الشعوذة في غياب العلم


سعيد مضيه
2020 / 4 / 27 - 11:18     

كورونا ذكّر العالم بقيمة الوعي العلمي-3
تجارب التنمية الناجحة في كل بقاع المعمورة أكدت دور العلم قوة إنتاج رئيسة بدونها يستحيل الخلاص من إرث التخلف وما يترتب عنه من تبعية لقوى الامبريالية. لم يشهد مجتمع عربي تجربة جادة في التنمية الوطنية هُيِئت لها عوامل النجاح، خاصة الشعب المعبأ في مناخ ديمقراطي. نتيجة للوصاية المفروضة من قبل الأنظمة الأبوية على الجماهير، وتجميد مشاركتها في النشاط السياسي الوطني " لم تتجذر بعد في الشخصية العربية العقلية العلمية التي تفسر الظواهر بأسباب موضوعية تخضع للدرس والتجربة . ولم تنظم العقلانية النشاطات الفردية الاجتماعية والسياسية" [1/60]. أما تجرية التنمية في الصين فتشير الى واقع مضاد تماما ؛ كانت الصين في عداد الدول النامية أنجزت ما كان قبل عقود أربعة فقط مشروعا خياليا لنهضة وطنية. أنجزت الصين مشروعها التنموي بنجاح لأن قاطرته هو العلم ونمط التربية النقدية، وبيئته السياسية الديمقراطية الاشتراكية. فحسب إدراك القيادة الصينية وتخطيطها وتنفيذها " يلزم في المقام الأول إدراك بان العلوم والتقاني قوى إنتاج . وبصورة مثابرة تعاملت الماركسية مع العلوم والتقاني جزءا من القوى المنتجة. وقال ماركس ان التوسع في استخدام الآلات في الإنتاج يتطلب التطبيق الواعي للعلوم الطبيعية. ولينين أيضا دمج العلوم، طبقا لماركس، ضمن القوى المنتجة. أن تطور العلوم والتقاني الحديثة قد ادخل العلوم والإنتاج في وحدة اندماجية متينة. ويتضح باضطراد ان العلوم والتقاني تنطوي على أهمية هائلة كقوى منتجة. ما الذي أنجز التقدم الهائل في القوى المنتجة والزيادة الكبيرة في إنتاجية العمل ؟ بصورة رئيسة قوة العلم ، قوة التكنولوجيا.... بمقدورنا فقط تحسين مستويات المعيشة بالتدريج على قاعدة الإنتاج الموسع.. من الخطأ توسيع الإنتاج بدون رفع مستوى معيشة الشعب ؛ ولكن من الخطأ أيضا – في الحقيقة مستحيل- رفع مستويات حياة الناس بدون توسيع الإنتاج. الديمقراطية هي الشرط الرئيس لتحرير الدماغ"[2]
المجتمعات العربية حرمت من مشروع تنموي جاد، مصحوب بترقية العلوم والعملية التعليمية. أحجمت الأنظمة الأبوية العربية عن تطوير اقتصاد وطني إنتاجي ، واستعاضت عنه بالانجراف مع النمط الاستهلاكي في الاقتصاد والثقافة. اتبعت شعوذات الاقتصادية فرضها صندوق النقد الدولي في ظروف أزمات اقتصادية ناجمة عن عجز في ميزان المدفوعات وفي الموازنات المالية السنوية، شعوذات اقتصادية تشعبت أفرعها شعوذات في مجالات الحياة الاجتماعية كافة، في التربية والسياسة والثقافة والعلوم الاجتماعية. الذهنية الأبوية المستحدثة، علمانية كانت ام دينية ،لا تقبل المشورة المحلية وتفرض مواقفها،إذ لا تعرف ولا تريد ان تعرف الا حقيقتها ولا تريد الا فرضها على الآخرين بالعنف والجبر ان لزم الأمر. في مصر، على سبيل المثال ، حيث الوتيرة العالية للتنامي السكاني تفرض تركيز الاهتمام على التنمية، وأقرت، بناء على خطة للتنمية المستدامة، استراتيجية "طرحت من بين أهم أهدافها القضاء على الفقر فى مصر بحلول 2030"؛ لكن " نجد أن نطاق الفقر قد تضاعف خلال جيل واحد- من 16.7% عام 1999 إلى 32.5% عام 2018. و في ظل برنامج الإصلاح، الذى طبقته الحكومة بتمويل من صندوق النقد الدولي خلال 2016-2019، فقد قفز معدل الفقر من 27.8% في 2015 إلى 32.5% في 2018!"[4].
