الواجب الوجود بغيره


نعيم إيليا
2020 / 4 / 7 - 15:01     

في البدء كان البحثُ عن حقيقةِ الوجود، عن حقيقة الكون، عن أصله، عن مادته الأولى من حيث إنه شيء موجود مدرك بالحواس. لقد كان البحث – ولمَّا يزل - عن أصله الماديّ، ممَّ يتكوَّن؟ شُغلَ الإنسان الشاغل، حتى ليصدق كلَّ الصدق رأيُ من يرى أن البحث عنه كان على مدى الأعصار مقدَّماً على سائر موضوعات البحث لديه؛ وما ذلك إلا لأنَّ عقل الإنسان، على وجه التعميم، مطبوعٌ على تقصِّي حقائق الأشياء بشغف وفضول، ولا سيما تلك الأشياء الخفية المجهولة المحفوفة بالألغاز والأسرار.
وهل ثمة شيء أخفى على مدارك الإنسان، وأحفُّ بالألغاز والأسرار من الكون ذاته؟
على أنَّ البحث في حقيقة الكون، ما انحصر يوماً ضمن حدود معرفة مادته الأولى التي يتكوَّن منها ويتشكَّل. وإنما هو، أي البحث، منذ ابتداء أمره ما ونى لحظة واحدة عن اختراق حدود هذه المعرفة وتجاوزها إلى إدراك مصدره الذي انبثق عنه أو صدر، وذلك بالسؤال الملحف المشهور:
من أين جاء الكون؟
أو منذا الذي أنشأه؟
أو عن أيّ شيء قد صدر؟
وحريٌّ بالإشارة ههنا، أن السؤال: (من أين جاء الكون) وما قد يرادفه في معناه دون لفظه من أسئلة، يستدعي بالتلازم سؤالاً آخر يعقبه دون تراخٍ، هو: ما هي الغاية من مجيء الكون؟
ما هي الغاية من (وجوده) بلفظ آخر أكثر دقة؟
وإنه لسؤال قد حقَّ له أن يُوصَف بأنه مربكٌ مذهل ليس ينشرح له عقلٌ أقلّ انشراح! … سؤالٌ غير قابل ألبتة لأن يُجاب عنه بجواب صادق يهدّئ خاطر سائله أو سامعه… سؤالٌ يستعصي جوابه على كل عقل يحاول أن يتدبر أمره صغيراً كان هذا العقلُ أو كبيراً كما يستعصي عليه المحال. ولأنه كذلك كالمحال عصيّ على الأفهام مستغلق لا يفضي في كل خطرة منه عليها إلى إجابة صادقة يُركن إليها .. مقنعةٍ يوثق بها؛ فلا غرو أن يتنكَّب عنه الفلاسفةُ، ولا غرو أيضاً أن يتنكب عنه العلماءُ متحاشين الخوض فيه إلا عرضاً ولماماً.
بيد أن السؤال من أين جاء الكون - بخلاف سؤال الغاية - لن يتنكب عنه عقلٌ من العقول.. لن يتحاشاه واحد منها بالرغم من أنه مثلُ سؤال الغاية ما كان قطُّ هيِّناً ميسوراً مأمون العثار.
وقد يفسَّر هذا التمايز بين السؤالين في هذه النقطة، بأنَّ جواب سؤال الغاية ربما كان رِدْفاً لجواب السؤال (من أين جاء الكون) فيكون من ذلك أنه إذا عُلِم من أين جاء الكون، عُلم بالتبعية والترادف لماذا جاء الكون، شأنه كشأن سؤال الحياة إذا علم كيف نشأت أو علم مصدرُها من أين جاءت علم اليقين، فلربما يعلم لماذا نشأت.
ولقد تعددت الآراء التي تجرّدت للإجابة عن السؤال من أين جاء الكون: فمنها أولاً أن خالقاً أبدعه من عدم بعد أنْ لم يكن.
ومنها ثانياً أنه صدر عن عقل محض صدوراً غير متأخر عنه في الزمان.
ومنها ثالثاً أنه انبثق (انفجر) من اللا شيء في زمان مقدَّر أو محسوب بعلوم الرياضة.
