رأس المال: الفصل الثاني عشر ج 3 (47)


كارل ماركس
2020 / 4 / 28 - 09:54     



تقسيم العمل والمانيفاكتورة
ثالثا – الشكلان الأساسيان للمانیفاكتورة: المانيفاکتورة المتنافرة والمانيفاکتورة العضوية
تنقسم المانيفاکتورات إلى شكلين أساسيين، يمثلان، رغم تداخلهما أحيانا، نوعين مختلفين جوهرياً، يضطلعان بدور مختلف تماما عند تحول المانيفاکتورة فيما بعد إلى صناعة آلية كبرى. وينبع هذا الطابع المزدوج للمانيفاکتورة من طبيعة المصنوعات نفسها. فهذه الأخيرة تتكون إما عن طريق التجميع الميكانيكي الصرف للمنتوجات الجزئية المنفصلة، أو أنها تدين بشكلها النهائي لسلسلة متعاقبة من العمليات والمعالجات المترابطة.

وعلى سبيل المثال تتألف القاطرة من أكثر من 5000 جزء منفصل. لكنها لا تصلح مثالا على النوع الأول من المانيفاکتورات نظرا لكونها من إبداعات الصناعة الكبرى. ولكننا نجد مثالاً رائعاً في الساعة التي يستخدمها وليم بيني لعرض التقسيم المانيفاکتوري للعمل. لقد تحولت الساعة من منتوج فردي لحرفي من نورنبرغ إلى منتوج اجتماعي يتولاه عدد غفير من العمال الجزئيين، مثل: صانع المواد الأولية؛ وصانع النوابض؛ وصانع المينا؛ وصانع النوابض اللولبية؛ وصانع الأحجار؛ وصانع المرتكزات الياقوتية؛ وصانع العقارب؛ وصانع علبة الساعة؛ وصانع البراغي؛ والمذهب، هذا علاوة على تشعبات كثيرة مثل صانع العجلات (ثمة فارق بين صانع عجلات النحاس وصانع العجلات الفولاذية)؛ صانع التروس؛ وصانع آلية ملء الساعة وتحويل العقارب؛ و acheveur de pignon (مثبت العجلات على المحاور وصاقل الذؤابات وإلخ)؛ (وصانع المرتكزات)؛ Planteur de finissage (ومركب مختلف العجلات والمحاور في الآلية)؛ وfinisseur de barillet (مسنن العجلات، وموسع الثقوب إلى الأحجام المطلوبة، ومثبت مطرقة الميزان)؛ وصانع الأسطوانات إذا كان ميزان الحركة أسطوانياً؛ وصانع عجلات الميزان؛ وصانع الرقاص؛ وصانع الصاروخ (آلة لضبط الساعة)؛ و planteur d ‘ échappement (ميزان مركب ناظم لسرعة الحركة)؛ وبعد ذلك repasseur de barillet (صانع علبة النابض)؛ وصاقل الفولاذ، وصاقل العجلات؛ وصاقل البراغي؛ وراسم الأرقام؛ والطلاء (الذي يضع المينا على النحاس)؛ وfabricant de pendants (صانع القوس أو الحلقة لعلبة الساعة)؛ وfinisseur de charniere (مركب مفصلة غطاء الساعة)؛ وfaiseur de secret (مركب نابض فتح الغطاء)؛ والنقاش والحفّار؛ وpolisseur de boite الذي يصقل علبة الساعة وإلخ، وإلخ، وأخيرا عامل التجميع repasseur الذي يركب نهائياً آلية الساعة الناجزة ويشغلها. وإن أجزاء قليلة من الساعة لا غير تمر بعدة أياد، وكل هذه الأعضاء المبعثرة (membra disjecta) (*) إنما تجتمع أول مرة في يد من يؤلفها في كل آلي واحد. وهذه العلاقة الخارجية البحت بين المنتوج الناجز وشتى عناصره المتنوعة تجعل اجتماع العمال الجزئيين في ورشة واحدة محض مصادفة، كما هو الحال في أنواع الإنتاج المماثلة الأخرى. ويمكن للأعمال الجزئية بدورها أن تنفذ بشكل حرف منفصلة؛ وهذا ما نجده في كانتون فادت ونيفشاتل؛ بينما تقوم في جنيف مانیفاكتورات كبيرة لصنع الساعات، أي مؤسسات ترتكز على تعاون مباشر بين العمال الجزئيين بإدارة رأسمال واحد. ولكن حتى في مثل هذه الحالة نادراً ما يجري صنع المينا والنوابض والعلبة في المانيفاکتورة نفسها. فالإنتاج المركب في المانيفاکتورة لا يكون مربحاً هنا إلا في حالات استثنائية، بسبب حدة التنافس بين العمال الراغبين في العمل في المنزل، وبسبب تجزئة الإنتاج إلى عدد كبير من العمليات المتنافرة التي قلما تتيح استخدام وسائل العمل المشتركة؛ كما أن الرأسمالي يقتصد في الإنفاق على المباني في حالة تبعثر الإنتاج وما إلى ذلك (1). بيد أن وضع هؤلاء العمال الجزئيين الذين يعملون في المنزل، لحساب رأسمالي (صناعيfabricant, établisseur )، يختلف تماما عن وضع الحرفي المستقل الذي يعمل لزبائنه هو (2).

