الراسمالية: بين الليبرالية والماركسية


ثائر سالم
2020 / 5 / 1 - 20:43     

" انا انظر الى تطور التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية ، كما الى عملية تاريخية طبيعية" ، "مسؤولية الفرد فيها"، محدودة.." لانه ذاته نتاج هذه الظروف، من حيث المغزى الاجتماعي، مهما ارتفع فوقها ذاتيا"....
ف"معيشة الناس هي التي تحدد ادراكههم، وليس العكس"
"وان" القوانين الطبيعية للراسمالية.. "ميول لضرورة من حديد".
" والقضية بحد ذاتها، لاتنحصر هنا، بهذه الدرجة او تلك من تطور التناحرات الاجتماعية، الناجمة عن القوانين الطبيعية للانتاج الراسمالي.
بل انها تنحصر في هذه القوانين ذاتها. في هذه الميول التي يسري مفعولها وتتحقق بضرورة من حديد"..... ماركس

اذن النقد الماركسي للراسمالية لا ينطلق من نظرة اخلاقية لموضوع العدالة في الراسمالية، رغم انها قدمت نقدا اخلاقيا لاذعا لها(1). فمن وجهة النظر الماركسية، لم يمنع الطابع غير العادل لعلاقات الانتاج الراسمالية، ولادة الراسمالية (كما لم تمنع لاعدالة علاقات الانتاج العبودية من الانتقال اليها من عدالة المشاعة)، ولم يمنع دور الراسمالية، الثوري التقدمي (تاريخيا) ، وهي تحطم بنى المجتمعات القديمة السابقة لها، وتحقق تلك التحولات الكبرى في الانتاج والعلم والوعي الاجتماعي، وفي كل ميادين الحياة. (2)
فالراسمالية خطوة تاريخية تقدمية. لازالت مطلوبة في المجتمعات الضعيفة التطور ( متخلفة، نامية_وهي اليوم معظم دول العالم الثالث) التي لم تتطور راسماليا، ولم تستنفذ الراسمالية فيها بعد دورها التاريخي. او حتى في مجتمعات عالمثالثية اخرى ، قطعت شوطا متوسطا  او متقدما في النجاح الاقتصادي الراسمالي، كالهند والبرازيل وماليزيا واندونسيا وتركيا.. وغيرها،  في تحقيق تقدم في مستوى التطور الاقتصادي، ومستوى الحياة فيها، واثره على مستقبل هذه البلدان. فهذا المسار، هو خطوة في الاتجاه الصحيح، مطلوبة تاريخيا.
خصوصا بعد فشل محاولات بعضها التطور عبر  الطريق الاخر،( لاسباب موضوعية تغيب فيها مقومات الطريق واخرى ذاتية تتعلق بالطبقة السياسية الحاكمة).
ولكن اشكالية تناقض الراسمالية الاساس،  بدأت علائمه الاولى هناك، في بلدان مركز (التطور) الراسمالي و(المالي )، بعد قرن تقريبا على ولادة الراسمالية (كما شخص ماركس وانجلز في البيان الشيوعي_١٨٤٧). اي حتى قبل ان يحقق راس المال المالي، سيطرته التامة على الاقتصاد والسياسة، في البلد والعالم.
لذا فان عمر الازدهار الاقتصادي في كل تاريخ الراسمالية، لايتجاوز القرن فقط. فمنذ منتصف القرن التاسع عشر تقريبا،  شكلت الازمات الشاملة  او الدورية، الركود والكساد والازمات المالية، ظواهر ملازمة للتطور الراسمالي.
الاستقصاء التاريخي الذي قدمه ماركس لنشوء الراسمالية عالميا، في نقاط انطلاقتها، واستقراء مالات هذا النظام،  بالكشف عن الية عمله، والنتائج والظواهر التي تصاحبها، تتكرر ملامحها العامة في عالمنا اليوم.
ومنذ ذلك الوقت طرح موضوع بديل الراسمالية. وقد لخص البيان هذه الحقيقة وهذا الاستنتاج، بعد عرض تاريخي مركز، لمختلف المدارس الفكرية، التي سبقته في انتقاد الراسمالية، والتي طغى عليها الطابع الاخلاقي، وطرحت بديلها الاشتراكي بمضامينها الطبقية المختلفة ،  المتفاوتة في جدية  وعمق عدائها للراسمالية.
الا ان القراءة الماركسية في البيان لتاريخ والية ولادة الراسمالية وتطورها ، وحتمية مغادرتها وولادة بديلها، تميزت بدقة استقصائها التاريخي، وعلمية منهج تحليلها لالية هذا النظام، وآلية حتمية مآلها.