ومنها رابعاً أنه قديمٌ قد كان ولم يزل كائناً كما قد كان، أو كان قديماً في مادته محدَثاً في نظامه وترتيب عناصره وأجزائه.
فأما الرأي في قدمه بلا علة أو في قدم مادته دون نظامه وترتيب عناصره وأجزائه، فقولُ كثيرٍ من الفلاسفة الماديين وقولُ من سبقهم من فلاسفة اليونان، وهو قول نفر من العلماء المعاصرين أيضاً وهم قليل. وأما الرأي في مجيئه من لاشيء، فقولُ نفر آخر من علماء الفلك والفيزياء الكونية. وأما الرأي في صدوره عن عقل محض، فرأي من تابع نظرية الفيض لأفلوطين من الفلاسفة، ومن تابعها منهم ولكنْ على أنها من وضع المعلم الأول (أرسطوطاليس) وأشهر هؤلاء اثنان هما الفارابي الملقب بالمعلم الثاني، ثم تلميذه ابن سينا الملقب بالشيخ الرئيس، ولقب هذين الحكيمين يظهر مكانة كل منهما في عالم الفكر والحكمة. فأما الرأي في مجيئه إلى الوجود بإرادة خالق مبدع، فرأي الفلاسفة الإلهيين (اللاهوتيين) وأصحابِ العقائد الدينية على تنوعها.
ولسائلٍ أن يسأل: فأيُّ رأي من هذه الآراء – عمرَ الله - هو الرأي الحق الصائب الذي يمكن أن يتَّسع له العقل دون سواه، وأن يحتمل ثقلَه الباهظ؟ فإن لكل رأي من هذه الآراء، كما لا يخفى ذلك على النابه اليقظ، عِظَماً يضيق به العقلُ مهما يتسع... ثقلاً ينوء بحمله على ما ينطوي عليه من قوة ومراس وليونة، بل ربما ينكفئ العقل على وجهه تحت بهظ هذا السؤال.

ألعله الرأي الذي يرى أن العالم مخلوقٌ في الزمان من عدم بإرادة خالق ذي قدرة مطلقة؟
ولكن هذا الرأي تعرقله عراقيلُ جمَّة أظهرُها مسألة العدم؛ فإن العدم أمرٌ يعجز حتى الخيال عن أن يتصور له كنهاً وماهية. وتعرقله أيضاً مسألةُ الحركة؛ وذلك أن الخالق إذا كان تحرَّك لخلق الكون في لحظة متأخرة من الزمان، فما هو الشيء أو الأمر الذي حرَّكه إلى خلقه في هذه اللحظة دون غيرها من لحظات الزمان؟ لماذا اختار الخالق أن يتحرك لخلقه في عين هذه اللحظة؟ كما تعرقله أيضاً مسألة المأربة أو الحائجة، فإن عملية الخلق تستبطن معنى الحائجة، فإذا كان الخالق كاملاً، فما أحوجه إلى أن يوجد الكونَ، وهو مستغنٍ عنه بكماله؟
وغير ذلك من أمثال هذه العراقيل المنطقية مما تناوله ابن سينا وعالجه بإسهاب ولا سيما في الإلهيات من مؤلفه الضخم (الشفاء 1). وابن سينا على غرار من تقدمه من مفكري اليونان، لم يتقبل فكرة الخلق من العدم في زمان متأخر. لقد رفضها عقله كما رفضها عقل الفارابي من قبله، واستعاض عنها بفكرة الخلق ولكن بالفيض والصدور المباشر غير المتأخر زمانياً عن إنية أو ذات الأول الواجب الوجود. فالعالم عند ابن سينا قديم في الأزل قدمَ الأول، وإن تأخر عنه في الرتبة.
والشاهد على ذلك ما أورده في المقالة التاسعة من الإلهيات من حجج وأدلة منطقية تفسد في رأيه فكرةَ خلق العالم من العدم، وتفنّدها:
((فقد ظهر ظهوراً واضحاً أن الحركة لا تحدث بعد ما لم تكن إلا لحادث، وذلك الحادث لا يحدث إلا بحركة مماسة لهذه الحركة، ولا تبالى أي حادث كان ذلك الحادث: كان قصداً من الفاعل، أو إرادة، أو علماً، أو آلة، أو طبعاً، أو حصول وقت أوفق للعمل دون وقت، أو حصول تهيؤ أو استعداد من القابل لم يكن، أو وصول من المؤثر لم يكن؛ فإنه كيف كان، فحدوثه متعلق بالحركة لا يمكن غير هذا.
