فو-كورونا-يا وبداية التريخ...


عبد الرحيم التوراني
2020 / 4 / 3 - 20:48     

... وأعرف جيدا أن مثلي بعدد سكان الأرض. أو كما كنا نقول: "منك الصين الشعبية". وها هو العدم أطل برأسه من تلك البلاد الآهلة بالبشر وبالأساطير، منذ كونفشيوس إلى ماو تسي تونغ وقد صار الصينيون يعاملونه كولي من أولياء الله الصالحين في الأرض وكنبي مرسل.
***
هي لحظة غامضة من لحظات البعث والقيامة المنفلتة.
الآن، يمكن لكل واحد منا فوق الكوكب الصخري، أن يحسب نفسه من العالم، لقد عاد العالم إلى نفسه وأبديته الأولى. رمى بتصنيفات فانية أنتجها نظام ملوث بالكبرياء والغطرسة والتبجح. ولم نعد نحن سكان العالم الثالث، وحيدين في ذيل الرتبة وآخر المراتب. فكل البشر يركبون الساعة سفينة آيلة للغرق والحطام، سفينة تصارع الأمواج العاتية لبحر كورونا المليء بسلاسل عالية من جبال الجليد المضللة، سلاسل "الأيسبرغ" غير المرئية.
***
عدنا جميعا إلى نقطة الصفر والبداية. بعدما تفرقت السبل بين بني البشر، منذ زمن غابر لما اكتشف الجد "إنسان نياندرتال" المشي على قدميه، لم يصدق الاكتشاف.. أحنى رأسه الضخم، ثم رفعه صوب السماء الملونة بالزرقة وبالسحب والأطيار.. جلس ووقف.. ثم جلس ووقف. بقي يلعب هذه اللعبة كرياضي يتهيأ لدخول الميدان، حتى اقتربت الشمس من مغيبها. حتى نال منه التعب، غطى عينيه بيديه وبكى تلك الليله حتى بلل صخرة الكهف. ياه.. صار الإنسان منتصبا !!!
وفي اليوم التالي، وقف على تلة جبل شاهقة وصاح صيحته المدوية، صيحة ظلت تخترق أغوار الأزمنة السحيقة. ومن يومها لم يتوقف الإنسان عن إنتاج الحروب والأحقاد والضغائن والاستغلال، وتمرن على صلوات الإرهاب والعنصرية، متماديا في انتهاك حقوق أخيه الإنسان، غير مبال بتدمير البيئة والطبيعة، بعدما تفنن في تقنية صنع أسلحة الإبادة والدمار الشامل، وقد تعلم مبكرا من طائر الغراب الأسود كيف يحفر المقابر لضحاياه من إخوته القتلى على يديه.
***
أقف على البلكون، أتفرج على الشارع الطويل وقد خلا من المارة والسيارات. أتطلع إلى الشرفات والنوافذ المقابلة، لا أحد سواي يتلصص على هِدْأة السكان الهادئين، بعضم نيام والساعة تقترب من منتصف النهار، فلماذا تريد إزعاجهم وإيقاظهم، وقد سهروا البارحة أمام التلفزيون وشاشات الأيفون والسامسونغ، يدارون رعبا غير مرئي، لا يدارى بسهولة. أفظع من كل مشاهد الرعب التي يتفرجون عليها في الأفلام.
***
أعيش حالات يعيشها ملايين الملايين مثلي في العالم الآن، وسط انتشار فيروس كورونا الخطير، فأصاب بحيرة، عندما يهاجمني الشك بل الشكوك، في أن الكورونا تطوف بي، كل واحد منا صار كعبتها المباركة.
كلما أحسست بصداع خفيف في الرأس أتساءل: هل هو الفيروس اللعين؟
أركض ركضا إلى المرآة لأتخلص من ذقن أسبوعين زاد زغبه الرمادي سنوات ثقيلة إلى عمري. ما أن أفرح قليلا باستعادة نضارة وجهي حتى تصفعني عيناي. عيني اليمنى ترى انعكاس عيني اليسرى في المرآة وقد شابتها حمرة.. حمرة كنت لم أكن أبالي بها من قبل، فأنا واحد من الملايين المصابين بالضغط. الآن صارت حمرة العين لا تجد تفسيرا لدي إلا ضمن أعراض كورونا..
أضحك. تعجبني ضحكتي وأنا أتفرج عليها في المرآة، أعيدها مثل ممثل روسي قدير رأيته في اليوتيوب يؤدي دور "يوميات مجنون" لنيقولاي غوغول.
أضحك أكثر عندما أستعيد نكتة ذاك الذي سأل صاحبه هل بعينه احمرارـ فرد عليه الصاحب: نعم.. قليلا. فعاد ليسأله: وهل بهما ألم.. هل توجعني؟!! أما أنا فسأسال صاحبي: هل بعيني كورونا؟؟ فالفيروس اللعين يسافر من دون جواز أو وثيقة سفر عبر العينين والأنف والفم، يربأ بنفسه أن يتسلل عبر ثقبتي الأذنين. لكونه فيروسا أعمى، فهو يخبط خبط عشواء من يصبه يميته. ولكونه فاقدا لحاسة الشم ولحاسة النطق والذوق. أما حاسة السمع فلا علم له بوجودها ربما، لذلك لا يلج من الأذن.

