ماركس والسُكّان الأصليين في المُستعمرات (1 -2)


غريب عوض
2020 / 4 / 21 - 11:21     

بقلم: John Bellamy Foster
الترجمة: غريب عوض

جون بلامي فوستر هو محرر مجلة Monthly Review واستاذ عِلم الاجتماع في جامعة أوريغون Oregon بالولايات المتحدة. و Brett Clark مساعد رئيس التحرير في المجلة السابق ذكرها واستاذ عِلم الاجتماع في جامعة يوتا Utah. و Hanna Holleman هي مديرة مؤسسة مجلة Monthly Review وأُستاذ مُساعد لعِلم الاجتماع في كُلية أمهيرست Amherst.
“إن الاهتمام بالشعوب الأصلية” في النظرية الاجتماعية على مدى العقدين الأخيرين، المُرتبط بنقد الاستعمار الإستيطاني الأبيض، لهُ موضوعات موجودة مُنذُ زمن طويل في النظرية الماركسية، ولكن بأساليب غالباً ما تكون مُنفصِلة عن نقد كارل ماركس للرأسمالية، والاستعمار، والإمبريالية. وجزء من سبب هذا الانفصال هو أن المُناقشات الراهِنة لاستعمار المُستوطنين قد تطوّرت من التقاليد في النظرية الثقافية لِما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار الإستيطاني والتي هي بعيدة عن المادية التاريخية. إلا أن هناك شرح أعمق لسبب الفجوة بين العمل البحثي الراهن حول الاستعمار الإستيطاني والماركسية يتعلق بمزاعم بعض النُقاد اليساريين بأن عمل ماركس يتسم بالتالي: (1) عملية توسعية صِرفة وحتمية اقتصادية؛ (2) موقف استعماري مؤيد؛ (3) المفهوم إلغائي للتقدم؛ و (4) جُرأة أو فرط الإنتاج بالنسبة للبيئة. غالباً ما يتم توظيف مثل هذهِ التُهم للتدليل على أن المادية التاريخية غير مُلائمة أو حتى مُعادية لنضالات وتطلُعات الشعوب الأصلية.
يُقدم الكاتب Glen Sean Coulthard في كِتابهِ Red Skins, White Masks “جلود حمراء، أقنعة بيضاء” وجهة نظر أكثر دقة عن ماركس والشعوب الأصلية، يُشارك في نقد الأخيرة لما يُسمى “التراكُم البدائي”. ويؤكد Coulthard على أن “الإطار النظري لماركس” في هذا الصدد يمكن النظر إليه “بأنهُ ذي صِلة بالفهم الشامل للإستعمار الإستيطاني ومُقاومة الشعوب الأصلية،” ولكن ذلك يتطلب أن تتحوّل المادية التاريخية الكلاسيكية في الحديث مع التفكير والمُمارسات النقدية للشعوب الأصلية نفسها. “تحديداً، هو يسعى إلى تجاوز ما يعتبرهُ وجهات نظر ماركس الخاطئة (1) إن مثل مُصادرة المُلكية هذهِ تقتصر على المراحل التكوينية للرأسمالية، بدلاً من كونها عملية مُستمرة؛ (2) أن هناك منطقاً تطورياً غير مُنصِف يُعادل التقدُم؛ و (3) يجب مُعاملة البيئة على أنها تُشكّل هدية مجانية، حيثُ أن الأرض لا تُعتَبر مُستغَلة، الشعوب فقط هي المُستَغَلة.
وإذا أخذنا هذهِ الانتقادات على محمل الجد، نعود إلى الأُسُس الكلاسيكية للنظرية الماركسية لكي نتأكد من أين-أخطأت التحليلات إذا كان ذلك صحيحاً، وما الذي يمكن استخلاصه من ذلك الخطأ بشكل مُفيد، وكيفية بِناء (أو إعادة بِناء) نقداً ماركسياً للإستعمار ذي الصِلة بالنِضالات المُعاصِرة. ومن خلال هذا التقييم، نحنُ نعتقد، أن قوة وصلابة مُحاجة المادية التاريخية الكلاسيكية سوف تُصبح واضِحة.
