الماركسية و-علم الاقتصاد العصبي!- 4


طلال الربيعي
2020 / 4 / 4 - 03:00     

كما ذكرت من قبل ان الاقتصاد العصبي ينصاع لهرمية مصطنعة للعلوم حيث تكون ما يسمى "العلوم الصلدة" في القمة و"العلوم الناعمة" في القاعدة, اي ان العلوم الصلدة هي التي تتحكم في العلوم الناعمة وبمكن اختزال الثانية الى الاولى, كما حاول البعض في ما يسمى الفيزياوية النفسية. الهدف هو رفع علم النفس,علم ناعم بعرف هذه الهرمية المنطقية الخاطئة والمضللة, الى علم صلد او الى اكثر العلوم صلادة, علم الفبزياء. ورائد هذا العلم هو Gustav Theodor Fechner وكما يتجسد في كتابه
Elemente der Psychophysik (Elements of Psychophysics) , الصادر في عام 1860
Psychophysics
https://www.britannica.com/science/psychophysics

نفس الكلام ينطبق لحد كبير على علم الاقتصاد العصبي الذي يهدف الى رفع مصداقيته وقدرته على تأسيس علم اقتصاد عقلاني -لا عاطفي, لا مزاجي, لا نزواتي! وليس هنلك من عقلانية اكثر من عقلانية المنطق الذي يتكلم بلغة الرياضيات (اكثر علماء المنطق هم علماء رياضيات ايضا مثل برتراند رسل وفيتجنشتاين وغيرهما). ولكننا نعلم ان منطق الرياضات منطق مجرد ولا علاقة له بالعالم الامبريقي. هل يستطيع احد اثبات اللانهاية امبريقيا-برغم لربما امكانية اثباتها رياضياتيا. وهذا لا يعني مطلقا ان منطق الرياضيات المجرد لا علاقة له بحياتنا اليومية. اني اعتقد العكس تماما, فمنطق الرياضيات, اذا سمحنا لانفسنا بالقول, هو الميتافيزيقيا التي تحدد فيزيائيتنا-فيزيولوجيتنا-عواطفنا ومشاعرنا والآيدلوجية التي نعتنقها بعلم او بدونه, بهذا الشكل او ذاك وبقدر صغير او كبير. انها هي التي تحملنا على تحديد تحيزاتنا واختياراتنا, مثلا, لنظام يكرس مفاهيم الربح وتكديس الثروة مقابل نظام يهدف, على النقيض, الى تعزيز روح التضامن والتكافل او منطق الوباء الشامل, منطق الكورونا كمثال, الذي يشكل استجابة عقلانية, لكنها لا رياضياتية, لانقاذ البشرية, والتي تعني كمحصل تراجع الاقتصاد والربح الى خلفية الاحداث. فنظام يخضع لمنطق الرياضيات المجرد في اللانهاية سيدفع اتباعه الى اللهاث وراء المال وتكريسه, وهذ الجهد يجب ان يستمر الى ما لانهاية, ولا ينتهي بنهاية حياة الفرد, حيث ان الجهد سيستمر على يد افراد العائلة او عموم النظام لأن الافراد هم قطع شطرنج يتبادلون الادوار في لعبة جمع المال. وجمع المال لا نهاية له لأن الاعداد لا نهاية لها رياضياتيا وان كان الاثبات الامبريقي صعب المنال او غير ممكن. والرأسمالي انسان رياضياتي- وليس انسانا امبريقيا-عاطفيا, وهذا هو ليس خيارا بل ضرورة لانه اذا اصبح انسانا امبريقيا فانه سيخاطر بخسارة ثروته وافلاسه. انه انسان يعتقد ان الرياضيات هي علم السحر وعلم السعادة في آن واحد! انها لغة الآلهة والعلم والموسيقى. انها لغة اللغات وليس هنالك من لغة تعلو عليها. الرأسمالي لا يسعى الى تحقيق اثبات امبريقيي للانهاية, لانهاية الاعداد ولا نهاية النقود كالطريق الملكي الذي يفضي الى السعادة. ما يهمه هو ان يسعى الى تحقيق حلمه في السعادة ولكنها المتباعدة دوما وبلا نهاية. وهنا يتشكل التناقض القاتل, فمهما سعى الى تحقيق هدفه في السعادة بالمفهوم الرياضياتي كلما فشل. ولتحقيق حلمه في السعادة فهو مستعد لارتكاب كل الآثام والخطايا التي ستزيد من ثرواته ولكنها لا تقربه من اللانهاية قيد شعرة. لذا ان بحوث دانييل كانيمان التي اشرت اليها سابقا في ان اغلبية البشر لا تهدف الى تحقيق السعادة ستصبح مفهومة, لكون السعي هو فعل عبثي وليس فعلا بطوليا كما في حالة سيزيف, بعرف البرت كومو, ولانهائية محاولاته لرفع الصخرة الى قمة الجبل وابقائها هناك. ولكنه لا يستسلم ابدا.
Camus: The Myth of Sisyphus
https://www2.hawaii.edu/~freeman/courses/phil360/16.%20Myth%20of%20Sisyphus.pdf

