تاريخ الأوبئة(2) هل الوباء قديم قدم الانسانية؟


عبد المجيد السخيري
2020 / 4 / 17 - 02:28     

أعاد انتشار وباء كورونا المستجد-كوفيد 19 فتح صفحات تاريخ الأوبئة بعدما ساد الاعتقاد بأنها طويت ودفنت في الذاكرة الجمعية، إذ حتى عندما ظهرت حالات عود لأمراض قديمة مثل الطاعون، كما حدث في الولايات المتحدة سنة 2012 حين تم اكتشاف حالتي عدوى عن طريق الفئران، ظل عدم الاكتراث هو الموقف السائد في أوساط المسؤولين السياسيين و مجمع العلماء. هكذا لم يلفت السؤال الذي طرحته لوباريزيان الفرنسية(20 يونيو 2012) "ماذا لو عاد الطاعون؟" انتباه أحد إلى أن تحولت اليوم أوروبا وأمريكا إلى بؤرتي الجائحة المخيفة. وها نحن نفتش في الٍأرشيفات عن ما يسعفنا على فهم الموقف الذي نعيشه، ونحاول من خلالها الاهتداء إلى ما يهدأ من روع قلقنا الوجودي في عز استفحال الأزمة العالمية، التي ربما ستكون غير مسبوقة قياسا إلى آخر الأزمات التي مرت بها البشرية في القرن الماضي وأواخر العقد الأول من القرن الحالي. فلم يعد خافيا على أحد أن العالم يواجه شبح كارثة قد تأتي على الأخضر واليابس إذا لم تحدث معجزة، وفي أحسن الأحوال قد تودي بحياة الملايين من سكان الأرض، وهي كارثة صحية أشبه بزلزال مدمر بارتدادات اقتصادية وسياسية وثقافية وإيكولوجية، أو أقرب إلى حرب دمار شامل السلاح فيها واحد ويضرب في اتجاه واحد، وهو فيروس لا يراه أحد، ولا يُعرف متى ومن أين وكيف سيبدأ هجومه، مع أن هدفه معلوم وهو القضاء على الجنس البشري، أو على الأقل تهديد بقاءه، والعالم يبدو أمامه مجردا من أي سلاح، وفي حالة من الدفاع اليائس عن النفس في أحسن الأحوال، بصرف النظر عن الجهود المضنية التي يبذلها من هم اليوم في الخط الأمامي للمواجهة من الأطقم الطبية والتمريضية، والتضحيات الجسام التي يقدمونها، ينتظر أن يقدموا المزيد منها في القادم من الأيام من راحتهم وأرواحهم.
إن ما يحدث اليوم هو انفجار واحد من سلسلة براكين تحدث عنها فرونسوا رودان، العالم بمعهد باستور، وقال إننا نجلس فوقها، وهي في الحقيقة عبارة عن كم هائل من البكيريا والفيروسات تنتشر في الأنظمة البيئية التي لا نعرف عن أغلبها شيئا أو نعرف الشيء القليل منها في أحسن الحالات، وبعضها بالتأكيد قد يعرف طفرات من شأنها أن تجعلها أكثر تدميرا وخطورة إذا ما أفلتت من السيطرة، وهذا ما يحدث بالضبط مع فيروس كورونا-كوفيد 19، ويسري قبل كل شيء على جميع الأمراض المعدية والمتنقلة حيث الأمر يتعلق في هذه الحالة، كما يقول المختصون، بتتابع أحداث عشوائية، وتفاصيل غير متوقعة.

