قصة قصيرة : الأرغن الذائع الصيت


بديع الآلوسي
2020 / 4 / 21 - 17:43     

في الصباحات الغارقة بالعزلة ، اخرج الى باحة الكنيسة المعفرة بالبركة ، هنالك اجلس فوق الصخرة متأملا ً ورود شجرة التفاح ، مراجعا ً ما تخبئ لنا الايام ، وما سيؤول اليه مجد الأرغن الذي كنا نصغي له باندهاش يشبه السحر ، انغامه المرافقة للتراتيل كانت تدغدغ طفولتنا بالبراءة والفرح . ولطالما افتخرنا بذلك ، كوننا نملك أفضل آلة موسيقية في مقاطعة اللورين .
في ذلك الوقت العامر بالمسرات ، كانت روح الموسيقى المنبعثة من الارغن تمتزج بدماء وذكريات الفلاحين . اما اليوم فما عادت كنيستنا مكانا ً مثاليا ً لتلك المتع الروحية ، حيث توقف الارغن عن العزف قبل عشر سنوات ، وبمرور ذلك الزمن القاحل ما عاد بإمكاننا القول ان باستطاعة الموسيقى ان ترفعنا لمرتبة اعلى ..
الجدب يلتهم كل شيء ، باستثناء ذلك اللقاء الذي حررني من الرتابة ، واعاد لروحي زهوا ً لم اكن اتوقعه ، لكن اكثر ما يدهشني الآن هو اني ومنذ ان غادر سيمون لم يهدئ لي بال .. كونه ذكرني بتلك الايام التي قضيناها معا في مرحلة الشباب ، يومها كانت ضحكته المجللة تملأنا بالغبطة ، كان يدور حول نفسه ويرقص ويصفق ، وهو يصغي الى صوتي الشجي المردد لتلك الأغنية الشعبية :
في طرقات الرب ، تلعب الفتيات ذات الصدور النافرة ،
في تلك الدروب الموحشة ، قد تصادفهن ويضحكن لك
إذا احبك الرب ، سترى بريقا ً معدنيا ً يشع من عيونهن ..
اليوم وانا اذكرهُ بالأغنية ، حملت الريح كلماتي بعيدا ً ، اما مزحته فقد استقرت كمخرز في قلبي : يا ايها العزيز ان هذه الاغنية ما عادت تناسب خصلات شعرك البيضاء .
لا اعرف لماذا في هذا الصباح ، لا يمكنني تجاهل ما حدث لنا في بداية شباط قبل سنتين ، حين وفد الى قريتنا كمنقذ .
يا له من نهار مكفهر ، كان الثلج يتساقط ويملأ الطرقات ويغطي ازهار القرنفل وشجرة اللوز . توقعت انه سوف لا يأتي بسبب تلك الاجواء العاصفة ، ، لكنه حضر بالموعد المحدد ، معتمرا ً قبعة قطنية حمراء . مما جعلنا جميعا نتفق على ان سيمون رجلا ً محترما ً بكل ما تعنيه هذه الكلمة ، بدأ حياته كراهب وفي نفس الوقت كان يشتغل مصلحا ً لآلة الأرغن ، وبعد الحرب الأخيرة اصبح عضوا فاعلا ً في الحزب الشيوعي ، كثيرا ً من الفلاحين لا يروق لهم هذا الخلط الغريب ، ويرون في هذا التلون تناقضا ً ، وهذا ما جعلهم ان يصفونه بطائر النطاط ، اما هو فلم يبال بذلك وكان يكتفي بان يهز رأسه ويبتسم .. آه يا له من رجل جسور وعطوف هذا السيمون .
حين استقبلته ، كان وجهه شاحبا ً ، لكن الابتسامة ترتسم على شفتيه . حمل لي معه كرات من الخبر وقطعة متوسطة من الجبن ، وقنينة خمر قرمزية ، لم اكن بحاجة لكل تلك الهدايا التي تكلف بحملها بقدر رغبتي بلقائه والمسامرة معه .. وحال وصوله اخبرني بانه اتى مشيا ً على الأقدام ، معتقدا ً ان من الحماقة الاعتماد على الدراجة الهوائية في هكذا اجواء تخيف حتى الدببة .