أما النوع الثاني من المانيفاکتورة، أي شكلها الأكمل، فإنه يصنع منتوجات تمر بأطوار بناء مترابطة، بسلسلة عمليات متعاقبة، كما هو حال السلك في مانيفاکتورة الإبر، حيث يمر بأيدي 72 وحتى 92 من العمال الجزئيين المتخصصين.

وبمقدار ما إن مثل هذه المانيفاکتورة تجمع حرفة مشتتة في الأصل، فإنها تقلص الانفصال المكاني بين الأطوار الخاصة لصنع المنتوج وتختزل الوقت الضروري لنقل المنتوج من مرحلة إلى أخرى مثلما تختزل العمل المنفق على هذه النقلات (3). وبذلك يتم اكتساب قدرة إنتاجية أكبر بالمقارنة مع الحرفة، علما بأن هذا الكسب ينجم عن الطابع التعاوني العام للمانيفاکتورة. ومن جهة أخرى، فإن مبدأ تقسيم العمل المميز للمانيفاکتورة، يقتضي عزل مختلف أطوار الإنتاج وفصلها إلى أعمال جزئية مستقلة، ذات طابع حرفي. وإن إقامة وإدامة الصلة بين الوظائف المعزولة تقتضي نقل المصنوع من يد إلى أخرى، ومن عملية إلى أخرى على نحو دائم. ومن وجهة نظر الصناعة الكبيرة يظهر هذا الوضع كمحدودية مميزة ومكلفة، محدودية ماثلة في مبدأ المانيفاکتورة نفسه (4).
لو عاينا كمية محددة من المادة الأولية، مثل الخرق في مانيفاکتورة الورق أو الأسلاك في مانيفاکتورة الإبر، لرأينا أنها تجتاز في أيدي عمال جزئيين مختلفين سلسلة من أطوار الإنتاج المتعاقبة زمنياً حتى تكتسب شكلها النهائي. ولكن لو عاينا ورشة العمل كآلية كلية لرأينا المادة الأولية حاضرة في جميع أطوار الإنتاج مرة واحدة. فالعامل الكلي المؤلف من عمال جزئيين يسحب السلك بمجموعة من أياديه المسلحة بالأدوات، بينما تنهمك أياديه وأدواته الأخرى في الوقت ذاته بتعديل هذا السلك وقطعه وتدبيبه وإلخ. وبهذا فإن المراحل المختلفة للعملية المتعاقبة في الزمان تتحول إلى مراحل متجاورة في المكان. من هنا منبع إنتاج كمية أكبر من السلعة الناجزة في الفترة الزمنية ذاتها (5). ورغم أن هذا التزامن ينجم عن الشكل التعاوني العام للعملية الكلية، إلا أن المانيفاکتورة لا تقتصر على استخدام شروط التعاون كما تجدها جاهزة بمتناول اليد، بل إنها تسهم في خلق هذه الشروط إلى حد معين بتقسيم النشاط الحرفي أولا. ومن جهة أخرى فإنها لا ترسي هذا التنظيم الاجتماعي لعملية العمل إلا عبر تسمير العامل بتفصيل جزئي واحد.

