص، تلعبُ دوراً مركزياً في تصنيع انجترا وفي نمو وتطور صناعة القُطن. عد ماركس سُفُن الرقيق التي كانت تُتاجر في ميناء ليفربول في السنوات التي سبقت الثورة الصناعية، لاحظ ماركس: “في عام 1730، استخدم ميناء ليفربول 15 سفينة في تجارة الرقيق؛ وفي عام 1751، استخدم الميناء 53 سفينة؛ وفي عام 1760، استخدم الميناء 74 سفينة؛ وفي عام 1770، استخدم الميناء 96 سفينة؛ وفي عام 1792، استخدم الميناء 132 سفينة”.
ويُنهي ماركس هذا الفصل بالتحدث عن “أن الرأسمال الصناعي نشأ مع العبارة التي تقول، ’إذا أتي المال، وفقاً لقول Augier، إلى العالم مصبوغاً ببُقع دم الخلق على خدٍ واحد، فإن رأس المال يأتي يقطر من الرأس إلى أخمص القدم، ومن كل مسام، بالدم والأوساخ”. عندما تقرأ الفقرة التالية، يكون من المستحيل أن لا يُفكر المرء أيضاً في نتائج كتاب Howitt الاستعمار والمسيحية، الذي تأثرَ بهِ ماركس إلى درجة ملحوظة:
لم يكن كافياً أن جميع الأراضي في المناطق المكتشفه حديثاً تم الاستيلاء عليها بالخداع والعُنف؛ ولم يكُن كافياً أن يُقتل أو يُستعبد سُكانها الأصليين؛ وأن يجب سكب الرذائل البغيضة من الناس الذين يصممون على إتباع أنقى الكائنات مثل الأفة في هذهِ البلدان الجديدة. لم يكُن كافياً إبادة ملايين الناس المُسالمين بالنار والسيوف وبالأعباء الثقيلة وبالعُنف، وبالألغام الضارة والشِددة غير المعتادة باستخدام الكلاب، وبصائدي البشر، وبالحزن واليأس، ومع ذلك هناك جريمة كبرى واحدة مطلوبة لوضع أفعال الأوروبيين وراء كل التنافُس في وجود الشر، وقد وُجِدَ هذا المَقت الشديد في تجارة الرقيق. لقد أستولوا على جميع البلدان الأُخرى تقريباً، ولكنهم لم يستطيعوا الإستيلاء على المناطق الحارة في أفريقيا. لم يستطيعوا الإستيلاء على الأرض ولكنهم استولوا على الشعوب…. ولهذا فقد عقدوا العزم على التضحية بهم فوق قبور الأمريكيين الذين لقوا حتفهم بالفعل. أن تسفك الدم على الدم، وتكدس العظام على بعضها، واللعنة على اللعنة. يا لها من فكرة تلك! يقف الأوروبيون بسوط العبودية في أيديهِم فوق عِظام الملايين المُبادين في نصف الكرة الجنوبي، وهم يُراقبون بعيون لا رحمة فيها ضحاياهم وهم يُجرون من النصف الجنوبي للكرة الأرضية إلى النصف الآخر ليس بعرقهم، بل بدماء قلوبهم، والتُربة التي هي في الحقيقة غُبار الأجيال التي قُتِلت من الضحايا …. إن تاريخ أوروبا الإستعماري بأكملة قطعة واحدة.
وما وراء الإبادة ولإستعباد، تركّز نقد ماركس على النهب الواسع الذي ميّز المُصادرة الأساسية الكامنة وراء تراكم رأس المال في العصر التجاري وما بعده، والذي كان أمراً أساسياً لتطوّر الرأسمالية. تم تنفيذ المُصادرة في مستعمرات المُستوطنين البيض من خلال إبادة السكان الأصليين واستِراد العبيد. وهكذا، نشأت هُناك ما أسماه Coulthard “نزع المُلكية المُنظَم.” حيثُ تم إبعاد السُكان الأصليين، وحيثُ أن هذهِ الأراضي تم ملؤها بالمهاجرين والمستوطنين البيض، حتى أصبحت المشكلة لرأس المال واحدة من مشاكل تجريد المستوطنين أيضاً.