الحكم العربي استمد شرعيته من الحق الإلهي وليس من رضى الرعية؛ اعتبرت الثورة على الحاكم امرا غير مبرر مهما بلغ ظلمه ؛ غير ان القاعدة انتهكت مرارا؛ وحدثت تمردات وثورات أعادت إنتاج الاستبداد وظلم الرعايا. "الحداثة البطريركية وعي منمط، يعتمد على مثقفين يحافظون على قيم النظام منعكس عن الخارج، تعوزه الاستقلالية والإبداع والنقد. والذي جعل من قيام الدولة أمرا طبيعيا بالنسبة إلى المجتمع الأبوي المستحدث هو أن تلك الدولة لم تكن غير السلطنة القديمة في ثوب حديث. فالخاصية المميزة للدولة ، مثل الاستثمار الشخصي (شرعا وجورا)بالسلطة الذي يتمثل في أداة الدولة القمعية القسرية، والذي يستمد شرعيته ليس من مصدر قانوني (دستوري أو حتى تقليدي) ولكن من موقع القوة والتفرد بها. في هذا الواقع يصبح الفرد العادي فاقدا لفعاليته ـ يتحول الى ذات بلا مواطنة، ويتجرد حتى من حقوقه الإنسانية والمدنية. ويفقد القدرة على التأثير في القرارات ذات العلاقة بمجتمعه الأوسع" [1/37].
الشكل الوحيد للرأسمالية الممكن نشوؤها تاريخيا إثر تنامي الرأسمالية الأوروبية وفي سوق عالمية يهيمن عليها الغرب، هي الرأسمالية التابعة ، لم يأت على ذكرها ماركس. ومن ثم استحال بروز طبقة عاملة أصيلة ولا طبقة رأسمالية ناضجة. نظرا لطبيعة النظام الأبوي وتشكله بدافع خارجي -الامبريالية – فهو ينطوي على تناقضات مزمنة حادة ومنهكة. الأبوية تتميز باللاعلمية والعجز. فهي طاردة للعلم وعاجزة بالنتيجة عن تحقيق المهمات المطروحة. "يعاني المجتمع الأبوي المستحدث من الانفصام ، حقيقته الخفية تقع مباشرة تحت مظهره الحديث؛ فينشأ عنهما تنافر وتناقض . في المجتمعات الأبوية المحدثة يصعب الوقوع على فرد او مؤسسة حديثين حقا او تقليديين حقا وبالطبع فإن هذين النوعين شاذان سواء في الدول المحافظة أو في الدول " التقدمية" في العالم العربي. . لقد أدى هذا التطور بدوره الى تشكل اجتماعي ‘مثقفون محدّثون’ . هذا التشكل يمكن العثور فيه ، بصورة جلية، على ثنائية المجتمع الأبوي وتناقضاته. وكما سنرى لاحقا فانه ليس للأبوية المحدثة حليف أكثر منه قوة ، وعدو ليس أشد بأسا للحداثة الأصيلة. هذا التشكل الاجتماعي يعاني تناقضا حضاريا. مقاربته للفكر الغربي تقليد غير محكم / وعي صنمي يحول النماذج الثقافية الى أصنام - ترجمات طبق الأصل عن النماذج الأوروبية ، بدون نقد او وعي ذاتي. لا يصدق على الأفكار والمؤسسات " المستوردة" فحسب ، بل ينسحب على الأفكار والمؤسسات التي تبدو انها محلية او ناشئة ذاتيا. الوعي التبعي يرتبط ارتباطا وثيقا بنماذج الفكر اكثر من ارتباطه بمحتويات النماذج. الاستقلالية شرط للاستيعاب الحديث النقدي[ 1/41]
النظام الأبوي هو نظام القهر والاستلاب. سبق أن حلل المنور عبد الرحمن الكواكبي طبائع الاستبداد ، ومن قبله بقرون عدة دان عبد الله بن المقفع الاستبداد في "كليلة ودمنة"، واوجب على العلماء التصدي للحكام الظلمه. ومن وجهة نظر علم النفس الاجتماعي فإن " عالم الإنسان المقهور أشبه ما يكون بغابة ذئاب ، عليه أن يعبئ نفسه ويظل في يقظة طوال الوقت لمجابهة الأخطار.. من هنا تأخذ كل مظاهر القوة الجسدية والنارية أهميتها المفرطة. وتتحكم قيمة الذكورة والرجولة بعد اختزالها في بعدها العضلي والحركي، وتوكيد قدرته على مجابهة الأخطار المادية"[3/186]. " تستفحل الظاهرة، " وينشأ توتر وجودي عام يشهد تدهور الخطاب اللفظي بسرعة الى المهاترة والتحدي والوعيد"[3/ 184].
