رواية أحاديث الجن والسطل إصدار دار ابن رشد ، ومناشدة للجهات التنفيذية.


محمد فرحات
2020 / 4 / 28 - 03:04     

كتبه، محمد فرحات

وكلما ساد اليأس من الواقع الثقافي والكتابي في مصر ، كلما دهشتك موهبة جديدة أعادت الأمل ثانية ، وكأن الكتابة الإبداعية المصرية عنقاء تحترق ، لتنطلق ثانية من بين ركامها مبشرة بواقع جديد .

لتنطلق العنقاء المصرية في نهاية عام 2018 بكل مافيه على صورة رواية مصرية تحمل اسم " أحاديث الجن والسطل" وروائي يخوض تجربته الروائية الثانية بعد روايته الأولى " قميص سماوي " 2011 .

لنبدأ من عتبات النص ، متأملين مليا في العنوان ، وهل هو حيلة هروبية من تحمل تبعات الواقع ، وكأن الكاتب يعتذر مقدما ، فكل ما سوف تقابله من أحداث هي بالضرورة من وسوسات الجن الهائمة ، وهي وليدة "سطل" لا لوم عليه ، فليس على المسطول من حرج ، فهل هي محاولة للسير على خطى السيد الأعظم " نجيب محفوظ" في روايته " ثرثرة على النيل" إذ يحكى أنه حينما كتبت التقارير المخابراتية التي تدين " نجيب محفوظ" لتحمل بدورها لرأس السلطة السياسية حينها قال" وما عليكم من كلام الحشاشين ، ارفعوا أيديكم ، لاتمسوا الرجل الطيب ؛ يقصد " نجيب محفوظ" .

ليبدأ الصراع من عنوان الرواية ذاتها ؛ صراع بين اللاوعي و الوعي ، لاوعي حالم، طائر بلاقيود ، ووعي محبط، مكبل .

لا وعي يسعي لخلق عالم جديد منحاز لكل القيم الإنسانية التي تنادى بها الفلاسفة منذ فجر التاريخ من حق وخير وجمال ، ووعي طمر لرأسه في طيات العشوائية و الاستبداد وانسداد الأفق.

لينسحب الصراع رويدا من عنوان الرواية لشخصياتها الأسيانة المهزومة أيضا بفعل واقعها الواعي ، الأسى هنا مسيطر على الجميع سواء من ملك الواقع و من انطرد من مملكته، سواء من تربع على العرش أو من أقصي ليخرج خالي الوفاص من أي ممكن متاح .

ليتطور الصراع ثانية على مستوى الشخصيات ، لتندهش فعلا من شخصيتين تناضلا طيلة الأحداث لتثبت كينونة مناقضة تماما لما هو معلن ؛ الأولى هي نور النديم / منصور الدرغامي ، ليعلن الرواي أنه " منصور الدراغامي" الآتي من العاصمة المأزومة بحكاياته وحجة ملكيته لدوار العمودية القديم لعائلته التي ملكت القرية يوما تحت اسم حاكمها ووليها الصالح " الدرغامي الكبير" ، بالرغم من

أن القرية كلها تقر بكينونة أخرى مخالفة تماما لرواية الرواي؛ وهو أنه " نور النديم " حفيد " نايل النديم" الذي أقصى الجد القوي الولي ، ليكمل مسلسل الإقصاء ولده " أسعد النديم" ، ثم يكمل التأزم من تلقفوا الرواي من أصدقاء يقروا أيضا بما أقرته القرية من كونه " نور النديم " ، لتختفي الكينونة القديمة ل" منصور الدرغامي " حينا وتظهر حينا آخر بكلمة سر يتفق عليها الرواي مع الجمهور وكأننا أمام خشبة مسرح " و إن رأيتم الناس يدعونني " نور النديم" لاتهتموا واستمعوا… سأعود إليكم بين أحاديثهم بكلمة سر تعرفونني منها… كلمة السر هي " أنا الذي هو أنا " ."

ليميط الخفاء رويدا الصحفي القاهري بحواره مع أبطال الرواية ، إثر اختفاء " نور النديم" الملغز والذي لا يترك من أثر سوى جلبابه الملطخ بالدم على ضفاف ترعة القرية المسكونة بالجن بالقرب من قريته الجديدة أو تلك العزبة التي أطلق عليها " عزبة المجنون " لتظهر دوافع جحد شخصيته الحقيقية؛ ما بين إخفاء جريمة قتل أتهم فيها كبير القرية " أسعد النديم " وبين دوافع انتقام من كبير القرية ذاته مسيطرة على أبطال الرواية الآخرين مثل " شوقي العبد و محمد فرحات " ودوافع قانونية لاسترداد أملاكه كما هو حال المحامي الامع " أحمد الجنوبي" " بالنسبة لي وللقانون فإن نور النديم حي يرزق ، ولا أجرؤ على اتهام أسعد النديم بشئ ضده ...وعندي أوراقه وقضاياه ما زلت أتابعها كمحام وكصديق عرفته وارتحت له وأطمئن لي… لكن ينقصني دائما توقيعه على الأوراق المهمه…" ودوافع اتجار وسمسرة كما هو حال " مرزوق الخولي" ودوافع ولع وعشق كما هو حال " المانعة "، حتى شخصية " محمد ابوجلمبو" وإن بدت مستغرقة في نبلها الطوباوي العميق لم تخل هي الأخرى من مشاركة في المؤامرة بقصد إعادته على عرش بناء الدور بالطوب الطيني "اللبن" تلك المهنة المنقرضة لصالح البنايات الخرسانية القبيحة .