ماذا يحدث من حولنا؟

تفرض الجائحة الجديدة على ملايين من البشر في كوكبنا نظاما من العيش والحياة لم يخطر على بال الكثيرين. فهي تقلب رأسا على عقب عاداتهم اليومية وعلاقاتهم ببعضهم البعض داخل الفضاء العمومي كما في الفضاءات الخاصة من البيوت والغرف الضيقة. صحيح أن التغييرات التي تحملها معها الجائحة ستكون مؤقتة وستعود الأمور إلى مجاريها، لكن أحدا لن يستطيع تصور النتائج التي ستنجم عن ما نعيشه اليوم على المدى البعيد. فمثل كل الأوبئة والأمراض عبر التاريخ التي أدت إلى انهيار دول وأنظمة، وزوال حضارات(أدى الطاعون إلى سقوط أسرة "مينغ" التي حكمت الصين لثلاثة قرون وبصمت بتأثيرها السياسي والثقافي أجزاء هامة من شرق آسيا، وكانت نهايتها كارثية)، وظهور علوم جديدة، يمكن للجائحة الجديدة أن تتسبب في انهيار أنظمة ومؤسسات ومفاهيم أيضا إذا طالت مدتها، أو على الأقل ستؤدي من دون شك إلى إعادة نظر جذرية في أنماط التنظيم الاجتماعي القائمة والموروثة، وأساليب الانتاج والاستهلاك، وتفسح في المجال لحدوث طفرة في العلوم الحالية، البيولوجية والطبية منها بشكل خاص. ومن غير المستبعد أن يُطلق النقاش على أوسع نطاق حول مستقبل الرأسمالية وجرائمها وخطورتها على مستقبل البشرية جمعاء، خاصة وأن أنظمتها أبانت في أوروبا وأمريكا عن حقارة لا نظير في التعاطي مع الجائحة بتغليبها للمصالح الاقتصادية للشركات على صحة وحياة المواطنين، كما كشفت عن عجز السوق الحرة، التي تم الاحتفاء بها لزمن طويل، عن حماية هؤلاء من المرض القاتل وتقديم الخدمات الطبية للجميع، بعدما قامت بتدمير الخدمة العمومية في قطاع الصحة وباقي القطاعات الأخرى، مزهوة بانتصارها للحرية الفردية وعبادة السوق. بل وبلغ الأمر مستوى من الانحطاط غير مسبوق حين بدأت بعض الدول تلجأ إلى ممارسات مافيوزية وأعمال القرصنة لتدبير أزمتها الداخلية، وبأنانية فاضحةـ كما فعلت تركيا بسطوها على شحنات طبية كانت متجهة نحو اسبانيا في ذروة انتشار الفيروس القاتل بهذه الأخيرة، بحسب ما تناقلته وسائل الاعلام في الرابع من أبريل 2020، وهو نفس السلوك الذي لجأت إليه الولايات المتحدة سواء بقرصنة مساعدات طبية قدمتها الصين لبعض الدول، أو محاولاتها الحصول على أدوية أو عقود احتكار لتصنيع أدوية ولقاحات من شركات أجنبية، وغيرها من الممارسات المنحرفة والخطيرة التي انزلقت إلهيا الدول "العظمى" في تعبير واضح عن فشلها في تدبير الأزمة الصحية، وانعكاسا جليا لإفلاسها الأخلاقي بعد عقود من التبجح بالديمقراطية والحرية والتقدم.

هل الوباء قديم قدم الانسانية؟

الأرجح أنه ليس كذلك، بالرغم من أننا لا نتوفر حتى الآن على أدلة قاطعة حول هذا الأمر، ليبقى الاعتقاد الراجح أن الأوبئة بدأت في الظهور والانتشار مع اكتشاف الزراعة وتربية الماشية في العصر الحجري الحديث، أي قبل حوالي عشرة آلاف سنة في بلاد الصين أو قبل ذلك بألفي سنة في منطقة الشرق الأوسط، وقد ارتبطت بالتغيرات التي نجمت عن الأنشطة الجديدة، وقد دشنت تلك الأنشطة لحقبة جديدة في تاريخ الانسانية، بعد حقبة طويلة نسبيا ظل فيها الانسان يعيش ضمن مجموعات صغيرة متحركة ومتنقلة باستمرار، يحصل على غذاءه من الصيد والتقاط ما يقع بين يديه من الثمار ، ولم يكن واردا أن يقع الاحتكاك بين المجموعات البشرية إلا نادرا، ومن ثم يستبعد حدوث انتقال العدوى المرضية. غير أنه في الحقبة الجديدة تغير ت الأمور تدريجيا بحيث فرضت أنشطة الزراعة وتربية الماشية على الناس التشكل في جماعات تعيش في احتكاك، فنشأت القر ى ثم المدن، وبدأت الأمراض والفيروسات تظهر وتتفشى ثم تنتقل إلى الانسان عن طريق الاتصال اليومي بالحيوانات. وكلما تطور العمران البشري ازداد خطر انتشار العدوى وانتقالها من منطقة إلى أخرى، وبالتالي ظهور فيروسات جديدة، بسبب توسع نطاق الاحتكاك البشري من خلال السفر والتبادل التجاري والرحلات الاستكشافية.