وبما أن المنتوج الجزئي لكل عامل جزئي ليس سوى مرحلة خاصة من تطور المصنوع الواحد ذاته، فإن كل عامل يقدم للآخر، أو كل زمرة عمال تقدم للأخرى مادتها الأولية. وأن نتاج عمل الواحد يؤلف نقطة الانطلاق لعمل الآخر. وهكذا فإن كل عامل يحرك الآخر بصورة مباشرة. وإن وقت العمل الضروري لبلوغ النتيجة النافعة المرسومة في كل عملية جزئية يتحدد بالتجربة، وتقوم الآلية الكلية للمانيفاکتورة على وجوب إحراز نتيجة معينة في وقت عمل معين. وبهذا الشرط وحده يمكن لمختلف عمليات العمل المتكاملة أن تجري بصورة متواصلة متماثلة في الزمان ومتجاورة في المكان. ومن الواضح أن هذه التبعية المتبادلة المباشرة بين الأعمال، وبالتالي بين العمال، ترغم كل واحد منهم على ألا ينفق في أداء وظيفته أكثر من وقت العمل الضروري، مما يولد استمرارية وتماثلا وانتظام وانضباط (6)، بل شدة عمل مختلفة عما نجده في الحِرفة المستقلة، أو في التعاون البسيط. وواقع أنه يجب ألا ينفق على صنع السلعة أكثر من وقت العمل الضروري اجتماعياً، يبدو في ظل الإنتاج السلعي على العموم قسراً خارجياً تفرضه المنافسة، أو لو توخينا التعبير بصورة سطحية، يتوجب على كل منتج فرد، أن يبيع سلعته بسعر السوق. أما في المانيفاکتورة، فإن صنع كمية معينة من المنتوج في وقت عمل معين يصبح قانونا تكنيكياً لعملية الإنتاج نفسها (7).

بيد أن مختلف العمليات تتطلب آماداً زمنية متباينة، ولذلك فهي تثمر كميات مختلفة من المنتوجات الجزئية في آماد زمنية متساوية. وحين يلزم العامل بأن ينفذ، يوما بعد يوم، عملية واحدة بالذات، فلا بد من وجود عدد مختلف من العمال لكل واحدة من العمليات المتباينة؛ فمثلا أن مانیفاكتورة سبك أحرف الطباعة تضع أربعة من عمال السباكة مقابل اثنين من عمال الفصل مقابل عامل صقل واحد، حيث إن السباك يصنع 2000 حرف والفاصل 4000 حرف، والصاقل 8000 حرف، في الساعة. وهنا يعود مبدأ التعاون بأبسط أشكاله: الاستخدام المتزامن لكثرة كاثرة تنفذ عملا متماثلا؛ إلا أن هذا المبدأ يعبر الآن عن علاقة عضوية. وهكذا، فتقسيم العمل في المانيفاکتورة لا يقتصر على مجرد تبسيط ومضاعفة الأعضاء المختلفة نوعياً للعامل الكلي الاجتماعي، بل ويقيم أيضا نسبة رياضية ثابتة تقرر الحجم الكمي لهذه الأعضاء، أي تحدد العدد النسبي للعمال أو المقدار النسبي لزمر العمال في كل وظيفة خاصة. وبالإضافة إلى التمفصل (Gliederung) النوعي، يطور تقسيم العمل قواعد ونسبة كمية لعملية العمل الاجتماعية.

