الحرية عند جان بول سارتر


سفيان بوزيد
2020 / 3 / 31 - 23:15     

الحرية عند جان بول سارتر حرية ملتزمة، بمعنى ان الفرد نفسه، اثناء قيامه بالفعل الحر، ملتحما بمواقف معينة، متلبساً بها، منخرطا فيها انخراطا، وقد قال سارتر بهذا الالتزام ليعارض الفلسفات العقلية المجردة التي تصورت الحرية على انها أدخل في باب الشعر او التفكير العقلي منها في باب الممارسة، فالحرية في هذه الفلسفات اذن تتم "قبل الفعل" الحر، وفي زمان سابق على ممارسته او تكون مجرد حالة شعورية مصاحبة للفعل، اما عند سارتر فالحرية ممارسة اولا وقبل كل شيء.

وهي لاتملك الا ان تكون ممارسة لانها لاتقوم الا من قلب المواقف ومن خلالها. وهي بهذا المعنى حرية ملتزمة. والخلاف بين سارتر في فهمه هذا للحرية وفهم اصحاب الفلسفات العقلية لها يرجع الى خلاف رئيسي في تأويل كل منهما لوظيفة الشعور او الوعي الانساني. فالشعور عند اصحاب هذه الفلسفات العقلية المثالية خالق لموضوعه ، او موجد له ، بل ان الانسان في بعض هذه الفلسفات يفكر وفقا لقوالب عقلية جاهزة ومقولات اولية، لابد وان تعد اعدادا قبل فعل التفكير، ووجود الشيء مووضع التفكير سيكون في رأي هؤلاء من صنع هذا القالب العقلي ومن تشكيلة. اما عند سارتر فالامر مختلف تماما ، اذ ان الشعور لايوجد شيئا، لانه يجد الشيء حاضرا امامه، ملتحما به، فهو اذن شعور واقعي ملتزم بموضوعه ملتحم به، على النحو الذي يلتزم فيه الحرية بالمواقف.
من اجل هذا ، فان الحرية كما يفهمها تسير في دروب غير مرسومة. انها حرية الاختيار ، والاختيار الحق كما يفهمه سارتر هو ذلك الذي يتم في لحظة خاطفة، دون رؤية او تدبير عقلي، ودون رسم للهدف او معرفة مسبقة بالغاية التي يرمي اليها الانسان من وراء الفعل، هنا وبوسعنا ان نقول انه اذا كان علماء الاخلاق قد قسموا المذاهب الاخلاقية الى قسمين :اخلاق المصدر (سواء كان هذا المصدر دينيا او عقليا) واخلاق الغاية (سواء كانت هذه الغاية هي اللذة او المنفعة او السعادة او المجتمع) فان سارتر قد اضاف الى هذا التقسيم الثنائي اخلاقا اخرى يسقط من حسابها المصدر والغاية على السواء ، فالاخلاق السارترية والوجودية بوجه عام ترفض رفضا باتا البحث عن مصدر للفعل الحر او للفعل الاخلاقي، وترفض كذلك البحث عن الغاية التي يرمي اليها، وما ذلك الا لانها اخلاق غير مرسومة ، الافعال الانسانية فيها ليس لها مبدأ تصدر عنه، وليس لها غاية تهدف اليها.
