رأس المال: الفصل الثاني عشر ج 1 (45)


كارل ماركس
2020 / 4 / 2 - 23:00     


تقسيم العمل والمانيفاكتورة
أولا – الأصل المزدوج للمانيفاکتورة
يكتسب التعاون المرتكز إلى تقسيم العمل شكله الكلاسيكي في المانيفاکتورة. وهو يسود كشكل مميز لعملية الإنتاج الرأسمالي في مرحلة المانيفاکتورة بالمعنى الدقيق للكلمة، وهي تمتد على وجه التقريب من أواسط القرن السادس عشر حتى الثلث الأخير من القرن الثامن عشر.

تنشأ المانيفاکتورة بطريقتين:

في الحالة الأولى يحتشد عمال حرف مستقلة متنوعة، في ورشة عمل واحدة بإمرة رأسمالي واحد، حيث يجب أن يمر المنتوج من خلال أياديهم بشكل متعاقب حتى يكتمل. فمثلا، كانت العربة في البداية منتوجاً كلياً لعدد كبير من الحرفيين المستقلين: صانع العجلات، والسراج، والخياط، وصانع الأنفال، والنحاس، والخراط، والمقضب، والزجاج، والملمع، والدهان، والمذهب، وإلخ. لكن مانیفاكتورة العربات تحشد جميع هؤلاء الحرفيين المختلفين في مبنى واحد، حيث يعملون في وقت واحد من يد إلى يد. وبديهي أنه لا يمكن تذهيب عربة قبل صنعها. ولكن عندما تنتج عربات كثيرة في وقت واحد يمكن لقسم منها أن يمر بصورة مستمرة بالتذهيب، بينما يجتاز القسم الآخر طوراً سابقاً من عملية الإنتاج. لا نزال هنا على أرضية التعاون البسيط الذي يجد مادته من البشر والأشياء جاهزة. إلا أنه سرعان ما يطرأ تغير جوهري. وإذ ينهمك الخياط، أو صانع الأقفال، أو النحاس، إلخ، في صنع العربات لا غير، فإنه يفقد رويداً رويداً العادة والقدرة على أداء حرفته القديمة بكامل تشعباتها. ومن جهة أخرى يكتسب نشاطه الأحادي أنسب شكل لهذا المجال الضيق. في البداية ظهرت مانیفاكتورة العربات بوصفها تجميعاً لحرف مستقلة. ثم أخذ إنتاج العربات ينقسم بالتدريج إلى عمليات تفصيلية مختلفة تتبلور كل واحدة منها كوظيفة مكرسة لعامل واحد، ويتحقق إجمالي هذه العمليات باتحاد هؤلاء العمال الجزئيين. وعلى هذا النحو بالذات نشأت مانيفاکتورة الأقمشة وجملة كاملة من المانيفاکتورات الأخرى من خلال تجميع حِرَف شتّی تحت سيطرة رأسمال واحد (1).

ولكن المانيفاکتورة تنشأ أيضا بطريقة معاكسة. فكثرة من الحرفيين الذين ينفذون عملا واحداً بعينه أو عملاً من النوع نفسه، مثل صانعي الورق أو حروف الطباعة أو الإبر، إنما يستخدمهم الرأسمالي نفسه في آن واحد في ورشة عمل واحدة. هذا هو التعاون في أبسط أشكاله. فكل حرفي من هؤلاء يصنع (لربما بمعونة متدرب أو اثنين) السلعة بكاملها، أي أنه يؤدي على التعاقب شتى العمليات الضرورية لإنجازها. وعليه، فهو يواصل العمل بأسلوب حرفته القديمة. ولكن الظروف الخارجية سرعان ما تؤدي إلى حصول تغير نتيجة تركيز العمال في المكان الواحد نفسه وتزامن أعمالهم. فمثلا، قد يتطلب تسليم كمية كبيرة من السلع الناجزة في أجل معين، عندئذ يجري تقسيم العمل. وبدلا من أن يؤدي كل حرفي معين مختلف العمليات على التوالي، يجري فصل هذه العمليات وعزلها ورصفها جوار بعضها بعضا في المكان، وتسند كل عملية إلى حرفي مفرد، وتجري سائر العمليات في آن واحد على يد العاملين المتعاونين. ويتكرر هذا

التقسيم العرضي، فتظهر أفضلياته ويتحجر شيئا فشيئا في تقسيم عمل منهجي. وتتحول [358] السلعة من منتوج فردي لحرفي مستقل، ينفذ عمليات كثيرة، إلى منتوج اجتماعي لحرفيين موحدين لا ينفّذ أياً منهم على الدوام سوى عملية جزئية واحدة لا غير. وإن العمليات المندمجة في سلسلة الأعمال المتعاقبة التي يقوم بها المعلم الألماني في نقابة حرفة إنتاج الورق، تتجزأ في مانيفاکتورة الورق الهولندية إلى عمليات منفصلة جزئياً متجاورة تنفذها كثرة من العمال المتعاونين. إن صانع الإبر في النقابة الحرفية المغلقة في نورنبرغ قد وضع حجر الأساس لمانيفاکتورة الإبر الإنكليزية. وبينما ينفذ كل حرفي في نورنبرغ عمليات قد تفوق العشرين على التوالي، نجد في المانيفاکتورة الإنكليزية عشرين حرفياً متجاورين، ينفذ كل منهم عملية واحدة من هذه العمليات العشرين، وتستمر تجزئة هذه العمليات وعزلها وفصلها اعتمادا على التجربة لتغدو وظائف محصورة بعمال فرادی.

