الحلقة المفرغة لتداول السلطة في بلدان الوطن العربي و العالم الإسلامي (دراسة موجزة للظاهرة السياسية في ضوء التاريخ الاجتماعي و الاقتصاد السياسي)


محمد عبد الشفيع عيسى
2020 / 3 / 31 - 23:13     

ألا لماذا تبدو السياسة العربية هذه الأيام هكذا.... ؟ قد انكشف زواياها المعتمة فإذا بها تسفر عن جسم شائه للممارسة السياسية فى الدائرتين المحلية والخارجية ..؟ لماذا، وقد أصبح الأمر لا يقتصر على خلل فى الإدارة السياسية، إنما يتجاوزه إلى الدخول فى دوامة (حروب بالوكالة) تدار بين ظهرانينا، ليس في المشرق فقط، ولكن أيضا في وادي النيل والمغرب (ابتداء من ليبيا إلى شاطىء المحيط) ؟

وهذه الحروب بالوكالة تدور على ما بدو وكأنه (أرض يباب) تقريباً (والاستعارة هى من الشاعر الإنجليزى الشهير ت.س. إليوت فى قصيدته العصماء) ..هذه الأرض اليباب، ظاهريا، تمثل كلا من القلب والأطراف المستديمة فى الجسم العربى العليل، تدار عليها الحرب دون هوادة.
القلب والأطراف المستديمة تحيا فى المشرق (مشتملاً على العراق-إضافة إلى اليمن) و وادى النيل والمغرب. و سنركز حديثنا هنا على ذلك القلب و تلك الأطراف الحية، ولماذا جمد دوران الدم فى شرايينها أوْ كاد، فإذا بالسلطة السياسية تدور فيما يشبه الحلقة المفرغة ؟ حلقة مفرغة، دائرة خبيثة أو شريرة vicious circle يتم تداول السلطة فى أتونها بين أيدى العسكريين والإسلامويين والليبراليين (و فريق من الليبراليين العسكريين التابعين للغرب... و العسكريين الإسلاميين على النمط السوداني بين 1989 و2019). هذا، بينما يقف الشعب متفرجاً أو "شبه متفرج"، وتتلاعب الأيدى القوية الأخرى من خلف الستار بالجميع فى صفيّن : صفٌّ إقليمىّ بعضه عربي-إسلامي، وبعضه الآخر غير ذلك، و صفًّ دوليّ قوامه غربي ومن حوله لاعبون جدد متنوعون .. ذلك كله مع استثناء حركات التحرر الوطني و القومي العربي، فى بلدان عربية قليلة و لأوقات بعينها.
سلطة سياسية متنقلة إذن، تتقاذفها تلك الأيدى، كأنها تترجم بيت الشعر العتيق المأخوذ مثالاً على اللحن فى القول:
كرةٌ طُرحت بصوالجةٍ ... فتلقّفها رجلٌ رجلُ

فمن يا ترى أولئك الرجال الذين يتقاذفون السلطات و يتلقفونها تباعاً على الأرض اليباب، أرض الخصوبة الحضارية الخضراء فى الأزمنة القديمة والوسطى من عمر البشرية الكوكبي ؟

فلنرجع البصر كرّةً أخرى إلى حيث التاريخ الاقتصادي – الاجتماعي، التاريخ الحقيقي، فى محاولة استكشافية للاقتصاد السياسى للسلطة فى البلدان العربية، الاقتصاد السياسى للدائرة المفرغة، من قريب ومن بعيد .

