الفلسفة والجماليات عند موريس ميرلوبونتي


مالك ابوعليا
2020 / 4 / 18 - 16:55     

المقالة للماركسي السوفييتي كونستانتين ميخايلوفيتش دوغلوف*

ترجمة مالك أبوعليا

ان الملاحظات والشروح بعد الحروف الأبجدية بين الأقواس (أ)، (ب)، وبعد النجمة *،**، من عمل المترجم.

يتمتع موريس ميرلو بونتي بمكانةٍ خاصةٍ بين فلاسفة وعلماء الجمال البرجوازيين الفرنسيين المعاصرين. تُظهر تصريحات كل من سارتر، كامو هيبوليت، دوفرين، ريكور، جيروكس وليفي شتراوس وآخرين أنهم تأثروا (وبعضهم لا زال يتأثر حتى يومنا) بطريقةٍ أو بأخرى بهذا الفيلسوف. يعترف كل الظواهريين والوجوديين الفرنسيين أن ميرلوبونتي هو أول من تابع، ويتابع، على الأرض الفرنسية، تطوير افكار الظواهرية الهوسرلية والوجودية الألمانية(1). لا يمكن للمرء أن لا يلاحظ أن العديد من الأفكار الميتافيزيقية واللادياليكتيكية ظهرت تحت التأثير المباشر والقوي لميرلوبونتي.
فيما يتعلق بآراء الفيلسوف السياسية، فان احادية جانبها، وخطيتها وتحيزاته المعادية للشيوعية والماركسية لا تشهد فقط على ضيق افقه السياسي وحسب، ولكن على حقيقة أن انشاءاته الفلسفية بالمعنى الدقيق، محدودة أيضاً. يؤكد تحليلها على أن الاراء السياسية الرجعية تضع انطباعها المدمر حتى في عالم النشاط الذي يبدو للوهلة الأولى بعيداً عن الحياة السياسية في حد ذاتها.
لقد تعرضت الآراء التي تبناها ميرلوبونتي لانتقاداتٍ حادة من قِبَل الماركسيين الفرنسيين. لعب كتاب (المغامرات الخاطئة لمعاداة الماركسية) mesaventures de l’anti-marxisme(2) وهو رد نقدي على كتاب بونتي (مغامرات الدياليكتيك) Adventures of the Dialectic (3)، والذي حاول فيه أن "يدمر" و"يدحض" الدياليكتيك والنهجية الجدلية لماركس وانجلو ولينين. لقد ظهرت في مقالات جورج كوجنيوت وجين كانابي وفيكتور ليدوك وآخرين وفي (مراسلات جورج لوكاش الى محرري دفاتر شيوعية) عدم قدرة جهود ميرلوبونتي لدحض الدياليكتيك، واللاجدوى العلمية لفلسفته المعادية للماركسية والدياليكتيك ورجعيته.
للأسف، لا تحتوي الأدبيات السوفييتية، حتى الآن، على أية أعمال يوجد فيها تحليل نقدي شامل لوجهات نظر ميرلوبونتي. لا تدّعي هذه المقالة أنها دراسة شاملة لفلسفة هذا المفكر البرجوازي كبير التأثير. نود أن نعرض على القارئ تحليلاً فقط لعددٍ قليل من العوامل المعممة بشكلٍ خاص في فلسفة وجماليات ميرلوبونتي، وعلى وجه الخصوص محاولته لبناء ميافيزيقيا جديدة وشاملة والتي نصبها بمساعدة المنهجية الظواهرية، وليس الكثير من المفاهيم الفلسفية او الاجتماعية بقدر "مادة" الفن الحديث. هذا هو السبب في أننا سوف نربط بشكلٍ وثيق بين تحليل ظواهرية ميرلوبونتي، بتحليل نظراته الجمالية.
***
بعد نشره لكتابه (ظواهرية الادراك)(4)، صار ميرلوبونتي أحد أبرز الفلاسفة وعلماء النفس الفرنسيين البرجوازيين. حاولت هذه الدراسة لخلق نظرة عالمية جديدة والتي لن تتوافق مع فكرة هوسرل الظواهرية المبدأية-(كانت وجهة نظر عالمية مقبولةً في ذلك الوقت)-وحسب، بل وأيضاً مع انجازات العلوم الاجتماعية والطبيعية الحديثة. علاوةً على ذلك، حاول ميرلوبونتي أن يؤسس نفسه على التقليد الفلسفي بأكمله من أفلاطون وأرسطو الى كانط وهيغل. احتل تحليل ظواهرية هوسرل وأتباعه وممثلي فلسفة الحياة والوجودية والبنيوية مكاناً خاصاً في عمله.
يكمن جوهر فكرة ميرلوبونتي في انشاء فلسفة (يُطلق عليها أحياناً اسم سيكولوجيا) يمكنها أن تكون نتيجةً طبيعيةً لتطور جميع الفلسفات السابقة، وبالتالي، ستكون فكراً معاصراً اصيلاً، تُرضي متطلبات الانسان الفكرية والروحية والثقافية، فلسفة يمكنها أن تساعد الانسان على أن يجد نفسه ومكانه في هذا العالم، وليقيم تواصلاً مناسباً مع الناس الاخرين ومع العالم.
كيف يمكن تحقيق هذه الرغبة؟ من أين يمكن أن نبدأ؟ يبدأ الفلاسفة عادةً من بعيد- بتحليل ونهوض الفلسفة وتاريخها. هذا النهج مفهوم ومبرر الى حدٍ ما. ومع ذلك، ان البحث في تاريخ تطور الفكر يفترض وجود منهجية محددة تماماً للتحليل بالفعل، وهو موقف يجب البحث فيه.
على الرغم من أن ميرلوبونتي تأثر بظواهرية هوسرل وفلسفة الوجودية، الا انه لم يستطع الا أن يشعر بجدية مشكلة ايجاد الموقع الفلسفي الذي عليه أن يبدأ منه في تفسير التقاليد الفلسفية وتطوير النظرة العالمية، التي تتوافق تماماً، في رأيه، مع هدفه المنشود. ان النقطة هي أن حالة الفينومينولوجيا بحلول اربعينيات القرن العشرين لم تكن مطمئنةً على الاطلاق: لقد فسر تلامذة هوسرل ظواهريته بشكلٍ متنوعٍ ومختلف، وفقاً لأذواقهم وأهدافهم ومهامهم واحتياجاتهم. لم يكن هناك فهم ظواهري موحّد، ولم يكن اي منها بعيداً عن الانحراف بعيداً عن مبادئ فلسفة معلمهم. ومن الطبيعي أنه لم يكن هناك بين أتباع هوسرل وحدةً، حتى في فهمهم لماهية الظواهرية.
لذلك، بدأ ميرلوبونتي بتوضيح ماهية الظواهرية بالذات.
بفحص خصائصها، يرى أن الظواهرية هي دراسة الجوهر، وأن المشكلة بأكملها، يحلها تحديد معنى الجوهر: "على سبيل المثال جوهر الادراك، وجوهر الوعي. الفينومينولوجيا هي فلسفة تضع الجوهر ضمن الوجود ولا تتصور اي فهمٍ للانسان والعالم بخلاف الفهم الذي يأخذ الحدَثيةfacticité(أ) كنقطة انطلاق. انها فلسفة التعالي التي تفترض موقفاً فكرياً يكون فيه العالم دائماً (قائماً بالفعل)déjà la قبل التفكير، وكأنه وجود غير قابل للتصرف، وكل المجهود يجب أن يتجه نحو ايجاد هذا التماس البسيط مع العالم من أجل اعطائه في النهاية كياناً فلسفياً. انه طموح الفلسفة الى أن تصبح (علماً صحيحاً). وهو ايضاً عرضٌ للمكان والزمان الذي نعيشه vécus. انها محاولة وصف مباشر لتجربتنا كما هي بغض النظر عن أصلها النفساني وتفسيراتها السببية التي يمكن للعالم أو للمؤرخ او لعالم الاجتماع اعطاؤها، على أن هوسيرل في آخر اعماله يشير الى (الظواهرية التكوينية) وحتى الى (الظواهرية البنائية)".
من وجهة نظر مثل هذا الفهم للظواهر، لا يرى ميرلوبونتي اي تناقضات بين ظواهرية هوسرل وفهمها وتفسيرها على يد هايدغر، بقدر ما أن كتابه (الوجود والعدم) طور فكرة هوسرل الأساسية وكان نتيجةً لتفسير نصوص هوسرل (المفهوم الطبيعي للعالم) natürlichen Weltbegriff أو (العالم الحي) Lebenswelt والتي اعتبرها هوسرل، في نهاية حياته، العنوان الرئيسي للظواهرية. بكلمات اخرى، ان التناقضات بين فلسفات هوسرل وهايدغر هي تناقضات في فلسفة هوسرل نفسه.