وما إن توطد التجربة التناسب العددي الأنسب بين مختلف زمر العمال الجزئيين في نطاق معين للإنتاج، فلا يمكن توسيع نطاق الإنتاج بعد هذا إلا بمضاعفة زمر العمال الخاصة (8). زد على هذا أن بوسع الفرد ذاته تنفيذ بعض الأعمال على نحو بارع، مهما كبرت او صغُرت؛ من ذلك مثلا عمل المراقبة، ونقل المنتوجات الجزئية من طور إنتاجي إلى آخر وهلمجرا. وإن فصل هذه الوظائف، أي اسنادها إلى عامل متخصص، لا يغدو مفيداً إلا بزيادة عدد العمال المستخدمين، بيد أن هذه الزيادة يجب أن تشمل كل الزمر بالنسبة ذاتها.

إن كل زمرة مفردة، أي عدد العمال ممن يؤدون وظيفة جزئية بعينها، تتألف من عناصر متجانسة وتشكل عضواً مميزاً من أعضاء الآلية الكلية. إلا أن مثل هذه الزمرة، في بعض المانيفاکتورات، لا تزيد عن جسد جزئي للعمل، بينما تتشكل الآلية الكلية بفعل تكرار أو مضاعفة هذه الكيانات العضوية الأولية للإنتاج. ولنأخذ على سبيل المثال مانیفاكتورة قناني الزجاج. إنها تنقسم إلى ثلاثة أطوار متباينة جوهرية. أولا، الطور التمهيدي: تحضير مركب الزجاج – مزيج من الرمل والجير وإلخ – وصهر هذا المزيج في كتلة الزجاج السائلة (9). ويجري استخدام شتى العمال الجزئيين في هذا الطور الأول، كما في الطور الختامي – حيث يتم إخراج قناني الزجاج من فرن التجفيف، وتصنيفها ورزمها وإلخ.. وبين هذين الطورين يتم إنتاج الزجاج بالمعنى الدقيق للكلمة، أي معالجة كتلة الزجاج السائلة. وتعمل عند فتحة كل فرن زمرة كاملة تسمى في إنكلترا فتحة (hole) وهي تتألف من صانع قناني الزجاج (bottle maker) أو المنجز (finisher)، والنافخ (blower)، والموضب (gatherer)، والمنشد (putter up) أو (الكاشط whetter )، والناقل (taker in). وهؤلاء العمال الجزئيون الخمسة يشكلون خمسة أعضاء خاصة من جسم عامل واحد لا يستطيع أن يؤدي وظيفته إلا في وحدته، أي بالتعاون المباشر بين الخمسة. وإذا غاب عضو أصيب الجسد بالشلل. لكن فرن الزجاج في إنكلترا يمتاز بعدة فتحات – من 4 إلى 6 فتحات مثلا – لكل منها بوتقة فخارية تحتوي على الزجاج السائل، وتعمل عند كل بوتقة زمرة خماسية بتركيب مماثل. وإن تنظيم كل زمرة يقوم مباشرة على أساس تقسيم العمل، في حين أن الصلة بين مختلف الزمر المتماثلة تقوم على التعاون البسيط، الذي يحقق اقتصاد في استخدام احدى وسائل الإنتاج بفضل الاستعمال المشترك، ونعني بها فرن الزجاج. وإن كل فرن زجاج مثل هذا، بزمرة من أربعة أو ستة، يؤلف كوخ زجاج، أما مانیفاكتورة الزجاج فتشتمل على عدة أكواخ زجاج من هذا النوع سوية مع الأدوات والعمال اللازمين في أطوار الإنتاج الأولية والختامية.

