حكايا رتيبة


محمد نجيب وهيبي
2020 / 4 / 27 - 03:37     

حكايا رتيبة...
نهض على غير عادته متأخّرٍ كَسِلا مُتثائبا ، ثقيل الحركة ، أنهى كل طقوس الاستيقاظ الصباحي بسيجارة ينفخ دخانها من شباك غرفته الذي يفتح على شارعهم ، لعن في سِرّهِ حيّهُم وجيرانه ، حتى أسرته البائسة ، ولعن علنا الحكومة والوساطات وحظه العاثر ، ثم خرج للمقهى .
أسعفته الدنيا لثلاث مرات في أن يكون له نصيب من الهجرة إلى أوروبا لِيسعى خلف احلام الشباب فدفعتها عنه أم طَيِّبة بسيطة و صدّت سُبلها بالدموع والحنان ، فلم يَكُن والده قادرا على أن يأبه لهذا الأمر كثيرا بعد أن أعجزته الحياة و شططها عن مزيد خربشة الصخر من أجل احلام وحيده .
عائلة بسيطة بجوارٍ بسيط ، تعمل الأم في تنظيف المنازل أحيانا ويعمل الاب أي شيئ من حين لآخر .
إنتقى رُكنا في المقهى ، طلب قهوة سريعة ، اشعل سيجارته لِيُكمل معزوفة لعناته اليومية للبؤس والعطالة و الحاجة وقلة ذات اليد ، على رشفات القهوة السوداء ، رنّ هاتفه ، سحبه من جيبه ، رقم هاتف قار غريب .
- الو مرحبا
- الو صباح الخير ، سي فلان معايا ؟
- نعم ، تفضّل .
- نحن شركة كذا ، نتَّصِلُ لِنُعْلِمك أنّهُ عليك أن تُكمِلَ مِلفّكَ لتلتحق بالعمل اول الاسبوع القادم.
لم يفهم الأمر ، قبل خمسة أيام إعتذر منه مدير الموارد البشرية لذات الشركة بنفسه وأعلمه باقتضاب أنه لا يُمكِنُهم إنتدابه فقد آلَتْ الوظيفة لآخر ونصحه بمزيد الصّبر وتَحيُّنِ الفرص ، بِنبرة اسف أبوية طبعا .
كان قد تقدّم بطلب نظامي لخطّة وفق شهادته الهندسية ، وتجاوز كل الاختبارات واللقاءات بتفوُّقٍ بشهادة مسؤولي الشركة ومديريها ، من بين مآت المتقدمين مكّنه ملفّه و حضوره و إستعداده أن يكون الاول في السّباق .
كان مُتَفَوّقا في الدراسة منذ ايامه الأولى حتى تحصّله على شهادته العليا ، لم يبخل عليه ابويه باي مجهود رغم بساطتهم و قلّة ذات اليد ، هو يلعن عجزهم يوميا ولكنه يُحبّهم كما يحب حيّه وجوارهم بلعناته وهو معهم ، لكم أعياه وادمى قلبه وملأه غِلّاً تفوق أحد زملائه عليه فقط لان أحد ابويه مُربّي أو من الأعيان يُوفّرُ له دروس التّدارك دون حساب . حتى في الجامعة يعجز أبواه توفير ما يلزم كما يلزم ، ورغم هذا تمكّنا يوم تخرّجه بجهد جهيد أقرب للتسَوّلِ من أن يقتلعا له فرحة صغيرة بملابس لائقة وحفل صغير محترم كعادتهما كل ما انتقل من مرحلة إلى أخرى في الدراسة .
في يوم اللقاء الأخير بعد كل الاختبارات وجد نفسه أمام مكتب مدير الموارد البشرية ، يجلس بجانبه شاب ثاني أقرب لان يكون موظفا في الشركة رغم صغر سنه بهيئته ولباسه الرسمي وربطة العنق المتناسقة ومفاتيح السيارة التي يمسكها بيده ، بادره بالتحية و السؤال.
