كوفيد ١٩:  تهديد جدي لنمط حياة وسياسات             ام وخزة عميقة في فكر العولمة السائدة


ثائر سالم
2020 / 4 / 9 - 20:44     

إن أكبر مهدد لاستمرار سيطرة الإنسان على الأرض هو الفيروس».(١)
*جوشوا ليدربرج، عالم البيولوجيا الجزيئية
 
بشكل مفاجيء وسريع، داهم كوفيد ١٩ الحياة الانسانية ، وفتك بارواح الالاف. ورغم القدرات والخبرات العلمية والطبية الكبيرة التي بلغتها البشرية، والامكانات المالية الضخمة للدول المتقدمة، الا انها(باستثناء التجربة الصينية)، وبعض التجارب القليلة، عجزت معظم الدول، حتى الان، عن ايقاف زحف هذا الوباء او تصاعد وتيرته ، و عن ايجاد الرد الحاسم، على هذا التحدي الذي فرض نفسه عليها.
الا ان ذلك لا يعني، ان المعركة، على الصعيد العلمي، (بوصفه طريق واداة البشرية الحاسمة للانتصار في هذه المعركة) ، قد حسمت لصالح هذا الفيروس. فاخبار تجارب علاجات و(لقاحات ايضا) ، اثبتت فاعلية ما، في هذه المواجهة، هي في تزايد. وهي اخبار تبعث على الامل.
فالبشرية اليوم تستد الى رصيد ارضية علمية هامة، (معرفة وادوات كشف وعمل، وخبرة متراكمة في التعامل مع الفيروسات والاوبئة، والسلالات التاجية) ، ساهمت في سرعة معرفة التركيبة الجينية للفيروس واليات عمله،  والقدرة على التحكم به بدرجة معينة، عبر ادوية اثبتت فاعلية حتى الان في التجربة. بل وقد بدأ العمل بتجربة لقاحات واعدة، لايشك في قدرتها على حسم المعركة لصالح البقاء الانساني وقدراته العلمية اللامحدودة.
الا ان تجربة المواجهة مع هذا الفيروس،  اثبتت كما في تجارب مع فيروسات اخرى، انه لا يمكن التعامل مع الامر، بالبعد العلمي والطبي والوبائي فقط. فالنجاح في هذه المواجهة، يتطلب ايضا مراعاة، الابعاد الاجتماعية والاقتصادية، وانتهاج سياسات رعاية طبية واجتماعية وعلمية،  باولويات انسانية واقتصادية واجتماعية، عقلانية واخلاقية، تكون فيها اولوية الانسان وحياته وحقوقه، واضحة ومحسومة.