وليكن من هذه المحاولة إجابة -أوليّة نعم – على السؤال:
لماذا أن بلادنا العربية يتلقف السلطة فيها بصفة أساسية العسكريون والإسلاميون والليبراليون وخليط بين هذا وذاك، دون اقتراب لصيغة متوازنة اجتماعياً للحكم، ولماذا نختلف فى ذلك مع بلدان أخرى فى العالم ؟

إن رجعنا للتاريخ العالمى ، نهايات العصور الوسطى وبدايات العصور الحديثة ، لوجدنا تفارقاً أساسياً بين العالم العربي بمفهومه التاريخي الواسع (قبل تبلور "الأمة العربية" و "الوطن العربى" الممثل لجغرافيتها عبر الزمن)- تفارقاً جذرياً فى المسار التاريخى بين هذا العالم العربى (– الإسلامىّ إن شئت) وبين العالم الغربى الأوربى وامتداداته بالهجرة فيما بعد على أرض "العالم الجديد"، أىْ الأمريكتين (الشمالية والجنوبية) والأوقيانوسيا (أستراليا ونيوزيلندا)- ودعْ عنك حالة شرق آسيا التى تستحق اهتماماً بحثياً خاصاً.
في البداية، عند مطالع العصر الوسيط الممتد تقريباً من القرن السادس إلى القرن السادس عشر، وفق التحقيب الأوربى، احتلت المنطقة، التى هى المنطقة العربية الآن، موقعاً مركزياً، باعتبارها المنطقة الحضارية الرئيسية فى العالم (القديم)، على الصعيدين المادى والمعنوى للحضارة ، أى العمران التمدينىّ والثقافة. ففى مجال العمران التمدينى شهدت المنطقة، وما حولها شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، تقدما اقتصادياً ملحوظا مقارناً، إنتاجياً وتجارياً.

فى هذا الإطار برز على واجهة العالم، كل من العرب (فى المشرق والمغرب) والفرس والهند والترك والتتار والإيغور – شرقاً وشمالاً – وجنوب أسبانيا الحالية (الأندلس) وأجزاء من فرنسا وإيطاليا، إلى الغرب على الجانب الآخر للبحر المتوسط ، وكذا الجوار الجنوبى للمغرب الأقصى داخل إفريقية (أضف إلى ذلك الساحل الإفريقى المقابل لشواطىء (عُمان واليمن).

هذا هو العالم العربي و الإسلامى الوسيط (ونواته العربية بالذات) فيما يمكن أن نطلق عليه الآن: المنطقة العربية – الإسلامية المركزية. من خلال هذا العالم كانت تقوم شبكة المبادلات التجارية للعالم الوسيط كله عبر البر والبحر. كان هنالك البرّ المُشترك المفتوح من الشام إلى الأناضول وآسيا الوسطى، ومن العراق إلى إيران وآسيا الوسطى وباكستان الحالية وبلاد الأفغان والقوقاز الجنوبى والشمالى وعبر نهر الفولجا إلى روسيا؛ وكان البحر المفتوح من بحر القلزم (البحر الأحمر) حيث تتشاطأ عليه أو قريبا من الشاطىء على الجانبين، بلدان عربية وأخرى تعربت ، وبلدان إفريقية لمسها الأثر العربى – الإسلامى بقوة فى شرق إفريقيا و فيما يسمى الآن بالقرن الإفريقى .

فى ضوء ذلك ، كان عبور المنطقة العربية – الإسلامية المركزية يمثل الطريق الأنسب للتجارة البعيدة Far trade بين أوربا الغربية وآسيا الشرقية (خاصة الهند ومن ثم الصين وربما اليابان أيضا فى وقت متأخرنسبيا) إما مروراً بطرق القوافل الإفريقية، وإما من البحر الأحمر إلى مصر فموانئها على المتوسط ، وإما من الخليج (المتصل بالمحيط أو بحر الظلمات) امتداداً إلى صحراء شبه الجزيرة وبادية الشام وحواضرها، وصولاً إلى المتوسط عند مرافىء فلسطين وسوريا ولبنان الحالية .
وتشاء الأقدار أن يكون غزو المغول للعالم العربى-الإسلامى والاستيلاء على العاصمة بغداد عام 1258 بقيادة هولاكو، نقطة بداية للتحول الكبير باتجاه توسع التجارة، بين شرق آسيا و أوربا، مروراً من الخليج إلى المشرق العربى فالمتوسط ، أو عبوراً للبحر الأحمر إلى إفريقيا الشرقية مع استخدام طرق القوافل إلى المتوسط مرة أخرى .