ولنرجع إلى التفصيل فنقول: إن كانت العلة الفاعلية والقابلية موجودتي الذات ولا فعل ولا انفعال بينهما ، فيحتاج إلى وقوع نسبة بينهما توجب الفعل والانفعال.
أما من جهة الفاعل، فمثل إرادة موجبة للفعل، أو طبيعة موجبة للفعل، أو آلة، أو زمان. وأما من جهة القابل، فمثل استعداد لم يكن: أو من جهتيهما جميعاً مثل وصول أحدهما إلى الآخر. وقد وضح أن جميع هذا بحركة ما.
وأما إن كان الفاعل موجوداً ولم يكن قابل ألبتة، فهذا محال: أما أولاً؛ فلأن القابل كما بينا لا يحدث إلا بحركة أو اتصال فيكون قبل الحركة حركة.
وأما ثانيا؛ فإنه لا يمكن أن يحدث ما لم يتقدمه وجود القابل، وهو المادة، فيكون قد كان القابل حتى حدث القابل. وأما إن وضع أن القابل موجود والفاعل ليس بموجود ، فالفاعل يحدث ويلزم أن يكون حدوثه بعلة ذات حركة على ما وصفناه.
وأيضاً مبدأ الكل ذات واجبة الوجود، وواجب الوجود واجب ما يوجد عنه، وإلا فله حال لم يكن فليس واجب الوجود من جميع جهاته. فإن وضعت الحال الحادثة لا في ذاته، بل خارجة عن ذاته كما يضع بعضهم الإرادة، فالكلام على حدوث الإرادة عنها ثابت، هل هو بإرادة أو طبع، أو لأمر آخر أي أمر كان؟ ومهما وضع أمر حدث لم يكن ؛ فإما أن يوضع حادثاً في ذاته، وإما غير حادث في ذاته ، بل على أنه شيء مباين لذاته، فيكون الكلام ثابتاً . وإن حدث في ذاته، كان ذاته متغيراً، وقد بُيِّن أن واجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع جهاته.
وأيضاً إذا كان هو عند حدوث المباينات عنه كما كان قبل حدوثها، ولم يعرض ألبتة شيء لم يكن، وكان الأمر على ما كان ولا يوجد عنه شيء يجب أن يوجد بل يكون الحال والأمر على ما كان.
فلا بد من مميز لوجوب الوجود عنه، وترجيح للوجود عنه بحادث متوسط لم يكن حين كان الترجيح للعدم عنه، وكان التعطل عن الفعل حاله، وليس هذا أمراً خارجاً عنه؛ فإنا نتكلم في حدوث الحادث عنه بلا واسطة أمر يحدث فيحدث به الثاني، كما يقولون في الإرادة والمراد.
والعقل الصريح الذي لم يكدر يشهد أن الذات إذا كانت من جميع جهاتها كما كانت، وكان لا يوجد عنها فيما قبل شيء، وهي الآن كذلك، فالآن أيضاً لا يوجد عنها شيء. فإذا صار الآن يوجد عنها شيء، فقد حدث في الذات قصد وإرادة، أو طبع، أو قدرة وتمكن، أو شيء مما يشبه هذا لم يكن. ومن أنكر هذا ، فقد فارق مقتضى عقله لساناً ويعود إليه ضميراً؛ فإن الممكن أن يوجد وأن لا يوجد، لا يخرج إلى الفعل ولا يترجح له أن يوجد إلا بسبب؛ وإذ كانت هذه الذات التي للعلة كما كانت ولا تترجح ، ولا يجب عنها أن هذا الترجيح، ولا داعي ولا مصلحة ولا غير ذلك، فلا بد من حادث موجب للترجيح في هذه الذات إن كانت هي العلة الفاعلية، وإلا كانت نسبتها إلى ذلك الممكن على ما كان قبل، ولا تحدث لها نسبة أخرى ؛ فيكون الأمر بحاله ، ويكون الإمكان إمكاناً صرفاً بحاله.