ما أراده هوسرل أولاً هو تحويل الظواهرية الى علم نفس وصفي الذي سيعود الى الأشياء ذاتها ويمثل تخلياً عن الفلسفة. معارضاً التفسير السببي للظواهر (المادي والماركسي اللينيني والهيغيلي، حاول ميرلوبونتي في وقتٍ واحد ان يدعم خصائص التحليل الفلسفية-السيكولوجية للانسان، والتي قد توفر، ويجب أن أن توفر، على عكس مناهج العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية، مفهوماً تركيبياً متكاملاً عن النفس البشرية. بهذا الهدف، تقدم ميرلوبونتي بمقولة "التجربة مع العالم" Experience of the World ، والتي مثل الادراك المتعالي عند كانط، تكمن وراء كل المعرفة البشرية. علاوةً على ذلك، فان "التجربة مع العالم" كتجربة تعيشها الذات تُعتبر أساسيةً بالنسبة الى كل المعارف مهما كانت، بما في ذلك المعرفة العلمية. واذا كان كل شيء أعرفه عن العالم يمكن الحصول عليه عن طريق العلم، ففي هذه الحالة أنا أعرف كل شيء، بدءاً من رؤيتي او تجربتي للعالم، والتي بدونها يستحيل قول أي شيء عن رموز العلم. ان الأنا ليست نتيجةً لتقاطع أسبابٍ عديدة تحدد جسدها أو نفسيتها. لا يمكن للأنا التفكير عن نفسها كجزءٍ من العالم، ككائنٍ بسيطٍ في علم الأحياء او علم النفس او علم الاجتماع، ولا يمكن أن تشمل في داخلها عالم العلم. ان عالم العلوم بأكمله مبنيٌ على العالم المُجرب، المعاش، واذا أردنا أن نتصور العلم على هذا النحو بكل صرامة وتقييم معناه بدقة، فمن الضروري في البداية اثارة تجربة العالم تلك الذي هو تعبيرٌ ثانوي. لم يمتلك العلم، ولن يمتلك أبداً نفس المعنى الذي يمتلكه العالم المُدرَك، لسببٍ بسيط لانه مجرد تفسيرٍ أو تعريف.
يرى ميرلوبونتي أن وجهة نظر العلم غير نقدية بل ومنافقة لانها لا تأخذ بالاعتبار ليس فقط معنى الوجود، بل وجهة نظر الوعي ايضاً، والذي بفضله يتركز العالم حول الذات ويبدأ في الوجود من أجلها. ان متطلب هوسرل من أجل "العودة الى الأشياء ذاتها"، على الرغم من أن هذا يعني العودة الى عالم ما قبل الوعي، لا يعني على الاطلاق أنه يمكن تجاهل الوعي أو تركه خارج الاعتبار، طالما ظل كل تعريف علمي مُجرداً فيما يتعلق به (بالوعي)، كما هو الأمر بالنسبة للجغرافيا الى المنظر الطبيعي. ولهذا السبب بالتحديد، يُصر ميرلوبونتي على أن استيعاب وادراك الاشياء يسبقه فعل التصور، كأساسٍ أو خلفية والتي بفضله تصبح جميع الأفعال ممكنة: المعرفية، النفسية، الخ.
حاول ميرلوبونتي انشاء الانطولوجيا العالمية-فلسفة من شأنها أن تقف فوق المادية والمثالية، الموضوعية والذاتية، العقلانية واللاعقلانية، الميتافيزيق والدياليكتيك، والتي يمكنها أن تُزيل الاختلافات بين الذات والموضوع، الجوهر والظاهرة، الوجود والعدم، المعرفة والايمان، الشيء وصورته، وما الى ذلك. باعلانه أن الفلسفة ليست علماً(5)وهي "تساؤل الايمان الادراكي"(6)وهي "الايمان الادراكي متسائلاً عن ذاته"(7). باعلانه ذلك، تصور ميرلوبونتي الانطولوجيا الجديدة على أنها التشكيك بالفكر الذي يُسائل العالم ويبحث حوله، عن الانسان. انه الفكر الذي يجب أن يقود الى ولادة المعنى. ولكن اذا لم تكن الفلسفة علماً، فمن الطبيعي أن عملية التساؤل، كوظيفة للفينومينولوجيا الوجودية لن تكون عمليةً ستنتج المعرفة، لا يمكن للمرء حتى، أن يتحدث عن المعرفة بمعناها المنطقي والابستمولوجي. في هذه الحالة، فان النقد الذي طرحه ميرلوبونتي على الفلسفة المعاصرة والسابقة، الذي يطرح مشكلة الادراك ويحظر حلها، ينطبق ايضاً وبشكلٍ كلي على (فلسفة المساءلة) ايضاً. في هذه الحالة، هل يمكن (لفلسفة المساءلة) أن تصبح وعياً بموقف الانسان تجاه العالم، تجاه نفسه والاخرين؟
بعد أن نصب لنفسه مهمة مهمة اعادة تفسير جميع الفكر الفلسفي السابق والمعاصر، بنى ميرلوبونتي منصةً معاديةً للمادية والدياليكتيك والتي من المُقرر أن تكون أساساً لهذا التفسير. كانت المبادئ الارشادية في اعادة التفسير هذه من قِبَل ميرلوبونتي خاصةً في الفترة الأخيرة من أعماله هي أفكار هوسرل ونيتشه وهايدغر، الذين وضعوا معاييراً لموقفٍ لا هوادة فيه تجاه المادية والدياليكتيك والانسانوية. وهكذا على سبيل المثال، تتلقى أفكار كانط وديكارت عن العالم تفسيراً ذاتياً على يديه: "تحليل كانط وديكارت: العالم لا هو متناهٍ ولا هو لامتناهٍ، انه لا محدود- اي يجب أن نفكر فيه كتجربة انسانية-لذهنٍ متناهٍ قبالة كينونةٍ لانهائية"(8). لا يُلغي هذا التحليل فقط عناصر المادية والدياليكتيك المتأصلة في النظرة الكلية التي يحملها هؤلاء الفلاسفة العظماء، ولكنه يقضي على امكانية طرح المسائل المرتبطة بوجود عالمٍ مادي كذلك.
اذا تحدث المرء عن العلاقة بين "فلسفة المساءلة" وفلسفة هوسرل، فان تلك العلاقة تتجلى في المقام الأول في الاستهداف النشط لمقولات هوسرل الفينومينولوجية الأساسية، ولا سيما مقولة "العالم المُعاش" Lebenswelt. ان الهدف المبدأي للفلسفة الجديدة هو الصعود من الوجود الموضوعي واللامتناهي بذاته، الى وجود "العالم المُعاش".
يجب على هذا الصعود أو الانتقال أن يُظهر أنه لا يمكن أن يوجد أي شكل من الوجود خارج الذاتية المتجسدة في الانسان. في هذا الصدد، يتم اختزال مسألة (الذات-الموضوع) الى المستوى النفسي الجسدي ويتم حلها كمشكلة الذات النفسية الجسدية. بالنسبة لجميع المظاهر الخارجية لمثل هذا "الصعود" فانها تبدو طبيعية تماماً: يستبق طابع واستنتاج هذا الصعود، المنطٌق. وتستبق الذات النفسية الجسدية والتفكير حولها، مفاهيم الوعي والفهم. ومع هذا، في الواقع، يوجه هذا "الصعود"، ضد النظرة التاريخية وقواعدها، خاصةً كما يفهمها الماركسيون. يؤكد ميرلوبونتي: "قد يتوجب مبدئياً تعرية (التاريخ العضوي) تحت تاريخية (التاريخ الأصلي، تاريخية أولية) الحقيقة، التي كان أسس لها ديكارت كأفق لانهائي للعلم- تاريخية الحقيقة هذه ما تزال هي التي تُحرك الماركسية"(9).
ان عيانية الحقيقة هي في الحقيقة، احدى المبادئ الأساسية للمادية الدياليكتيكية والتاريخية، للماركسية اللينينية ككل. تفترض عينانية الحقيقة الصعود من المجرد الى الملموس، انها عملية اكتساب المعرفة حول الحقيقة كتطورٍ للوحدة في التنوع.
من ناحيةٍ أُخرى، فان ظواهرية الادراك، برفعها المُعطى المُباشر، المستوى الحسي للادراك، الى مستوىً مُطلق، تميل الى الادراك الحسي والفهم البديهي للحقيقة. تبدأ الفلسفة باعتبارها فناً. "وجهة نظري: فلسفة ما كأثرٍ فني هي موضوع بامكانه... ان يظل له معنىً خارج سياقه التاريخي، بل وأن لا يكون له معنىً الا خارج ذلك السياق"(10). وفقاُ لميرلوبونتي، يجب أن تمتنع الفلسفة عن السعي لمعرفة قوانين التاريخ، لانها يجب أن تكون خلقاً حُراً للروح الانسانية التي انفصلت، مرةً واحدةً والى الأبد، من اي علاقاتٍ ومصالح وأشياء ماديةٍ على الاطلاق. من وجهة نظره فان الادراك له طابع سلبي (هذا صحيح، وهو هنا ليس أصيلاً: تذكّر كيركيغارد ونيتشه وأدورنو وآخرين ممن رأوا شيئاً سلبياً Negative في الادراك العلمي-المنطقي. اليس هذا تكييفاً للاسطورة المسيحية عن الخطيئة الأصلية وأكل الثمرة من شجرة الخير والشر؟). من هذا المنطلق يعتبر علم النفس والمنطق والاثنولوجيا أشكالاً متنوعةً من الفكر الدوغمائي المُقيّد الذي يزودنا بفكرٍ محصور وأُحادي الجانب عن الوجود.