ظل الأمر على هذا النحو حتى استكمال الكشف الأوربي لطريق( رأس الرجاء الصالح) إلى الهند وآسيا الشرقية عام 1498، فحدث التحول المعاكس الكبير للتجارة والنقل البحرى بعيداً عن البر والبحر العربى – الإسلامى، وتأكد ذلك من انهزام المماليك -حكام مصر والشام – أمام البرتغاليين فى موقعة (ديو) البحرية قبالة شاطىء الهند عام 1502 .

كانت الكشوف الجغرافية، وضمنها اكتشاف رأس الرجاء الصالح على يد البحار البرتغالى فاسكو دى جاما بإرشاد البحار العربى العمانى ابن ماجد، و من قبله وصول كريستوفر كولمبس إلى الشاطىء الأمريكى عام 1492 ، جزءً من عملية أوسع تجرى فى شمال وغرب أوربا وهى ما يمكن أن تسمى بظاهرة "الانفجار التجارى البحرى عبر العالم" قديمه وجديده.
لقد أخذ مركز العالم بالتحول إلى إذن من الشرق إلى الغرب ، ومن العرب والمسلمين إلى الأوروبين . وحينذاك، أخذ يحدث تحول فى مجرى الحضارة العالمية كلها . ولم يحدث هذا التحول على صعيد العمران التمدينى فقط، من بوابة التجارة عبر البحار، ولكن على صعيد الثقافة أيضا، الشق الثاني، المعنوي، للحضارة .

كانت الحضارة العربية الإسلامية قد استوعبت الثقافة الإغريقية فى عصريها اليونانى القديم و الهلنستى والإسكندري وخاصة الميراث الفلسفي، لتصوغ فى النهاية قماشة فكرية متعدة الألوان، معبرة عن طابعها الخاص بعد استيعابها للفترات الأقدم، ليس من اليونان فقط عبر بيزنطة، ولكن من الفرس بالذات (الذين أسلموا بل وتعربوا روحاً من الزمن) ومن الهند أيضا (و انظر إلى أعمال أبي الريحان البيرونى (973-1048 م) وخاصة كتابه: تحقيق ما للهند من مقولة ، مقبولة في العقل أو مرذولة) ، وربما كذلك الصين (تأسّيا بالقول : اطلبوا العلم ولو فى الصين).
من القماشة الثقافية التركيبية هذه حدث التجديد الفكرى فى جميع الاتجاهات: علم الكلام، الفلسفة، الفقه، الشعر والنثر. و لقد كان الاقتصاد التجاري، البرّي و البحري، عبر الرقعة الواسعة لعالم العربية و الإسلام فى إفريقيا وآسيا، قد خلق نشاطاً تبادلياً مكثفاً ، على نقيض اقتصاديات المقايضة السائدة آنذاك فى العالم وخاصة فى أوربا الإقطاعية.
و كذلك كانت الثقافة العربية الإسلامية ، تنتقل مع التجارة والبحارة والرحالة وحجاج بيت الله الحرام، لتخلق تجانساً ثقافياً مشتركاً يعمّ الجميع ، وفق معايير العصر.

وبمثل ما أن الأوربيين مخروا عباب البحار بديلاً عن العرب والمسلمين وصولاً إلى آسيا والعالم الجديد، فقد قدّموا، على مهل، بالاستفادة من التراث الكلامى والفلسفى لأعلام العرب والإسلام، ثقافة جديدة قالوا إنها امتداد مباشر لليونان من أثينا بالذات، ودون المرور ببوابة الإسلام الفلسفي، عدا ما كان من تأثر ظاهر بالإرث الفلسفي للأندلس ، عبر ابن رشد وخاصة تفاسيره الأرسطية ، وخاصة من خلال جماعة "الرشديين" فى الفلسفة اللاتينية البازغة.