وحتى فشل محاولات تجاوز الراسمالية في تجارب عدة، لم تلغي حتمية فشل الراسمالية. وان الراسمالية ليست "نهاية التاريخ". وليست ابدية، كما يقول منظروها. بل هي مرحلة تاريخية، ونتيجة تطور تاريخي، وستزول بانتهاء دورها التاريخي. تحت ضغط تناقضاتها ولاسيما تناقصها الاساسي ، الذي لم ولن تجد له حلا. فتطورها يعمق الطابع الاجتماعي للانتاج ولكنه في نفس الوقت يعمق الطابع الخاص للملكية الراسمالية.
لقد بين ماركس بهذا الية نشوء الراسمالية مثلما بين حتمية مغادرتها الى نظام ارقى تاريخيا...(3) حينما تصبح عاجزة عن ان تعيد انتاج ذاتها....
حينما تتحول  علاقة الملكية الراسمالية، الى عائق امام تطور القوى المنتجة والاقتصاد والمجتمع، فتصبح الراسمالية كنظام وكعلاقات انتاج بالاساس ،قوة طفيلية ورجعية، في وجه تطور العلم والانتاج والاقتصاد ومستوى تطور حياة  الانسان وفي اغلب ميادين الحياة. و لم يعد تطور القوى المتجة يجد في علاقات الانتاج الراسمالية هذه، محفزا له على التطور.
حينها تصبح عملية التراكم الراسمالي، ذاتها غير مجدية. فبدل ان كانت قوة العمل هي من تعيل الراسمالية، تصبح الراسمالية ذاتها بسبب (اتساع البطالة و الازمات والكساد،)  امام ضرورة اعالة قوى العمل. ان انخفاض معدل التراكم الراسمالي، هو المؤشر الجدي، على قرب مغادرة  الراسمالية التاريخ.
ومنذ ذلك الوقت وحتى الان، لم يقدم التاريخ، بديلا واقعيا للراسمالية ، غير الاشتراكية.  كامكانية واقعية ، او كمشروع تجلى في ارض الواقع، نموذجا قابلا للحياة خارج آلية الراسمالية.
سواء تجلى ذلك في تجربة كومونة باريس على قصر عمرها، والتي لم تنضج ظروفها. او في ثورة اكتوبر الاشتراكية في روسيا، التي اقامت نظاما اقتصاديا وسياسيا، بآلية خاصة (سوفيتية) ، حققت منحزات اقتصادية وعلمية كبرى. وقدمت حلولا اجتماعية ، (تستعين بها الراسمالية
مضطرة، في ازماتها، كما حصل ويحصل اليوم). وكانت على مدى سبعة  عقود خارج الية السوق الراسمالية العالمية. ومثلها فعلت التجربة الصينية، قبل الاصلاحات التي ادخلتها قبل ربع قرن تقريبا.
شبح الاشتراكية هذا بل ومنذ البيان، لازال يؤرق الراسمالية. وكل النماذج التي شكلتها الراسمالية او دعمت بنيتها وماهيتها، او التي تطرحها اليوم، كنموذج، اقتصادي اجتماعي سياسي، ارادت به ان يكون بديلا ينافس  الاشتراكية، اخفقت. لان مضمونها الاقتصادي، لم يخرج عن الية السوق الراسمالية، ولذا لم ولن  تتمكن من تلافي الازمات والتناقضات المصاحبة لالية الراسمالية، كونها في الواقع جزء عضويا من النظام الراسمالي العالمي. فتجارب، الاشتراكية الديموقراطية (المانيا، السويد مثلا)، لم تكن سوى واحدة من دول الراسمالية المتقدمة، دول راس المال المالي، التي تتنافس وتتشارك بينها الاسواق والمصير. وتعززت سيطرة راس المال المالي في اقتصاداتها، بعد ترسخ مواقع الليبرالية الجديدة ونظام عولمتها، بنهاية  تجربة(المعسكر الاشتراكي)، بتداعياته العالمية.
وكل محاولات العثور على نظام بديل (بامل ان يكون غير اشتراكي)، التي قدمها ويقدمها حتى الان، بعض منظري المدرسة الليبرالية الحديثة، عبارة عن نماذج وتجريدات جوفاء، لا تستطيع ان تقف على اقدامها في ارض الواقع،  لانها  تحليق، في فضاءات الوهم او التزييف(حتى وان جرى تصديرها تحت  تجريد العولمة). فاقتصاد مابعد الراسمالية، او اقتصاد العالم الافتراضي،او اقتصاد الانترنيت، او اقتصاد مابعد الصناعة، اقتصاد الاسواق المالية والاسهم والسندات (واعتبار اليتها تعبيرا عن راسمالية شعبية، يتشارك فيها العمل وراس المال الملكية) الخ، لم تستطع مساعدة النظام الراسمالي على تجاوز ازماته وطبيعة اشكاليته البنيوية.
فكل هذه التجريدات او التحليقات ، تدافع في الواقع، عن فكرة ازلية ، النظام الراسمالي، والياته. وتهدف الى  تبرير استمرار  السياسات ذاتها، رغم تكرر الازمات و فشل سياسات مواجهتها، في تجارب سابقة.

