كان لسان الهلباوي؟!-1-


محمد فرحات
2020 / 4 / 24 - 21:45     

كتبه، محمد فرحات
يوم قائظ، رطب من أيام يونيو 1906، يجفف بعصبية شديدة حبات العرق المنسابة على جبينه، هو إبراهيم الهلباوي المحامي، الذي لم ينل محام شهرته بتاريخ المحاماة في مصر.

لن تعجب حين تسمع في أحد أزقة مصر القديمة من يساوم على شروة لحم لسان وساقط، حين يتعجب أحدهم من مغالاة التاجر فيقول:- ولم وهل سأشتري لسان الهلباوي؟، أو يهدد أحدهم غريمه في صعيد مصر فيقول:- أقتلك وأبيع فدان أرض وأوكل الهلباوي؟!

يخبره سكرتيره أن القطار المتجه من طنطا إلى البتانون حيث حضور التحقيقات مع فلاحي حادثة دنشواي سيتخلف عن معاده وأن عليهم انتظار القطار التالي، ينظر الهلباوي إلى سكرتيره بضجر وضيق شديدين، لن تخرج إجابة الهلباوي عن إجابتين إما الانتظار والإصرار على موقفه في الدفاع عن فلاحي مصر المساكين، وإما الرجوع للقاهرة وتنسم عليل الهواء بحديقة قصره المنيف، لم أعرف من عظماء التاريخ أحدا توقف مصيره على قرار منه بانتظار قطار أو عدم انتظاره، كما توقف مصير الهلباوي، لنستنج معا وبالتدريج كيف سيكون قراره، وذلك بتصفح تاريخه، ولنعلم في النهاية أن للصدف في التاريخ دورا لا ينكر، مع الاعتذار مقدما لكارل ماركس الذي لا يرى ذلك.

ولد الهلباوي لأسرة مستورة الحال، قادرة على توفير احتياجاتها الأساسية، على غير عادة الكثير من تلك الأسر القاطنة في دلتا مصر وصعيدها، تحديدا قرية العطف- البحيرة.

وككل تلك الأسر كانت على شفا جرف هار من الفقر والإملاق، ولم يكن من ضمانة لأولادها تحول دون الوقوع بهوة الجوع سوى إرسالهم رحاب الأزهر الشريف حيث حلقات العلم الشرعي واللغوي وحصص الجراية الضامنة لحد أدنى من سد الرمق، لينالوا بعد تخرجهم مهنة كتابية أو تعليمية أو قضائية.

يرى الهلباوي، ابن الاثني عشرة عاما، القاهرة تموج، في أخريات عهد الخديوي سعيد، بأفواج من أجانب شتى ومن كافة الجنسيات الأوربية، زحف جرار من أبناء الفلاحين والصعايدة يحلمون بما يلوح في خيالهم من أمنيات وآمال، يتلقى الهلباوي أصول الفقه على المذاهب الأربعة تمهيدا لتخصصه في إحداها يشغب على مشايخ المالكية فيطردونه من حلقاتهم، فيلجأ للحنفية فلا يقر له قرار فالفتى مجادل، ذلق اللسان، لا يفتأ من طرح السؤال تلو السؤال، والإشكال تلو الإشكال، فتأخذه دروس النحو والمنطق والبلاغة، فيجوب الأعمدة ويتتبع مشايخها .

وبعد أربع سنوات يلمع في سماء القاهرة العامرة نجم، كيف جاد الزمن الشحيح بمثله؟ هي الصدفة حيث ينفى من الاستانة إلى القاهرة وعلى قهوة متاتيا تحديدا بميدان العتبة، يتحلق جيل كامل سيكون له شأن مبهر حول هذا الشيخ الموسوعي، غريب الأطوار، باهر الكاريزما، الداعي للثورات حيث حل، قلقا، مقلقا لكل حاكم، ناشرا الفلسفة، ومبشرا بحياة تتحول الشعوب فيها من رعايا إحسانهم إلى مواطنين متساوي الحقوق والواجبات، قادما من المنافي البعيدة لمستقر لن يطول به كعادته، جمال الدين الأفغاني، ليجد الهلباوي ككل جيله بغيته وضالته، يلتقي الهلباوي بمحمد عبده وعبد الله النديم وسعد زغلول ولطفي السيد وغيرهم العشرات ممن سيكونون من أعلام عصر قادم. تمر به السنوات يتعلم الفلسفة والسياسة ونظم الحكم الأوروبي الحديث على يد الأفغاني، ينشغل بتلك العلوم عن العالمية الأزهرية التي اقترب منها، يؤجل امتحانه عاما بعد عام، إلى أن يعصف بالوطن زلزال خلع الخديوي إسماعيل وتولية الخديوي توفيق وزيادة التدخل الأجنبي في الشأن الداخلي المصري، يسند الخديوي الجديد الوزارة لرياض باشا، فتكون أولى قراراته نفي جمال الدين الأفغاني .