الأبوية العربية تختلف عن نظائرها في اوروبا والبلدان غير الأوروبية؛ توغل في الاستبداد والتعالي على "الرعية". استمدت من الخلافة مزية الإمام المعصوم يستمد سلطته من الله وليس من الشعب. وحتى القرن التاسع عشر كان العالم العربي مناطق متناثرة بدون أي رابطة. "في العصر الوسيط كان الريف وليس المدينة مشهد حركة التاريخ التي تطورت لتغذية التناقض الناشئ بين المدينة والريف. وبالنسبة لماركس فان المدينة "الآسيوية" لم تكن تماما مثل نظيرتها في العصر القديم او في المراحل الأخيرة من العصر الوسيط. كانت المدينة الآسيوية ظاهرة أبوية محددة . وبالمعنى الشرقي للتعبير كانت "معسكرا ملكيا"، ولم تكن بنيانا مدنيا. الا أننا معنيون هنا برؤية فيما اذا كان من المعقول الحديث عن شكل مجتمع أبوي ليس أوروبيا ولا آسيويا ، كما كان ماركس قد حدد خصائصها –بل كان شكل مجتمع أبوي له تاريخ وكنية ينفرد بهما ، ويمكن تحديده على أنه عربي(إسلامي)وليس آسيويا او غير اوروبي وحسب[1/35]
خلال الحكم العثماني تدهور الاقتصاد العربي نتيجة تحول النقل البحري الى رأس الرجاء الصالح. كسدت التجارة ولم تتطور الحرف . بدل دعم التجارة لجأ الحكم إلى مضايقة التجار، وتهديدهم ومضايقتهم. لم تتوفر ظروف ملائمة لتطور رأسمالية حداثية الى جانب النمط الرأسمالي التقليدي. جلبت الظاهرة انتباه مونتسكيو في كتابه "روح الشرائع"، فرصد الحالة العربية حيث " يعلن الأمير نفسه مالكا للأرض ووريثا لرعاياه لا يصلح حال، تنشأ الدور للسكن فحسب، ولا تشق ترع ، ولا يستنبت شجر ، كل شيء يستمد من التربة ولكن لا يعود اليها شيء ، لا تحرث الأرض ، وتغدو الأرض بأسرها صحراء"[1/ 73] .
نشأت طبقة شيوخ القبائل يقطنون المدن وليسوا من الأريستقراطية الزراعية الإقطاعية؛ تعززت مواقعهم في ظل السلطنة من خلال تشريع قوانين تملك الأراضي عام 1858. فجأة وجد هؤلاء أنفسهم ملاكين شرعيين لإقطاعيات واسعة كانت سابقا ملكية جماعية لأفراد العشيرة. هكذا تملك أمير وادي الحوارث أرض القبيلة على الساحل الفلسطيني ورهنها لسداد تكاليف إسرافه السفيه، ثم بيعت في عهد الانتداب البريطاني بالمزاد العلني، وطبيعي أن يفوز الصندوق القومي اليهودي بتملك الأراضي الشاسعة. ساعدت شرطة الانتداب على طرد مزارعي وادي الحوارث من ديارهم. تغذت بنية الأبوية بزخم سياسي جديد ، والامبريالية عززت ايضا نفوذ شيوخ القبائل والعائلات التجارية والمثقفين ورجال الدين والأعيان المحليين، شرائح تتكامل مع النظام الأبوي وتلتزم بأحكامه وثقافته وتوسع قاعدته. رافق الاستقلال نوع مغاير وغير مباشر للاستعمار الثقافي ؛ إلا أنه كان أوسع انتشارا، لم يستمد هيمنته من السيطرة العسكرية – السياسية المباشرة ، بل من اختراق الثقافة الغربية للنخبة الأبوية الجديدة، مضافا إليها سيطرة وسائل الإعلام الغربية وشيوع قيم المجتمع الاستهلاكي وحاجاته. مع التنوع المحدّث شاعت على الأقل في صفوف المتعلمين في جامعات الغرب فنشأوا "مثقفين محدّثين" . ليس للحداثة الأصيلة من عدو أشد بأسا من هذا التشكل الاجتماعي الذي يعاني انفصاما حضاريا"[1/41]. نقل الباحث عن البرت حوراني أن ‘تكون مشرقيا يعني أن لا تنتمي الى مجتمع معين ولا تملك ما هو في حوزتك . هذا واقع يتجسد في الضياع والادعاء والتشاؤم واليأس’ " [1/41] .