وأخيراً، مثلما تنشأ المانيفاکتورة نفسها جزئياً من تجميع حرف شتى، فإنها تستطيع بدورها أن تنمو إلى مجمع من مانیفاكتورات عديدة. وعلى سبيل المثال تتولى بيوتات الزجاج الكبيرة في إنكلترا صنع البوتقات الفخارية لنفسها، لأن جودة المنتوج أو رداءته تتوقف على متانة البوتقة أساسا. وإن مانیفاكتورة إحدى وسائل الإنتاج ترتبط هنا بمانیفاكتورة المنتوج. وعلى العكس، يمكن لمانيفاکتورة المنتوج أن ترتبط بمانیفاكتورات تستخدم هذا المنتوج كمادة أولية أو تدمجه لاحقا بمنتوجاتها. وهكذا نجد أن مانیفاكتورة الزجاج الصواني تندمج أحيانا مع مانیفاكتورة صقل الزجاج، ومانیفاكتورة سبك النحاس الأصفر التي تنتج الأطر المعدنية لمختلف المصنوعات الزجاجية. وتشكل المانيفاکتورات المختلفة المتحدة فروع من مانیفاكتورة كلية واحدة، وإن كانت منفصلة مكانياً، إلى هذه الدرجة أو تلك، وهي تؤلف في الوقت ذاته عمليات إنتاج مستقلة حيث تمتاز كل واحدة بتقسيم خاص للعمل. ورغم كثرة المزايا التي تمنحها المانيفاکتورة المركبة إلا أنها لا تتوصل إلى وحدة تكنيكية فعلية، اعتمادا على قاعدتها الخاصة. ولا تنشأ هذه الوحدة إلا بعد أن تحول المانيفاکتورة إلى صناعة آلية.

بادرت حقبة المانيفاکتورة إلى اعلان تقليص وقت العمل الضروري لإنتاج السلع مبدأ واعياً لها (10)، وأخذت تستخدم الآلات على نحو عرضي لا سيما في تنفيذ بعض العمليات الأولية البسيطة التي يتوجب إجراؤها على نطاق كبير باستخدام قوة فائقة. ففي مانیفاكتورة الورق مثلا تُندف الخرق في طواحين خاصة، وفي مصانع التعدين تُسحق الخامات في مطاحن خاصة (11). لقد أورثتنا الإمبراطورية الرومانية الشكل الأولى للآلة بهيئة الدولاب المائي (12). وخلقت حقبة الحرفة اليدوية اختراعات عظيمة مثل البوصلة، والبارود، والطباعة، والساعة الأوتوماتيكية. ولكن الآلة بقيت على العموم تؤدي ذلك الدور الثانوي الذي يفرده لها آدم سميث بالقياس إلى تقسيم العمل (13). واضطلع الاستخدام العرضي للآلات في القرن السابع عشر بدور أعظم، نظرا لأنه قدم لعلماء الرياضيات العظام في ذلك الزمان نقاط ارتكاز عملية وحوافز لإرساء علم الميكانيك المعاصر.

لكن الآلات التي تسم مرحلة المانيفاکتورة تتمثل في العامل الكلي المؤلف من عمال جزئيين، متحدين، كثر. وإن العمليات المختلفة، التي يقوم بها منتج السلعة على التعاقب والتي تندمج بأكملها في عملية عمله، تفرض عليه متطلبات شتى. ففي عملية أولى ينبغي عليه أن يبذل قوة أكبر، وفي أخرى براعة أدق، وفي ثالثة انتباها أشد، وهلمجرا، لكن ليس ثمة فرد واحد يتمتع بجميع هذه الصفات بدرجة متماثلة. وبعد تقسيم وفصل وعزل العمليات المختلفة يجري تقسيم العمال وتصنيفهم وتجميعهم في زمر طبقا لمزاياهم البارزة. وإذا كانت المزايا الطبيعية للعمال تشكل على هذا النحو القاعدة التي ينبني عليها تقسيم العمل، فإن المانيفاکتورة من جهة أخرى، بعد نشوئها، تنمي قوى عمل لا تصلح من حيث طبيعتها إلا لتأدية وظائف أحادية متمايزة. ويكتسب العامل الكلي الآن كل الصفات الإنتاجية بدرجة واحدة من الحذاقة، وينفقها بأكثر السبل اقتصاداً، نظرا لأنه يستخدم كل عضو من أعضائه، المتمثلة فردياً في عمال معينين أو في زمرة عمال، كي يؤدي وظيفته المعينة تحديدا (14). وإن أحادية بل نواقص العامل الجزئي تغدو كمالا بوصفه عضو من أعضاء العامل الكلي (15). وإن الاعتياد على وظيفة أحادية يحوله إلى عضو طبيعي يتحرك بثبات، في حين أن ترابط الآلية الكلية يرغمه على العمل بانتظام جزء من أجزاء آلة (16).