وهكذا فإن طريقة نشوء المانيفاکتورة وتشكلها من الحرفة ذو طابع مزدوج. فهي تنشأ من جهة، من تجميع حرف، متنوعة، مستقلة، تفقد هذا الاستقلال وتغدو أحادية الاختصاص إلى درجة أنها تؤلف عمليات جزئية تكمل بعضها بعضا في عملية إنتاج سلعة واحدة بعينها. وتنشأ المانيفاکتورة، من جهة أخرى، من تعاون حرفيين من حرفة واحدة معينة، فتقسم هذه الحرفة الفردية إلى عمليات متمایزة مختلفة، وتعزل هذه الأخيرة وتجعلها مستقلة حتى تغدو وظيفة محددة لعامل متميز. وعليه فإما أن المانيفاکتورة تقحم تقسيم العمل في عملية الإنتاج أو تطور هذا التقسيم، من جهة، أو أنها تجمع حرفاً يدوية كانت منفصلة سابقاً، من جهة أخرى. ولكن مهما تكن نقطة الانطلاق فإن شكلها النهائي واحد: آلية إنتاج أعضاؤها من البشر.

وابتغاء فهم تقسيم العمل في المانيفاکتورة على نحو دقيق فمن الضروري أن نتذكر النقاط التالية: ابتداء أن تجزئة عملية الإنتاج إلى أطوارها المتميزة تتطابق، هنا، تماما مع تفكك النشاط الحرفي إلى عملياته الجزئية المختلفة. وسواء كانت العملية معقدة أم بسيطة، فإن تنفيذها يحتفظ بطابعه الحرفي ويتوقف بالتالي على قوة وبراعة وسرعة كل عامل وثقته بنفسه، وعلى مهارته في استعمال أدواته. وتبقى الحرفة هي القاعدة. ولكن هذه القاعدة التكنيكية ضيقة، وهي تنفي إمكانية التجزئة العلمية الدقيقة لعملية الإنتاج، لأن كل عملية جزئية يمر المنتوج بها يجب أن تنفذ كعمل حرفي جزئي. وبما أن المهارة تبقى على هذا النحو أساس عملية الإنتاج، فإن كل عامل يرتبط بوظيفة جزئية حصرية، وتتحول قوة عمله إلى جهاز عضوي حي دائم لهذه الوظيفة الجزئية. وأخيراً، فإن تقسيم العمل هذا هو نوع خاص من التعاون، والكثير من مزاياه إنما ينجم عن الجوهر العام للتعاون لا عن هذا الشكل الخاص منه.

_________

(1) بغية ضرب أحدث مثال على هذه الطريقة في نشوء المانيفاکتورة نورد المقتطف التالي. إن غزل ونسج الحرير في ليون ونیم “صنعة أبوية (بطريركية) بالكامل، فهي تستخدم الكثير من النساء والأطفال، ولكن من دون أن تستنفدهم وتهلكهم؛ بل تبقيهم في وديانهم الرائعة – دروم وفار وایزیر وفوکلوز – لتربية دود القز وفض شرانقه؛ ولا تتخذ هذه الصنعة طابع إنتاج مصنعي. لكن مبدأ تقسيم العمل يكتسي طابعاً خاصاً … حتى يتواءم مع المستوى الرفيع اللازم هنا. وحقاً ثمة من يقوم ببرم الخيوط او الفتل او الصباغة وتسوية العقد، واخيراً النسج ايضاً؛ ولكنهم لا يحتشدون في مبنى واحد ولا يتبعون لرب عمل واحد؛ بل إنهم جميعهم يعملون بصورة مستقلة”. (آ. بلانكي، دروس في الاقتصاد الصناعي، شرح آ. بلیز، باريس، 1838-1839، ص 79).
(A. Blanqui, Cours d’économie industrielle, Recueilli par A. Blaise, Paris, 1838-1839, p. 79).
حدثت تغيرات منذ أن كتب بلانکي ذلك، فقد جرى ربط شتى العمال المستقلين بالمصانع. [إضافة للطبعة الرابعة: منذ أن كتب ماركس ذلك توطد نول النسيج الآلي في هذه المصانع ليزيح النول اليدوي بسرعة. وإن لصناعة الحرير في كريفيلد حكاية كبرى ترويها عن ذلك. ف. إنجلز].