غروب ....


محمد نجيب وهيبي
2020 / 4 / 28 - 10:57     


أحبّته في سن مُبكِّرة مثلما فعل و رُبّما أكثر ، كانت فتاة بسيطة الطّباع ، طَيِّبة المعشر ، من عائلة من اربع انفار مُحافظة لوالدين موظفين متوسطين في الدولة ، لم تُنهي دراستها الجامعية ، أو هي لم تبدأها بعد .
تعرّفت عليه في حفل لاقاربهم كان حاضرا فيه صديقا لأحدهم ، شابٌّ جامعي وسيم ، لَبِقٌ و مُحدِّثٌ بارع ، كانت في السنة الخامسة من التعليم الثانوي ..
هو من عائلة شعبية متوسّطة ، والده عاملٌ يومي و امه تحترف تربيتهم ، من أصول ريفية استوطنوا احواز العاصمة ، كانو "مستورين" عموما ، الكل راضي بما قيل أن الله قسمه لهم حوله ، أما نصيبه من "القسمة" فكان رافضيا ، جامحا ، تميّز في الدراسة الابتدائية و الثانوية ، حكمه قانون المنافسة و التفوّق لطمس حالة الرضا السّاذجة التي كانت تَلُفّهُ من كل حدب وصوب ، تعلّم الثورة على ما هو كائن وتدرّب أكثر بِكُلِّ عِصامية أن يُرِوّض ثورته تلك خدمة لِتقدُّمه وتميزه الشخصي ..
بُنيته الجسدية رافقت ذكاءه واسندته كما لم يحدث مع أخيل ، عاش حياة نزقة نوعا ما ، تعدّدت علاقاته وتنوعت بين الشبق و تقديم بقية الخدمات المختلفة ...
إقتنصها في الحفل بكل بساطة ، سيطر عليها ، وعلم ذلك يقينا من الوهلة الأولى ، لم يتراجع رغم صغر سِنّها ورغم أنه لم يكن "بيدوفيلا" حقّاً ولكن اغرته التجربة وأغراه التحدي في الثورة على الناموس ...
امه صانعة أجيال تقليدية بحنانها المفرط وصرامتها البلهاء ، والده من عِصبة المحافظين التقليديين أيضا ، أولئك الذين تعييهم الحيلة وتُعجزهم قساوة الحياة أن يعلموا من أساليب التربية ما يفوق التخويف من الحرام والضرب بالعصا ، بؤسهم من بؤس وبساطة جهازهم الايديولوجي والعكس بالعكس حتى يكتشفوا في النهاية أن لا سُلطان لهم على بنيهم سوى الحب أو الحقد .
نشأ وتربى على هذه الثنائية وإمتاز بطموح غريب يتحرَّكُ بينهما.
تقابلا كثيرا ، كانت مولعة به حدَّ الجنون فقد أخرجها لعالم كانت تحلم أن تقرأ عنه مثلما تقرأ اليس في بلاد العجائب ، كانت روايات عبير وزهور ممنوعة عندهم في المنزل ، أدخلها قاعات الشاي والسينما ، جال بها كورنيش المرسى و حلق الوادي ، حلّق بها في سيدي بوسعيد ، لم يلمس منها أكثر من يدها ولم يسعى يوما أن يُقَبِّلَ أكثر من جبينها ، حتى أنه مرّة أدخلها معه الى الجامعة حتى ترى ما بداخلها وتسبِق صاحباتها إليها ، وطِأت قدماها مدرج الكلية لأول مرة وهي في السادسة ثانوي ، جلست في المشرب ترقب الغادي والرائح ، طلبة ، أساتذة ، طاولة بيلوط ، إجتماع عام لاتحاد الطلبة ، موسيقى صخب ، فتيات دون ميدعة ، عناق هنا قبلة هناك ، هو معها هنا يُعَرّفُها على كل هذا ، دون أن يسعى معها لشيئ حتى القليل مما تسمع وما يحدث عندهم في المعهد ، تملّكتها الغيرة عليه من شيطان الجامعة وأقسمت أن تُسْرِع الخطى لتكون ملاكه الحارس فيها ، كان قِديسا في عينيها ..
هذه سنته الجامعية الثالثة ، بقيت سنتان على الماجستير ، ثم مناظرة القضاء مباشرة ليصير حاكما رئيسا ، لو كان الأمر بيده لحكم من الآن ، هو قاضي من يوم تأوّهت امه به ، عاش حياة الجامعة بالطول والعرض لم يتخلّف عن سهرة مجون واحدة ولم يتراخى يوما عن مبارزة عشق أو دعوى حُبٍّ عابر ، يلتهم العلاقات بنهم مثلما يلتهم مراجع القانون ، صاحبُ صاحبه ، وفي كُلِّ هذا لم تخمد ثورة الّصِبا والطفولة عِندَه ، عليه أن يكون الأفضل ، لم يتخلّف كثيرا عن أنشطة المُعارضة في الجامعة ، كما لم يتخلّف يوم قاد مظاهرات ذكرى الانتفاضة في المعهد لتجوب كل الولاية ، لم ينتمي يوما لأي تنظيم لا من قريب ولا من بعيد ، سعت خلفه بعض حلقات الاخوان وراج إسمه بينهم كثيرا ، تم إقتناصه في المظاهرة يومها وإيقافه تعرّض للتعنيف ولَكِنَّه لم يعترف بشيئ فهو لا يعلم شيئا ولم يُشِر حتى نصف إشارة لأي من زملائه ذوي الشبهة ، ساعدته في ذلك بنيته الجسدية ، مكّنته قُدراته الكلامية على تجاوز محنته و قسوة البحاثة ، بل أوهمهم أكثر من ذلك ، يذكُر أيضا أنه ما وجد نفسه في قيادة المظاهرة أصلا الا رغبة في جذب إنتباه زميلته إبنة رئيس المنطقة الذي أوقفه وقد نجح في ذلك في النهاية ..