يعتبر ميرلوبونتي المكان الطوبولوجي كنظيرٍ للوجود، والموسيقى اللامقامية(ب) Atonal Music كنظير للفلسفة الأنطولوجية الجديدة. بكلمة واحدة، يعتبر ميرلوبونتي الفن كنظيرٍ للفلسفة الأصيلة. وبالاستناد على هوسرل، الذي كان أول من تقدّم بفكرة "شعرية تاريخ الفلسفة"(11)، وبالاستناد على هايدغر كذلك، الذي نسب للشعر دورالميتافيزيقيا الجديدة ومصدر أفكارها(12)، يُطوّر ميرلوبونتي مفهوم (شعر-تاريخ) المدعو الى سحق الفهم العقلاني للتاريخ والفلسفة والاستعاضة عنه بمفهمة لاعقلانية. لا ينبغي على تاريخ الفلسفة والفلسفة نفسها أن تكون تخصصاتٍ علمية أو أن تهتم باكتساب المعرفة حول قوانين تطور العالم الموضوعي والمجتمع والفكر الانساني. "ان نهاية فلسفة هي قصة بدايتها. علي أن ابين هذه الدورية وهذا التضمن القصدي الدائري وفي نفس الوقت دورية التاريخ-الفلسفة... فالتاريخ الموضوعي هو عقلانية دوغمائية، انه فلسفة وليس هو ما يدّعي أن يكونه، اي تاريخاً لما هو كائن. ما يمكن نقده في تاريخي-الشعري ليس هو تعبيره عني كفيلسوف بل كونه لا يعبّر عني بالتمام وكونه ما يزال يغيّرني. ان تاريخ الفلسفة كما هو العلم هو رأي مُشترك(جـ)"(13).
وجد تحول الفلسفة من المواقع العقلانية والعلمية الى مواقع علم الجمال الفني اللاعقلاني، التي ابتدأها كيركيغارد وواصلها نيتشه وشوبنهاور، وبالتالي، بعد ذلك بواسطة ياسبرز وهايدغر وهوسرل واللاعقلانيين الآخرين، وجدت ذروتها المنطقية في ميرلوبونتي.
***
سعت الفلسفة الكلاسيكية التقليدية، بدءاً من الاغريق القدماء بما في ذلك هيغل، الى فهم جوهر كل ما هو موجود. تركّز مجال مسائلها على السؤال الأساسي للفلسفة، ولاسيما جانبه الثاني-ادراك العلاقة بين الجوهر والمظهر، والتي ميّزت أعظم جهود العقول الانسانية لخلق فلسفةٍ علميةٍ (أداةً للادراك) التي يمكن للمرء من خلالها تحقيقة ادراك جوهر الوجود والتي تستطيع أن تكشف الجوهر وراء المظهر. ليس من قبيل المصادفة أن ماركس أكد انه لو توافق المظهر مع الجوهر، فسيكون العلم حينها نافلاً، سيكون غير ضروري.
أدى التطور الاجتماعي-الاقتصادي والسياسي للمجتمع الرأسمالي بسرعةٍ كبيرةٍ الى أزمةٍ عامةٍ للنظام الاجتماعي الاقتصادي الرأسمالي. بدأ الهجوم على العلم والعقل الانساني متمظهراً ليس فقط في التخلّي المفتوح عن المعرفة العلمية والمنطق والعقلانية، وفي اللجوء الى التصوف واللاعقلانية والظلامية، ولكن ايضاً في استبدال الموضوع الدائم للفلسفة بواحدٍ افترض بالفعل رفضاً للمناهج العلمية، وفي هذا الصدد، للبحث نفسه: الوجود بدلاً من الجوهر، الاحتمالية والعرَضية المُطلقتين بدلاً من السببية، التأمل بدلاً من المنهجية الدياليكتيكية، العاطفة بدلاً من الادراك، البحث عن المعنى بدلاً من البحث عن قوانين تطور الطبيعة والمجتمع والفكر، الخ.
ان فصل موضوع الفلسفة عن منظومتها الفلسفية المقولية ومناهج بحثها، هو بمثابة مزيد من تعمق وتوسع أزمة الوعي البرجوازي. بما أن جميع محاولات المفكرين البرجوازيين للخروج من هذه الأزمة عن طريق أدوات العقل والمنطق والعلم أثبتت أنها بلا فائدة، سرعان ما بدأت هذه الأخيرة (أدوات العقل والمنطق والعلم) تتعرض لأشد أنواع الانتقادات حدةً. أصبح الاتجاه اللاعقلاني مهيمناً تدريجياً، على الرغم من الانجازات الهائلة للعلوم الاجتماعية (الماركسية اللينينية) والعلوم الطبيعية. بدا وكأن أزمة العقل البرجوازي تظهر على أنها أزمة للعقل الانساني بشكلٍ عام. بدأ "التراجع العظيم" عن العقل والمنطق والعلوم يظهر بكل عالميته. ان عملية "تحطيم العقل" تستمر حتى يومنا هذا(14).
في مقالته (اينشتاين وأزمة العقل)(15)، يتحدث ميرلوبونتي عن المواجهة بين اينشتاين وبرغسون وجدالهما حول النظرية النسبية، ويصل الى استنتاج مفاده أن برغسون اللاعقلاني "التقى بكلاسيكية اينشتاين في منتصف الطريق"(16). بقدر ما أعرب برغسون عن فكرة عميقة مزعومة- أن العقلانية من جديد ليس على الحق الالهي للعلوم الدوغمائية ولكن على الحدس ما قبل العلمي. ان رد اينشتاين السلبي على مسألة تطابق الزمن الفيزيائي والفلسفي "يواجهنا بأزمة العقل" في رأي ميرلوبونتي(17). ومن أجل تجنب "أزمة العقل" هذه يقترح ميرلوبونتي العودة الى الفلسفة ما قبل العلمية(18).
وهكذا نرى في ميرلوبونتي تقهقراً نحو الاسطورة والى المصادر الأولية للادراك واللغة والفكر، حيث يتم استبدال الفلسفة الى الفن وعلم الجمال المفهومين لاعقلانياً، ويتعلق الأمر، على أي حال، بتقريبهما عن كثب. "الفلسفة بالتحديد" هي "كينونة متكلمة فينا" وكتعبير للتجربة الخرساء عن ذاتها، هي ابداع(19). علاوةً على ذلك، يُنطر الى الوجود على أنه "يتطلب منا ابداعاً. فـ"الأدب بهذا المعنى" هو "تدويناً للكينونة"، اي للوجود(20).
في هذا الصدد، يتم ايلاء الكثير من الاهتمام للترابط بين الفلسفة والأدب. يمكن تفسير هذا الاهتمام تماماً اذا أخذ المرء بالاعتبار طابع الفلسفة الفينومينولوجية بشكلٍ عام، وعلى الأخص النسخة الفرنسية منها، والتي نسب اليها ميرلوبونتي معنىً أنثروبولوجياً اكسيولوجياً(د)، مرتبطاً باهتمامٍ ملحوظٍ بالتاريخ والمجتمع والحرية ومشاركة الفرد في حريات الآخرين، في السياسة والثقافة بشكلٍ عام.
عند معالجة تاريخ الأدب، يلاحظ ميرلوبونتي أن عمل أي روائي كبير يرتبط بفكرتين أو ثلاثة أفكار فلسفية: الحرية والذات عند ستندال(هـ)، وسر التاريخ كما كشفت الحركة الاجتماعية معناه عند بلزاك، واستيعاب الماضي في الوقت الحاضر، والحاضر في الماضي عند بروست(و). ومع ذلك، يرى ميرلوبونتي وظيفة الكاتب ليس في تجسيد وادراك الأفكار الفلسفية، ولكن في تقديم الأفكار نفسها الى القارئ بنفس الطريقة التي يظهر بها العالم الخارجي أمامه.
برأيه، اهتم الكُتّاب دائماً بالفلسفة، ولكن اختلف طابع هذا الاهتمام بحيث أنه كان متنوعاً، وغالباً ما كان اهتماماً فضولياً: أجزى ستندال الكثير من المديح للايديولوجيين. فضح بلزاك نفسه بصياغة نظراته بلغة الروحانية، وعبّر بروست عن حدسه حول عصره في فلسفةٍ نسبيةٍ ومتشككة وصلت في نهايتها الى اللاأخلاقية، أما الشاعر الفرنسي بول فاليري فقد تنصل من الفلاسفة الذين أُعجبوا بعمله (مقدمة حول منهجية ليوناردو دا فينشي).
لقد مر وقتٌ طويل قبل أن تُظهر الفلسفة والأدب ليس فقط اختلافهما التقني البحت، المتعلق بنمط التعبير، ولكن ادراك كلٍ منهما موضوعه الخاص. ومع ذلك، تم انشاء علاقات أوثق وأوثق بين الأدب والفلسفة والسياسية في القرن التاسع عشر، وكان أول علامةٍ على ذلك "نمط التعبير الهجين"- المذكرات الحميمة، الاطروحات الفلسفية والحواريات.