إن العودة إلى ماركس كنقطة بداية هو أمرٌ مُهم من أجل وضع نقداً مادياً للرأسمالية والإستعمار. ومع ذلك، في المادية التاريخية ليس هناك شيء يُسمى رأي ثابت لا يتزحزح. بالأحرى، الماركسية مُنذُ البداية قد تشكلت من خلال التقاليد الثورية المحلية. وهي كفلسفة التطبيق العملي لا تهدف إلى مُجرد فهم العالَم بل وإلى تغييرهِ أيضاً، فالمادية التاريخية على الأقل يمكنها أن تكون فوق السُلطة، أو أن تُهمِل دروس النِضالات الوطنية والشعبية. تُشير كلمة “الأرثودكسية” “ثبات الرأي” في الماركسية، كما قال الكاتب Georg Lukᾴcs على نحوٍ واضح، “إلى الأسلوب حصرياً”. وهكذا، فإن الأسلوب المادي التاريخي الجدلي للماركسية الكلاسيكية هو الذي يًشكل نقطة الانطلاق الضرورية للإنخراط في نقد الاستعمار، بما في ذلك الاستعمار الإستيطاني، اليوم.

الاستعمار ونزع المُلكية
يؤكد الكاتب Coulthard في كتابهِ “الجلد الأحمر، الأقنعة البيضاء” أن نظرية نزع المُلكية التي وضعها ماركس كحالة تاريخية للتنمية الرأسمالية تتعلق أساساً “بالفصل الدائم للعمال عن وسائل الإنتاج” وليس بالعلاقة الإستعمارية في حد ذاتها. وبالمثل، قيل لنا أن مُناقشة ماركس حول “نظرية الاستعمار الحديثة” في الفصل الأخير من المُجلد (1) من كتاب “رأس المال”، كانت مُكرسة لمجرد وضع نظريتهِ في العمل المأجور ورأس المال من خلال الإشارة إلى ضرورة إزالة رأس المال للعُمال من الأرض، مما يُشير إلى عدم وجود اهتمام عام بالاستعمار. وإضافة على هذهِ الانتقادات، يقترح Coulthard أن النقد ينبغي أن ينتقل من التركيز بشكل رئيسي على علاقة رأس المال إلى نقداً يوضح أيضاً العلاقة الإستعمارية، وبالتالي مُتجاوزاً أحادية ماركس في هذا الصدد.
ومع ذلك، في الفصل 31 من كتاب رأس المال، “نشأة الرأسمالية الصناعية”، يُشير ماركس بالفعل إلى الحاجة إلى اعتبار العلاقة الأستعمارية أساساً لعلاقة رأس المال. في الواقع، إنهُ واضح تمام الوضوح بشأن هذهِ المسألة:
إكتشاف الذهب والفضة في أميركا، الإبادة، الإستعباد، ودفن مناجم السكان الأصليين في تلك القارة، وبدايات الغزو ونهب الهند، وتحويل أفريقيا إلى محمية للصيد التجاري من الجلود السوداء، كلُ هذهِ الأشياء تُميّز فجر عصر الإنتاج الرأسمالي. هذهِ الإجراءات المِثالية هي أهم لحظات التراكم البدائي.
لذلك، بالنسبة لماركس، لم تكن الحظائر المُختلِفة للمشاعات في أنجلترا، والتي تمت مُناقشتها في الفصول المُبكِرة من الجزء الثامن من كتاب رأس المال حول ما يُسمى “التراكم البدائي”، التي شكلت أهم لحظات المُصادرة الأولية ونشؤ رأس المال الصناعي، لكن بالأحرى نهب العالم بِأسره خارج أوروبا، مع التركيز على “الإبادة والإستعباد والإستيلاء على مناجم السكان الأصليين”، بما في ذلك سرِقة المعادن الثمينة والأراضي وأجساد السكان الأصليين. علاوة على ذلك، تتلقى مستعمرات المستوطنين البيض الإنجليز انتقاداً مُحدداً للأهوال التي ارتكبوها:
وبطبيعة الحال، كانت مُعاملة السكان الأصليين في أشدها خوفاً في مستعمرات المزارع التي أُقيمت حصرياً لتجارة التصدير، مثل جزر الهند الغربية، وفي البلدان الغنية والمكتظة بالسكان، مثل المكسيك والهند، والتي أُعطيت للنهب. ولكن حتى في المستعمرات الحقيقية [أو، المستعمرات الإستيطانية التي تُسمى في اللغة الأسبانية المستوطنات] الطابع المسيحي للتراكم البدائي لم يكُن مؤكداً. في عام 1703 قام هؤلاء المُتشددون من البروتستانت، المتشددون في New England، بموجب مراسيم لتجميعهم، بتخصيص 40 جنيهاً استرليني على كل فروة رأس هندية وكل جلد أحمر تم التقاطه؛ وفي عام 1720، تم تعيين 100 جنيه على كل فروة رأس. وفي عام 1744، بعد إعلان خليج ماساتشوستس عن قبيلة مُعيّنة كمُتمرِدة، تم تحديد الأسعار التالية: 100 جنيه لفروة الرأس من الذكور التي تبلغ 12 عاماً فما فوق، 100 جنيه من العُملة الجديدة، و 105 جنيه مُقابل سجين ذكر، و 50 جنيهاً مقابل السجناء الأطفال والنساء، و 50 مقابل فروة رأس النساء والأطفال. وبعد عدة عقود من الزمن، انتقم النظام الاستعماري من نسل آباء الحجاج الأتقياء، الذين أصبحوا مثيري الفتنة آن ذاك. وعند التحريض الإنجليزي، ومن أجل المال الإنجليزي، لقد تعرضت للسقوط على يد الهنود الحُمر. وأعلن البرلمان البريطاني عن اصطياد كلاب الدم وفروات الرأس “كوسيلة بأن الله والطبيعة قد وضعوهم في يدهم”، أي في يد المستعمرين الإنجليز.
