تأسيس المواطنة والأمة الإقليمية بين كورونا وكرة القدم


ناجح شاهين
2020 / 4 / 14 - 23:23     

تأسيس المواطنة وبناء الأمة في الدولة الإقليمية بين كورونا وكرة القدم
تعاني الدولة الرأسمالية في مركز العالم من كونها دولة ضعيفة لا تتدخل كثيراً في إدارة شؤون البلاد، خصوصا عندما يدور الحديث عن الدولة الليبرالية الجديدة التي تترك القطاع الخاص حراً يفعل ما يحلو له في تفاصيل الحياة كلها. في سياق الظرف الراهن يضغط القطاع الخاص من أجل تخفيض الأنفاق العام الذي سيأتي على شكل اقتطاعات كبيرة من أرباحه، وكذلك يضغط من أجل تخفيض فترة الحجر والإغلاق التي تتسبب بمقدار أوبآخر في إيقاف عجلة الإنتاج. بالطبع هنا الدولة لا تستطيع إلا أن تولي اهتمامات الشركات الكبرى الرعاية الكاملة حتى لو جاءت على حساب صحة المواطنين أو مصلحتهم العليا.
بالطبع تختلف الدولة القومية الرأسمالية الحديثة في شمال العالم اختلافاً بيناً عن الدولة الرأسمالية التابعة لها في جنوب العالم. الدولة الأولى هي دولة مستقرة ومتجانسة كثيراً من نواح كثيرة بما في ذلك "الأوهام" المتصلة بالأمة وكذلك سيادة نوع رئيس من الأيديولوجيا الليبرالية وما بعد الحداثية بشكل يكرس مسؤولية الفرد عن مصيره، وحدة الأمة، وجود الفرد في مواجهة الدولة في نطاق المجتمع المدني، وغير ذلك من أمور.
الدولة في جنوب العالم تكافح من أجل تكريس مشروعيتها التي تتنازعها الإثنيات والديانات والطوائف والأيديولوجيات وحتى النزاعات المتصلة بإقليمها الجغرافي ذاته. ومن البين بذاته أن الدولة العربية تمثل عينة "متطرفة" للدولة التي تصارع بكل قوتها من أجل إثبات المشروعية أو حتى البقاء على قيد الحياة. هذه الدولة يتحداها الدين والتاريخ والجغرافيا والواقع والإثنيات والقبائل..الخ هناك وحدات جغرافية تم تقطيعها مطلع القرن العشرين وإجبار من اتفق من السكان أن كانوا فيها على أن يكونوا دولة على الطريقة الغربية التي نشأت فيها الدولة القومية على مهلها.
بالطبع لم تنجح الدولة الوليدة في مجانسة النسيج المجتمعي لتكوين دولة الأمة مما جعل الطريقة الشائعة في توحيد مكونات الدولة هو جهاز الدولة الإكراهي بالذات. ربما أن علينا أن نستثني مصر من هذا الوصف. أما باقي الدول فقد كانت مصطنعة سكانياً إلى درجة كبيرة. وقد زاد الطين بلة بصعود قوى الدين السياسي التي رأت أن الرابطة الفعلية هي رابطة الدين. ولا بد أن مجتمعات عاشت في ظل الامبراطورية العثمانية مئات السنين واستدخلت التماهي بمقدار او بآخر بين الدين والسياسة كانت مهيأة دائماً لاحتضان تلك القوى ودعمها في مواجهة الدولة شبه الفاشلة التي كانت تختبئ على نحو ترقيعي وراء الدين من ناحية وقيم الليبرالية القومية الغربية من ناحية أخرى إضافة إلى خطاب عربي يتقاطع مع الدين والأمة الإقليمية ويتصارع معهما في وقت واحد.
ظلت لافتات مثل الإسلام والعروبة وفلسطين تهدد الدولة العربية زهاء نصف قرن من الزمان. ولا بد أن تراجع الأصوات الداعية إلى بناء الأمة العربية ودولتها وتراجع الاهتمام بقضايا عربية كبرى مثل قضية فلسطين قد شكل تربة ملائمة لتجرؤ الدولة الإقليمية على رفع شعار القومية الإقليمية التي جاءت في شعارات واضحة لا لبس فيها من قبيل "مصر أولاً" أو "لبنان أولاً" أو "الآردن أولاً". لكن ذلك لم يكن كافياً بذاته لإنتاج المواطن المنتمي إلى "أمة" فلسطين أو قطر أو الأردن...الخ. ولا بد أن خلق "الأساطير" التي تشكل العقل الجمعي للأمة هو سيرورة تتحقق عبر صيرورة طويلة وعميقة تقوم بصهر الناس في الإقليم وتخلق لديهم الإيمان بأنهم مجموعة "سياسية" مستقلة ومختلفة عن غيرها.