بما أن الأدب والفلسفة والسياسة، وفقاً لميرلوبونتي "تعبيراتٍ مختلفة عن العالم" فان أي فردٍ يسعى الى انشاء موقفٍ معينٍ من العالم مضطرٌ للجوء الى هذه الميادين بطريقةٍ أو بأخرى. عندما يتعلق الأمر بالكُتّاب، فانهم، بحكم الطابع التعبيري لتفكيرهم، لا يتصورون موقفهم من العالم خارج القصد السياسي والفلسفي. على هذا الأساس، يفترض ميرلوبونتي أن ظهور الفلسفة الوجودية في فرنسا كان ضرورياً فقط "لتعريف كل الحياة كميتافيزيقيا خفية، وكل الميتافيزيق كتفسيرٍ لحياة الانسان"(21). هنا رأى ضرورة وأهمية الفلسفة الوجودية. "انها وعيٌ بالحركة أكثر قِدَماً من ذلك الوعي الذي يكشف معناها-اي معنى الفلسفة ويُسرّع من وتيرتها"(22).
ان الميتافيزيقيا الكلاسيكية، في رأي الظواهري، تخصصت للغاية لدرجة أنها أنه لا ما يمكن للأدب أن يقوم به: عملت الميتافيزيقيا ضد خلفية العقلانية غير المشروطة وكانت مقتنعةً انها ستكون قادرة على فهم العالم وحياة الانسان بفضل منظومتها المقولية (المفهومية). وهكذا، في الميتافيزيقيا الكلاسيكية، لم تكن القضية الى حدٍ كبير اقامة علاقة معينة بين الانسان والعالم بقدر ما كانت تتعلق بتفسير الحياة والتأملات حولها.
عند الدراسة الدقيقة للأنظمة الفلسفية السابقة، تصول ميرلوبونتي الى استنتاج مفاده أن الفلاسفة انتهوا دائماً بتخيل وجودهم اما كشيء متعالٍ أو لحظةً من الدياليكتيك، او في المفاهيم، او بالطريقة التي تصورهم وتظهر أنفسهم في الأساطير. "تم اضافة الميتافيزيق في الانسان الى قوة طبيعته الانسانية"(23).
لم يُنظر الى الميتافيزيقيا بعيون فكر الفيلسوف على أنها بناء مفاهيمي مُعتمد ولكن كنتيجة ضرورية طبيعية لتطور الانسان نفسه- ككائنٍ متكاملٍ تذوب فيه الروح والجسد، الشعور والفكر، الفعل والتأمل في قالبٍ واحد. الميتافيزيقيا، كما فهمها ميرلوبونتي، هي ليست نظاماً فلسفياً يتطلب اشعالاً لشموع الليل من أجل فهمها، بل بُنيةً مميزةً وفريدةً من نوعها- انها جوهر الانسان الذي ينطوي على تطوره Evolution ويتخلل وجوده كله بتفكيره وأفعاله وممارساته. هذه ميتافيزيقيا انثروبولوجية، لذلك تختلف أهجاف هذه الميتافيزيقيا عن أهداف الميتافيزيقيا الكلاسيكية.
يرى ميرلوبونتي الفرق بين الفلسفات الظواهرية او الوجودية من جهة، وكل الفلسفات الميتافيزيقية السابقة في المقام الأول في حقيقة أن مهمتها ليس في تفسير العالم او اكتشاف "ظروف الاحتمالية" فيه، ولكن في "صياغة" التجربة مع العالم Experience of the World، التماس مع العالم الذي يسبق أي فكر حوله. انه يكتب انه "منذ ذلك الوقت، لم تعد مهمة الأدب ومهمة الفلسفة قابلة للفصل... حيث لجأ الفيلسوف الى نفس الغموض الذي يكتنف الأدب... لم تعد أشكال التعبير الهجين تظهر، وأصبحت الرواية والمسرحية ميتافيزيقيةً بالكامل، حتى لو لم تستخدم كلمةً واحدةً من معجم الفلسفة. ومن جهةٍ اخرى، يصبح الأدب الميتافيزيقي بالضرورة، والى حدٍ ما، أدباً بعيداً عن مجال الأخلاق، لانه لم يعد هناك طبيعة بشرية يمكن للمرء أن يتخذ فيها موقفاً. في كل صورةٍ للفعل الانساني، تُفجرهجمة الميتافيزيقيا ما كان فقط "عادةً قديمة". ان تطور الأدب الميتافيزيقي هو نهاية الأدب الأخلاقي"(24).
ومع ذلك، فان الميتافيزيقيا، كما يفهمها ميرلوبونتي، وعلى النقيض من الفهم الكلاسيكي، "غامضةً منذ البداية" مثلما هو الحال مع الواقع والحياة نفسهما. ولكن اذا كان هذا هو الحال، فان أي نشاطٍ بشري يفقد المعنى، كما تفقد القيم الانسانية معناها كذلك: الحرية والأخلاق والجمال، وما الى ذلك. "صحيح أننا أحرار في قبول الحياة أو رفضها، بقبولها نحن نقبل حالة الحقيقة-أجسادنا ووجوهنا وأساليبنا في الوجود-أي نقبل مسؤوليتنا، ونحن نوقع عقداً مع العالم والناس. ولكن تلك الحرية التي هي شرطٌ لأي أخلاقية، في نفس الوقت، تضع الأساس لللاأخلاقية المُطلقة، بقدر ما تظل مكتملةً في داخلي، كما في الاخرين بعد كل غلطة، وفي أنها تصنع كائنات جديدةٍ منا كل لحظة"(25).
ليست المقاربة الميتافيزيقية قادرةً على استيعاب تناقضات تطور أي ظاهرةٍ معنية. في هذه المسألة المطروحة، لم يتمكن ميرلوبونتي من فهم دياليكتيك الحرية والضرورة. اذا كان هنالك حرية، فهي مُطلقة، والحرية المُطلقة هي اساس الأخلاق. ولكن في هذه الحالة، يواجه الفرد الذي يطالب بالحرية المُطلقة (بقدر ما لا يستطيع المرء تملّكها) صعوبةً لا يمكن التغلب عليها: الحرية المطلقة للاخرين. علاوةً على ذلك، تؤدي الحرية المُطلقة كأساسٍ للأخلاق الى الارادة الحرة المُطلقة، لان لكل شخص حرية التصرف كما يشاء. وهكذا تؤدي الأخلاق القائمة على الحُرية المطلقة الى اللاأخلاقية والأخلاق الرجعية. ولكن اذا كانت الحرية تقود الى اللاأخلاقية المُطلقة، فما هي فائدة مثل هذه الحرية؟ اي نوعٍ من الحريات تلك اذا كانت مبنيةً على اللاأخلاقية المطلقة؟
النقطة، هي أنه على الرغم من بعض التعديلات التي خضعت لها الوجودية الألمانية في فرنسا، فان الوجود المُنعزل يظل الموضوع المحوري لانتباهها. ان الاطروحة حول مشاركة الفرد في حرية الآخرين لا تغير من الأمر كثيراً. ان الوجود في العزلة، كنقطة انطلاق للميتافيزيقيا الوجودية الظواهرية، يُحدد ليس فقط ذاتيتها، بل فقدان معنى الوجود. كان لدى ميرلوبونتي ما يلي، ليقولوه عن هذا: "ان الوجودية، على أيدي الكُتّاب الفرنسيين، مُهددةٌ دائماً بخطر الوقوع في ذلك التحليل "المُنعزل" الذي يقسم الوقت الى لحظاتٍ متفرقة، ويختزل الحياة الى مجموعة من حالات الوعي(26). ولذلك يمكن للمرء أن يُضيف الى ذلك، فقط، أن ذلك الخطر، ليس بحالٍ من الأحوال مُحتملاً ولكنه حقيقي: مُعالجة الحياة والواقع كحالاتٍ من الوعي بالوجود المنعزل، هو أحد أهم المناهج في المفهوم الوجودي.
ان المحاولات الفاشلة لتفسير الواقع وتقديم حل للمشكلات النظرية والعملية عمّقت تشاؤم ويأس الوجوديين والظواهريين: "بالتأكيد لا يوجد أي حلٍ لمشاكل الانسانية... ان المشروع الانساني بأكمله متناقضٌ لأنه يدعو يدعو له في نفس الوقت، ويتراجع عن تحقيقه تارةً اخرى"(27). ان الوجود الوحيد والمنعزل والوجود خارج التاريخ، كقاعدةٍ تنطلق منها المفاهيم الوجودية الظواهرية، يغلق الطريق على الحلول الحقيقية للمشاكل البشرية. ليس من قبيل المصادفة أن ذاتية هذه الفلسفة تؤدي نزعةٍ مُغامرة وتعسفٍ لاأخلاقيٍ مُطلق. وعلى الرغم من أن ميرلوبونتي لا يوافق على أن "اللاأخلاقية المُطلقة هي الكلمة الأخيرة للفلسفة الوجودية"(28)، الا أن ميرلوبونتي بالتحديد هو من أظهر أن الأدب الوجودي هو أدب خارج نطاق الأخلاق من جميع نواحيه، وأن تطوره هو نهاية الأدب (الأخلاقي).
