طريق


محمد نجيب وهيبي
2020 / 4 / 30 - 03:28     

طريق...
اطلّ من شرفة مكتبه بالوزارة على التجمع العُمّالي الغاضب المُطالب بتحسين جودة الحياة البائسة للعُمّال ، هم هناك منذ ثلاثة أيام مُساندة للاعتصام القائم منذ شهر تقريبا ، كان في كامل أناقته ، تعلو مُحَيّاه مسحة من غضب وتوتّر وارتباك ، إرتفعت من الجمع الشعارات ضد الحكومة ، يبدو أن احدهم لمحه وهو على شرفة الشُّبَّاك فتردّدت الشعارات الغاضبة ضِدَُّه ، زمّ شفتيه بغضب وأنقبضت عضلات وجهه حتّ ازّت اسنانه من إحتكاكها ببعض ، سحب يديه من على الشرفة وعقدهما أمام ظهره وتراجع إلى مكتبه قفزا ...
كان يُحدّثُهم طيلة الشهر الفارط ، ويتقاسم معهم بعض كؤوس الشاي وفناجين القهوة ليالي الاعتصام ، يُفاوضهم تارة ويغني معهم الشيخ إمام حتى ، في أحيانٍ أخرى ، طلب منهم الصّبر حتى تستقرّ الاحوال وسيجدون حلولا لمطالبهم المشروعة ، لَكِنّهم رفضوا مزيدا من الصّبر ، اعيتهم الحياة و ارهقهم بؤسها وشقائهم حدّا لم تعُد فيها اجسادهم تُطاوع عقولهم من أجل الصمت .
هو يعلم ذلك ويعرف انهم مُحِقُّون ولكن ما باليد حيلة واخبرهم بكل هذا وحدّثهم في الاستراتيجيا ، في إستمرارية الدولة و عن ترابط القطاعات واولويات المصلحة العامة و إكراهات الموازنة ولِكِنَّهم للاسف لا يفهمون ، جعلهم جوعهم صُمًّا ، هذا ما كان يُردِّدُه بينه وبين نفسه كلما صعد إلى مكتبه بعد فشل جلسة مفاوضات وسمر معهم ...
لمّا كان في سنته الرابعة و الاخيرة بالجامعة ، أقاموا إعتصاما تاريخيا بعد سلسلة من التحركات الاحتجاجية عطّلوا فيها الكلية لشهور ، كانت مطالبهم المعلنة إلغاء قرارات طرد في حق بعض الطلبة وفرض الشفافية في مجالس الاقسام وإسناد الأعداد...الخ ، ولكِنّهم في الحقيقة منخرطون في حملة مركزية للتحريض السياسي ضد نظام الحكم القائم ، كان العميد يعلم ذلك جيّدً وهو يُفاوضهم دون امل ، كانوا يعلمون أنه يعلم ...
أخبرهم العميد مساءا أن تَحَرُّكاتهم خرجت من تحت إشراف سلطة الإطار التعليمي، وان مجموعات اخرى من الطلبة تستعد لتحرك مضاد قد يدخل الجامعة في فوضى بدعوى انهم يُسَيِِّسون الجامعة و يُعطّلون العملية التعليمية و أنّهم يرتكبون إثم الخروج عن الحاكم ومعصية ولي الأمر. وان التعليمات وردت له بانهم سيتفاوضون من الغد مع قيادات أمنية عليا .
في آخر تلك الليلة تم إقتحام الكلية بعشرات من أعوان البوب والحرس فخُرّبت ، واصيب المآت من الطلبة بين الكسور و الارتجاجات و الرضوض الخفيفة ، وأعتقل العشرات ...
رَنّ جرسُ الهاتف فجأة ، قاطعا عليه ، عليه غضبه و حبل افكاره وذكرياته .
- الو تفضّل
- الو ، تم إتخاذ القرار في مستوى القيادة الأمنية على ضرورة إنهاء التحَرُّكِ الاحتجاجي بالقوة ...
- ولكن ... من قرَّرَ هذا ... كيف ... لم أنهي المفاوضات ... لن أقبل بهذا وستتحملون المسؤولية .
أخبروه بكل صرامة واقتضاب أن القرار إتُّخِذ على أعلى مستوى امني ، التحرُّكُ والمظاهرة سيخرجان عن نطاق المعقول قريبا وهما يجتذبان شرائح أوسع فاوسع وهناك معلومات أمنية أكيدة عن إعداد البعض لعمليات تخريب واسعة تنطلق من قاعدة الاعتصام والمظاهرة ، وان الأمر لم يعد يحتمل مزيدا من التأخير ، سَيُنَفّذُ الإخلاء هذه الليلة بشكل خاطف وسريع ودون إصابات .
أعْتُقِلَ لشهر بين مكاتب الداخلية واروقة امن الدولة ، تعرّضوا لِشتّى أنواع التعذيب ، لم تُوَجّه لاغلبهم تُهم وأطلق سراحه دون محاكمة ، راجت إشاعات عن موت بعض الطلبة تحت التعذيب أو عند الإيقاف ، لم يتاكّدوا من ذلك ولَكِنّهم علموا في ما بعد أن مجموعة من عمليات الانتحار المُسترابة حدثت في صفوف بعض ساكني المبيتات الجامعية .