لكن ذلك يتطلب "تقديم الأدلة" الكثيفة لوعي المواطن على أن هذه "الأمة" تتمتع فعلياً بما يجعلها مستقلة عن غيرها في الواقع والسياسة إن لم يكن في الماضي والتاريخ. وإذا كان لا مناص "مؤقتاً" من الإقرار بماض متشابه يتكرس عن طريق إعادة قصص الطبري حول دولة الخلافة العربية الإسلامية في العصور الوسطى فإن الحاضر يجب أن يختلف "نوعياً" إلى الحد الذي يسمح بأن تولد الأمم الإقليمية التي تتطابق في امتدادها مع امتداد الدولة الإقليمية الجغرافي مهما بدا ذلك الامتداد صغيراً أو مفتعلاً. بهذا المعنى لا بد من مسوغات لوجود أمة قطرية أو بحرينية أو لبنانية... ولا بد أن نبحث عن سمات مشتركة تميز القطريين عن غيرهم من الأمم المجاورة. بالطبع إذا لم تكن تلك السمات موجودة بالفعل فلا بد من إنتاجها بأية طريقة لكي تشكل أساساً لمشروعية الدولة القطرية المستمدة من وجود أمة قطرية لا يجوز أن تذوب في أمة السعودية مثلما لا يجوز أن تذوب أمة الكويت في أمة العراق.
ترى هل يمكن لذلك أن يكون أحد المفاتيح لتفسير التنافس الجنوني بين دول صغيرة مثل دول الخليج على الزعامة وبناء الشارات والعلامات "القومية" واصطناع المآثر التي تؤسس لمجد الأمة والدولة التي تمثلها؟ إن نشيداً من قبيل "وطني الكويت سلمت للمجد .. وعلى جبينك طالع السعد" هو سمة مميزة للأناشيد "القومية" في الدول العربية التي تبحث بالسبل كلها عن المشروعية واختلاق الأساطير القومية الضرورية لإنتاج الأمة. لذلك أيضاً نحسب أن الخليج كان مضطراً إلى الإنفاق ببذخ على الثقافة والفن وما أشبه من أدوات أيديولوجية من أجل وضع الأسس في وعي الناس للمواطنة القومية الإقليمية.
بالطبع تشكل أنشطة الرياضة وعلى رأسها كرة القدم أحد المداخل الهامة لتحشيد "الأمة" وراء الفريق القومي هنا أو هناك. وهذه الطريقة من أنجح الطرق في بناء أسطورة الأمة بحكم انشغال الشباب كونيا بهذه الظواهر التي تشكل أحد أنماط "البزنس" الرأسمالي الكبرى إضافة إلى دورها حتى هناك في تنفيذ أدوار ايديولوجية كثيرة.
عندما كنت أمشي في شوارع رام الله وهي تضج بالشبان الذين يتحدثون بتهيج كامل عن مباراة ريال مدريد وبرشلونة كان ينتابني إحساس بالرعب من قدرة هذه اللعبة على مجانسة العقل وخلق الأساطير الانتمائية المتعددة لديهم بما في ذلك الانتماء القومي بطبيعة الحال عندما يتعلق الأمر بالمنتخب القومي في تصفيات القارة أو في كأس العالم. ترى كيف سيكون هياج الشبان فيما لو كان منتخب فلسطين ينافس بجدية في كأس العالم أو بطولة آسيا؟ من هنا تنفق الدول العربية الثرية بسخاء على هذه اللعبة ويرعاها مباشرة أشخاص كبار من الأسر الحاكمة.
وبشيء من التبسيط المخل نقول: إن فوز السعودية أو مصر أو المغرب بكأس العالم سيعطي شرعية للنظام قد تشكل سبباً كافياً لكبح جماح أي حراك ثوري مدة طويلة من الزمن.

