البنك والأزمات الإقتصادية وكورونا


محمود فنون
2020 / 4 / 11 - 00:53     

البنوك هي أكبر متصرف بالسيولة النقدية بل أنها الضامن العام لمعظم المداولات النقدية اللازمة للعمليات الإقتصادية كلها التجارية والصناعية والزراعية وقطاع الخدمات . أي كل قطاع الإنتاج وقطاع التوزيع وقطاع الخدمات بما فيها النقل وكل جهاز الوساطات والضمانات والتامينات والمضاربات التجارية والأسهم والبورصة .. الخ
ومع أن البنوك هي قطاعات ريعية طفيلية تجني أرباحها من القطاعات الأخرى ومن المضاربة إلا انها غدت العمود الرئيسي الذي تستند إليه كل قطاعات الإقتصاد في مجالات الإنتاج والتوزيع والخدمات والضمانات .
فهي تمنح القروض الإستثمارية اللازمة وتضمن انتقال البضائع الداخلية والخارجية وتمول كل أشكال المشاريع الإقتصادية والخدمية بالظاهر وبالمخفي .
ومع البنوك ظهر العديد من الشركات المالية التي تعمل في مجالات التأمين بكل أشكاله ومجالات الرهن العقاري وتستحوذ على مبالغ مالية عالية تتشارك بها مع البنوك.
بدأت هذه الطاهرة بالوجود منذ القرن التاسع عشر وتعمق دورها فظهر ما يسمى بالرأس مال المالي والطغمة المالية التي تحولت خلال القرن العشرين إلى ظاهرة عملاقة تدير بيدها النسبة الكبرى من اقتصاديات الدول الرأسمالية مثل أمريكا ودول أوروبا واليابان ويتزعم هذه الطغم عائلات روتشيلد وروكفلر وبعدهما عائلة مورغان وعائلة بوش وعائلة دوبونت.
وهذه العائلات تدير كبريات البنوك العالمية وكبريات مصانع السلاح وكبريات مصانع الأدوية .
أزمة عام 2008م المستمرة
كي نرى دور البنوك كمؤسسات طفيلية ومؤسسات مهيمنة على قطاعات الإقتصاد وعلى الدولة العميقة دعونا نستذكر أزمة الرهن العراقي التي بدأت عام 2007 وتفجرت عام 2008م وظلت مستمرة باشكال متعددة حتى الآن عام 2021م
من المعلوم أن الأزمات العامة للنظام الأراسمالي دورية تنشأ كل فترة من الزمن وتبدأ بمرحلة الأزمة ـــ الركود ـــ الانتعاش ـــ الصعود ـــ أزمة جديدة.
وكانت أزمة 1929م هي أعمق أزمة اقتصادية هزت العالم الرأسمالي واستمرت فترة أطول من المعتاد ولم تصل مرحلة الصعود ونشبت خلالها الحرب العالمية الثانية عام 1939م حتى عام 1945م ليظهر عالم جديد وبتوازنات جديدة ومنظومات اقتصادية دولية جديدة عززت مرحلة الإمبريالية وأسست لمرحة جديدة في الإمبريالية هي ما تسمى مرحلة العولمة .
ومرت أزمات أخرى قبل تفجر أزمة الرهن العقاري المستمرة .
أزمة الرهن العقاري :
"هي أزمة مالية خطيرة ظهرت على السطح فجأة عام 2007 والتي فجرها في البداية تهافت البنوك على منح قروص عالية المخاطر، وبدأت الأزمة تكبر ككرة الثلج لتهدد قطاع العقارات في الولايات المتحدة ثم البنوك والأسواق المالية العالمية لتشكل تهديدا للاقتصاد المالي العالمي.
بدأت الفقاعة في عام 2004 عندما بدأت بنوك وول ستريت التجارية إقراض ذوي الدخل المحدود مبالغ باهظة من أجل شراء منازل و من ثم كانت البنوك الاستثمارية تقوم باقتراض مليارات الدولارات و تقوم بشراء العديد من هذه القروض العقارية من بنوك أخرى ثم تقوم بتوريق هذه القروض (اي جعلها اوراق مالية قابلة للتدوال داخل البورصة) فقامت بنوك الاستثمار بعد ذلك بتجميع هذه الاوراق المالية المدعومة برهونات العقارية في ما يسمي بـ CDO و هي عبارة عن تجميع هذه الاوراق المالية و بيعها لبنوك استثمارية أخرى و صناديق استثمار و تحوط و مستثمرين من جميع انحاء العالم و هي تباع اصلا على شكل شرائح متفاوتة المخاطر و بطبيعة الحال تكون البنوك الاستثمارية قد باعت هذه الاوراق المالية بأسعار اعلى بكثير من سعر الشراء ثم تقوم بسداد الديون و عمل ربح عالي جدا ثم يقوم المشترون بتأمين هذه الاوراق عن طريق ما يسمي ـ CDS و هي بوالص تأمين على هذه الاوراق في حال حصول تعثر او عسر مالي و هكذا دخلت شركات التأمين في هذه الفقاعة أيضا لكن عندما بدأ ذوي الدخل المحدود الإعسار قامت البنوك بأخذ المنازل لبيعها و هو ما خلق عرض للمنازل أعلى من الطلب فهوت اسعار المنازل و في بداية عام 2008 بدى واضحاً أن شيئاً ما سيصيب وول ستريت و في مارس كان بنك الاستثمار بير ستيرنز على شفى الهاوية فقام البنك العملاق جي بي مورغان بشراء المصرف المنكوب بـ دولارين للسهم رغم أن سعر السهم كان ثلاثين دولاراً في البورصة ..."ويكيبيديا
وعندما اهتزت البنوك وبدأت الإفلاسات قامت الدولة الأمريكية بتخصيص مليارات الدولارات لدعم البنوك وشركات التأمين لتلافي انهيار النظام المالي الأمريكي وكذلك فعلت الدول الأوروبية مع أن هذا لم يحل دون انهيارات واسعة وافلاسات وخسائر باهظة استفادت منها كبريات عائلات المال بحصولها على دعم الدولة وشراء الكثير من البنوك الخاسرة بأسعار رخيصة .