في دراسته لمسألة البطل المُعاصر، يرى ميرلوبونتي أن هناك عودةً واضحةً الى الواقع والى العالم، في الحياة الأدبية، وبأن "البطل البطولي" قد غادر بالفعل، وبأن الاحتجاجات ثارت ضد الأخلاق "البطولية". كيف يبدو هذا البطل الجديد في عصرنا؟
برأي ميرلوبونتي"...ان البطل المُعاصر هو ليس بطل هيغل ولا بطل نيتشه"(29). وانه من الصحيح بأن البطل المُعاصر لا يمكنه أن يكون كذلك. لانه عند هيغل هو حامل، ومُنفذ ووسيلة القوى المتعالية التي تُهيمن عليه. لقد قامت الضرورة بتضييق حرية الفرد على الرغم من تأكيد هيغل المستمر على علاقتهما الجدلية (اي علاقة الضرورة بالحرية). افترض مفهوم نيتشه، والذي هو النقيض الخاص للفلسفة الهيغيلية، على العكس من ذلك، سلوكاً تعسفياً من جانب الذات، "السوبرمان" الذي سيغير العالم ليس وفقاً للقوانين الموضوعية للتطور التاريخي، ولكن من خلال رغابته الخاصة بالتوافق مع نظراته "الفنية" والتي تنفي قوانين الواقع والمنطق. من الواضح أن البطل المعاصر الذي يمر بأحداث تاريخية كبرى لا يمكن أن يكون هو نفسه أو الآخر. يؤكد ميرلوبونتي "ان بطل عصرنا ليس متشككاً ولا هاوياً ولا منحطاً"(30). علمته التجربة التاريخية أن يعتمد على نفسه أكثر من القوى المتعالية أو ارادة "السوبرمان"". "ان بطل عصرنا ليس ابليساً ولا حتى بروميثيوس: انه انسان(31). الانسان ليس قوةً سلبيةً Negative ولا صدىً للعالم ولا شيئاً ايجابياً وطيباً، ولكنه انسانٌ عادي بكل مزاياه وعيوبه. الفيلسوف الذي يرفض بحق "السوبرمان" وأنواع الأبطال غير المنتجين، يجعل الانسان العادي بطله. قد يعتقد المرء: ما هو الخطأ في ذلك؟ ومع ذلك، فان هذا "البطل" بالتحديد المُفتقر للأساس التاريخي، هو الذي أصبح بسرعة، نقطة الانطلاق لمختلف المفاهيم البرجوازية حول (تجريد البطولة) Deheroization.
***
في بحثه حول معنى وأساس الوجود البشري، يذهب ميرلوبونتي الى "تاريخانية ما قبل العالم"، الى " الوجود البدائي" أو الى "المكان بمعناه البدائي" الذي يكتسب تعبيره الأنسب في الفن، وخاصةً الرسم. يرى ميرلوبونتي، في الرسم تحديداً الميتافيزيقيا الأعمق والأكثر تميزاً في عصرنا. انه يبحث عن "العلم السري" الذي كان يبحث عنه فان جوخ اليه، من أجل الذهاب "الى حدٍ أبعد".
ويرى ميرلوبونتي أن الفن، وخصوصاً الرسم، يغذيه مصدرٌ عميق لا ينضب: "المكان بمعناه البدائي". والرسام هو الشخص الوحيد الذي له الحق في الطريق الحر لرؤية الأشياء: "فأمامه كما يُقال تفقد الكلمات التي من نوع المعرفة أو الفعل قيمتها"(32). النقطة هي، أن للرسام الحق في التعامل مع الأشياء بحرية، وتفقد كل ما ينطوي على مجال الادراك مثل المفاهيم والمقولات معناها بالنسبة له. وبالتالي، فان الرسام لا يهتم على الاطلاق بالمشاكل الابستمولوجية، ولكن يهتم بأمور اخرى، والتي يجب أن تكون، بنظر ميرلوبونتي، متعلقةً بالرسم وحده. نظراً لأن الرسم مرتبط ارتباطاً وثيقاً بـ"المكان بالمعنى البدائي"، فانه يبدو بالنسبة لميرلوبونتي أنه أهم مجال للفهم الانساني، والذي تنشأ منه الميتافيزيقيا الحديثة. يؤكد، بأن الرسم ليس انعكاساً للواقع. على العكس، انه موجود بذاته، بغض النظر عن أي واقعٍ مهما كان. لقد جذبت معضلة ميلبرانش الساخرة-تخرج الروح من خلال العيون من أجل ان تتحول بين الأشياء التي لا ترغب في رؤيتها-جذبت ميرلوبونتي بشكلٍ كبير.
يتسائل الفنان، لكن سؤاله ليس مؤجهاً الى الواقع الفعلي بل الى نفسه. لذلك يتفق ميرلوبونتي من ماكس ارنست على أنه يجب على الفنان أن يُحيط بما يراه داخل نفسه ويُسقطه للخارج. ان الفنان بكم-صم وأعمى فيما يتعلق بالواقع الفعلي: "الفنان يعيش في العمى"(33).
يساوي ميرلوبونتي رؤية الرسام باستمرارية الولادة: اننا نقول عن انسان انه قد وُلد في اللحظة التي يُصبح فيها ما كان مرئياً بالقوة في باطن جسم الأم- يُصبح مرئياً بالنسبة لنا وبالنسبة لنفسه.
يمكن للمرء أن يلجأ الى الفلسفة الرمزية للرؤية وايقوناتها في الصور نفسها. ليس من قبيل المصادفة أن ميرلوبونتي يقول انه في الرسم الهولندي (وفي مدارس اخرى) أن "(العين المستديرة للمرآة) تكون (هاضمة) لمنزلٍ أو (حجرةٍ) خالٍ من داخله. ان هذه النظرة السابقة على النظرة الانسانية هي رمزٌ لنظرة المصوّر"(34). ومع ذلك، فان فهم الفيسلوف للمرآة ليس بأنها شيئاً انعكاسياً سلبياً، بل على العكس، انها شيءٌ معبر بشكلٍ نشط: "فالانسان مرآة الانسان. اما فيما يختص بالمرآة فهي الأداة لسحرٍ كلّي يحول الأشياء الى مناظر والمناظر الى اشياء، ويحولني الى الآخر والآخر الي"(35). ينسب ميرلوبونتي الى الرسم، او لنكون أكثر تحديداً، الى نظرية الرسم، معنىً ميتافيزيقياً: "ان كل نظرية في الرسم هي ميتافيزيقيا"(36). ليس من قبيل الصدفة أنه يربط تحليله للرسم بمفاهيم ميتافيزيقية متنوعة. وبالقيام بذلك، يُقدم تقييماً رصيناً الى حدٍ ما للمفاهيم الوجودية في الماضي والحاضر. وهكذا، يذكر ميرلوبونتي، عند النظر في ميتافيزيقيا ديكارت، مقتبساً ليبنز، انها كانت صحيحةً فيما أنكرته وخاطئةً فيما أكدت عليه. ان المكان الديكارتي صحيح ضد الفكر الخاضع للامبريقية. بشكل عام، فانه يمكن تمييز النموذج الديكارتي للرؤية، حسب ميرلوبونتي، بحقيقة انه يمكن التحقق منه والشعور به. ومع ذلك، فان الرؤية ليست انسلاخاً للأشياء نفسها وتحولها الى رؤيتها، بل هي انتماء مزدوج للأشياء بالعالم الكبير وبعالم الفرد الصغير. ان الفكر بالضبط، هو ما يفك الشيفرة التي يُطلقها الجسد. والتشابه ليس نتيجة الادراك وليس سببه الدافع. باختصار، تُقدم لنا الرؤية ما هو مفقود، وهي ليست الا "انفتاحٌ على قلب الوجود". لذلك سعى ميرلوبونتي الى التغلب على الثنائية، والانقسام بين الجوهر المادي والروحي المتأصل في الفلسفة الديكارتية، والتي تسببت، برأيه، بالانقسام الذي حدث بين الفلسفة والعلم. بمجرد التغلب على هذا الانقسام، لن يظل الجسد وسيلةً للنظر واللمس، بل سيصير حافظاً لهما، ولن ينتشر العالم أمام الانسان بل من حوله، "ولن يُختزل الضوء بعد ذلك الى فعل التماس، بل يتم الاهتداء اليه كفعلٍ عن بُعد، أو بعبارةٍ أُخرى نتصوره على نحو ما يمكن أن يكون بالنسبة لاولئك الذين لا يرون فيه"، وهنا ستصير "هذه الفلسفة التي ينبغي اقامتها، هي التي تُحرك الرسام"... وسيصير يفكر من خلال الرسم(37).