ان تكديس الرأسمالي للاموال هو حقيقة امبريقية بالطبع. انها حقيقة ارتفاع رصيده في البنك وتكاثر ممتلكاته التي تشكل حقيقة ايجابية بعرف الفلسفة الوضعية (فلسفة العلم وفلسفة الحياة اليومية السائدة حاليا) وكونه يسير في الطريق الصحيح (طريق الشعب , كما يسميه بعض الشيوعيين السائرين). ولكن هذه الحقيقة الامبريقية لا يمكن ان تقربه خطوة واحدة نحو اللانهاية. والرغبة بعرف التحليل النفسي لا نهائية. الرغبة بمفهومها الرأسمالي, التي تمت عولمتها, لا نهائية ولا يمكن اشباعها. انها امبريالية العقول اكثر منها امبريالية الاوطان. والماركسية (بصيغة ماركس وليس بصيغتها الستالينية المبتذلة) تهدف الى احلال الانسان الامبريقي محل الانسان الرياضياتي-واطروحتي ماركس الخامسة والسادسة حول فيورباخ هما دليل, او بتعبير آخر, انها تهدف الى تبديد الوهم القاتل الذي يعرقل سعي الفرد الى السعادة. اني لا اقدم هنا تعريفا للسعادة, ليس لان ليس هنالك من تعريف. التعاريف متوفرة في الادبيات النفسية وبغزارة لا مثيل لها وغزارتها دليل على انها في سباق ماراثوني يفشل فيه الكل في الوصول الى النهاية لانه, ببساطة, ليس هنالك من نهاية.

السؤال هو: هل تكفل الشيوعية لنا تحقيق السعادة دوما وللكل؟ اني لا ادري! ولكني لا ادري ايضا هل ان سؤالي سؤال صحيح او ان اعادة صياغته ستضمن اجابة اكثر اقناعا. واذا زعم البعض ان الدليل ينبغي ان يكون امبريقيا فاني ساتفق معهم. ولكن الانسان الامبريقي لا يمكن ان يكون قد تتحق بخلق السوبرمان بعرف نيتشه او الانسان الفولاذي بعرف اتباع ستالين. لا السوبرمان ولا الانسان الفولاذي هما من البشر, بقدر فهمي للبشر, او هذا ما افترضه والكل يستطيع ان يسعى الى دحض فرضيتي! قد يستطيع الفرد ان يخادع نفسه والآخرين ولكنه بذلك سيتخلى عن الاصالة ويصبح مسخا كافكاويا او خلافه. والشيوعية قد تزيل او تقلل من قدرة عوامل الاغتراب في خلق الشقاء البشري, ولكن هل ستكون قادرة على الغاءها كلها. الكورونا هي المعادل الوبائي لما يسميه المحلل النفسي لاكان بالواقع الذي لا يمكن التعبير عنه باللغة. اني اتمنى, لربما بسبب انحيازي الى الشيوعية, ان تكون الشيوعية الوصفة السحرية او اللاسحرية لتحقيق السعادة. ولكني لا اعرف هل اني ساخلط هنا بين الشيوعية والشعبوية. من يصنع الشيوعية في المحصل الاخير هم بشر وفهمهم للشيوعية متفاوت بقدر تفاوت اجنداتهم. واعتقد انه من العبث الاعتقاد ان البروليتاريا لذاتها هي مجموعة متجانسة كليا وكأنها كلونات, لان فهم كهذا سيحيل البروليتاريا بذاتها او لذاتها, حتى بشكلها الجنيني او كأمكانية, الى قطيع من البشر (وتحالف الحزب الشيوعي العراقي في سائرون مع قوى اسلاموية-فاشية هو مثال صارخ على ذلك), قطيع بحاجة الى عراب او زعيم ( صدام, العم سام-بريمر, مقتدى الصدر!) ليقوده لكونه, حسب تعريف القطيع, لا عقل له, والزعيم قد يكون ايضا, على صعيد العالم, ستالين او بول بوت. انها شعبوية كالاطروحة النقيض للشيوعية. والبروليتاريا التي هي صنو للقطيع هي ايضا بروليتاريا مغتربة. انها مسخ. انها تحل الاغتراب الستاليني او البول بوتي او الاسلاموي فاشي- محل الاغتراب الرأسمالي, او انها قد تكون صنوا له. الشيوعية, اوبالاحرى قطاعات مبتذلة عديدة منها, تزعم ان هدف الشيوعية هو تحقيق السعادة ودستور الولايات المتحدة ينص ايضا على هدفه في تحقيق سعادة الشعب الامريكي. من نصدق اذن؟ بقدر تعلق الامر بي, اني لا اعتقد ان الشيوعية (بمفهومها المنفعي-الانتاجي) ولا الرأسمالية قادرتان على تحقيق السعادة لانهما كلاهما يحيلان الانسان الامبريقي الى انسان رياضياتي وتصبح اللانهاية في الانتاج وتحقيق الارباح صنوا للسعادة. الفرد الرياضياتي يحقق سعادته على حساب اصالته وعلى حساب بيئته التي ثرواتها حقيقة امبريقية وليست رياضية لكونها متناهية وليست لا متناهية. ويمكننا القول ان الفرد الرياضياتي هو انسان البعد الواحد بعرف الفيلسوف الماركسي هربرت ماركوز
One-Dimensional Man
Herbert Marcus
https://libcom.org/files/Marcuse,%20H%20-%20One-Dimensional%20Man,%202nd%20edn.%20(Routledge,
%202002).pdf
يتبع