وبما أن الوظائف المختلفة للعامل الكلي قد تكون على هذا القدر من البساطة أو التعقيد، أو من التدني والارتقاء، فإن أعضاءه، أي قوى العمل الفردية، تحتاج إلى درجات مختلفة جدا من التعليم، وتمتلك بالتالي قيمة متباينة. وهكذا تطور المانيفاکتورة مراتب هرمية لقوى العمل مع ما يناسبها من سلم أجور. وإذا كانت الوظيفة الأحادية تستولي على العامل الفرد وتلحقه بها مدى الحياة، فإن تنفيذ مختلف الأعمال يتوزع على المراتب الهرمية تبعا للقدرات الفطرية والمكتسبة (17). والحال، أن كل عملية إنتاجية تتطلب أفعالا بسيطة معينة بإمكان كل إنسان أن يقوم بها، في قيامه وقعوده. لكن يجري الآن بتر الوشيجة الدفاقة لهذه الأفعال عن اللحظات الغنية من النشاط لكي تتحجر في وظائف حصرية.

لذا تخلق المانيفاکتورة في كل حرفة تستولي عليها فئة من يسمون بالعمال غير الماهرين، التي كان الإنتاج الحرفي يستبعدها بصرامة. وإذ تطور المانيفاکتورة الاختصاص الأحادي إلى درجة الكمال على حساب القدرات الكلية على العمل، فإنها تشرع بتحويل انعدام الخبرة إلى اختصاص متميز. وإلى جانب تدرج المراتب هرمياً، يبرز التصنيف البسيط للعمال إلى ماهرین وغير ماهرين. وتتلاشى تماماً تكاليف التدريب بالنسبة للأخيرين، أما بالنسبة للأولين، فإنها تقل عن تكاليف تدريب الحرفيين، بسبب تبسيط الوظائف. وفي كلتا الحالتين تهبط قيمة قوة العمل (18). وهناك استثناءات عندما يؤدي تفكك عملية العمل إلى نشوء وظائف جديدة مترابطة لم يكن لها وجود في الإنتاج الحرفي إطلاقا، أو لم تكن موجودة على هذا النطاق الواسع. وإن التدني النسبي لقيمة قوة العمل، الناجم عن انعدام تكاليف التدريب أو تدنيها، ينطوي بصورة مباشرة على توسع أكبر في إنماء قيمة رأس المال، فكل ما يقلص الوقت الضروري لتجديد إنتاج قوة العمل إنما يوسع رقعة العمل الفائض.

