ازمة اليسار هي ازمة استيعاب التحولات العميقة بعالمنا المعاصر


نبيل عودة
2020 / 4 / 19 - 11:32     

*مجتمعنا اليوم هو مجتمع ما بعد الرأسمالية يحتل فيه المجتمع المدني مكانا حاسما *
عالمنا يشهد تحولات عاصفة، بعضها لم يبرز بعد بكل قوته ودوره، ويؤسفني ان أقول ان بعض الذين يطرحون أنفسهم كماركسيين هم أقرب للسلفية الدينية في مستوى فهمهم للماركسية. بعضهم متمسكون بأفكار لم يعد هناك ما يربطها بالواقع الذي بدأ يتبلور في العقود الأخيرة وخاصة منذ بداية الألفية الجديدة. من هنا رؤيتي ان الواقع الراهن لليسار عامة يبرز عجزه عن نقد تجربته وإقرار مسار جديد، وهذا يبرز بقوة في واقع الأحزاب الشيوعية التي لا تزال عاجزة عن إعادة صياغة مشروعها السياسي في الظروف التاريخية الجديدة التي أعقبت انهيار التجربة الاشتراكية. نجد الكثير من الطحن والقليل من الفعل. حتى تعبير يسار باتت ضرورة لمراجعته وتطويره. لأنه يبدو ان التطور الذي نقذ بإطار النظام الرأسمالي لم ينفذ بنفس القوة بإطار النظام الاشتراكي. الثروة التي انتجتها الرأسمالية تفوقت بأضعاف كثيرة عما انتجه النظام الاشتراكي. حتى التوزيعة الاجتماعية للثروة تجاوزت النظام الاشتراكي. ولا اتحدث عن التطبيق الديموقراطي. حيث تمتع مواطني الأنظمة الرأسمالية بحرية لا تقارن مع ما ساد النظام الاشتراكي. طبعا هذا لا ينفي ان المجتمع الاشتراكي قدم خدمات لم يكن شبيه مجاني لها في النظام الرأسمالي.
ان رؤيتي لضرورة تطوير الماركسية، وتطوير التجربة، لا اقصد منها رفض فلسفة ماركس، لكن لا يمكن البقاء داخل رؤية لم يعد هناك ما يربطها بالتحولات العاصفة التي يشهدها عالمنا.
مأساة الشيوعية واليسار عامة، في الشرق الأوسط خاصة، وفي أوروبا ومختلف انحاء عالمنا، انها منذ انهيار التجربة الاشتراكية، انهاروا تنظيميا وفكريا وقيادات. هناك مفكرون ماركسيون من المستوى الأول، يقولون بوضوح انه حتى قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، بدأت الحركة الشيوعية تغوص رويدا رويدا في مستنقع الجمود والتكرار والاجترار وتكفير الفلسفة والفلاسفة الذين أطلقوا عليهم تسمية الفلسفة والفلاسفة البرجوازييين، بحجة ان فلسفة ماركس ألغت ما قبلها ولم تنجح أي فلسفة بتجاوز الماركسية، تماما مثل الفكر الديني السلفي، ورثوا نهجا وعادات من واقع لم يعد قائما، لكنهم يصرون ان يعيدوا عالمنا للخلف عشرات السنين.انا شخصيا أرى بالفلسفة تراثا شاملا رغم تناقضاتها، ولولا تناقضاتها لفقدت قيمتها كثقافة تنويرية. ان التقسيم الطبقي للثقافة والفلسفة خاصة اثبت انه يفتقد للمنطق العقلي البسيط.
السؤال الضروري متى يفهم قادة الحركات الشيوعية الحقيقة البسيطة اننا في عصر العولمة لم يعد من الممكن طرح مواقف وأفكار بعقلية القرن التاسع عشر دون فهم ان بعض الأطروحات تجاوزتها مجتمعاتنا وعفي عنها الزمن؟ لو أنهم فتحوا كتابا واحدا في الفلسفة أو الفكر الحديث (حتى ما يطلقون عليه صفة برجوازي) هل كانوا يواصلون العيش بالوهم الذي يسيطر على تفكيرهم اليوم؟ مضحك ومؤسف انه من شدة انغماسهم في غياهب ما كان ما زالوا يتوهمون انه يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء!