لم يفوت مُلاحظة ماركس أن سعر فروة الرأس يُعادل سعر السُجناء، مما يعني أن الإبادة الجماعية وليس العبودية هي الهدف. وبهذهِ الطريقة يؤكد ماركس على أن الهدف الرئيس في المستعمرات الإستيطانية الإنجليزية في أمريكا الشمالية كان الإبادة “المُطلَقة” للسكان الأصليين. وبالفعل كما وضح الكاتب الإنجليزي ويليم هويت William Howitt في كتابهِ “الاستعمار والمسيحية: تاريخ شهير حول معاملة الأوروبيون للسكان الأصليين في جميع مستعمراتهم (1838)، والذي قام ماركس بدراستهِ لأول مرة في عام 1851، كان الاستعمار الإستيطاني للأمريكيين البيض الناشئين يهدف إلى استأصال وإزالة تجمعات القبائل الأمريكية الأصلية. هُنا يقتبس Howitt عبارة الكاتب والمُروج الفرنسي Abbé Raynal بأن هدف المستعمرين الإنجليز والفرنسيين هو “إبادة” السكان الأمريكيين الأصليين. ووصف Howitt أيضاً “حملات الإبادة للجنرال أندرو جاكسون”، مُقتبساً إعلان الجنرال جاكسون في 27 مارس/أيار 1814، أثناء حملتهِ العسكرية ضد قبائل الجنوب، بأنهُ “مُصمم على إبادتهم”. ولاحظ Howitt أن الشعوب الأمريكية الأصلية، تم دفعها إلى الهلاك أو الإبادة”. وهو يكتب في فترة درب الدموع الإبعاد القسري الكبير للسكان الأمريكيين الأصليين من الجنوب الشرقي، حيث لخص Howitt العملية بهذهِ الكلمات:
سوف لن يكون هناك أي شيء يستطيع منع الترحيل النهائي لهذِ القبائل الجنوبية: يجب أن يعبروا نهر الميسسبي إلى أن يتضخم عدد السكان البيض بما فيه الكفاية ليطالبوهم بعبور نهر ميسوري؛ ولن يبقى هناك بعد ذلك سوى عائقين بينهما وإبادة – جبال روكي والمحيط الهادئ. عندما نسمع الآن عن هذهِ القبائل، يكون ذلك بمثابة عمل عدائي جديد ضدهم، شيء من الطرد الطازج لقسم منهم، وعن الهنود المُكتأبين وهم يتجهون نحو البراري الغربية.
في الوقت الذي كان يكتبُ فيهِ رأس المال، كان كتاب Howitt هو المصدر الرئيس لماركس حول المُعاملة الإستعمارية ليس للسكان الأمريكيين الأصليين فحسب بل للسكان الأصليين في جميع أنحاء العالَم. ومع ذلك، في نفس الوقت الذي كان ماركس يتصدى ل Howitt درس ماركس أيضاً كتابي William Prescott تاريخ غزو المكسيك (1843) و تاريخ غزو البيرو (1847)، وكتاب Thomas Fowell Buxton تجارة الرقيق الأفريقية وعلاجها (1840)، مع أعمال مُتعددة حول الهند.
في خمسينيات القرن التاسع عشر، تفحص عن كثب مُحاضرات Herman Merivale بشأن الاستعمار والمستعمرات (1841). وفي عام 1853، قرأ كتاب Thomas Raffles تاريخ جاوة (1817)، الذي اعتمد أيضاً عليه في معالجتهِ لموضوع جاوة. وتبع ذلك دراسة أعمال إيضافية عديدة حول الرِق، المُشارُ إليه في رأس المال.