وأيضاً ، إذا بان أن الحادث لا يحدث إلا لحدوث حال في المبدأ؛ فلا يخلو إما أن يكون حدوث ما يحدث عن الأول بالطبع، أو بعرض فيه عن غير الإرادة أو بالإرادة ؛ إذ ليس بقسري ولا اتفاقي. فإن كان بالطبع، فقد تغير الطبع، أو كان بالعرض فقد تغير العرض. وإن كان بالإرادة، فلنترك أنها حدثت فيه أو مباينة له ، بل نقول: إما أن يكون المراد نفس الإيجاد، أو غرضاً، ومنفعة بعده، فإن كان المراد نفس الإيجاد لذاته فلم لم يوجد قبل؟ أتراه استصلحه الآن ؟ أو حدث وقته ؟ أو قدر عليه الآن؟ ولا معنى فيما يقوله القائل: إن هذا السؤال باطل؛ لأن السؤال في كل وقت عائد، بل هذا سؤال حق لأنه في كل وقت عائد ولازم وإن كان لغرض ومنفعة، فمعلوم أن الذي هو للشيء بحيث كونه ولا كونه بمنزلة فليس لغرض، والذي هو للشيء بحيث كونه أولى فهو نافع؛ والحق الأول كامل الذات لا ينتفع بش. وأيضاً فإن الأول بماذا سبق أفعاله الحادثة؟ أبذاته؟ ام بالزمان؟ فإن كان بذاته فقط مثل الواحد للاثنين – وإن كانا معاً - وحركة المتحرك – بأن يتحرك بحركة ما يتحرك عنه وإن كانا معاً - فيجب لأن يكونا كلاهما محدثين: الأول القديم، والأفعال الكائنة عنه وإن كان قد سبق لا بذاته فقط بل بذاته والزمان بأن كان وحده ولا عالم ولا حركة.
ولا شك أن لفظة "كان" تدل على أمر مضى وليس الآن، وخصوصاً ويعقبه قولك ثم، فقد كان كون قد مضى قبل أن خلق الخلق، وذلك الكون هو متناه ، فقد كان إذن زمان قبل الحركة والزمان ؛ لأن الماضي إما بذاته وهو الزمان، وإما بالزمان وهو الحركة وما فيها وما معها؛ فقد بان لك هذا.
فإن لم يسبق بأمر هو ماض للوقت الأول من حدوث الخلق فهو حادث مع حدوثه، وكيف لا يكون سبق على أوضاعهم بأمر ما للوقت الأول من الخلقة ، وقد كان ولا خلق، وكان وخلق؟ وليس " كان ولا خلق" ثابتاً عند كونه " كان وخلق" ولا " كونه قبل الخلق" ثابت " مع كونه مع الخلق" وليس " كان ولا خلق" نفس وجوده وحده ؛ فإن ذاته حاصلة بعد الخلق ، ولا " كان ولا خلق" هو وجوده مع عدم الخلق بلا شيء ثالث؛ فإن وجود ذاته حاصل بعد الخلق، وعدم الخلق موصوف بأنه قد كان وليس الآن. … وهؤلاء المعطلة الذين عطلوا الله عن جوده لا يخلو: إما أن يسلموا أن الله كان قادراً قبل أن يخلق جسماً ذا حركات بقدر أوقات وأزمنة تنتهي إلى وقت خلق العالم، أو يبقى مع خلق العالم ويكون له إلى وقت خلق العالم أوقات وأزمنة محدودة، أو لم يكن للخالق أن يبتدئ الخلق إلا حين ابتدأ.
وهذا القسم الثاني يوجب انتقال الخالق من العجز إلى القدرة، أو انتقال المخلوقات من الامتناع إلى الإمكان بلا علة… )).