وفقاً لميرلوبونتي فان تاريخ الرسم الحديث هو محاولة لتحرير المرء نفسه من (الوهم) من أجل الحصول على قياساته الخاصة (قياسات المرء الخاصة): سيكون لهذه المحاولة "معنىً ميتافيزيقياً". انه يؤكد باستمرار ان الرسم ليس تعبيراً فقط، وليس تصويراً. "الفن ليس تقليداً ولا ... حِرفةً تتبع اصوات الغريزة او الذوق الرفيع. انها عملية للتعبير... وكما ان الكلمة لا تُمثل ما تدل عليه، فان الفن كذلك ليس تصويراً"(38).
نعم، ان الفن ليس في الحقيقة مجرد تقليد أو مجرد حرفة، ولكن يجب التفكير فيه وتصوره قبل التعبير عنه. ان العمل الفني الأصيل هو دائماً وحدة معينة بين التعبير والتصوير، وبهذا يعكس العمل الفني الواقع. وبالفعل، من المستحيل العثور على لوحة واحدة في تاريخ الفن بأكمله توجد فيه وظيفة التعبير بحد ذاتها، بدون وظيفة التصوير أو خارجه. تعكس لوحات رييبن Repin وسوريكوف Surikov وبوسين Poussin وغويا Goya وفيلاسكيز Velasquez الخ، العالم الحقيقي من خلال تصوير جوانب وظواهر وأحداث مختلفةً فيه، معبرةً عن أفكار ومشاعر ومصالح عصرهم التقدمية.
يسعى ميرلوبونتي الى دعم افتراضات مفاهيميه الأساسية من خلال تحليل أعمال سيزان Cezanne وبلزاك والفنانين البارزين الآخرين.
في عصره، أعلن ليوناردو دا فينشي شعاره "العمل صعب". تختلف صعوبات سيزاني Cezanne عن صعوبات بلزاك ومالارمي Mallarmé بطبيعتها. يخلق بلزاك في كتاباته رساماً (بلا شك تحت تأثير دولاكواه Delacroix) يريد أن يعبر عن الحياة نفسها بوساطة علاقات الألوان وحدها كسرٍ من أسرار عمله. عندما يموت فرينهوفر(حـ)، يجد أصدقاؤه ألوان فوضوية وخطوطٌ لا يمكن فك شيفرتها، ولوحة بدون شكل. بكى بول سيزان عندما قرأ رواية (التحفة المجهولة) لبلزاك وأعلن أنه هو نفسه فرينهوفر.
في رواية (جلد الحمار البرّي)(ط) كتب بلزاك حول "فكرة التعبير"، "نظام البناء" و"علم التفسير". رأى ميرلوبونتي في هذا الصدد أنه لا يكفي أن نقول أن بلزاك اقترح فهماً لمجتمع عصره، وأنه كان من الضروري أن يأخذ بالاعتبار بحثه حول اين يجري كل هذا، وما ارادته أوروبا، وما الى ذلك. لكن النقطة هي أن كل هذا يُعتبر أمراً مفروغاً منه في منهجٍ تاريخيٍ جدليٍ ملموس من أجل فهم الواقع. ليس صدفةً ان انجلز قدم تقييماً عالياً جداً لأعمال هذا الكاتب العظيم: "عنده يتم تفسير تاريخ فرنسا من 1815-1848 بدرجة أكبر بكثير مما هو عند جميع الفولابيليين والكابفيغيين وأتباع لويس بلانك وتوتي كوانتي. أي جرأة هذه: جرأته الثورية الجدلية في عدالته الشعرية!"(39). انه "فهم عميق للعلاقات الواقعية"(40). ان أعمق نوعٍ من المعنى موجود في كلمات انجلز: فهم التاريخ مرتبط بشكلٍ لا ينفصم مع "الفهم العميق للعلاقات الواقعية"، وفهم العلاقات الموجودة يفترض وجود فهم عميق لمعنى التاريخ. ولكن بالاضافة الى ذلك، يختلف فهم الفنان للواقع عن العلم الدقيق بطابعه "الشعري"، "عدالته الشعرية". وبالتالي، يمكن أن يُسمى الابداع الفني "علم الشعر" و"العدالة الشعرية"، مما يجعل من الممكن فهم قوانين التاريخ ومنطقه وقوانين التطور الاجتماعي.
بالنسبة الى ميرلوبونتي، الذي كان غير قادرٍ بطبيعته، على قبول الدياليكتيك، فان معنى الفن يتضمن شيئاً مختلفاً تماماً. يستنتج من مقارنته لبلزاك وسيزان التالي: "الفنان هو ذلك الذي يُسجل مشهداً يكون الناس جزءاً منه ولا يستطيعون رؤيته، ان الفنان يجعل هذا المشهد في متناولهم"(41). هنا لا يوجد سوى تلميح لما شكّلته أعمال بلزاك وسيزان بالنسبة الى معاصريهم وجميع الأجيال اللاحقة. يقفز ميرلوبونتي عن أهم شيء يميز عمل بلزاك "دياليكتيك عدالته الشعرية الثورية"، لذلك تُحرَم التعبيرات المُقتبسة من الكاتب العظيم عن "فكرة التعبير" و"نظام البناء" و"علم التفسير" من معناها ومحتواها التاريخي الملموس. يؤكد ميرلوبونتي حماسة وعمق وأهمية أعمال بلزاك لانه يريد أن يُثبت أن التعبير هو انعكاساً ولا تصويراً. صحيح انه يربط الفكرة السابقة بفكرته عن انه لا يوجد ما يسمى بالفن الترفيهي. بالتأكيد يمكن للمرء أن يصنع اشياءاً تجلب الرضا. انها تمثل افكاراً معروفةً بالفعل وأشكالاً شوهدت بالفعل، لكن هذه اللوحة ستكون بطريقةٍ ما ثانوية، وهو ما يُفهم بفضل الثقافة. "ان الفنان عند بلزاك وسيزان لا يكتفي بكونه حيواناً مُستأنساً. عندما يظهر للمرة الأولى يأخذ الثقافة على عاتقه ويبررها من جديد. انه يتحدث كما تحدث أول انسان ويكتب كما لو لم يكن احد قد كتب قبله على الاطلاق. قد يكون التعبير عندئذٍ ترجمةً لفكرةٍ واضحةٍ بالفعل، بقدر ما تكون الأفكار الواضحة واضحةً عندما نذكرها نحن أو يذكرها الآخرين"(42). ويُعبّؤ هذا التصريح في جوهره عن أحد الأفكار الأساسية للوجودية الظواهرية- فكرة وضع الثقافة-الطبيعة والتقاليد-الابتكار والتاريخ-النظرية ونظرية المفهوم-نظرية التنفيذ في مواجهة بعضها البعض.
يلاحظ ميرلوبونتي نفسه أن لوحات سيزان لا تلغي العلم ولا التقاليد. ذهب سيزان كل يوم الى اللوفر ليتعلم الرسم من الكلاسيكيات. ومن المعروف ايضاً أنه في كل يوم كان يبحث عن "دافع"، يدرس الطبيعة باهتمامٍ بالغ، والذي اعتبرها أفضل معلمٍ. يمكن للمرء أن يستنتج أن سيزان لم يتجاهل الثقافة ولا الطبيعة ولم يُعارض بينهما. على العكس من ذلك، كمّل احداهما الاخرى بنظره: ساعدته الدراسة المكثفة لتاريخ الرسم على دراسة الطبيعة وفهم أسرارها بشكلٍ شامل، كما ساعدته دراسة الطبيعة على فهم ابداعات الرسم الكلاسيكي وثراء لوحاتها ورؤيتها، وما الى ذلك. في مثل هذه الحالة، فان معارضة الثقافة بالابداع كما يفعل ميرلوبونتي هو أمرُ ضعيفُ ومتهاوٍ: يولد الجديد من تملّك واستيعاب الثقافة السابقة وتحصيل المعارف عن الواقع المُعاصر.
ان اي شخص، اي فنان، هو نتاج عصره، نتاج علاقاتٍ اجتماعيةٍ معينة، ثقافة معينة، وما الى ذلك. وبالتالي، يندمج كل انسان منذ البداية في تقاليد وحياة معينة ويتشكل بتأثير ثقافةٍ محددة. وبهذا المعنى، فان أي فنان هو "حيوان مستأنس"، وبغض النظر عن شكل انطلاقته الأولى الخاصة به، فان الانطلاقة دائماً ما تكون نتيجة لاستيعاب الثقافة السابقة، نتيجة استيعاب التقاليد، وعلى هذا النحو فقط، يمكن أن تحمل الانطلاقة الأولى داخل نفسها جنين ثقافةٍ جديدةٍ وقيم ابداعية جديدة. وحتى ولو بدا ان فنان تحدث وكتب كما لو لم يتحدث او يكتب أحد من قبله، فان ابداعه ليس شيئاً جديداً بالمطلق، بل على العكس، فان ابداعه هو نتيجة نوع من استيعاب مُتقن للثقافة السابقة الذي يسمح له فقط، بتجاوز خط التطور العادي ويقوم بقفزةٍ نوعية-أي خلق نوع من العمل الفني، نوعٌ من الرسم يُعادل في جوهره ثورةً في الفن. وما سبق ذكره، يكتسب في عمله الفني معنىً مختلفاً، وأهميةً مختلفةً ومسوىً آخر لا يُضاهى. وهنا من الضروري التحدث، ربما، ليس عن حقيقة أن ("المفهوم" لا يمكنه أن يسبق "التنفيذ"، والعكس)-فكرة ميرلوبونتي-، ولكن الفكرة الماركسية حول كيف يمكن لادراك الفنان للواقع وتفكيره بالمشاكل الواقعية أن تُسهّل تطوير وسائل التعبير، وكيف يمكن للعمل على التكنيكات الفنية أن يؤدي الى ظهور أفكار جديدة وابتكاراتٍ جديدة، وبشكلٍ عام، كيف تحدث عملية الابداع المُعقدة، وكيف يتم تنفيذ تحقيق أفكار الفنان.