ما ان استراح حتى بدأنا نتشاور في أمر الأرغن ذائع الصيت ، والذي لأجله كان يتوافد الزوار من كل صوب وحدب للتمتع برنينه العذب وموسيقاه المميزة .
اصطحبت سيمون الى باحة الكنيسة ، وبقفزات متتالية صعد الدرج الخشبي ، وقبل ان يفتح حقيبته ، القى نظره متفحصة ، وما ان رأى التراب يغطي الارغن حتى صرخ : يا الهي ، لماذا كل هذا الإهمال ؟
اني اثق ثقة مطلقة بالرب يسوع ، لكني اليوم وضعت كل ثقتي بالنطاط ، وراودني هاجس لا يخيب من انه الشخص الوحيد في هذا العالم من سيتكفل بمعالجة المشكلة واعادة الأرغن الى سابق عهده .
اخرج بعض اللوازم الضرورية من حقيبته الجلدية ، ودون تريث باشر في عمله ، صار كمن يصارع وحشا ً ، معتمدا ً على قواه وخبرته الذاتية ، وظن ان التغريد ببعض القصائد الثورية سيسهم بإنعاش روحه وتخطي العقبات ، انتابه حماس غريب ، دق بمطرقته الصغيرة الذهبية على بعض المفاتيح ، حاول ان يرتب نوته موسيقية ، لكن بلا جدوى ، كل محاولاته باءت بالفشل ولم تثمر إلا عن رنينٍ لا يوحي باي ايقاع هارموني .
كنت اردد بين الفينة والاخرى : هل من أمل يا سيمون ؟
ولأن الكنيسة كانت باردة ورطبة ، لذا كان بين الحين والاخر يفرك يديه بقوة ، غير مبال بالبرد ، حتى انه تحرر من معطفه المطري ، وصار كالسنجاب يقفز وهو يصعد وينزل من السلم الخشبي ، لكن اكثر ما حيرني في كل تصرفاته ، عندما ذهب وفتح النافذة القريبة من الارغن ، فتسلل الضوء وهبت ريح باردة ، عندها احسست ان الرب يسوع يرانا ويبارك جهودنا .
واصل سيمون عمله لكنه توقف فجأة ً ونظر في ساعته اليدوية وطرح ذلك السؤال غير التوقع  : هل تعرف ماذا كانوا يطلقون على الأرغن في القرون الوسطى ؟
كان النطاط يراهن على تحسن نغمة الصوت بوضعه الزيت على المفاتيح والازار الصدئة . اما عني فقد خجلت من نفسي لأني لم اعرف الجواب ، قلت له وأنا مطأطأ الرأس : ماذا يسمونه ؟
كانت اصابعه تتراقص فوق جسد الأرغن ، طريقته بملامسة الاسطوانات اوحت لي كمن يداعب جسد انثوي ملتهب بالإثارة . لم افهم لماذا كان مصرا ً ان اجلب له حبلا ً ، بعدها ربط الاسطوانات المعدنية الكبيرة والصغيرة على نحو محكم . ما ان انجز هذه المهمة حتى رفع رأسه ، وقال بكلمات واثقة : يا صديقي العزيز يسمونه ملك الآلات الموسيقية .
بعدها بدقائق اخرج ثلاث بطاريات جافة والقمها مصباحه اليدوي ، وتمدد تحت الصندوق الذي يشبه كورة الحدادين ، والذي كان الصبيان يملؤونه بالهواء ، حينما نهض كان الغبار قد غطى فروة رأسه . كتمت ضحكتي فمن المخجل في تلك اللحظة ان اقول له يا ايها النطاط الجميل ان الأرغن حولك الى جرذ قذر .