هناك عدة نقاط يجب ان تؤخذ بالحساب:
1 - ان عصر العولمة بسلبياته وايجابياته واقع تاريخي غير مسبوق يفرض على الجميع أن يتعاملوا معه بوعي كامل.
2 - مهمة التغيير في العالم لم تعد مهمة الطبقة العاملة وأحزابها.. التغيرات العاصفة أفقدتها دورها كطبقة ستقود التغيير الاجتماعي والسياسي محليا وعالميا. لكنها طبقة لها دورها الهام إلى جانب أوساط وفئات اجتماعية واسعة جدا. وانها كطبقة جرى ويجري تغيير وتطوير حاسم بتركيبتها ومكانتها الاجتماعية والسياسية والادارية بمجتمعاتها.
3-نحن امام تحولات عميقة في مبنى النظام الرأسمالي، انا اسميه ما بعد الرأسمالية، الرأسمالية قامت على قاعدتين مركزيتين، السلطة والاقتصاد. اليوم فقط الأعمى لا يرى التطور في مبنى المجتمع الرأسمالي. هناك قوة جديدة نشأت نتيجة لتطور الطبقة العاملة وتغيير مضمونها الجوهري، الاقتصادي، الاجتماعي، العلمي، الوظيفي والسياسي، وأعني تطور "مجتمع مدني" بات يشكل ضلعا ثالثا في مبنى النظام الرأسمالي. بحث أصبح النظام الرأسمالي الجديد، او ما بعد الرأسمالية الكلاسيكية يتشكل من ثلاث قواعد سلطة، اقتصاد ومجتمع مدني. يشكل المجتمع المدني قوة لا يمكن تجاهلها وتجاهل مطالبها في إطار النظام الرأسمالي، في إدارة الاقتصاد والمجتمع والسياسة وكل المؤسسات الرسمية وليس فقط استعمال المنجل والشاكوش. وملاحظة هامة تطور المجتمعات المدنية في العالم قاد الى تصفية مكانة الأحزاب السياسية وإضمحلالها، وهذا نراه أكثر بروزا في الأحزاب الشيوعية وطبعا سائر الأحزاب تأثرت وبدأت تفقد تأثيرها السابق لذا نراها تنتقل الى شكل من اشكال تجمعات لمجتمع مدني، وليس تنظيمات ذات أيديولوجيا منغلقة على قديمها: أي سلطة واقتصاد، بل لا مفر امامها من رؤية تنامي القوة الهائلة للمجتمع المدني وبدء احتلاله لكل اشكال الإدارة والتأثير السياسي والوعي الاجتماعي والوظيفي على قاعدة مجتمع مدني مشارك بالثروة الاجتماعية وتوزيعتها وليس على قاعدة أيديولوجيا رأسمالية صرف: سلطة واقتصاد.
لا أرى اليوم ان الأحزاب الشيوعية العربية وغير العربية تقوم بدور سياسي أو اجتماعي مهم، لا يمكن إنكار انها تعتمد فكرا ثوريا عاما بمضمونه (الفكر الماركسي) وتجربة كبيرة، لكن هناك تحولات غيرت طابعنا الاجتماعي، كما بينت أعلاه، إذا لم تؤخذ بالحساب لن تنجح بالعودة إلى ساحة النضال كقوة مؤثرة.
حُلم رفاقي القدماء من مختلف الأحزاب العربية، الذين أتحدث معهم بصراحة هو أن تتمكن أحزابهم من استعادة دورها السياسي ومكانتها الاجتماعية التي تضاءلت شيئا فشيئا خلال العقدين الماضيين دون ان يثير ذلك الصحوة الضرورية المبكرة لدى قادة الاحزاب. فقدوا كل مواقعهم الهامة في مجتمعاتهم، انفضت عنهم حتى قواعد أحزابهم المقربة. هل فكروا في أسباب هذه الضربات؟
طرحوا بعض الشعارات، ليكن الله بعون الشعارات!!
طبعا الجميع متهمون إلا هم.
كل ما يقومون به اليوم هو محاولة تهميش، ذم وإلصاق تهم بكل من ينتقد سلبياتهم، بينما هم في حالة تهميش بالغة الخطورة بنتائجها عليهم وعلى احزابهم.