إذن، فيما يتعلق بمستعمرات المستوطنين البيض – حالما تتم إبادة أو إبعاد السكان الأصليين عن أراضيهم – تُثار مُناقشة يُشارك فيها جميع الاقتصاديين والسياسيين الكلاسيكيين الإنجليز حول تأثيرات رأس المال الضارة على نسبة السُكان في تلك الأراضي. وهذهِ الحالة من التخلخل السكاني فيما يتعلق بالأرض، وبالتالي الوفرة النسبية للأرض، شجعت على العمل المُباشر للأرض من قِبل فئة من صغار المُزارعين التي يسكنها المُهاجرون الجُدُد، وبالتالي عرقلة تطوير البروليتاريا التي تنقصها المُمتلكات اللازمة للتصنيع الرأسمالي.
هُنا ركّز ماركس على عمل مؤسس المستعمرات الإنجليزي Edward Gibbon Wakefield وآخرين من مناصري “الاستعمار المُمنهج” في مستعمرات المُستوطنين البيض الإنجليز في القرن التاسع عشر (تحديداً هم، الولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا). وأكد Wakefield على حاجة الدولة إلى إيجاد أسعار للأراضي الجبلية من خلال بيع أراضي الدولة والمُضاربة في الأراضي لكي يتم استثناء الموجات الجديدة من المُستوطنين المهاجرين من الانتقال الفوري إلى الحدود والإقامة هناك كمُزارعي الكفاف أو كمُلاك صِغار، مما يجبرهم بدلاً من ذلك إلى موقع البروليتاريين. وحقيقة أن السكان الأصليين بالكاد كان لهم ذكر في مثل هذهِ المُناقشات بين الإقتصاديين السياسيين الكلاسيكيين حول مستعمرات المستوطنين الإنجليز، كانت إنعكاساً للظروف التي كانت بحلول الثلاثينيات من القرن التاسع عشر أُعتُبِرَ طرد الأمريكيين الأصليين من الأرض قد تحقق إلى حد كبير في أمريكا الشمالية، على الرغم من استمرار ذلك الطرد في التقدم مع كل حركة غربية؛ في حين أن نفس عملية طرد السكان الأصليين أيضاً الأبرحنيز في استراليا ونيوزيلندا كانت قد قطعت شوطاً.
في هذا السياق من “النظرية الحديثة للإستعمار” التي دعا إليها Wakefield ومن الإقتصاد السياسي للإستعمار الإستيطاني، الذي كان سيعّلنُ عنهُ ماركس في الصفحة الختامية للمُجلد الأول من كتاب رأس المال:
لسنا مُهتمين هُنا [في هذهِ النقطة المنطقية في المُحاجة] بحالة المستعمرات. الشيء الوحيد الذي يهُمنا هو السر الذي اكتشفه الاقتصاد السياسي للعالم القديم في العالم الجديد، وأعلنهُ بصوت عالٍ: إن الأسلوب الرأسمالي للإنتاج والتراكم، وبالتالي المُلكية الرأسمالية الخاصة أيضاً، لهما أمر أساسي بالنسبة لهم. يشترط القضاء على تلك المُمتلكات الخاصة التي تقوم على عمل الفرد نفسه؛ بتعبير آخر، مُصادرة العامل.
لا ينبغي قراءة هذا كما يفعل Coulthard وهو أمر مفهوم، بمعنى أن ماركس كان في الواقع غير مُهتم بحقائق المؤسسات الاستعمارية ومعاملة السكان الأصليين، لأن كتاباتهِ الأُخرى، بما في ذلك كتابهِ رأس المال نفسه يدحض مثل هذا التفسير. بل بالأحرى، اقترح نقد ماركس، القائم على ما كتبهُ Wakefield، أن طرد السكان الأصليين عن الأرض، ليحل محلهم صِغار المُزارعين، سيؤدي في النهاية في مستعمرات المُستوطنين البيض إلى المُصادرة التدريجية لصغار المُزارعين أيضاً كشرط لإنشاء الرأسمالية الصناعية.

يتبع