خيم الصمت ، كان هو يبحث عن بعض البراغي الصغيرة التي سقطت على الارض ، بينما كنت انا اجمع كرات صغيرة ملوثه بالزيت ، بدا التعب واضحا عليه ، كان بحاجة الى من يبارك مبادرته واصراره ، حاول تجاوز الفشل الشبيه بالخيبة الهائلة ، ولكي نتخط محنتنا ، قال لي وهو يصر على اسنانه : رتل وصل ، علنا نتمكن من انجاز المهمة .
فجأة ً تعكر مزاجه اثر جرح اصاب يده اليمنى ، احتقن وجهه بالغضب ، ضرب كملاكم الاسطوانات عدة مرات ، وهو يصرخ : يا إلهي ، كم عنيد هذا الأرغن .
كتمت انفاسي ولم ابتسم حتى عاد مزاجه الى طبيعته ، فقلت له مشجعا ً  : اني على قناعة من انك مررت في حياتك بصعوبات تفوق اضعاف المرات حكاية هذا الأرغن العتيق .
وبينما كنا نقف متقابلين ننظر من خلال النافذة الى الباحة قال لي كلاما ً غريبا ً لم اسمع به من قبل : يمكنك ان تسمع أرغن الرب في السماوات ، ان صوته يتردد في كل مكان .
على الرغم من انه بدا اكثر نشاطا ً في النصف الساعة الاخيرة ، لكني أحسسته كمن يريد انقاذ جسد ميت ، لكنه ظل حتى تلك اللحظة يعتقد ان إمكانية انتشاله امرا ً محتملا ً . ارتدى قبعته مخفيا ً شعره الاشقر الطويل ، فبدت ملامحه قريبة جدا ً من مهرجي المدن الكبيرة الذين يعتاشون على التسول . وما ان رأيته يكابد في فك لوحة المفاتيح ، قلت له مستفسرا ً : لماذا انت مُصرٌ على اعادة الحياة له ؟
وضع سيمون المطرقة الذهبية وكذلك المصباح في حقيبته ، وظل يتأمل الأرغن المتأكل ، وسقطت دمعة كحبة اللؤلؤ من محجر عينيه . حينها فقط شعرت ان الشيطان قد انتصر على الرب ، كل هذا دفعني الى القول في خلدي : اي خراقة هذه !
اعتاد النطاط ان لا يجيب بسرعة ، لكني اعرف انه لا يُهمل الاسئلة مهما صغر شأنها ، كان جوابه مثار اهتمامي : ستطاردنا اللعنات ، لان شذرات من روح المسيح تسكن في هذه الكنيسة ، وان كلام المخلص يصدح من خلال هذا الأرغن .
في الساعة الرابعة عصرا ًطالنا اليأس ، وانا اغلق النافذة سمعت سيمون يتكلم مع نفسه كمريض مصاب بالحمى : كم هو مؤلم ان نترك الأحلام الجميلة تتعرض للتلف .
شعرت بضرورة مواساته ، ربما لذلك ذكرته بأننا نستطيع ان نتكلم مع الموتى لكن ليس بمقدورنا ان نحييهم .
لم اجد ما أكافئ به النطاط ، اخرجت القنينة ونحن نحتسي النبيذ القرمزي ، صرنا نتلذذ بمراقبة العالم الفسيح والمذهل من خلال النافذة ، ما اذكره اننا تحدثنا عن مستقبل الكنيسة ، التي تصَدع َ حائطها الشمالي ، وعن الحاجة إلى من ينقذ سقفها المعرض للتداعي في اي لحظة .
ما اذكره أيضا ً ، ان الثلج توقف عن الهطول ، وحين حلت ساعة الفراق .. شكرت سيمون الذي قضى معي خمس ساعات من المسامرة ، بخطى متثاقلة وصلنا الى مفترق الشارع ، اوصاني كأي نطاط عاشق للحياة بان اهتم بصحتي .. لم نتحدث طويلا ً ، وعدني بالرجوع بأقرب فرصة ، لكنه لم يعد ابدا ً ......