تسند رئاسة تحرير جريدة الوقائع الرسمية، لسان حال الدولة لمحمد عبده ألمع تلامذة الأفغاني على سبيل ترضية الرأي العام الغاضب من جراء نفي الأفغاني، فيشكل هيئة تحرير من مريدي الأفغاني هم عبد الكريم سليمان وسعد زغلول وإبراهيم الهلباوي وعلى إثر خلاف حول الراتب الذي ميز فيه سعد زغلول، فيقرر لسعد راتب شهري قدره سبعة جنيهات وللهلباوي خمسة جنيهات، يترك الهلباوي الجريدة ساخطا، خاسرا كل شئ، فاتته العالمية وخسر وظيفته.

ورجع قريته ليتاجر في القطن، منافسا محتكري التجارة اليونان، وعينه لا تلتفت أبدا عن غريمه ومنافسه سعد زغلول، تلك المنافسة التي ستحدد الكثير من الإجابات، تضمن له تجارة القطن حدا أدنى من المعيشة، يعيش بجسده فقط في القرية بينما عينه وقلبه وعقله هنالك في القاهرة، منتظرا فرصة للانقضاض عليها، سيريها من هو الهلباوي التي فضلت غريمه سعدا عليه .

يقضي شهورا حتى يدهم قريتهم طوفان النيل، وكانت قريبة من إقطاعية خاصة برياض باشا، وكان وكيل إقطاعيته على عداوة مع كبار بعض العائلات فما كان منه سوى إرسال أبنائهم للعمل بالسخرة في إصلاح الجسور وإعمار ما خربه الطوفان في أملاك رياض باشا رئيس وزراء مصر .

فكتب الهلباوي لجريدة " التجارة" المصرية مقالة يصب فيها جام غضبه وسخطه على الوكيل وسيده، ويسبب هذا المقال حرجا كبيرا لرياض باشا، فما كان من الوكيل إلا الأمر بالقبض عليه، وأرسل إليه مقيدا في السلاسل، مهددا إياه بخراب بيته، فما كان منه إلا أن رد عليه بأنه لا يقدر هو ولا سيده، إلا أن الهلباوي فطن لكلمته الأخيرة وأنها جديرة بإلقائه في السجن، فرياض باشا كان شديد العصبية، قاسي العسف حيال هذه الأيام المضطربة، فأراد الهلباوي أن يخفف من حدة الموقف، وما كان منه غير الدفاع عن نفسه بالمنطق مستدركا، وهل لي بيت حتى تخربه ؟!، والقدرة لا تتعلق بالمستحيلات، فخرج من ورطته، وكانت أول مرافعة يدافع فيها الهلباوي عن نفسه مستعينا بمنطق الحجاج .

تعصف الثورة العرابية بكل شيء، ينسى الهلباوي كل شيء، ينضم لرفاق الأمس القريب، يطير للقاهرة ينضم لأستاذة الإمام محمد عبده، و عبد الله النديم، ينسى ما بينه وبين غريمه اللدود سعد زغلول، يسهرا الليالي الطوال يدبجون المقالات والمنشورات الثورية، يحللون الأحداث، وموازين القوى، آمالا عريضة في وطن حر حديث، وطن لا يفرق بين مواطنيه كما علمهم الأفغاني ولقنهم.. وتحدث الخيانة وينكسر العرابي وتنكسر الثورة ويتفرق شمل الرفاق، وتتبخر الأحلام، ويحاول الرفاق النجاة في كل صوب وحدب، يهرب من يهرب، ويحاكم من يحاكم، ويعدم البعض، ويسجن البعض، وينفى البعض، ويحتل الوطن، وتكتب المقالات تكيل الاتهامات للثوار، وتتهمهم تارة بالخيانة وتارة بالفوضوية، وفي النهاية كونهم هم السبب الرئيس لنكبة مصر وخرابها، فتهتف الجماهير مطالبة بالويل والثبور لمن كانوا يهتفون يوما ورائهم، ويل للمهزوم يا هلباوي، ويكون السجن من نصيب الهلباوي، مع وجبة صباحية من جلد السياط