وفي هذا السياق لم أتفاجأ أبداً عندما وجدت مقالة لتيري إيجلتون يصف فيها كرة القدم بالأفيون. يبدو أننا جميعاً نستعير المفردة التي استعملها كارل ماركس في سياق مشابه من أجل وصف الدور الخطير الذي تؤديه كرة القدم في تكريس الهيمنة الطبقية، وتعميم ظاهرة الإنسان الممتثل الساذج الذي يقوم بإزاحة الصراع من حيزه الفعلي إلى حيز متخيل: من حيز السياسة أو النضال المطلبي الاجتماعي/الاقتصادي إلى حيز التنفيس بصراع كرة القدم الوهمي ضد الأعداء الوهميين. ولكي لا يظن بعض الأصدقاء أننا نتحدث فقط عن الأعداء الوهميين ل "منتخبنا" القومي/الإقليمي، فإننا نذكر الجميع بأن معظم عشاق كرة القدم يفرحون بالانتصار الوهمي لفريقهم برشلونة على عدوهم ريال مدريد أو العكس. يمكن لغزة أن تتعرض للقصف بوحشية بالتزامن مع بث مباراة "كلاسيكو" في الميادين العامة في رام الله ونابلس والخليل ...الخ. في الأوضاع العادية لن يتنبه معظم الناس إلى قصف غزة لأن هناك صراعاً ":أهم وأشد" هو صراع الكلاسيكو "الحاسم" والخطير.
هل يجهل أحد الدور الوظيفي الهام الذي يضطلع به الصراع "السياسي" الوهمي بين عشاق الوحدات وعشاق الفيصلي؟ بالطبع لا يجهل أحد من سكان الأردن أن الاصطفاف في مباراة بين الوحدات والفيصلي هو اصطفاف سياسي وليس رياضياً على الإطلاق. ولكن ما يجهله أنصار الفريقين هو أن ذلك الاصطفاف ضار بإقليم الأردن، وقضية فلسطين، وقضية الأمة العربية كلها. ونظن أن ذلك ليس في حاجة إلى توضيح تفصيلي بالنظر إلى الإزاحات التي يقوم بها هذا الاصطفاف، وكذلك التنفيس السياسي الذي يقوم به لمشاعر محتقنة كان من الممكن أن تؤدي دوراً ثورياً في صناعة التاريخ المحلي أو القومي في منطقتنا.
تشكل كرة القدم طريقة ساحرة لاحتواء تصاعد المد الجماهيري في نطاق الصراع الاجتماعي/الاقتصادي وصولاً إلى تسيسه التام، وتحوله إلى أداة للتغيير الثوري. كما تشكل اللعبة وسيلة رائعة لتكريس الدولة/الأمة بما في ذلك في الأحوال التي لا يرغب فيها "التاريخ التقدمي" بذلك، من قبيل حالات مثل فلسطين والأردن وقطر وجمهورية الصحراء وحتى دول مثل لبنان أو مصر أو سوريا. كرة القدم أداة طيعة وملائمة جداً لخلق أمة في خورفكان أو غزة أو جزر القمر، أنى شئتم. ومثلما يقول إيغلتون فإنه لم يتم اختراع طريقة فذة لتشويش رؤية الناس وإزاحة عيونهم عن الهم السياسي/الاقتصادي مثل كرة القدم التي قد تكون أمضى سلاح متوافر حتى اللحظة من أجل كبح جماح النهوض الثوري أو الاشتراكي.
تعرفون أن المجتمع الرأسمالي المعاصر قد حرم الإنسان من فرصة التواصل الأصيل مع إخوته البشر واعتقله منفرداً في شقته الصغيرة أو في جهازه المحمول أو في وظيفته الممتدة طوال الوقت غالباً متسمراً أمام جهاز. لقد أصبح الكائن االبشري مهدداً تماماً بضياع المعنى وفقدان القدرة على التواصل والإحباط والعزلة ...الخ. ولا بد أن كرة القدم هي سياق رائع للتضامن والحماسة والمشاعر الجمعية التي تضع الفرد في لحمة نادرة مع الآخرين. فقط يمكن للحس الديني الأصولي على طريقة داعش أن يضاهي هذا الإحساس. بالطبع هناك اختلاف شكلي واضح بين كرة القدم الحضارية الجميلة التي تتلقى الترويج والمساندة من أجهزة الرأسمالية العملاقة، وبين داعش التي تصنف في دائرة الجنون حتى من قبل من مولها وسلحها ودربها.