يحتضن النظام الأبوي الأنظمة الأبوية العصبية السلطوية ؛ فيرعى العصبيات العرقية والطائفية، حيث تماثله من حيث مقايضة الحماية بالولاء المطلق، والإبقاء على السلطوية وروح المحافظة. يستنبت القهر النزعة الفاشية ، "في هذه الأجواء يسهل الانقياد الى زعيم عصامي يقود الجماهير المتعصبة في هذا الاتجاه، يفجر ميلها للتشفي والعظمة ويعبر عنها. ذلك هو الزعيم الفاشي تستسلم له برضوخ طفلي تتعطل فيه إرادتها وقدرتها على الاختيار والنقد" [3/186]. ويفتح باب المجازر الدموية على مصراعيه بشكل مذهل ؛ فالجماعة المتعصبة تقدم على المجازر لا ارتكابا لجرم بحق أناس لهم كيانهم ... تقوم بواجب القضاء على الأوبئة التي تقف عقبة أمام تقدم البشرية "[3/189]. يجدر الملاحظة أن هذا التقييم سجل عام 1982، قبل المجازر الداعشية ومجازر النصرة. طالما بقيت علاقات المنصب والسلطة والثروة التي تميز المجتمع الأبوي المحدث غير متغيرة جوهريا فإنه ليس من المعقول حدوث أي تغير في المقولات العقائدية التي تسير الوعي الجماهيري . وبغض النظر عما قد يصبح المجتمع الأبوي المحدث " معاصرا" فان الوعي الجماهيري سوف يستمر في رفض القومية العلمانية وفي التمسك بالهوية الدينية . ولسوف يبقى الوعي متصلا بإحكام بالعلاقات الغيبية للواقع الاجتماعي[1/54]
شهد الربع الثالث من القرن العشرين نضج سياق اجتماعي تضرب جذوره في فترة ما بين الحربين العالميتين: تحول المجتمع العربي المستحدث الى مجتمع جماهيري – مجتمع انتقالي على وشك الانهيار من الداخل . "ليس هناك شعب بل هناك تجمع جماهيري". بنية اجتماعية التي يغيب عنها أي تمايز طبقي واضح ، او وعي طبقي راسخ –نتيجة هيمنة البرجوازية الصغيرة. فما ان كان العام 1970 حتى بدا ان البرجوازية الصغيرة قد تنامت حجما وتعاظمت أهمية بحيث كان مؤهلا لها ان تحتل مكان الصدارة في الحياة الاجتماعية والسياسية، بينما تخلفت طبقتا البرجوازية والعمال. بقيت الطبقتان الأخريان –االبرجوازية والعمال- متخلفتين بالقياس الى البرجوازية الصغيرة، أي أن كلا منهما لم تطور لتصبح طبقة مستقلة قادرة على التحكم بالحياة الاجتماعية أو السياسية وقيادتهما" ( استدراك بالهامش "اشتد ساعد البرجوازية لحقبة قصيرة إبان الهيمنة الأوروبية وخلال مرحلة الاستقلال المبكر") [1/147].
تعرض الوعي القومي زمن الثروة النفطية الى قوة جاذبة باتجاه العائلة والقرابة من جهة والى قوة دافعة مصدرها الكيان الأبوي المستحدث من جهة ثانية، ما اوقع به أشد النكسات خطورة منذ ولادته. ونتيجة لذلك بدأت القومية العربية تفقد زخمها في الربع الأخير من القرن العشرين [1/54]. ارتفعت اسهم العلاقات الأبوية واحتلت الأصولية الإسلامية مكان الصدارة من الحركة السياسية. [1/55]. ولهذه الظاهرة تكرس الحلقة القادمة
يتبع
1-هشام شرابي:البنية الأبوية إشكالية التخلف في المجتمع العربي
2- دينغ هيسياو بينغ: خطاب امام المؤتمر الوطني للعلوم -18 آذار 1978
3- مصطفى حجازي: التخلف الاجتماعي سيكولوجية الإنسان المهدور
4- جودة عبد الخالق: أستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة القاهرة- الأهالي المصرية23 ابريل / نيسان 2020