__________________

(*) بيت شعر من ديوان الهجائيات للشاعر هوراس، المجلد الأول، الأهجوة الرابعة. [ن. برلین].
(1) في عام 1854 أنتجت جنيف 80,000 ساعة، وهذا أقل من خُمس إنتاج الساعات في كانتون نیفشاتل. وإن شو – دو – فون وحدها، التي يمكن اعتبارها مانیفاكتورة واحدة للساعات، تنتج في السنة ضعف ما تنتجه جنيف. ومن عام 1850 إلى عام 1861 صنعت جنيف 720,000 ساعة. أنظر: تقرير من جنيف عن صناعة الساعات Report from Geneva on the Watch Trade في تقرير سفراء صاحبة الجلالة ومبعوثيها الديبلوماسيين حول صناعة وتجارة، إلخ، رقم 6 عام 1863، حين يجري تقسيم إنتاج مصنوعات مؤلفة من أجزاء مركبة إلى عمليات مختلفة، فإن انعدام الترابط بين هذه العمليات يؤدي في ذاته ولذاته إلى صعوبة كبرى تمنع تحول هذا النوع من المانيفاکتورات إلى إنتاج آلي صناعي كبير، ولكن في حالة الساعة هناك عقبتان أخريان، وهما صغر ودقة أجزائها، واعتبارها من الكماليات؛ من هنا أيضا كثرة أنواعها. ولا تكاد أفضل بيوتات لندن تنتج أكثر من دزينة من الساعات المتشابهة في سنة كاملة. وإن مصنع ساعات فاشرون وكونستانتن، الذي يستخدم الآلات بنجاح، ينتج 3 – 4 أنواع على الأكثر من الساعات المختلفة حجما وشكلا.
(2) إن صناعة الساعات، هذا المثال الكلاسيكي للمانيفاکتورة المتنافرة، تتيح للمرء أن يدرس بدقة التمايز والتخصص في أدوات العمل مما ينشأ عن تفكك العمل الحرفي.
(3) بمثل هذا الازدحام للبشر، يجب أن يكون عمل النقل أقل إلى أدنى حده. أنظر: مزایا تجارة الهند الشرقية.
(4) “إن عزل مختلف مراحل الصنع في المانيفاکتورة، الناشئ عن استخدام العمل اليدوي، يزيد تكاليف الإنتاج للغاية، حيث تنبع الخسارة أساسا عن الانتقال من عملية إلى أخرى”. (صناعة الأمم، لندن، 1855، الجزء الثاني، ص 200).
(The Industry of Nations, London, 1855, Part II, p. 200).
(5) “إنه” (تقسيم العمل) يخلق أيضا توفير الوقت بتقسيم العمل إلى عمليات مختلفة يمكن تنفيذها في وقت واحد… وبفضل تنفيذ كافة عمليات العمل المختلفة معاً، التي كان على الفرد الواحد أن ينجزها بصورة منفصلة، تتاح مثلا إمكانية صنع العديد من الدبابيس الجاهزة تماما في الوقت اللازم لقطع أو تدبيب دبوس واحد” (دوغالد ستيوارت Dugald Stewart، المرجع المذكور، ص 319).
(6) كلما ازداد تنوع اختصاص العاملين في أية مانيفاکتورة … ازداد انضباط وانتظام كل عمل، وبانخفاض الوقت اللازم لإنجاز ذلك، لا بد للعمل المبذول من أن ينخفض أيضا. (انظر: مزايا تجارة الهند الشرقية، لندن، 1720، ص 68).
(The Advantages of the East-India Trade, London, 1720, p. 68).
(7) على كل حال، ففي الكثير من فروع الإنتاج لا تتوصل المشاريع المانيفاکتورية إلى هذه النتيجة إلا بصورة منقوصة، نظرا لعجز المانيفاکتورة عن التحكم الدقيق بالشروط الكيميائية والفيزيائية لعملية الإنتاج.
(8) “ما إن يتوطد عدد العمليات التي ينبغي تجزئة المنتوج إليها بما يخدم إنتاجه على أنفع نحو ممكن اعتمادا على الطبيعة الخاصة لمنتوج كل مانیفاكتورة، ويتوطد عدد الأفراد الواجب استخدامهم فيها، فإن سائر المانيفاکتورات الأخرى التي لا تلتزم استخدام مضاعفات هذا العدد سوف تتكبد زيادة كبرى في التكاليف… من هنا منبع أحد أسباب ضخامة حجم المؤسسات الصناعية”. (ش. باباج، في اقتصاد الآلات، لندن، 1832، الفصل XXI، ص 172-173).
(Ch. Babbage, On the economy of machinery, London, 1832, Ch. XXI, p. 172-173).