لكن سارتر لم يقل بأن الحرية تسير في دروب غير مرسومة ليعارض فقط هذه التيارات الفلسفية التي اشرنا اليها ، بل من اجل ان يناهض بصفة خاصة تلك الحرية الاخرى التي ينادي اصحابها بأن الحرية الفردية خاضعة لضرب اخر من الالتزام يختلف عن الالتزام الذي يتحدث عنه سارتر، واعني به التزام الفرد بالظروف الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية التي يجتازها المجتمع الذي يعيش فيه، من هذه المرحلة المعينة من تطوره. يعارض سارتر هذه الحرية القائمة على نظرة خاصة الى التاريخن رأى فيها الوجوديون بعامة ان القائلين بها لابد من ان ينتهوا الى الغاء الحرية الفردية الغاء تاما، من حيث ان الفرد عند اصحاب هذه النظرة يصبح – من وجهة نظر الوجوديين – مجرد انعكاس لهذه الظروف التي يعبرها هو كفرد ويجتازها مجتمعه ايضا، مجرد تعبير عن هذه المرحلة من مراحل التطور المحتوم للمجتمعا ت، وعلينا ان نلاحظ ان اصحاب هذه النظرة يؤسسون الحرية لا على فكرة " المواقف" الوجودية بل على فكرة "الظروف" المرحلية التاريخية التي تعبرها المجتمعات، وبالتالي فان مفهوم الالتزام عندهم يختلف عن مفهومه عند الوجوديين، من حيث انه التزام تاريخي محتوم، ادنى الى "الالتزام" منه الى "الالتزام".
واذا كان سارتر قد قال بفكرة الالتزام ليعارض بها كل الطرق المرسومة مقدما للحرية، فعلينا ان نلاحظ ان الالتزام ، كما يتصوره هو، ليس التزام الفرد المتوحد، الذي انفصل انفصالا تاما عن طبقته الاجتماعية، وبصفة خاصة عن طبقته البورجوازية التي يملى عليه انخراطه فيها التحرك وفق تقاليد معينة، وقواعد مرعية للسلوك، هنا ويشن سارتر حربا لا هوادة فيها على البورجوازية التي تسم المجتمع الفرنسي كله بطابع خاص.. لم يتطور منذ قرون عدة، ولم تفلح الثورة الفرنسية في اقتلاعه. والنقد الذي يوجهه سارتر الى البورجوازية الفرنسية في هذا الصدد هو صوت نذير الى كل الثورات لتكون ثورات حقة، تزرع في المجتمع الذي تقوم فيه علاقات اجتماعية جديدة، بدلا من ان تظل "محافظة" على الاوضاع القديمة، وسارتر ينعت البورجوازيين الفرنسيين باقذع انواع السباب، انهم متحذلقون ، طفيليون ، منافقون، سلبيون، محافظون، متجمدون، لايخدعون الا انفسهم، هذا اذا اسقطنا من حسابنا شتائم اخرى يعرفها قراء "دروب الحرية" .. والجدار، والجلسة سرية ، ولاغثيان، واسماء روايات لجان بول سارتر). وليسمح لي القارئ بان انقل اليه نصا قصيرا من رواية "الغثيان" يصور عداء سارتر للبورجوازية: "لا مجال للعجلة في شارع "تورنبريد" فالعائلات تسير فيه ببطء شديد ، واحيانا يجد المرء نفسه وقد انخرط في صف من افراد عائلة كاملة دخلت محل "فولون" او عند "بيجوا" ولكنه يضطر احيانا اخرى الى التوقف مستأنيا لان عائلتين قد تقابلتا ، احداهما كانت تهبط الطريق والاخرى تسير في الاتجاه المضاد ، ها هم يتخاطفون الايدي ويتصافحون بحرارة ولابد من الانتظار، واخيرا، هاهم يفرنقعون ، يستطيع المرء اذن ان يستأنف السير، لكن مجموعة اخرى ما تلبث ان تتجمع في الطريق".