أم لعله الرأي القائلُ بأن الكون قديم قد فاض منذ الأزل عن العقل الأول واجب الوجود، وهو رأي القائلين بمذهب الفيض والفارابي واحد منهم وكذا ابن سينا كما تبين؟
((والأول هو الذي عنه وجد. ومتى وُجد للأول الوجود الذي هو له، لزم ضرورة أن يوجد عنه سائر الموجودات التي وجودُها لا بإرادة الإنسان واختياره، على ما هي عليه من الوجود الذي بعضه مشاهد بالحس وبعضه معلوم بالبرهان. ووجود ما يوجد عنه إنما هو على جهة فيض وجوده لوجود شيء آخر، وعلى أن وجود غيره فائض عن وجوده هو. فعلى هذه الجهة لا يكون وجود ما يوجد عنه سبباً له بوجه من الوجوه، ولا على أنه غاية لوجود الأول، كما يكون وجود الابن – من جهة ما هو ابن – غاية لوجود الأبوين – من جهة ما هما أبوان. يعني أن الوجود الذي يوجد عنه (لا) يفيده كمالاً، كما يكون لنا ذلك عن جل الأشياء التي تكون منا، مثل أنا بإعطائنا المال لغيرنا نستفيد من غيرنا كرامة أو لذة أو غير ذلك من الخيرات، حتى تكون تلك فاعلة فيه كمالاً ما. 2)).
ولكن كيف للعقل هنا أن يفسر تفسيراً مقبولاً قولَ الفارابي بفيضِ كل الوجود عن الأول الواحد الواجب الوجود؟ كيف له أن يفسر لماذا يلزم من وجود الأول أن تفيض عنه الموجوداتُ كلها؟ ما الذي يجعل الأول مصدراً يجب أن تفيض عنه كل الموجودات؟
ألأنَّ الأول لأنه واجب الوجود وشبيه بالنور أو ما شاكل النور، اقتضى وجوبُ وجودِه على هذه الصورة، أن يفيض عنه فيضٌ كالنور أو ما شاكل النور؟ كيف ذلك؟!
أم لأن الأول كامل فكماله إذن سبب في أن يفيض عنه الكل؟
ولكنْ: ما الكمال؟ وكيف إذا كان واجب الوجود كاملاً، كان فيض الموجودات عنه واجباً ضرورياً؟
أم لأنَّ الأول خير مطلق، ولأنه خير مطلق، إنما يصدر عنه الكل؟
ولكنْ: ما الخير؟ ما الخير بالإضافة إلى الأول؟ وكيف إذا كان الأول خيراً مطلقاً حقاً، لزم أن يفيض عن خيريته كل ما هو كائن موجود؟
بل ما الخير بالإضافة إلى الموجودات ذاتها؟
ما هو هذا الخير الذي تناله الموجودات من وجودها أو من إيجادها؟ لماذا يكون الوجود بالإضافة إلى الموجودات خيراً لها من العدم؟ أوَيضيرُ الموجوداتِ ألا تكون موجودة؟ إذن فأي ضرر يمكن أن يلحق بما هو معدوم لا وجود له؟
وهكذا… فما لنظرية الفيض أن تقدم إجابات مقنعة عن كل هذه التساؤلات المحرجة.
الأول، الفيض، الوجود بعقوله ونفوسه وأفلاكه ومادته، الكمال، الخير… الخ إن كل هذه الأشياء والمعاني والألفاظ في فلسفة الفيض، لا تستطيع أن تفسر كيف تفيض الموجودات عن الأول، ولماذا يجب أن تفيض عنه. إنها ليست أكثر من لغو ميتافيزيكي في مقهى على رصيف اللامعقول، إنها الميتافيزيقا هذه التي هي في رأي (كانط) "معان جوفاء مقطوعة الصلة بالتجربة 3".