ان الحياة هي المصدر الذي ينطلق منه الفنان الابداعي الأصيل، وهو يرجع اليه باستمرار. ولكن عند ميرلوبونتي، الفنان "يرجع، في جميع الأحوال الى فكرة او مشروع المنطق اللانهائي" وينجذب الى "العقل، الذي يتبنى مبادئه الخاصة"(44).
ومع ذلك، فان ذاتية الفنان تصبح ذاتاً أصيلة عندما يرفض الفوضى والارادة الحرة، وبعد أن يفهم القوانين الموضوعية لتطور الطبيعة والمجتمع والفكر، ويعبر عنها من خلال رؤيته للعالم وتصوره لها، من خلال موقفه الشخصي تجاه الواقع-فالذاتية هي التعبير المركّز عن الموضوعي، تَحَقُقه، ادراك قوانين تطوره.
***
ما هي النتيجة الجديدة لمحاولات ميرلوبونتي بناء ميتافيزيقيا جديدة؟
انتهى انشاء ميتافيزيقيا جديدة ببناء انطولوجيا جديدة. ان ضرورة هذا، أملته، ليست الأزمة الجذرية للفلسفة والثقافة الوجوديتان وحسب، بل أزمة الوجود ككل. "وضعنا الذي هو وضع اللافلسفة-الأزمة لم تكن قط جذرية بمثل ما هي عليه الآن- (الحلول) الجدلية= أو بالاحرى (الجدلية السيئة) التي تُماهي بين الأضدادا، والتي هي لافلسفة-او كذلك الجدلية (المُحنطة) التي لم تعد جدلية. أهي نهاية الفلسفة أم انبعاثها؟ ضرورة العودة الى الأنطولوجيا-التساؤل الأنطولوجي وتشعباته: سؤال الذات- الموضوع، وسؤال البيذاتية، وسؤال الطبيعة. خطاطة الأنطولوجيا التي نعتزم انجازها كأنطولوجيا للكينونة الخام-وللوغوس".
من هذا المقطع، من الواضح أن ميرلوبونتي لم يكن راضياً، ليس فقط عن الدياليكتيك المادي، بل عن كل الدياليكتيك تماماً (مثل الجدل الذاتي لسارتر والجددل المدرسي وما الى ذلك). لقد رأى مخرجاً في العودة الى الانطولوجيا العامودية Vertical، والتي تعبرب عن معنى الأشياء ومعنى الوجود والوجود البدائي غير المُرَوّض. يُعرّف ميرلوبونتي الدياليكتيك على أنه "تحويل الموضوع الى ذات والذات الى الموضوع" و"افتتاحية علاقة ضمنية بين الجدل وموضوعه".
خارجياً، يبدو أن هذا مناسبٌ تماماً. ولكن اذا قام أحد ما بفحصه حد كثب، سيجد المرء ما يلي: في المقام الأول يعني "تحويل الموضوع الى ذات والذات الى موضوع" اعاقة جوهر الدياليكتيك نفسه. يتم استبدال صراع الأضداد كمصدر للتطور ب"تحويل" بسيط لظاهرة الادراك، الى مقولات الذات والموضوع مفهومةً بروح فينومينولوجيا هوسرل ("كل وعي هو وعي بشيءٍ ما")، أي أن الموضوع والذات يتم اختزالهما الى ظاهرة وعي الانسان الفرد. أما في المقام الثاني، فان وجود العالم يعتمد على وعي الفرد، على وعي الذات (العالم موجود من أجل وعيي وبفضل وعيي)، الذي يستثني بشكلٍ اساسي امكانية الدياليكتيك الذاتي (وليس الذاتوي) الذي أكده انجلز ولينين، اي انعكاس الدياليكتيك الموضوعي، اي دياليكتيك الأشياء نفسها. ثالثاً، على الرغم من محاولة مطابقة ذات هوسرل بالممارسة، و"النشاط التأسيسي" للذات بالنشاط المُمارسي ، الممارسة على هذا النحو ليست مستبعدة من عملية الادراك فقط، بل من العلاقة بين الانسان والطبيعة، الانسان والمجتمع كذلك. اي انها تتوقف عن كونها علاقةً اساسية، كأساس للادراك ومعيار للحقيقة.
أكد ميرلوبونتي باستمرار على انه سعى ليخلق نوعاً جديداً من الوضوح، أي وضوحاً عمودياً وليس افقياً(46).ما الذي من المُفترض أن يُمثله هذا الوضوح "العامودي"؟ لقد ذكرنا بالفعل، ان هذا الفيلسوف يأخذ تعاليم هوسرل حول "العالم الحي"، كنقطة انطلاق مفسراً اياه بروح الوجودية. عندما يقول، على سبيل المثال، انه من الضروري التفكير من أجل التحدث، يعني فان ميرلوبونتي يعني "أن نفكر بمعنى كياننا في العالم، او في الكينونة الشاقولية-العامودية"(47)، وهذا يعني أيضاً انطولوجيا الوجود. وميرلوبونتي نفسه يدرك ذلك: "ما اسميه الشاقولي، هو ما يسميه سارتر الوجود"(48)، فيما عدا، انه على عكس سارتر، يحاول ميرلوبونتي تجنب السلبية واحادية الجانب: فهو يحاول انشاء بنية ثنائية للوجود: ايجابية وسلبية في وقتٍ واحد. ومع ذلك، يبقى هذا الجهد مجرد نية حسنة، لان هذا التوحيد لا يمكن تحقيقه الا من خلال نهج دياليكتيكي صارم لدراسة العالم الموضوعي.
برفض التنوعات الكلاسيكية في بنية المعرفة الفلسفية (تمايز سبينوزا الشهير عن الله والانسان والخلق، ومبدأ ديكارت عن الفهم: انا أفكر اذاً انا موجود، والمفاهيم السكولاستيكية المتنوعة، وخصوصاً فهم اللغوغوس والحقيقة حرفياً، وتفسيرات المثالية الألمانية لكانط وهيغل المنطقية والابستمولوجية والغائية للمعرفة ، الخ)، برفضها بدون تردد، سعى ميرلوبونتي لتقديم المرئي والطبيعة واللوغوس دون اي تنازلات مع الانسانوية والمادية وحتى الغائية مهما كانت، ناهيك عن الدياليكتيك. لقد أراد ان يصف المرئي بما هو مُدرك من خلال الانسان، بشرط ان لا يكون هذا الوصف انثروبولوجياً (وهنا يُعارض بصراحة بموقفه مواقف فويرباخ وماركس عام 1844). كان يحلم ياستعراض الطبيعة على انها "الجانب الآخر" للانسان، وليس على الاطلاق على انها مادة. لقد فسّر اللوغوس، مع ذلك، على ما يُدركه الانسان، ولكن بدون اي ارتباطٍ بأي واقعٍ موضوعيٍ أياً كان، وبدون اي صلة بالممارسة وبالتالي للادراك والحقيقة. بكلمةٍ واحدة، قرر انشاء الميتافيزيقيا العالمية بوسائل الوجودية الظواهرية على النقيض من الدياليكتيك المادي وعلم المنطق والابستمولوجيا. هل نجح في ذلك؟ كما رأينا، لا، لم ينجح.
انتهت واحدة من أهم مشاريع الفلسفة البرجوازية الحديثة في بناء الميتافيزيقيا الجديدة الشاملة (الأنطولوجيا العامودية) من المواد التي وفرها الأدب والفن-بالفشل. في هذا الصدد، أكد ميرلوبونتي نفسه مراراً وتكراراً أن غموض الحياة يُظهر استحالة ايجاد وسائل تحقيق المعنى الحقيقي لكل ما يحدث، ولما يفعله الناس. أثبتت الوجودية الظواهرية عجزها عن ايجاد طريقة ليجد الانسان فيها نفسه وبالتالي أظهرت عجزها عن اظهار معنى وجود الانسان له.

* وُلد عام 1931 وتخرج عام 1959 من معهد الفلسفة في جامعة موسكو. دافع عن اطروحته بعنوان (تحليل الأسس الفلسفية للتوماوية الجديدة) عام 1963. وفي عام 1973 دافع عن اطروحة الدكتوراة بعنوان (نقد الوعي البرجوازي الفلسفي والجمالي). ودرّس في قسم الفلسفة في معهد العلوم الاجتماعية التابع للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي.