وما به هذا العُطاس المتكرر؟ صرت أعطس أكثر من اللزوم، لا أعرف شيئا بشأن كم يلزم الإنسان من عطسة في اليوم أو في الأسبوع أو الشهر؟ وكم من مئات الآلاف من الجراثيم المعدية التي خرجت من فمي أثناء هذا العُطَاس المتكرر؟ أتحسس الكمامة في عنقي، كمن يتحسس مسدسا، وأستدرك لأني نسيت أني لوحدي ولا من يعديه عطس ولا من يمرضون.
هل هو تنبيه؟ أني أثناء العطس موضوع نميمة من الأصدقاء، كما تقول خرافات بقايا الثقافة الوثنية في المكسيك وإيطاليا وأوروبا الشرقية؟
وجاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن الرسول إذا عطس الواحد فعلى الذي بجانبه أن يقول له "يرحمك الله". وبما أني وحدي الذي بجانبي: فسأرد علي: يرحمني الله وأستعد للقائه بعدما التقت بي كورونا.

لكن من أين يجيء هذا التعب الذي أحس به؟ أمن ساعات الجلوس أمام الحاسوب؟ الجلسة غير السليمة تقوس الظهر وتؤلمه وتسبب الإرهاق.
أليس هذا التعب من علامات الإنذار المبكر للإصابة بكوفيد 19؟
أما عن السعال، فقد صار يخيفني، كيف أبتعد عني حتى لا يصلني رذاذ سعالي؟ كوني في فترة حجر صحي، فقد اجتهدت وتمرنت على كبت السعال الذي يلم بي أحيانا، أصبحت أسعل في داخلي، في سري، سعالا ذهنيا. من غير رذاذ مرشح لنقل العدوى، ولا يحس به غيري، ونسيت أن أجرب الاتصال بالطبيب لأسأله هل من ضرر في كبت السعال.
***
أعاصير وعواصف من الخوف اتحدت تحت مسمى واحد: إعصار كوفيد 19، واجتاحت العالم. وأرهبت وقضت المضاجع، بل زعزعت عقيدة كثير من المؤمنين. فهل من نبي جديد، نبي يأتي بمعجزة خارقة، ويأتي للعالم بالدواء الشافي من الفيروس الخطير، فنؤمن به ونقاتل معه.
كان المسيح يشفي العميان ويحيي الموتى، ولم نسأل أين راح من أحياهم من أولئك الموتى.. هل عادوا إلى الموت بعد نهاية صلاحية المعجزة؟!
***
لم يعد العالم ينتظر معجزة كلامية، بل معجزة توقف هذا الدجال الترامب الذي يعمل جاهدا على سرقة معجزة النبي نوح، وهي السفينة، يفكر في تطويرها والإقلاع بها مع من يختارهم صوب كوكب آخر ومجرة جديدة خالية من الفيروسات. هناك سيدعو من أنقذهم إلى دين جديد، محققا سبقا جديدا لم يسبقه إليه أحد، أول نبي خارج منطقة الشرق الأوسط، فالله لم يرسل أنبياء من الأرجنتين والشيلي والمكسيك وكندا والولايات المتحدة الأمريكية، وها هو النبي المرابي يكتنز الكمامات والسوائل التعقيم، منافسا فرنسا على صفقة كمامات كانت ستشتريها من الصين.
فرنسا التي طلع على أحد قنواتها بالأمس طبيبان يقترحان تجريب اللقاح إذا اكتشف على أبناء إفريقيا، افريقيا التي ظهر بها الإنسان أول مرة، كما أثبتت ذلك حفريات الأركيولوجيا، فاتهما القول بأن هذا استحقاق وتكريم، وليست عنصرية فرنسية لئيمة اشد فتكا من عنصرية ماري لوبين ووالدها السيء الذكر.
***
بعد كورونا سنبدأ من العصر الحجري، نسبة إلى الحجر الصحي، وإلى الحجر الصخري أيضا. أليس من الصدف الغريبة أن يكون الحجر الكبير يطلق عليه لفظ "الكور"؟!
**
أخطأ فرانسيس فوكوياما، ذلك الياباني المتأمرك، عندما خرج على الناس منذرا ب"نهاية التاريخ"، أما كان من الأجدر أن يكلمنا مبشرا عن "بداية التاريخ"؟!
كورونا تكتب تاريخا جديدا للبشر وللعالم.. و"أنت منذ اليوم" أصبحت كائنا آخر.. كائن يحاول التعايش مع الفيروس كورونا إذا لم يتمكن من القضاء عليه نهائيا. والأخبار تقول إنه بعد موسم الصيف سيعود لزيارتنا مع الدخول السياسي والدخول الثقافي وباقي "الدخولات".. وليس غيره من يسطر الحدث السياسي والثقافي والوجوي الأكبر قبل أي دخول أو خروج.. إما هو أو نحن. "أنت تكون أو لا تكون"، تلك هي القضية.
فابق في بيتك ولا تخرج... لتبقى وتكون...