أضف إلى ما سبق من الاعتراضات على هذا الرأي، أن ما يفيض عن شيء ما، يكون بالتجربة عينَ هذا الشيء. فما يفيض عن النور نور، وما يفيض عن الماء لا يكون زيتاً، ولا يكون خلاً، ولا يكون خشباً، بل يكون ماء. فيلزم من ذلك أن تكون كلُّ الموجودات (العقول، والأنفس، والأفلاك، والمادة) التي فاضت عن الأول، هي عين الأول. وهذا مبدأ وحدة الوجود، ولكن الفارابي ومعه ابن سينا لا يقرّانه. فابن سينا في المقالة الثامنة في الفصل الخامس منها من كتاب الشفاء، يؤكد أن الأول لا شريك له:
„ فالأول لا شريك له… فإن كل شيء منه وليس هو مشاركاً لما منه، وهو مبدأ كل شيء وليس هو شيئاً من الأشياء بعده.“
أي أن الأول مباين للكل الواجب الوجود بغيره. ولكن إن لم يكن الكل أو (الواجب الوجود بغيره، بتعبير ابن سينا) هو عين الأول الواجبِ الوجود بذاته وإنيته، فما معنى أنه صدر عنه؟ وما معنى أنه "كان وخلق" ؟ وما معنى أنه " كان ولا خلق" وهو الرأي الذي رفضه ابن سينا لأنه يضع بين الأول والكل زماناً معدوماً لم يكنِ الكل فيه موجوداً أو مخلوقاً؟
وإذا كان الوجود فاض عن الأول فيضاً منذ الأزل، أفلا يترتب على ذلك أنه قديم كالأول؟ بلى! فلما كان قديماً، فكيف لا يكون مشاركاً للأول في وجوده القديم؟

أم هو الرأي القائل بأنه محدَث انبثق فجأة من لا شيء في زمان معلوم يُقدَّر بما يقرب من 14 مليار سنة؟
ومرَّ أنه رأي نفر من علماء الرياضيات وفيزياء الكون، أمثال: (ستيفن هاوكينج 4) و (لورنس كراوس 5). فلو كان هذا الرأي هو الرأي الحق، فأنى للعقل أن يحتمل ثقله الباهظ حتى لو كان حقاً؟ أنى له أن يصدق رأي هؤلاء الزاعمين أن العالم جاء من لا شيء؟ واللاشيء هو العدم، والعدم ، ما هو العدم؟ أهو شيء في مستطاع العقل أن يتصوره؟ كلا!... إنه أمر – كما سبق - بلا كنه ولا جوهر، إنه العدم! وهل يظهر شيء إلى الوجود من العدم؟ من ليس؟ أيأتي شيء من لا شيء؟! كيف؟ فإن كان ذلك ممكن التحقّق، فلمَ لا يكون ممكن التحقق أيضاً أن يستخرج المرء من جيبه الفارغ تماماً من جميع العملات خمسين دولاراً؟
ربما كان قياس نظرية مجيء الكون من اللا شيء على مثال الجيب الفارغ يخرج منه خمسون دولاراً لم يكن لها وجود فيه قط، غير مقبول، وربما كانت نظرية مجيء الكون من اللا شيء صحيحة – على الأقل بما هي عملية رياضية، أو نظرية فيزيائية خارج التجريب - ولكن العقل، حتى لو قيل إن العقل ليس مقياس كل شيء، كيف له أن يستوعب أنها صحيحة قبل أن يثبت له بالتجربة العلمية أن شيئاً يمكن أن يأتي من لا شيء؟

أما أخيراً فهل الرأي الحق هو الرأي القائل بأن الكون قديم قد كان ولم يزل كائناً، وسيظل كائناً رغم ما يشهده من تحولات دورية رهيبة، ورغم ما يطرأ على بنيته وصورته من تغيرات جسيمة فوق التصور؟
لكي يكون هذا الرأي هو الرأي الصائب الحق، فلا بد له من نقض النظرية الرياضية - الفيزيائية التي تزعم أن الكون جاء من الليس من اللا شيء..
لا بد له من إثبات أن شيئاً لا يأتي إلا من شيء.

---------------------------
(1) الشفاء، الإلهيات تحقيق الأب قنواتي، والأستاذ سعيد زايد.
(2) كتاب أهل المدينة الفاضلة، تحقيق وتقديم الدكتور ألبير نادر.
(3) كانط، يوسف كرم ، تاريخ الفلسفة الحديثة
(4)Stephen Hawking https://www.youtube.com/watch?time_continue=2&v=FJ88kC2Nx8M
(5)  Lawrence Krauss Ein Universum aus Nichts