الرّجال الحمر


فريد العليبي
2020 / 4 / 22 - 14:27     

مرثية .

كانت دادا ( أمي ) وأنا لم أتعد السنوات الخمس من عمري تحدثنا عن الرجال الحمر وعندما دخلت المدرسة الابتدائية بحثت عن هؤلاء في شوارع قريتي الصغيرة الممتلئة بكبرياء فقراء الفلاحين ، معتقدا أن هناك رجالا بيضا و آخرين حمرا .
كنت أعرف البيض أما الحمر فلا ففتشت عنهم غير أنى لم أجدهم، وعندما عدت مساء إلى خيمتنا المنصوبة على ضفاف وادي اللبن وكانت مأوانا صيفا وشتاء وربيعا وخريفا أبديت لها استغرابي فقد بحثت عن الرجال الحمر دون نجاح ، واذكر أنها ابتسمت وهى تقول ستكبر وتجدهم يا ولدى.
ومرت السنوات مسرعة وكبرت ووجدت في مجراها الدافق الرجال الحمر وهم بشر من طينة أخرى يعسر الفوز برفقتها ، وكان لزهر الصياحي واحدا منهم .
عشت مع الرجل تجارب ثورية وصداقة شخصية ، منذ لقائه وهو طفل في السنوات الأولى من التعليم الثانوي حتى وفاته ، هو الذي كانت تحلو له مناداتى بـ "أبو Appo"تيمنا بالثائر الكردي ، وفي العشر سنوات الأخيرة كان الزمن الذي يقضيه معي ومع رفاقه في صفاقس يفوق ذلك الذي يقضيه مع إخوته وأمه وأبيه .
ليل الثلاثاء الأربعاء انتظرنا ، وعندما وصلنا إلى باب غرفة العناية المركزة سلم آخر نفس وودعنا .... في الغد ( 20 افريل 2016 ) واريناه الثرى في جنازة مهيبة... بكته كادحات وكادحو الوطن بدموع من دم... كان الفراق عسيرا... كأنما كان في وداعه جنب البشر الشجر والطير والحجر.
كان جبل قبرار حارس "الرقاب " شامخا كعادته منذ آلاف السنين يحتضن الفراق الحزين و يمد الجميع بصبر الصخور و تتردد في أرجائه أصوات النساء الباكيات النائحات وآهات وحسرات الرجال الذين عرفوا لزهر في مر وحلو اللحظات .
يرقد لزهر الآن في سفح حارس "الرقاب" الذي شهد يوما زغردة رصاص العز ضد المستعمرين الفرنسيين... يرقد مثل طفل بين يدى قبرار وهو يرقب من الأعالي أشجار اللوز والزيتون وكروم العنب والتين ويستمع إلى أغاني الرعاة المبكرين فجرا والعائدين مساء بعد تعب يومهم إلى بيوتهم ، وترف من حوله أجنحة النسور العائدة إلى أوكارها ليغنى معها لحن العودة الأزلي منذ كان الموت حياة والحياة موتا... فقد عاد مثلها إلى وكره لينام إلى الأبد .... عاد إلى الجبل .
في قوانين جدل الموت والحياة أنجب عمر لزهرا ومضى وانجب لزهر عمرا ومضى وسينجب عمر لزهرا من جديد.... و سيلتقي جبل قبرار بجبل بوهدمة سامع أولى صرخات حياتي في ظلال واد اللبن واهب مائي وغذائي ليعزف الجميع سيمفونية الرجال الحمر ....وسيرقص الشجر...
فريد العليبي / أفريل 2016