لم تتوقف مظاهر أزمة عام 2008 -2009 م حتى الأن .ولم تنجح الحروب الصغيرة المشتعلة والحروب التجارية مع الصين وروسيا وإيران وأشكال العقوبات عليها في الوصول إلى مرحلة الصعود وظل النظام الرأسمالي العالمي يتراوح ويبحث عن معالجات دون جدوى.
النفط والكورونا :
وجاءت أزمتي النفط والكورونا لتقولا كلمتيهما في سياق هذه الأزمة .
فانهيار أسعار النفط سيجعل انتاج النفط الصخري وغير الصخري في الولايات المتحدة خاسرا وهي بحاجة ماسة لتنفق المال اللازم لتمويل برامجها الداخلية والخارجية .فسعر النفط الصخري بأقل من خمسين دولار هو خسارة تقضي على القطاع بأكمله مما دفع امريكا للتحرك مع روسيا ودول الأوبك لخفض الإنتاج حفاظا على الأسعار وهذا واقع جديد وله تبعاته في العلاقات الدولية .
وإذا كانت أمريكا قد فرضت على جميع اتباعها وحلفائها ضخ مقادير هائلة من السيولة المالية لاقتصادها عام 2008م حماية لها من الإنهيار وما يعنيه انهيارها من تداعيات على مجمل النظام الراسمالي العالمي فإن كل المعالجات اليوم بما فيها طبع الدولار والإستحواذ على أموال النفط العربي بوسائل عدة ووضع الحواجز الجمركية وفرض مزيد من العقوبات على العديد من دول العالم وتقليص انتاج وبيع النفط الروسي والإيراني والتحكم بالنفط الفنزويلي كل هذا لم يخفف من تداعيات الأزمة .
وجاءت الكورونا لتقول كلمة أخرى:
فهي تدفع باتجاه ضعف ووقف عجلة الإنتاج في كبريات الدول الراسمالية – امريكا وفرنسا وبريطانيا وايطاليا واسبانيا والمانيا والحبل على الجرار .وتوجيه مقادير كبير – ستة تريليونات دولار في أمريكا منها أربعة لكبريات الشركات والبنوك واثنان لدعم القدرة الشرائية للمستهلكين المحليين .
إن تراجع الإنتاج يؤدي بشكل اوتوماتيكي إلى تراجع التوزيع وضعف القدرة الشرائية للطبقات الدنيا ويزيد عدد العاطلين عن العمل الذين يتلقون تعويضا عن البطالة – بلغت البطالة في أمريكا حتى الآن سبعة عشر مليون عامل والرقم مرشح لزيادة مضطردة -، العمال والموظفين وصغار المستثمرين وبالتالي عجزهم أيضا عن سداد القروض المستحقة وسيدفع إلى زيادة الإستيراد من الدول التي لا زالت قادرة على الإنتاج . أي ان امريكا مثلا ستضخ كميات كبيرة من سيولتها المالية للخارج للاستيراد وهو ما تفعله أصلا ولكن بشكل أكبر ولمجالات داخلية اضطرت لها .
يقول الخبراء إن الإقتصاد الأمريكي هو اقتصاد الريع الناتج عن المداولات النقدية والإستخراج حيث انتقلت نسبة مهمة الى الإنتاج في بلدان العمالة الرخيصة والأسعار الرخيصة وهذا ما يعرف بالشركات عابرات القارات التي يحاول حكم ترامب العمل على استردادها دون جدوى وبالتالي يشتري منتوجاتها من سوق أخرى أي توسع الإستيراد.
وفي أمريكا صراعات بين المتنفذين والمؤثرين في الدولة على نوع الإجراءات الواجب اتخاذها تجاه حرب كورونا . فإبقاء الحال على حاله قد يزيد من انتشار الوباء إلى درجات أخطر ،واتخاذ مزيد من إجراءات الحجر والإغلاق سيؤدي إلى تراجع عجلة الإنتاج في أقوى اقتصاد عالمي مدعوم بالنفوذ الدولي وطبع الدولارات والقوة العسكرية . وأمريكا ترى نفسها في وضع حرج فالوباء يتسع واجراءات الوقاية بطيئة.
ما هو المستقبل :
من الصعب القول أن حربا عالمية هي ضرورية من أجل إعادة تشكيل العالم لأنه من الصعب التحكم بمداياتها وبنوع الأسلحة التي يمكن استخدامها من قبل الدول ضد بعضها البعض ، ولكن كثيرا من المفاهيم الدولية سوف تتغير وتتحكم بها الدول الأقوى وبيوتات المال العالمي في الدول الغربية من جهة وجمهورية الصين الشعبية وروسيا من جهة أخرى.