(9) فرن الصهر في إنكلترا منفصل عن فرن الزجاج الذي يشكل السائل الزجاجي، أما في بلجيكا، مثلا، فإن الفرن نفسه يستخدم لكلتا العمليتين.
(10) يرى المرء ذلك من مؤلفات و. بيتي، وجون بيللرز، وأندرو يارانتون، ومن كتاب مزايا تجارة الهند الشرقية The Advantages of the East – India Trade ومن مؤلفات ج. فاندرلنت.
(11) حتى أواخر القرن السادس عشر ظلوا يستخدمون الهاون والمنخل في فرنسا لتفتيت وغسل خامات المعادن.
(12) يمكن اقتفاء تاريخ تطور الآلات بدراسة تاريخ طواحين الذرة. ولا يزال المصنع حتى الآن يسمى بالإنكليزية الطاحونة (mill). كما نجد في المؤلفات الألمانية المتعلقة بالتكنولوجيا في العقود الأولى من القرن التاسع عشر كلمة الطاحونة (Mihle) للدلالة ليس فقط على الآلات التي تحركها قوى الطبيعة، بل وبصورة عامة على كل المصانع التي تستخدم أجهزة آلية.
(13) كما سيرى القارئ في الكتاب الرابع من هذا المؤلف فإن آ. سميث لم يأت بأي حكم جديد فيما يتعلق بتقسيم العمل. أما ما يميزه كاقتصادي شامل لمرحلة المانيفاکتورة فهو التركيز على تقسيم العمل. أما الدور الثانوي الذي يعزوه للآلات فقد أثار اعتراضاً من لودرديل، في الأيام الأولى لنشوء الصناعة الكبرى، وفيما بعد من قبل أور في مرحلة لاحقة متطورة. وما عدا ذلك يخلط آ. سميث بين تنوع الأدوات، الذي أسهم فيه عمال المانيفاکتورة الجزئيون أنفسهم بدور كبير، وبين اختراع الآلات. ففي الحالة الأخيرة لم يكن عمال المانيفاکتورة، بل العلماء والحرفيون وحتى الفلاحون (بریندلي) وهلمجرا، هم الذين لعبوا الدور الأساس.

(14) “بتقسيم الشغل إلى عدة عمليات مختلفة، تتطلب كل واحدة منها درجات متباينة من المهارة والقوة، يستطيع صاحب المانيفاکتورة أن يقتني الكمية اللازمة من القوة والمهارة لكل عملية. أما إذا كان عامل واحد يقوم بالأشغال كلها، فلا بد لهذا الفرد الواحد من امتلاك مهارة كافية لأدق العمليات وقوة كافية لأشدها عناء”. (ش. باباج، Babbage Ch، المرجع المذكور، الفصل 19).
(15) مثلا، النمو الوحيد الجانب للعضلات، وتشوه العظام وغير ذلك.
(16) السيد وليم. مارشال، المدير العام (general manager) لإحدى مانیفاكتورات الزجاج، أجاب على نحو صائب عن سؤال أحد مفوضي التحقيق المتعلق بسبل الاحتفاظ بشدة عمل العمال الأحداث: “ليس بوسعهم إهمال عملهم؛ فما أن يباشروا العمل حتى يتوجب عليهم المواصلة؛ فهم ليسوا أكثر من أجزاء من آلة واحدة. لجنة استخدام الأطفال”، التقرير الرابع، 1865، ص 247.
(Children’s Employment Commission, Fourth Report, 1865, p. 247).

(17) يبرز الدكتور أور، في تمجيده للصناعة الكبرى، الطابع المميز للمانيفاکتورة بصورة أكثر دقة من أسلافه الاقتصاديين الذين افتقروا إلى اهتمامه السجالي بالموضوع، وأكثر دقة من معاصریه، ومنهم، باباج، الذي كان يتفوق على أور كعالم رياضيات وميكانيك، الا أنه عالج الصناعة الكبرى، إذا أردنا الدقة في التعبير، من وجهة نظر المانيفاکتورة. يقول أور؛ “كل [مهمة] تُسند إلى عامل موائم من حيث القيمة والكلفة. وإن هذه المواءمة تؤلف جوهر تقسيم العمل”. ومن جهة أخرى يسمي هذا التقسيم “مواءمة العمل مع مختلف المواهب الفردية”، ويصف أخيراً مجمل نظام المانيفاکتورة بأنه “نظام درجات تبعاً للمهارة”، وبأنه “تقسيم للعمل حسب اختلاف درجات المهارة”، وإلخ. (أور، فلسفة المانيفاکتورات، ص 19-23 ومواضع أخرى).
(Ure, Philosophy of Manufactures, p. 19-23, passim).
(18) إن كل عامل حرفي… يحصل على فرصة تطوير نفسه بالتمرن على نقطة واحدة … يصبح أرخص ثمنا. (أور، المرجع نفسه، ص 19).