إعادة إنتاج للرأسمالية المالية أم انتقال إلى الاشتراكية؟!


هيفاء أحمد الجندي
2020 / 4 / 19 - 14:06     

لقد صاغ ماركس نظريته الاقتصادية عن الأزمات على قاعدة الرأسمالية الصناعية ، وانصب جهده على تحليل آليات عمل نمط الإنتاج الرأسمالي ، في مرحلة التنافس الحر معتبراً المكان الوحيد الذي تنتج فيه القيمة وفائض القيمة ، هو عمل العامل قي القطاع الإنتاجي الصناعي، والذي حوله الرأسمالي ، إلى آلة لإنتاج فضل القيمة وجعل من الرأسمال الثابت وسيلة امتصاص لعمله الفائض ، الذي يتقاسمه رأسماليون أخرون ، ويأخذ هذا الفائض أشكال ومسميات شتى كالربح والفائدة والريع العقاري.
ويعود الفضل إلى ماركس أيضاً ، اكتشافه التاريخي للتناقض الأساسي للرأسمالية ، والذي ما انفك ينتج أزمات دورية (كفائض الإنتاج ونقص الاستهلاك) وهو الطابع الاجتماعي للإنتاج ، والشكل الخاص لتملك منتوجات العمل ، والنمو الكبير لطاقات الإنتاج والقدرة الشرائية المحدودة ، والأزمات التي يولدها تناقض الرأسمالية ، يمكن أن تعطل عملية الإنتاج الموسع ، والتي ستعطل بدورها عملية التراكم ، سيما وأن إعادة الإنتاج الموسع ، تتطلب تراكماً رأسمالياً ومصدره ، فائض القيمة والذي يتحول إلى رأسمال.
والسؤال الذي يطرح نفسه كيف تتغلب الرأسمالية ، على أزماتها الدورية وما هي المخارج والسبل التي تعتمدها؟!
نظراً لعدم وجود مستهلكين داخل الأسواق الرأسمالية ، وهذا يعني استحالة تحقيق فائض القيمة، ضمن نمط إنتاج رأسمالي صاف ، الأمر الذي يدفع الرأسمالية إلى التوسع خارج الحدود ، وبذلك تكون قد تحولت إلى إمبريالية ، والصراع بين الامبرياليات على الأسواق، كان أمراً حتمياً لأن كل البلدان الرأسمالية ، تعاني من نفس الأزمات ، وهذا أدى إلى اندلاع الحروب ، وتفشي العسكرتاريا والأوبئة ، ولولا التوسع ، خارج الحدود لكانت الرأسمالية انهارت ، تحت ثقل تناقضاتها وأزماتها الدورية ، ولا ضير من القول ، بأن الامبريالية هي سياسة رأس المال المالي ، وهي مقولة تاريخية ارتبطت بتصدير الرساميل ، واقتران البنكي بالصناعي وهذا الرأسمال الذي جرت مركزته عن طريق رسملة القيمة الزائدة ، و الاتحاد بين سنديكات الصناعة والمصارف . وبذلك تكون قد انتهت مرحلة دعه يمر- دعه يعمل ومعادلة "نقد – سلعة – نقد " التي تحكمت بتلك المرحلة لتبدأ مرحلة جديدة ، وهي الامبريالية التي وحدت ، بين التركز الاحتكاري المالي والسلطة السياسية في كيان واحد ، وضمن تروست الدولة الرأسمالية الاحتكارية.
عدا عن أن تصدير الرساميل الملازم للحقبة الامبريالية ، لا يحد فقط من التأثير السلبي لقانون نزوع معدل الربح إلى الإنخفاض ، ويطيل بعمر الرأسمالية ، بل يحول الدول الامبريالية إلى دول ريعية يتكاثر فيها ، عدد الذين يتعيشون من عائدات رؤوس أموالهم ، في الخارج ولهذا السبب وصفها لينين بالعفنة والطفيلية ، والتي ما انفكت تنتزع فائضاً من قوة عمل ، أغلب العناصر الاجتماعية ،في المستعمرات وأنصاف المستعمرات.
ويمكن أن تلجأ الرأسمالية إلى الدولة ، لكي تتغلب على أزماتها و تمتص فوائض الرساميل من خلال الإنفاق العام ، الذي يعاد توظيفه في عملية الإنتاج ، بحيث يتم تبذير جزء من الرأسمال ، في عمليات الاستهلاك والقروض التي ارتبطت بالمرحلة الكينزية أو ما اصطلح على تسميتها بدول الرفاه ، حيث جرت تسوية بين أرباب العمل والعمال ، وبذلك تكون الدولة قد حدت من السير التراكمي للأزمات من خلال الإنفاق العام ، الذي امتص جزءاً كبيراً من الدخل القومي ، وهي تحد من الداء ولكنها لا تستأصل الداء نفسه.