1- On this, See M. Dufrenne phenomenology de l’experienceesthetique, Vol. 1, Paris, 1953, PP.4-5
2- Mesaventures de l’anti-marxisme. Les malheurs de M. Meleau-Ponty, Avec Une Letter de Georg Lukacs, Paris, Editions Sociales, 1956.
3- M. Merleau-Ponty, Les Aventures de la Dialectique, Paris 1955.
Adventures of Dialectic, Maurice Merleau-ponty, Translated By Joseph Bien, NorthWestern University Press Evanston, 1973 (من المترجم).
4- M. Merleau-ponty, Phenomenologie de la Perception, Paris, Gallimard, 1945
ظواهرية الادراك، موريس ميرلوبونتي، ترجمة فؤاد شاهين، معهد الانماء العربي
(أ)- الحدَثية في الفهم الوجودي عند هايدغر، تعني ما هو موجودٌ في الوجود حتى لو لم تتم ملاحظته، وعند سارتر وسيمون ديبوفوار تعني كل ما يشمل حياة الانسان وتفاصيل وجوده وخلفية هذا الوجود مثل الزمان والمكان والبيئة والخيارات المُسبقة للفرد، وحتى احتمالية وفاته الحتمية، وليس كل ما هو حدثي، حتى لو كان موجوداً في خلفية حياة الانسان، خاضع لنشاطه او ارادته او انتباهه. أعتقد أنه يمكن اختصار الحدثية بأنها العالم الموضوعي المرتبط بالذات.
5- M. Merleau-Ponty, Le Visible etl’invisibe, Paris, Gallimard, 1964, P.47
6- Ibid. 139
وهذا المصدر أعلاه من الكتاب بالترجمة العربية: المرئي واللامرئي، موريس ميرلوبونتي، ترجمة د. عبدالعزيز العيادي، مركز دراسات الوحدة العربية، ص178
7- Ibid
وهذا المصدر أعلاه من الكتاب بالترجمة العربية: المرئي واللامرئي، موريس ميرلوبونتي، ترجمة د. عبدالعزيز العيادي، مركز دراسات الوحدة العربية، ص178-179.
8- Ibid 238-239
وهذا المصدر أعلاه من الكتاب بالترجمة العربية: المرئي واللامرئي، موريس ميرلوبونتي، ترجمة د. عبدالعزيز العيادي، مركز دراسات الوحدة العربية، ص288.
9- Ibid 221
وهذا المصدر أعلاه من الكتاب بالترجمة العربية: المرئي واللامرئي، موريس ميرلوبونتي، ترجمة د. عبدالعزيز العيادي، مركز دراسات الوحدة العربية، ص264.
10- ibid 253
وهذا المصدر أعلاه من الكتاب بالترجمة العربية: المرئي واللامرئي، موريس ميرلوبونتي، ترجمة د. عبدالعزيز العيادي، مركز دراسات الوحدة العربية، ص307
(ب)- وهي الموسيقى التي تفتقر الى مركز لحني مفتاحي، ولا تتوافق مع نظام التسلسلات الهرمية اللحنية.
11- E. Husserl, Die Krise der Europaischen Wissenschaften und die transzendentale Phanomenologie Husserliana, Vol. VI, The Hague, 1954, P513
هذا الكتاب مُترجم الى اللغة العربية: أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية، ادموند هوسرل، ترجمة د. اسماعيل المصدق، مركز دراسات الوحدة العربية.
12- M. Heidegger, Holzwege, Frankfurt on Main, 1957
(جـ)- Cmmunis Opinio هي كلمة لاتينية تعني الرأي السائد.
13- M. Merleau-Ponty, Le Visible etl’invisibe, Paris, Gallimard, 1964, P.213
وهذا المصدر أعلاه من الكتاب بالترجمة العربية: المرئي واللامرئي، موريس ميرلوبونتي، ترجمة د. عبدالعزيز العيادي، مركز دراسات الوحدة العربية، ص277.
14- See on this G. Lukacs, Die Zerstorung der Vernunft.
تحطيم العقل، جورج لوكاش، ترجمة الياس مرقص، دار الحقيقة بيروت.
15- M. Merleau-Ponty, Signes, Paris, Gallimard, 1960, P242-249.
16- Ibid 247
17-Ibid 248
18- Ibid 249
19- M. Merleau-Ponty, Le Visible etl’invisibe, Paris, Gallimard, 1964, P.250-251
وهذا المصدر أعلاه من الكتاب بالترجمة العربية: المرئي واللامرئي، موريس ميرلوبونتي، ترجمة د. عبدالعزيز العيادي، مركز دراسات الوحدة العربية، ص304
20- Ibid 251
وهذا المصدر أعلاه من الكتاب بالترجمة العربية: المرئي واللامرئي، موريس ميرلوبونتي، ترجمة د. عبدالعزيز العيادي، مركز دراسات الوحدة العربية، ص305.
(د)- الاكسيولوجيا هي علم القِيَم.
(هـ)- ماري هنري بيل 1783-1842، أحد أهم الأدباء الفرنسيين الرومانسيين في بداية القرن التاسع عشر.
(و)- مارسيل بروست 1871-1922 روائي فرنسي.
21- M. Merleau-Ponty, Sens et non-sens, Paris, Negel, 1948. See the section “le roman et la metaphysics” P.47
Sense and Non-sense, M. Merleau-Ponty, Translated by Hubert L. Dreyfus and Patricia Allen Dreyfus, Northwestern University Press
22- Ibid.
23- Ibid 48
24- Ibid 49
25- Ibid 67
26- Ibid 69
27- ibid 70
28- Ibid 68
29- Ibid 326
30- Ibid 330
31- Ibid 331
32- M.Merleau-Ponty, L’Oeil et l’esparit, Paris, Gallimard, 1964, P14
وهذا المصدر أعلاه من الكتاب بالترجمة العربية: العين والعقل، موريس ميرلوبونتي، ترجمة دكتور حبيب الشاروني، مُنشأة المعارف بالاسكندرية، ص14.
33- Ibid 31
وهذا المصدر أعلاه من الكتاب بالترجمة العربية: العين والعقل، موريس ميرلوبونتي، ترجمة دكتور حبيب الشاروني، مُنشأة المعارف بالاسكندرية، ص31
34- Ibid 32
وهذا المصدر أعلاه من الكتاب بالترجمة العربية: العين والعقل، موريس ميرلوبونتي، ترجمة دكتور حبيب الشاروني، مُنشأة المعارف بالاسكندرية، ص32
35- Ibid 34
وهذا المصدر أعلاه من الكتاب بالترجمة العربية: العين والعقل، موريس ميرلوبونتي، ترجمة دكتور حبيب الشاروني، مُنشأة المعارف بالاسكندرية، ص34
36- Ibid 42
وهذا المصدر أعلاه من الكتاب بالترجمة العربية: العين والعقل، موريس ميرلوبونتي، ترجمة دكتور حبيب الشاروني، مُنشأة المعارف بالاسكندرية، ص42
37- Ibid 60
وهذا المصدر أعلاه من الكتاب بالترجمة العربية: العين والعقل، موريس ميرلوبونتي، ترجمة دكتور حبيب الشاروني، مُنشأة المعارف بالاسكندرية، ص60
38- Ibid 30
وهذا المصدر أعلاه من الكتاب بالترجمة العربية: العين والعقل، موريس ميرلوبونتي، ترجمة دكتور حبيب الشاروني، مُنشأة المعارف بالاسكندرية، ص30
(حـ)- فرينهوفر هو بطل قصة بلزاك (التحفة المجهولة). وهي قصة ترجمها الى العربية ماهر البطوطي، كنسخة الكترونية.
(ط)- جلد الحمار البرّي، هي رواية لبلزاك ترجمها فريد أنطونيوس الى العربية بعنوان (الجلد المسحور)، دار عويدات للنشر.
39- K. Marks I F. Engels’s ob iskusstve, Moscow, Iskusstvo Publishers, 1967, Vol.1, P458
40- Ibid 483
41- M. Merleau-Ponty, Sens et non-sens, Paris, Negel, 1948. See the section “le roman et la metaphysics” P.47
Sense and Non-sense, M. Merleau-Ponty, Translated by Hubert L. Dreyfus and Patricia Allen Dreyfus, Northwestern University Press
42- Ibid 32
43- Ibid 33
44- Ibid 32
45- M. Merleau-Ponty, Le Visible etl’invisibe, Paris, Gallimard, 1964, P219
وهذا المصدر أعلاه من الكتاب بالترجمة العربية: المرئي واللامرئي، موريس ميرلوبونتي، ترجمة د. عبدالعزيز العيادي، مركز دراسات الوحدة العربية، ص261-262.
46- Ibid 322
47- M. Merleau-Ponty, Le Visible etl’invisibe, Paris, Gallimard, 1964, P219, P278
وهذا المصدر أعلاه من الكتاب بالترجمة العربية: المرئي واللامرئي، موريس ميرلوبونتي، ترجمة د. عبدالعزيز العيادي، مركز دراسات الوحدة العربية، ص339.

ترجمة لمقالة The Philosophy and Aesthetics of Maurice Merleau-ponty, K. M. Doglov, Soviet Studies In Philosophy, 14:3, 67-92, 1975