والمفارقة ان قدرات العلم على النجاح في هذه المواجهة مع الفيروس، على صعوبتها، تبدو جاهزة بدرجة اكبر واوضح، من جاهزية النظام  الدولي، السياسي والاقتصادي، للتعامل مع التداعيات ، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، التي خلفها هذا التحدي ويمكن ان يخلفها، على حياة الناس، والمجتمعات.
فالنجاح في المسار العلمي، بهذه القراءة و كما تشير، المعطيات الحالية، هو اسهل هذه المسارات واوضحها. كونه المنطقة التي تجتمع عندها، مصلحة ومصير الوجود الانساني.
فحتى الاطراف التي قد تتناقض مصالحها الضيقة او الانية، موضوعيا (اقتصاديا بالدرجة الاولى)، ولايمكنها التعامل، بشكل مطلق باولويات انسانية مجردة، باتت مصالحها الانانية هذه محكومة بسرعة النجاح في هذه المعركة، وبضرورة المساهمة في دعم البحوث والجهود العلمية ، من اجل عودة الحياة الانسانية، والاقتصادية الى ظروفها الطبيعية.
فمالم يخرج هذا الفيروس عن السيطرة، (حينها ستلتقي اولويات راس المال والسوق مع اولوية الحياة والبقاء)، ستبقى خطورة تقديم، اولويات السوق وشركات الدواء الاحتكارية( للانتاج والبحث)، هي مايمكن ان تعرقل هذا التقدم الطبي والبحثي، الممكن والمؤمل. (٢---)
وسياسات التاخر او التباطوء في اتخاذ اجراءات الوقاية والحظر، او التخفي وراء مفهوم مناعة القطيع(اللاانساني) ،( وهي حتى لو كانت كلمة حق، نخشى ان يراد بها باطل)، والعجز او التقصير في توفير منظومة الرعاية والعلاج، اللازمة، كانت كارثية على هذه الدول والمجتمعات. وقد دفع ثمنها بالاساس، كل الحلقات الاجتماعية الضعيفة في المجتمع. (كبار السن، اجراء العمل اليومي، الفقراء اللذين يعيشون بمناطق وظروف الاكتظاظ السكني (طبقات واعراق). دع عنك اوضاع الشعوب في بلدان التخوم والاطراف، الضعيفة القدرات والموارد الصحية والاقتصادية. فهذه البلدان ستتحمل على الاغلب، العبء الاكبر في هذه المواجهة. (٣---)
لقد عكست هذه السياسات ملمحا طبقيا وعرقيا، لا اخلاقيا واضحا، يصل في بعض تاويلاته، تسويقا لمالتوسية جديدة او مغلفة. وليس لدي شك ان مايقيد هذه الرؤى والاهداف، انما هي مصالح، نفس الطبقات التي تقف وراء، بقاء اقتصاد العولمة الظالمة، المتناقضة ، التي تختزل كل تناقضات راس المال، البنيوية ، الاساسية والثانوية، في مراكزه وتخومه ، والتي فرضتها مدرسة الليبرالية الجديدة على العالم،  وتدفع  دول التخوم التابعة والضعيفة التطور، العبء الاكبر من تداعيات العولمة وازماتها، الموضوعية والمفتعلة.
قالت كريستينا جورجيفا رئيسة صندوق النقد الدولي، قبل ايام، إن" أكثر من 90 دولة طلبت مساعدات مالية طارئة من صندوق النقد الدولي مع دخول العالم أزمة اقتصادية غير مسبوقة" .
وأضافت  أنه "لم يحدث في تاريخ صندوق النقد الدولي أن رأينا اقتصاد العالم يصاب بمثل هذه الحالة من الشلل".
وأكدت "نحن الآن في حالة ركود. إنه طريق أسوأ من الأزمة المالية العالمية".
والاستخلاص الذي تجد البشرية نفسها امامه اليوم، في هذا التحدي ، هو ذات التحديات  المشابهة، التي واجهتها بالامس. وهو ان الاخفاق في مواجهة هذه الجائحات، كان ولازال تعبيرا عن خلل سياسات. سياسات الرعاية الصحية والاجتماعية، والسياسات الاقتصادية، وسياسات العدالة الاجتماعية.
فالامراض والاوبئة، الجوع والفقر، الامية والتخلف، تفتك بملايين البشر سنويا. وضحاياها وضحايا الحروب والقمع والنهب والاستعباد، المكشوف والمستتر، هي جائحات اخرى، لازالت تهدد انسانية حياتنا، رغم انها طرحت نفسها على جدول عمل الانسانية، منذ زمن طويل.
ان ضحايا هذه الجائحات، ليس اقل من ضحايا كورونا(٤---). وهي لازالت تشكل تهديدا جديا اخلاقيا واقتصاديا لحياتنا المعاصرة. وكان يمكن للنجاح المبكر، في هذه الملفات ، وتعزيز الاستثمار في البحث العلمي والدواء والعلاج، وفي نظام رعاية صحية واجتماعية افضل ان يكون عاملا مخففا، لحجم التهديد الذي مثلته كورونا ، وعلى الاقل في سرعة الكشف عنه.
ولكنها كانت ولازالت ، اولويات سياسات دول وطبقات وفئات، تضع المكاسب او الخسائر الاقتصادية، اولوية تتقدم على قيمة الحياة الانسانية عموما وقيمة حياة الفرد.
ومع ذلك فان اسئلة كبرى، تتعلق بنمط العولمة و الحياة، والعلاقات الدولية ، واهمية الانفاق الاجتماعي والصحي الذي تقدمه الدولة ، ووظائف ودور الدولة  ومدى تدخلها، وتقليص الانفاق العسكري، وسياسات خلق الصراعات والحروب، اعادت الكورونا اليوم طرحها على جدول عمل الانسانية.
بل وضعت فكر وثقافة الليبرالية الجديدة ، وانسانيتها، واخلاقية نظامها الاقتصادي، على المحك.
فهل ستؤدي تطورات كوفيد ١---٩---، الى غلق كل  فرص العودة الى نمط حياتنا، وقواعد النظام الدولي الذي يحكمها؟ وتتمكن  لوحدها من انجاز ماعجز عن تحقيقه الانسان عبر نضاله  الاجتماعي.
وهل سيعيدنا  العلم، حينما يتحقق انتصاره على الوباء ، الى ذات المربع ام انه سيفتح امام الانسانية حتما  افق طريق جديد.
هذه الاسئلة وغيرها ستحيب عنها التطورات القادمة.