هذا يفسر تكرار أزمات الرأسمالية ، كل عقد أو عقدين ، وهي ليست ناتجة عن ظواهر ظرفية بل نابعة من صلب نمط الإنتاج الرأسمالي، ومن هنا أتى استنتاج ماركس ، بحتمية انهيار الرأسمالية ، إذ كان يهمه الأزمة العامة ، وليست الانكماشات الدورية المتقطعة لرأس المال ، ولم يتنبأ بتاريخ انفجار هذه الأزمة ، ولكنه تنبأ بمضمونها ، المتمثل بالانخفاض التدريجي لمعدلات ربح رأس المال إلى درجة لا يصبح التوظيف الرأسمالي مغرياً.
علاوة على أن عدم التناسب ، بين تطور القوى المنتجة والتراكم الرأسمالي ، قد يدفعا الرأسمالية إلى شن حرب طاحنة ، قد تتحول إلى نووية و تدمر آلة الإنتاج لأن النظام الرأسمالي ، غدا أضيق من أن يستوعب الثروات التي أنتجها ، والنتيجة هي الإعداد لأزمات أكثر اتساعا.
في الطور الحالي من الرأسمالية ، والتي تتميز بصعود وهيمنة رأس المال المالي المطلق ، حيث باتت عملية "المال الذي يولد من المال"، تتحكم بهذه المرحلة من الرأسمالية ، من خلال ما يسمى بعمليات المضاربة ، في البورصات ولا يمكن أن نفهم أزمة اليوم ، من دون فهم وتحليل عملية دوران الرأسمال الوهمي أوالافتراضي ، ومن دون العودة إلى نظام الإئتمان ، حيث تمثل الرهون العقارية نسبة 40% من الناتج المحلي الإجمالي ، في أمريكا لوحدها على سبيل المثال.
و يعد إقراض البنوك للدول مقابل أسعار فائدة مرتفعة ، خدمة الدين مصدر من مصادر التراكم ، وهو بمثابة خراج ، تدفعه البلدان الفقيرة إلى المراكز الامبريالية ، وفق تعبير سمير أمين هذه الفائدة والتي يتم دفعها ، تأتي من إنتاج فائض القيمة والذي يتم اقتطاعه ، على شكل ضرائب. وهذا الدين الذي وصفه ماركس وبدقة في سفره الهام "رأس المال" بأنه يعد من أقوى الروافع للتراكم الأولي ، فهو يمنح النقود العاقرولو بلمسة عصا سحرية ، القدرة على الإنجاب، ويحولها إلى رأسمال ودائني الدولة ، لا يعطون شيئاً في الواقع فالمبالغ التي يقرضونها تتحول إلى سندات دين حكومي ، يسيرها التداول ويذهب جزءاً من كل قرض حكومي ، إلى متعهدي الضرائب والتجار والصناعيين ودين الدولة هذا أدى إلى نشوء الشركات المساهمة المتاجرة بالأوراق المالية من كل نوع والمضاربة بها .
لم تكن البنوك ،سوى شركات من المضاربين ، قدموا مساعدات للحكومات ، وبموازاة ديون الدولة ظهر نظام الائتمان العالمي، الذي يعتبر مصدراً للتراكم ، وسيما وأن الديون ، تمول المضاربات التي تنتقل إلى الدولة وهذه بدورها ستحمل المصارف المسؤولية .
لا ضير من القول بأن الدين هو أحد العوامل ، التي تبقي الفقراء فقراء والأغنياء أغنياء لأنه تتم المضاربة بأموال صغار المودعين ومعاشات المتقاعدين، وهو عمل متراكم كما بات معروفاً.
ثمة قلق وتوجس يخيمان على المشهد العام العالمي بعد انتشار فيروس الكورونا لأن تداعياته الاجتماعية ستكون كارثية على الطبقات الشعبية لما قد تشهده الرأسمالية من تركز احتكاري مالي بحيث تنتقل من رأسمالية الاحتكارات إلى رأسمالية احتكارات الدولة ، وهذه مرحلة جديدة من الامبريالية وربما ينتصر التاريخ لفكرة صاحب كتاب "رأس المال المالي" ادولف هلفردنج" ويكون التوجه نحو خلق كارتل عالمي ، يتطابق مع الاتجاه نحو إقامة بنك عالمي وبتوحيد هذين الاتجاهين تنمو القوة المتركزة لرأس المال المالي ، ونكون أمام شكل جديد من الهيمنة الامبريالية الموحدة وينتهي الصراع المنافسة بين الامبرياليات يعقبها مرحلة سلمية يتوحد فيها أقطاب المال في تروست عالمي ويتقاسمون المستعمرات سلمياً.
وكما درجت العادة سيؤدي هذا التركز المالي الاحتكاري ، إلى زيادة إفقار الطبقات الشعبية واستقطاب للثروة والبذخ والترف في جهة ، والفقر والبؤس وزيادة عدد العاطلين عن العمل أكثر من ذي قبل في الجهة الأخرى وزيادة نسبة البطالة ناتجة عن تطور القوى المنتجة وارتفاع نسبة التركيب العضوي لرأس المال ، وربما تتراجع قوة العمل التقليدية لصالح صعود قوة عمل جديدة مثقفة تكنولوجيا و تقنيا وقادرة على إدارة الأعمال عن بعد.