- سامحني خويا تخدم لهنا ؟
اجابه بكل ثقة
- لا ، اما على قريب باش نخدم .
- ربي يسهِّلّك ، انا أيضا انتظر هذا اللقاء الأخير بعد أن اجتزت كل الاختبارات الاول في الترتيب واليوم المفروض مدير الموارد البشرية يعطيني الكلمة النهائية .
بلغ تقريبا آخر عقده الثالث من العمر ، لم يُحَصّل تجربة عملية كبيرة في مجال دراسته وإختصاصه ، كانت سبيله في العمل متقطّعة و مليئة بعثرات الوساطات والمحسوبية والقافزين على الحواجز ، ولم تُسْعِفْه كرامته العلمية بالتنازل ليستقر في أي من الأعمال اليدوية البسيطة أو المتوسطة الأخرى التي تَنقّل بينها كثيرا دون إتقان مثل والده . لكم كان يسوؤه أن ينتهي به المطاف مثل والديه ، لتنتهي معه رحلة أحلامهما التي عملا من أجلها عمرا كاملا حتى اقعدتهم الحياة و قسوة السنين .
هو مُتأكّدٌ تماما أن الفتى العشرينيُ ، وقد عرف إسمه من عون الاستقبال اللطيف في سعيه لتهدأة خاطره وهو يُغادِرُ غاضبا لاعنا ساخطا ، الذي دخل بعده لمكتب مدير الموارد البشرية صاحب النصيحة العجائبية حول الصبر ، لم يُجري معهم أيا من الاختبارات الشفاهية والكتابية أو أي من اللقاءات بل لم يرى وجهه سابقا ابدا .
علم فيما بعد أن الفتى كانت معه توصية كتابية من عمّه الوزير تشهد بكفاءته للمنصب تُرافقها أخرى هاتفية أكثر وضوحا وتدقيقا فكانتا إختصارا لكل مراحل الاختبارات بالنسبة له ، مثلما كانت حياته مع أول نفس يجتاز منخريه إلى الرئتين . كم حقد عليه وكم لعن الوزير و الحكومة وحيهم البسيط و حتى والديه وهو معهم ..
يَذكُرُ أنه مرّة في المعهد الثانوي ، ضرب زميلا له إبن أستاذ ، لانه انتزع منه المرتبة الأولى زورا ، فكاد يخسر كل مستقبله و جهد ابويه وحرثهما الصّخر من أجله ، عندما تم تهديده بالطرد عبر مجلس التأديب ، حتى أن امه كادت تُجَنُّ أو أن تبوس القدمين إنقاذا له ، وصدف أنها تعمل في تنظيف دار المعتمد وقتها وهو يُعِدُّ لحفل خطبة إبنته فتوسّطت له زوجته ، حتى لا يُطرد وكانت تلك اول وآخر واسطة له في حياته ، تعلّم بعدها أن يكضم غيضه ويقبل بموقعه في أسفل السلم دون تذمر ، حُفِرتْ الحادثة في ذاكرته عميقا .
اكمل ترشّف قهوته ومعها سيجارتين ، ثم عاد للمنزل اخبرهما بامر المكالمة باقتضاب وانه سيباشر العمل اول الاسبوع ، دمعت عينا والده ولم تزد امه أن قالت كما تفعل دوما " إن الله مع الصابرين " .
بعد أن جهّز بقية اوراقه للوظيفة الجديدة ، التحق مساءا بالمقهى حيث شلة من اصدقائه ، علم منهم أثناء الدردشة ، فهو لا يتابع الأخبار و لا يأبه للشأن العام من زمن بعيد ، أن نشرة الأخبار الرسمية عرضت منذ يومين خبر إقالة الوزير وتحويله للتحقيق هو واخوه بتهمة الفساد والتلاعب بصفقات عمومية .