مقتطفات من البيان الشيوعي
(1)البرحوازية  لم تُـبق على أیة رابطة بین الإنسان و الإنسان سوى رابطة المصلحة البحتة, و الإلزام القاسي بـ "الدفع نقدا". و أغرقت الرعشة القدسیة للورع الدیني, والحماسة الفروسیة, وعاطفة البرجوازیة الصغیرة, في أغراضھا الأنانیة المجرَّدة من العاطفة, و حولت الكرامة الشخصیة إلى قیمة تبادلیة, و أحلّت حریة التجارة الغاشمة وحدھا, محل الحریات المُـثـبَتة و المكتسبَة التي لا تحصى. و بكلمة أحلّت استغلالا مباحا وقحا
مباشرا و شرسا, محل الإستغلال المُغلَّف بأوھام دینیة . فالبرجوازیة جرّدت كل الفعالیات, التي كان یُنظر إلیھا حتى ذلك الحین بمنظار الھیبة و الخشوع, من ھالتھا. فحوّلت الطبیب و رجل القانون و الكاھن والشاعر و العالم, إلى أجراء في خدمتھا . و البرجوازیة كشفت كیف أنّ عرض القوة الشرسة, الذي كانت الرجعیة تُعجَب بھ في القرون الوسطى, قد وجد تتـمّـته المؤاتیة في التكاسل إلى أبعد حدود الكسل.
فالعلاقات الجامدة الصَّدئة مع ما یستتبعھا من تصوُّرات و أفكار قدیمة موقّرة, تتفكك كلھا, و كل جدید ینشأ یھرم قبل أن یصلُب عوده, و التقسیم الفئوي القائم یتبدد ھباء, و كل ما ھو مقدّس یدنّس, و الناس یُجبرون في النھایة على التفرّس في وضعھم المعیشي, و في علاقات الانتاج المتبادلة.
(2)البرجوازیة..ھي الأولى التي بیَّـنت ما یستطیع النشاط الإنساني إتیانه. فأتت بعجائب تختلف كلیا عن أھرامات مصر, و الأقنیة الرومانیة, و الكتدرائیات القوطیة"...
و" البرجوازیة لا تستطیع البقاء بدون أن تُـثـوِّر باستمرار أدوات الإنتاج, و بالتالي علاقات الإنتاج المجتمعیة". " ھذا الإنقلاب المتواصل في الإنتاج, وھذا التزعزع الدائم في كل الأوضاع المجتمعیة, و القلق و التحرك الدائمان, ھذا كلھ یمیّز عصر البرجوازیة عمّا سبقھ من عصور".
" فالبرجوازیة, في غضون سیطرتھا الطبقیة التي لم یَكد یمضي علیھا قرن من الزمن, خَلقت قوى منتجة تفوق بعددھا وضخامتھا ما أوجدتھ الأجیال السابقة كلّھا مجتمعة. فالآلة, و إخضاع قوى الطبیعة, و استخدام الكیمیاء في الصناعة و الزراعة, و الملاحة البخاریة, و سكك الحدید, و التلغراف الكھربائي, و استصلاح أراضي قارّات بأكملھا, و تسویة مجاري الأنھار لجعلھا صالحة
للملاحة, و بروز عوامر كاملة من الأرض- أيّ عصر سالف كان یتصوّر أنّ مثل ھذه القوى المنتجة كانت تھجع في صمیم العمل المجتمعيّ؟
"فالبرجوازیة لعبت, في التاریخ, دورا ثوریا بارزا كل البروز" .

(3)أنّ وسائل الإنتاج و التبادل, التي انبنت البرجوازیة على أساسھا قد اسـتُحدثت في المجتمع الإقطاعي. و عند درجة معینة من تقدّم وسائل الإنتاج و التبادل, لم تعد الشروط التي كان المجتمع الإقطاعي ینتج فیھا و یبادل, لم یعد التنظیم الإقطاعي للزراعة و المانیفاتورة, بكلمة لم تعد علاقات الملكیة الإقطاعیة
تتلاءم مع القوى المنتجة في تمام نموّھا. فكانت تُعیق الإنتاج بدلا من دفعھ نحو التقدّم, و لذا تحولت الى قیود كان لا بُدّ من تحطیمھا و قد حُطّمت. 
"البرجوازیة عاجزة عن أن تبقي زمنا أطول الطبقة السائدة, و أن تَفرض على المجتمع شروط وجود طبقتھا كقانون أعلى. فھي عاجزة عن أن تسیطر, لأنھا عاجزة عن تأمین عیش عبدھا, حتى في إطار عبودیته, لأنھا مرغمة على تركه ینحطّ إلى وضع یُلزِمھا بأن تُعیله, بدلا
من أن یُعیلھا. فالمجتمع لم یعد یستطیع أن یحیا تحت سیطرتھا, أو بعبارة أخرى, لم یعد وجود البرجوازیة یلائم المجتمع .
فالشرط الأساسي لوجود الطبقة البرجوازیة و لسیطرتھا, ھو تكدیس الثروة. "