تلعب كرة القدم نفسياً على ورقة البطولة التي تسري في دماء البشر. ويتحول بيليه الفاسد والمرتشي، ومارودنا عبد المخدرات وميسي سارق الضريبة ....الخ إلى معبودات نصف إلهية أو أكثر. في اللحظة الراهنة هناك بطل أسطوري متوج اسمه محمد صلاح يتفوق دون شك على جمال عبد الناصر وأمل دنقل وسمير أمين وطه حسين ومن خارج مصر يسبق اسمه حسن نصر الله وفيروز ووديع حداد ومهدي عامل...الخ. ولا بد أن انتصارات صلاح تعني الجمهور المتحد من المحيط إلى الخليج أكثر بكثير من هموم اليمن وفلسطين أو هموم مصر الحقيقية التي يتم دفنها تحت طبقة رقيقة من سراب الانتصارات في كرة القدم حتى وإن قام صلاح بتحقيقها من خلال الدوري لإنجليزي بعيداً عن مصر وهمومها وترابها وبرها وبحرها.
لو فازت مصر بكأس العالم، لما كان ذلك مجرد إنجاز بريء لفريق كرة القدم المصري، وإنما هو حدث يوظف سياسياً من أجل تكريس هيمنة النظام وشرعيته. هل تذكرون كيف شارك رموز السياسة والاقتصاد الفلسطيني في "تتويج" محمد عساف ببطولة أراب آيدول؟ يحدث في حالة افتراض فوز مصر أو السعودية..الخ بكأس العالم شيء أضخم بكثير.
كرة القدم تسحر الجنسين، إذ يجمع اللاعبون قوة المصارع إلى جاذبية راقص الباليه. وتقدم كرة القدم لعشاقها الجمال، والدراما، والصراع، وروح الكرنفال، والتطهير الذي يشبه مشاهدة المأساة إضافة إلى الرموز الهائلة التي تشبه بعض الطقوس الدينية إذ تحدد اللعبة ما ترتديه، ومن تربطك به، وما النشيد الذي تغني به. وإلى جانب التلفزيون، تشكل كرة القدم الحل الأسمى لهذه المعضلة القديمة التي يواجهها زعماء المجتمع ونخبه: ما الذي يجب أن نفعله مع الرعاع عندما لا يكونون منشغلين مباشرة بالعمل من أجل لقمة العيش؟
منذ شهرين تقريباً توقفت ألاعيب كرة القدم تماماً. وعاش الناس فراغاً واضحاً من ناحية الاهتمامات الحماسية التي تنفس الضغوط وتسمح بتحقيق أفراح الانتصارات. لكن مزيجاً من الخوف والتضامن والبطولة حل محلها وتفوقت عليها. إنه مزيج كورونا الذي ينطبق عليه المثل العربي "رب ضارة نافعة" أكثر مما ينطبق على أي شر آخر.
هكذا وجدت الدولة الإقليمية فرصة لا تعوض من أجل رفع الراية الإقليمية في وجه كورونا. وفي هذا السياق كرست الدولة نفسها وأجهزتها من أجل حماية المواطن من خطر كورونا وتوحيد الأمة وراء القيادة الحكيمة الشجاعة من أجل الانتصار. انتصار الأمة الأردنية وخروجها مرفوعة الرأس من معركة كورونا. ولا بد أن تحشيد "الأمة" الإقليمية التي تحاول الدولة إنشاءها يتم بتكلفة قليلة ودون أي جنوح نحو التطرف أو معاداة أحد.
النغمة الوطنية الحماسية ذات الإيقاع المجلجل تحشد الألوية والفرق الرسمية والشعبية من أجل مواجهة فيروس كورونا. ويتم في كل مكان تشكيل القوى الشعبية ومغاوير المدن واللجان الشعبية التي تساند الدولة وتنسق معها من أجل مواجهة عدوان كورونا. ولا بد آناء الليل وأطراف النهار من التنويه بدور القيادة بمستوياتها المختلفة، مع التركيز ما أمكن على دور القائد الأب وصولاً إلى التغني بفخر واعتزاز مع شكر لله والأقدار أن كورونا الخبيث الخطير المدمر قد أتانا ونحن نتمتع بدولة قديرة وقائد شجاع ذكي يقود المعركة ضد الفيروس ويقف له بالمرصاد.