(١)يبلغ عدد الفيروسات على كوكب الأرض، أضعاف تعداد البشر، بينما يبلغ عدد مضادات الفيروسات الفعالة، حوالي 90 مضادًا فيروسيًا.
يمكن القول بأن مسيرة حياة الإنسان، تتلخص في حربه ضد الجراثيم، من بكتيريا، إلى فيروسات، وحتى الطفيليات والديدان.
وتعد الأمراض الفيروسية واحدة من أكثر أسباب الوفيات في العالم.
فعدوى الجزء السفلي من الجهاز التنفسي أودت بحياة 3.2 مليون شخص عالميًّا في عام 2015، وأودى فيروس نقص المناعة المكتسبة (AIDS) في العام ذاته بحياة 1.1 مليون شخص، ويسجل «الالتهاب الكبدي الوبائي ج»، أو ما يعرف بفيروس سي، أكثر من 185 مليون إصابة عالمية، أي أكثر من 3% من سكان العالم، أما فيروس كورونا المستجد؛ فسجَّل حتى وقت كتابة هذا التقرير، أكثر من مليون وربع إصابة.
وبسبب الأمراض المُعدية (الإسهال والملاريا والحصبة وأمراض الجهاز التنفسي الحادة) يموت (11) مليون طفل دون سن الخامسة كل عام في البلدان النامية.
تختلف التواريخ الواردة عن سنة اكتشاف أول الفيروسات في العالم، لكن الأكيد أن أول فيروس مكتشف كان يحمل اسم «فيروس تبرقش التبغ» الذي يصيب النباتات. فالفيروس لا يصيب البشر فقط؛ لكنه يصيب البكتيريا، ويصيب الحيوانات أيضًا. والفيروس هو أصغر كائن حي يمكن أن يصيبك، وهو لا يقدر على التكاثر إلا داخل عائل وسيط، والذي يمكن أن يكون أي كائن حي. لا يمتلك الفيروس خلايا، لذلك هناك جدل في عدِّه كائنًا حيًّا. ويحتوي الفيروس على مادة وراثية في صورة «DNA» أو «RNA»، ويحتوي عادةً على غلاف من البروتين، كي يحمي المادة الوراثية. بمجرد دخول الفيروس للخلية المستهدفة؛ يحقن مادته الوراثية داخل الخلايا بعدة طرق، ويحولها لمصنع إنتاج فيروسات جديدة، بدلًا من إنجاز مهامها كخلايا طبيعية.

(٢)يقدر حجم سوق الأمصال واللقاحات ب 35 مليار دولار أميركي، هذا يمثل نسبة 2 إلى 3 في المئة من إجمالي سوق الدواء العالمي البالغ قيمته 1.2 تريليون دولار". ورغم أن تصنيع اللقاحات قد يكون استثمارا غير جذاب للكثير من الشركات، لكنه يمثل استفادة كبرى للاقتصاد على المدى الطويل.
وعلى سبيل المثال، فإن كل دولاراً أنفق على التطعيم ضد مرض شلل الأطفال والحصبة، ساهم في توفير نحو 20 دولارا من التكاليف والأعباء الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة، وقد يصل التوفير من حملة مكافحة شلل الأطفال إلى 50 مليار دولار عالميا في الفترة من 1988 حتى 2035.

(٣)كريستينا رئيسة صندوف النقد الدولي، تقدم دليلا اخر لحقيقة آثار العولمة في بلدان التخوم، حينما تخبرنا الى ان" الدول الصاعدة اقتصاديا والنامية هى الأشد تضررا من تداعيات أزمة كورونا، حيث خرج منها نحو 90 مليار دولار خلال الفترة الأخيرة. وتشير إلى أن صندوق النقد سيستخدم مخصصات الطوارئ البالغة قيمتها تريليون دولار لمساعدة الاقتصادات الأشد معاناة.. بما في ذلك الدول الإفريقية، التي ستواجه الاختيار بين إطعام شعوبها أو مكافحة الفيروس.
(٤)بسبب الجوع وحده يموت (9) ملايين من البشر كل عام، من بينهم (6) ملايين طفل في دون سن الخامسة. وبسبب الأمراض المُعدية (الإسهال والملاريا والحصبة وأمراض الجهاز التنفسي الحادة) يموت (11) مليون طفل دون سن الخامسة كل عام في البلدان النامية.
وفي الدول العشر الأكثر تضرّراً من الحروب بسبب الجوع أو قلّة النظافة أو الافتقار إلى الرعاية الصحيّة أو الحرمان من المعونة (العراق وأفغانستان وجنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى والكونغو الديموقراطية وسوريا واليمن ومالي ونيجيريا والصومال)، مات ما لا يقلّ عن (870) ألف رضيع وطفل بين عامي (2013 – 2017).