هذا الانسان الذي لايخضع لنظام ما، أزليا كان او اجتماعيا او تاريخيا او طبقيا او حزبيان هذا الفرد الذي قذف به في الوجود وترك وحده مع الطوفان، لا من أجل ان يسير على قضبان من حديد تعين له الطريق الذي يقطعه ، بل من اجل ان يكتب خط سيره بيده هو المثل الاعلى للانسان الحر عند سارترن للانسان الذي يختار فعله حقا، للانسان الذي يخط مصيره بنفسه، في كل لحظة تمر به، ذلك لان الزمان عند سارتر ليس هو ذلك الزمان التاريخي الذي يبتلع الفرد ويصبح فيه، هذا الاخير مجرد جزء من الطبيعة أو المجتمع ، في الظروف المادية المرحلية التي يمران بها، وليس هو ذلك الزمان الازلي الذي رسم رسما قدريا وتصورته بعض الاديان على انه مقترن بخطيئة معينة او بحدث تاريخي معين، وليس هو ذلك الزمان الاولى العقلي الذي ظن الفلاسفة العقليون انه يمثل قالبا شكليا يصب فيه تطور الوجود كله، بل هو زمان اللحظة الخاطفة. وهو اولا وقبل كل شيء زمان الفرد الذي تقطعت به كل اسباب الوصال.
لكن اذا كانت الحرية عند سارتر قد تحررت من كل هذه القيود التي اسلفنا الحديث عنها –وهي قيود من وجهة نظر سارتر فقط، واذا كانت هذه الحرية توصف بأنها "مطلقة" بالنسبة الى كل هذه الاعتبارات المسبقة ، فعلينا ان لاننسى من ناحية اخرى ان سارتر قد ذهب الى انه لا وجود للحرية بدون قيود، فالحرية فعل طرفه الاول هو الاختيار، وطرفه الثاني يتمثل في تلك "المقاومة" التي يلقاها الفعل الحر اثناء ممارسته للحرية لا قبلها. هنا ولابد من الاشارة الى فكرة "العقبة" من فلسفة الحرية عند سارتر، ولانكون مغالين اذا قلنا ان فكرة العقبة هذه تسيطر على فلسفة سارتر كلها، فالاشياء المادية التي يصطدم بها الانسان في طريقه "عقبة" والماضي - -الجدار الذي يعترض ديمومة الشعور ويعوق اتصال مرجاه "عقبةط وقل هذا وذاك فان الاخرين او الاغيار يمثلون هم ايضا وجها اخر للعقبة، وما ادراك ما العقبة !! وسارتر لايتصور هذه العقبات على انها "علل" للفعل الحر، او على انها شرط لوجوده ، بل هي عنده جزء لايتجزء من هذا الفعل، جزء لايتجزأ من الموقف الوجودي، انها الارضية التي يمتد فيها الموقف، والجو الذي يعيش فيه".
وبالرغم من ان هذه العقبات تمثل شلالات تعترض طريق الفعل الحر، وتحد من انطلاقه، لتكسر على رؤوسها المدببة، وبالرغم من ان سارتر لايتحدث عنها الا باعتبارها وجوها للعدم الموضوعي الاستاتيكي الداخل في نسيج الوجود، الا انها مع هذا كله تمثل في الوقت نفسه حوافز للفعل الحر، ومجالا لتوكيد الارادة الانسانية ، وذلك لان الانسان في رأي سارتر لا يتحرك ولايندفع نحو الفعل الا عندما يشاهد هذه العقبات امامه، تسد من دونه الطريق، والفعل الحر بهذا الاعتبار ليس في حقيقته الا اعداما لهذا العدم المتمثل في هذه العقبات، انه محاولة من جانب الانسان لتخطي تلك السدود، وهدم تلك الحواجز والصخور. والحرية الانسانية بعد هذا لن تكون الا عملية تفتيت مستمرة لهذه الصخور المعترضة، وعملية نحت دائمة ودؤوبة في هذه الشلالات، وفعل الاختيار في حقيقته ليس الا اثباتا للوجود في ارض العدم. مع ملاحظة ان سارتر عندما يتحدث عن اثبات الانسان لوجوده. لا يقصد من وراء هذا الا اثبات وجود الانسان الفرد، في مواجهة وجود الاغيار او الاخرين منظورا اليهم هم ايضا باعتبارهم افراداً.
المصدر : نهاد التكرلي