يترسخ في وعي المواطن على امتداد الساعة أن الانتصارات ضد كورونا هي انتصارات الدولة وأجهزتها الأمنية دون منازع. تنتشر القوات المسلحة بكماماتها وأسلحتها النارية في كل مكان لتحمي المواطن من هجوم كورونا. وتقوم الفضائيات بتذكير المواطن دون كلل أو ملل بأن الانتماء اليوم معناه تنفيذ أوامر الدولة والحكومة دون تردد أو تفكير أو إبطاء. بالطبع تأتي اللغة ذات الجرس العالي لتؤدي مهمتها.
يمكن لنا أن نبني قصورا وممالك وأمما ومصانع في اللغة عن طريق الخطبة والقصيدة والأهزوجة. وهكذا يتنافس العلماء والسياسيون ورجال الهندسة والطب جميعا على الجعجعة اللغوية التي تطرب السامع وتوهمه أن هناك حرباً ومعارك وإنجازات عن طريق استخدام اللغة الفصيحة التي تظل في العقل الباطن رديفاً لعنترة العبسي وخالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي وأيام الملاحم العظيمة.
ويمكن لنا أن نزعم أن الجماهير في الدول العربية الإقليمية "تحس" من داخلها لأول مرة بأن الدولة "تعرف" مصلحتنا أكثر منا، وأنها تحاول أن تحمينا من أنفسنا. ربما لأول مرة "يتسمر" الناس أمام أجهزة التلفاز من المحيط إلى الخليج في انتظار القادة الذين يطلون ليخبروها بمستجدات تقدم الوحش الذي تقف له الدولة والقائد بالمرصاد.
يتقمص الحاكم دور الساحر والبابا وهو يفيض على الناس بالأخبار والتوجيهات على السواء. والناس تتلقف بلهفة لا نظير لها الفيض الذي يصف الداء والدواء. نعمة كورونا تفوقت على أية نعمة أخرى من ناحية إعطاء الدولة المشروعية من غير حدود، وإضفاء مسحة من "القداسة" على دورها.
وتبدو القيادة السياسية والأجهزة الأمنية "الملاذ الأخير" لنا من أنفسنا. لذلك علينا أن نسلم أمرنا لها مثلما يحدث في عقد هوبز الاجتماعي الذي يضطر الناس فيه إلى تسليم الحكم للملك أو الدولة لأنهم لو تركوا لأنفسهم لاقتتلوا حد الفناء.
القيادة السياسية الآن هي التي تؤمن لنا خطط الوقاية والعلاج وهي التي ترشدنا/تجبرنا على سلوك الطريق القويم من أجل أن لا ندمر حياتنا. الدولة أيضاً وجهازها الأمني هي من يطبق القواعد طوعاً أو كرهاً، وذلك دون أن ننسى دورها البطولي –مثلما فعلت المخابرات الإسرائيلية- في تأمين مستلزمات مواجهة "الجائحة".
الدولة هي أبونا وكاهننا ومعلمنا وقاضينا مهما تفعل. وذلك لا علاقة له بشكل الفعل. مثلاً القيادة السياسية في السويد تقرر مواصلة الحياة الطبيعية. القيادة الصينية تقرر إغلاق أوهان وعزلها. أما القيادة الأمريكية فتتردد بين هذا وذاك. كل ذلك فعل صالح ورشيد ما دامت الدولة هي المخولة بالقرار والأفعال.
لكن الحق أن الدولة الإقليمة العربية وقيادتها الرشيدة كانت حاسمة في تبني النموذج الصيني القائم على الإغلاق والعزل لتستحق ثناء منظمة الصحة العالمية على أدائها الرائع. غني عن البيان أن الاقتصادات العربية الخالية من الصناعة والزراعة بدرجة كبيرة تسهل مهمة الدولة وقيادتها بشكل كبير.
لعل أهم ما يميز كورونا عن كرة القدم هو انغماس فئات الشعب كلها في هليلة المرض، بينما يقتصر هوس كرة القدم بدرجة كبيرة على الشبان الذكور. ونتوهم أن "الشعب" لم يستسلم لسلطته وقيادته وعسكره على هذا النطاق الواسع في أي وقت من الأوقات. من هنا نتوقع أن "غمة" كورونا وزوبعتها سوف تنجلي عن ارتفاع "منسوب" الانتماء القومي في الدول الإقليمية وتعزيز مشروعية الدولة وقبضتها إضافة إلى زيادة شعبية القيادات المختلفة من المحيط إلى الخليج. لكن ذلك بالطبع أمر يحتاج إلى بحوث مفصلة في الأقطار المختلفة عندما يصبح ذلك ممكناً.