كانت جيدة في العلوم ولكنها توجّهت آداب حتى تلحق به لُكُلِّية الحقوق وتصدق نذرها في حراسته ، إجتازت الباكلاوريا بإمتياز ، وكان هو قد أنهى رسالة الماجستير ، يَسبِقُها دوما كما يفعل مع الجميع ، كادت ترقص في المدرج وهو بصدد عرض أطروحة تخرّجه ولكم تمنت أن تلكم ذلك الأستاذ العجوز الرذل الذي ازعجه بالأسئلة ، بل كادت توسعه ضربا حقا فهي رياضية ممتازة ..
لمّا اخذها معه للكلية أول مرّة ، لم يُخبرا أحدا أنها تلميذة ، ولكِنّها علقت في ذهن الجميع وعقدت صداقات عِدّة دون أن يعلم ، سيطرت عليهن جميعا تقريبا ، حتى تحميه من زلاته ونزواته ، وعرفت لذلك عنه الكثير..
كان يومها الجامعي المبكر ذاك ترسانة لا تنضب من الحكايا والخرافات مع صاحباتها في المعهد لم تُقاربها حتى مغامرات سيدي بوسعيد أو الانزواءات الغابية هنا وهناك لبعضهن أو حتى قبلة خاطفة في منافي المعهد وخفاياه ...
تخلّص في الاثناء من حلم مراهقة الرئيس الحاكم القاضي في شؤون الناس ، وإختار لنفسه عصا العدالة التي لا تكبح طموحه ، أدرك سريعا أن الرئاسة كذبة مؤجّرة للغير وأن سلاحه أن يقاضي الغير من أجل نفسه لِيُقيم عدلا غائبا في الأعراف حيث نشأ ...
كان قد صادق أخاها من خلال قريبهم المشترك ، حضر حفلها لإجتيازها للباكالوريا ، إختلى بها رغم الجمع ، عانقها وقبّلها لأول مرة منذ التقاها قُبلة عشق طويلة غارقة في الشبق ، أقسمت حينها أنها معه ولو إلى جهَنّم ...
إجتاز بتفوق كعاهدته "الكابا " مناظرة المحاماة ، وصار رسميا محاميا مُتدرّبا ، تقدّم لخطبتها وافقت العئلتان دون إبطاء ، ابواه طلبا كسر جموحه وابواها طلبا التخلّص من عورة ، رقصت فرحا حتى أنها إنقطعت حُبّا عن مواصلة مشوارها الجامعي وهي في سنتها الأولى فقد دخلت الكلية سابقا من خلاله وعبره ..
لم تدخر جُهدًا في إسناده ، ولم يدّخر مليما في إسناد أبويه وإخوته والرفع من شأنهم ،أحبته كثيرا وأنجبت له من الأبناء ثلاثا ، جمع المال بسرعة وارتقى في سلم العلاقات رفيعا ، صار من سُكّان الأحياء الراقية وحاكما بين الناس ، لم تبرد وسامته كثيرا ولا كفّ لسانه ، لم يفتر حُبُّهُ لها كما لم تنقطع نزواته ونزقه وتوقه للحرية ، ثائر دوما لم تُغادره صِباه ولم يَكُفّ عن تلبية نداء عشق هنا و لعبة حُبٍّ هناك ، لم يخلو جِرابه يوما من خليلة ، هو في الأصل رئيس يقضي بين الانسان وسوسته عقابا أو تسوية صُلحية لا يتوانى في الحكم أبدا ..
هي تعلم ذلك معرفة وحدسا ، ولكنه لم يعد ياخذها معه للكلية مذ تزوجا ، ما عادت حكاياتها القديمة تُقنعها وما عادت ترى نفسها حيث كانت ، رُبّما صاحب أخرى لمشرب الجامعة ولم يُخبرا أحدا أنها تلميذة ، ندمت انها لم تسعى لتكون عاشقة تحت شجرة مشرب الكلية . قبّلته من جبينه وهو نائم ، قبّلت أطفالها قررت أن تثور ..
لم يُطلّقها غيابا ، ورفض فرصة زواج تاريخية من إبنة مسؤول كبير في الدولة ، رغم مُضي عشر سنوات على مُغادرتها ، أودع أبناءه عند امه حتى تمارس هوايتها في صناعة الأجيال وتفرّغ لمهمته في التحليق عاليا و"تحسين النسل" أحيانا ، لم يقطع أهلها ولم يقطع عنهم ذريتهم ...
حدث إبنه مرّة وهو يزاحمه الوسادة ، أنه يُتابع أخبارها ، وأنها تتقدم ناجحة في حياتها وأنه لم يُحِبّها يوما مثلما فعل يوم لم تُشرق عليه صباحا .
لم يُخبر أحدا أنها هاجرت وأنها بصدد إعداد رسالة الدوكتراه وأنها تعيش قِصّة حُبٍّ خاصة بها ، ولكِنّه عزم أن يلكُم الأستاذ المناقش في وجهه مباشرة إن أزعجها كثيرا بالاسئلة و أن يرقص لها فرحا عندما تنجح ، حتى هي لم يُخبرها .