والعمالة التقليدية العاطلة عن العمل والتي فقدت عملها ، باتت ومن وجهة نظر التركز المالي الاحتكاري الجديد فائضة عن اللزوم والحاجة ، وهذا مؤشر على بربرية الرأسمالية وعجزها عن قيادة القوى المنتجة ولكن بربريتها هذه ليست كلية القدرة و كعب أخيلها هو مقاومة الشعوب لها وعدم الاستسلام للأقدارالتي رسمتها هذه الرأسمالية المأزومة ، ويمكن أن تتعدل موازين القوى عند دخول النضالات الشعبية العمالية على خط المواجهة ، إذ لم ولن ينتهي عصر النضالات العمالية الشعبية ، ضد الرأسمال المأزوم ، الذي باتت أزماته تفعل فعلها في كل أرجاء المعمورة وخاصة بعد انتشار فيروس الكيرونا ، الذي فضح هشاشة الرأسمالية وكشف عن التفاوت الطبقي المرعب الناتج عن السياسات النيوليبرالية ، التي سادت لعقود وقوضت مكتسبات ما سمي بدولة الرفاه وربما تكون الايجابية الوحيدة للفيروس، هي الطاقة الثورية التي سيخلقها لدى ضحايا الرأسمال الاحتكاري الذي بلغ حدوده التاريخية ، وما التركز المالي إلا مؤشر على تهالكه وانهياره ، والذي يمكن أن يسرع عملية الانهيار هي ولادة البديل الطبقي الثوري والذي سينبثق من قلب النضالات العمالية الشعبية.
إذاً الرأسمال المالي أمام خيارين لا ثالث لهما ،إما أن يقدم على تدمير جزء من القوى المنتجة التي باتت تضيق بعلاقات الانتاج القائمة وبالثروات التي أنتجها ، أو يتم الانتقال إلى البديل الاجتماعي - الاقتصادي وهذا البديل له اسم واحد وهي الاشتراكية وعملية الانتقال هذه هي عملية تاريخية ولن يتم بناءها خلال بضعة أشهر. سيما وأن أزمة اليوم لا تشبه الأزمات السابقة ولن تنهار الرأسمالية تحت ثقل تناقضاتها ، بل تحتاج الى ضربات نقيضها الطبقي الثوري والذي سيسرع بانهيارها ودفنها .
البديل القادم سيسترد ملكيته لوسائل الانتاج الذي ساهم بصناعتها، وستعود إلى مالكيها الحقيقيين أي المنتجين ، ولن يكون طريق الاشتراكية إلا طريق الديمقراطية ، النقيضة للتجارب السابقة لأنه سيكون رقابة مجتمعية شعبية على الإنتاج والتوزيع وستكون القوى المنتجة الهائلة التطورالتي ثورتها الرأسمالية ، بمثابة القاعدة المادية لبناء الاشتراكية ، وهذا ما تحتاجه اشتراكية المستقبل قوى منتجة متطورة حديثة ستجعلها الطبقة العاملة الجديدة أكثر ديمقراطية بعدما استردت ملكيتها من الرأسمالية ، إذ وجود مصرفاً واحداً له فروع في كل ناحية يعني بناء تسعة أعشار بناء الاشتراكية ، وفق تعبير لينين وهذا سيضمن لعملية التطورأن تكون هادئة تدرجية سلمية كما تمنى لينين وقبل أن تعصف بهذه الأمنية الحرب الامبريالية والأهلية والثورة المضادة التي جعلت البلاشفة يتبنون ما سمي "بشيوعية الحرب" وكانت شيوعية عسكرية استهلاكية ، وقع على عاتقها مهمة اطعام الشعب والانتصار ولذلك أخضعت جميع الصناعات، لتجهيز الجيش الأحمر، بحيث باتت السياسة الصناعية جزءاً من الاستراتيجية العسكرية ، ورداً على تواطؤ الرأسمالية الروسية ، صدر مرسوم بتأميم معظم الصناعات .
غني عن البيان القول ، بأن اشتراكية المستقبل ستكون نقيضة لتجارب الماضي ،التي ضحت بالديمقراطية لصالح ادارة دولتية فوقية ، تمايزت فئتها العليا وحققت تراكم للرأسمال من خارج جهاز الدولة ، وتحولت الى احتكارية ، كما حصل في الصين وروسيا ، وهذان البلدان ليسا بمنأى عن عملية التغيير الجذري والانتقال الى الاشتراكية ، لأن رأسماليتهما وخاصة الصينية هي رأسمالية عالية التطور وتنضوي على نضج كبير، لأنها استطاعت أن تطور قواها المنتجة ومجرد وجود سياسات امبريالية ، هو دليل على نضج الرأسمالية ونضج الظروف الموضوعية للانتقال الى الاشتراكية ، حيث الإدارة العمالية والرقابة المجتمعية ، اذ لم تعد المسألة متعلقة بتأميم المصارف ومصادرة الأملاك والمصانع ، بل بالسيطرة الشعبية على القوى المنتجة وادارتها ديمقراطيا وهنا يكمن الفرق بين اشتراكية ديمقراطية وادارة دولتية أممت بعض الصناعات باسم المجتمع ، والذي كان مستبعداً وبعيداً عن الرقابة والادارة والقيادة .