بينما كان في إحدى جلسات التفاوض والسمر مع العُمَّال المعتصمين ، طلب منه أحدهم مُحْرَجًا و متلعثما أمام الجميع، إن أمكن له السعي بشكل إنساني من أجل تدبّرِ سرير لامه المريضة في أحد مستشفيات العاصمة للضرورة والاستعجال ، نَفّذ له طلبه بكل إستحباب ولم يُقحم الحادثة في اي من جلسات التفاوض الأخرى ، فلكم احرجه سابقا بعض سماسرة النقابة الرسميين بطلبات أكثر وباستحقاق مُتعالي أيضا ، حتى أن احدهم مقابل خدمة وعده أنه بعد بعض الوقت عندما تفتر حماسة المعتصمين يمكنه التدخل لإيجاد حل وسط مرضي له ويدفع العمال للانصراف ..
أثناء الإيقاف ، قبل أن يُحَوّلوا لامن الدولة ، وجدوا بحوزته كتابا احمرا وبعض المنشورات السرية ، بعد دورتين أو ثلاثٍ من الصفع والركل والتنكيل ، قال له الباحث وهو من النوع المُتثاقف ، بابتسامة حقد صفراء، " كتُب قديمة متع ثورات وأوهام وتسبوا في نظام يقري ويوكل فيكم ؟ ما تقليش واحد سارح كيفك يحب يحكم ؟؟"
هو سليل أسرة شبه معدمة من أحد ارياف الداخل المنسي ، قبل سنة من أحداث الجامعة ، أثناء أحد أيام عطلة الصيف ، حمل على الفجر حقيبة ظهره التي جهَّزها برغيفي خبز و حفنة زيتون و القليل من الزيت وكتابين احمرين ، قَبّل يدي امه ، وساق شويهاتهم الخمسة وحملانها الثلاث وبقرتهم إلى المرعى ، كان يُحدّثُ الناس في قريتهم عن البلاشفة والكومونة في ليالي الحصاد ، يُنْصِتون له باهتمام ثم ينصرفون عنه وقد "قصّروا به رتابة ليلهم " .
هي أيضا قالت له يومها باستهجان " هل يصير السارح رئيسا !! " كانت قريبته نوعا ما وتقاسما فضاءات الرعي احيانا ، احبا بعض باكرا ، انهت دراستها الثانوية وتمكن عمها "العمدة" من أن يتدبَّر لها خطة مُعلّمة معوِّضة ، صارت بعدها مُعلّمة وتزوّجت وانجبت ابناءا ..
عقد مع المعتصمين جلسة أخيرة ، اخبرهم أنه يسامحهم على سَبِّهم له في الشعارات فهو منهم وإليهم ، طلب منهم خفض سقف مطالبهم ، وترَجّاهم أن لا يُصَعّدوا الحركة ، وعدهم أن يضمن لهم الحد الأدنى الممكن إن هم التزموا وتواصلوا بشكل رسمي من خلال قناة نقابية رسمية ،قال لهم في النهاية ان هناك قطاعات واسعة من نُضرائهم ترفض تحرّكهم ويعتبرونه إفسادا في الارض وخروج غير مشروع عن اولي الأمر ورُبّما تفلتُ الامور ، نصحهم أن لا يُسيّسوا الإعتصام وأن لا يُعطّلوا ماكينة الانتاج وأن لا يرتكبوا خطأ ضرب هيبة الدولة وخطيئة شق وحدة الصف الوطني .. وانصرف للقاء تلفزي يبسط فيه استراتيجيا الحكومة لضمان الاستقرار والسلم الأهلي زمن الديمقراطية ، علم فجر تلك الليلة أن ساحة الاعتصام غرقت في سحابة من الغاز المُسيّل للدموع بين فرقعة الماتراك و تاوهات المُعتصمين في جلسة مفاوضات وسمر أخيرة لم تؤثثها فناجين القهوة والشاي الليلي .
ارغى وازبد وهدد بالاستقالة ، إختفى عن الساحة الإعلامية ، ظهر بعد شهرين في جلسة للبرلمان مدافعا ضد سحب الثقة من الحكومة ومستحضرا في خطابه ذاكرته النضالية ...
كانت سنة زمّة باتم معنى الكلمة ، زيتوناتهم القليلة لم يُحصّلوا منها حتى ما يكفيهم زادهم ، والده توَجّه لإحدى مدن الساحل ليعمل مياوما حتى يجمع بعض الأموال تكفيهم شطط العيش ، لم يعلم أحد أنه تم إعتقاله ، خَسِرَ سنته الجامعية تلك و أحتسبها ضريبة لا تفوق في قسوتها زمة الموسم الفلاحي ، علموا بعد أن أطلق سراحهم أن عميدهم كان من بين قلة قليلة ممن إستقالوا عقب الأحداث الدامية ، انتهت مسيرته الإدارية ولكنه حافظ على إحترامه لنفسه ومكانته العلمية عند دوائر السلطة و طلبته ، علم كذلك أن الباحث الذي تولى امرهم اول الإيقاف كان اصيل إحدى قرى الريف المشابهة لهم .
لما استقالت الحكومة بعث مؤسسة تنموية بتمويل دولي لتدريب الكوادر الشابة على انجاح الانتقال الديمقراطي ، كان يزور أحيانا قريتهم الريفية البائسة كما حالها دوما ، كانت امه قد باعت الشويهات والبقرة لجارتهم لعدم قدرتها على رعيهم ، هم الآن بين ايدي أمينة لشاب آخر قد يصل الجامعة يوما ، لم يعد يُحدّثُ أبناء عمومته عن الثورة ، صار يُقصّرُ ليلته بسماع مطالبهم ونثر وعوده لهم حول مرور قطار التنمية في أحد الايام .