ليقع ذات الصراع ثانية في شخصية أخرى متصارعة هي نايل النديم / الدرغامي الكبير من أسس القرية فيهما ؟، ومن امتلك الأرض ومن عليها يوما ؟، ومن عمر ونزع البوص المتغول، ومن حفر الترعة ومهد الأرض، وطرد الغجر، وتحالف مع جن القرية؟ ، من منهما قابل " النحاس باشا "؟، من سلمه خنجر ولي الله الرفاعي الأكبر؟.

لتبدأ الأجواء السحرية والعتبات التاريخية المؤسسة للأسطورة الأم المهيمنة ، والبداية أن كل الأماكن أسيرة لأزمة ما، العام 1942 حيث يفر النحاس باشا مأزوما هو الآخر لرحاب القرية النائية المجاورة لمسرح الأحداث " ميت نور " فإنجلترا العظمى تضغط بقوة على الملك الشاب لقبول وزارة محبوب الشعب " النحاس" لظروف الحرب العالمية الثانية وضمان وضع سياسي مستقر في المستعمرة التي طرق الألمان بقوة على أبواب حدودها الغربية، يقع "النحاس" في صراع قوي بين الوسيلة والغاية ، وكما أن العاصمة ورجلها مأزوم ، كذلك فإن القرية ورجلها في أزمة من نوع آخر، ربما هي رمز لأزمة العاصمة ، ربما هي ذات أزمة العاصمة فكما تم غزو العاصمة بلإنجليز فقد تم غزو القرية بالغجر ، فهل مسرح الأحداث المتمثل في القرية النائية هي صورة مكرسكوبية للعاصمة؟، فكما كان الصراع على إظهار كينونة الرواي البطل بين أبطال الرواية ، هناك صراع آخر على إظهار كينونة المكان ، أيهما المقصود القرية أم العاصمة ...هو الصراع ثنائي الأقانيم ( راجع مقالتي على موقع مصريات " أحاديث الجن والسطل ، المجد للحكايات""1") صراع من نوع قديم جديد صراع هاملتي ابدعه شكسبير واستخدمه " محمد عمرو الجمال" صراع الكينونة وقدرها على الشخصية ذاتها .

صراع بين الأزمان فها هو زمن "النحاس باشا" يحتضر ليمهد لظهور زمن" جمال عبدالناصر " بذات الآلية المتمثلة في الدبابة.

صراع قيم بين "أسعد" بقوته الجسدية و دهائه ومغامرته وبين أخيه "سعيد" بطيبته و روحانيته وانحياز الملك الموكل باستجابة الدعاء ولو على سبيل الخطأ له ، ومن ثم فرار أسعد مع زعيم العصابة المأسور والواقع تحت خفارة " أسعد "ذاته ، وولاية "سعيد" .

لتقع في متاهة حكايات ، إذ أن سلاح الأبطال هو الحكاية ، التي أفلحت بالفعل في إحداث تغير جزئي بواقع القرية ، بل وانحياز السلطة الشابة الواعية لقضيتهم ، هي حكايات دائرية مترابطة الحواف فسرعان ما تنتهي حكاية لتلئم ببداية الحكاية الجديدة .

هو صراع طبقي بامتياز بين طبقة امتلكت الواقع بعزمها وانحيازها الواعي لمصالحها متمثلة في الجيل القديم نايل النديم / الدرغامي القديم .. وطبقة تسعى لتحل محل الأولى تمتلك الوعي والثقافة والحلم ولكنها مصابة بداء التردد ، التردد بين الولع الشخصي بالمرأة و المجد السياسي و المهني ك" أحمد الجنوبي "، التردد بين تبني الايديولوجيات وأيهما أجدر في إحداث التغيير فتراه في متاهة فكرية لايتقدم فيها قيد أنمله ك" محمد فرحات" صراع بين الواقع ومتطلباته و الماضي و طعناته ك" شوقي العبد " لتكون الغلبة المؤقته للجيل القديم ولكنه تغلب قلق وانتصار مؤقت جدا .

" أحاديث الجن والسطل " ملحمة حقيقية تختصر الكثير من مشكلات المجتمع و تبادر بإسداء الحلول أيضا، تشخص المرض لمن هم منوط بهم إحداث التغيير وتهمس في آذانهم بالعلاج الناجع لأمراضهم الطبقية و الاجتماعية . هي رواية جديرة بحصد أكبر الجوائز الأدبية لولا التحيزات القطرية الطافحة والمسيطرة على لجان تحكيمها ، لا أكون مغاليا إن زعمت أن العام 2018/ 2019 هو عام رواية " أحاديث الجن والسطل " لكاتبها المبدع "محمد عمرو الجمال " .

ولا يفوتني في النهاية الإشادة بجهة إصدارها " دار ابن رشد للنشر و الترجمة " لصاحبتها بيسان عدوان، ونسجل هنا الوقوف بجانبها إزاء ترحيلها من وطنها التي تربت فيه وخدمته طيلة حياتها، على إثر وشايات حقيرة، وكلنا أمل في رشد وحكمة الجهات التنفيذية المصرية بإعادة النظر في قضيتها العادلة ومنحها حق الإقامة بل المواطنة لتوفر شروطها فأمها وجدتها مصريتان، وبيسان ذاتها مصرية، حيث عاشت طيلة عمرها بمصر، تعلمت بمدارسها وجامعاتها، وعملت جاهدة لرفعة هذا الوطن، وإرسائها لقيم المعرفة والثقافة بين ابنائه، واعية بقضية الكتابة و الإبداع و النشر ، مهمومة برفع قيم الفن و الأدب.