هكذا كان إذن عصر النهضة الأوربية (الرينسانس) اعتباراً من أوائل القرن السادس عشر ، وخاصة على إثر سقوط الإمبراطورية البيزنطية وعاصمتها القسطنطينية فى أيدى الأتراك العثمانيين عام 1453 ومن ثم نقل ثمار الفلسفة الإغريقية المفسرة أوربيا من شرق أوربا إلى غربها.

وكان ما كان من تفجر الرينسانس الثقافى، المؤسس والمرافق للانفجار التجارى والاستكشافى لأوربا باتجاه العالم، لتقوم سلسلة حركات متلاحقة قادتها الجماعة الإجتماعية العاملة بالتجارة داخلياً وخارجياً، بدءً من الاتجاه صوب "الإصلاح الدينى"، على أيدى الحركة الإحتجاجية (البروتستانتية) بقيادة مارتن لوثر (1483-1546).

كان الإصلاح الدينى فى حقيقته ثورة داخل المسيحية بإتجاه خلع وصاية الكنيسة كمؤسسة عقدية واقتصادية واجتماعية وسياسية، بحكم احتكارها لدائرة الدين إلى حدّ "التفتيش" فى ضمائر المؤمنين، وتملكها لأراضٍ واسعة تستثمرها بأسلوب شبه عبودى (نظام القنانة) وبحكم مركزها الإجتماعى ومكانتها السياسية فى ظل تقاسم شرعية السلطة بين البابا و الامبراطور.
تفاعل الإصلاح الديني، الدنيوي فى حقيقة الأمر، على هذا النحو، مع قيادة الجماعات المتاجرة لتحول مُناظِر فى الأراضي الزراعية الأوربية، من خلال التحول إلى المبادلة بالنقود عوضاً عن الاقتصاد الكفائى القديم المنحصر داخل الإقطاعات يقودها النبلاء، والذين كانوا يستخدمون عمل أشباه العبيد (الأقنان) ويبادلون ما يفيض من محصول الإقطاعية أو البلدة أو المزرعة ، فى عصر "ما قبل النقود".
فى ظل المتاجرة، والتبادل النقدي، وتحويل "الأقنان" إلى "أشباه عمال" بالمعنى الحديث – عمال بالأجرة يعني، أخذت تتكون نخبة ومشروع طبقة : نخبة ثقافية بمزاج لاتيني، بادعاء أثيني متفرد؛ مزاج نهضوي معاكس للكنيسة ومعاند للاحتكار العقدي، و منفتح على الترجمات من العربية و اليونانية، وكذا مشروع طبقة اجتماعية تعمل على استثمار رأس المال النقدى تحت وصاية "الملك" باسم الدولة، وريثا للبابا والامبراطور.

حينذاك ظهر المذهب الاقتصادى المسمى بالمركنتيلي (التجاري – الحمائي) الذى يشيد الأسوار حول الدولة (أسبانيا والبرتغال بالمقدمة) من أجل مراكمة فوائض التجارة عبر البحار وتحويلها إلى ذهب وفضّة (اقتصاد المعدنيْن) كرمز لثروة الدولة على رأسها الملك ومعهما جماعة التجار و البحّارة والمغامرين فى استكشافات المخاطرة .

من عصر التجارة الذي قادته شبه الجزيرة الأيبيرية إلى تفكيك حصون الإقطاع خاصة في بريطانيا وفرنسا، أخذت تزدهر الزراعة عن طريق "التتجير" commercialization ، لتقوم بذرة المزرعة (الرأسمالية) المتوجهة بالمحصول إلى المبادلة بالنقود. هنا يظهر تيار فى الفكر الاقتصادي يقوده من يسمون (الفيزيوكرات) أى أولئك الذين يعتبرون الثروة قائمة فى "الطبيعة" من خلال الزراعة ، بديلاً عن الثروة النقدية من المعادن النفيسة. ومع الزراعة تنتعش شريحة إجتماعية للرأسمالية الزراعية، تأخذ فى الالتحام مع شريحة سابقة للرأسمالية التجارية، ويكون ديدن هذه الشريحة الطبقية –أو فلنقل الطبقة الرأسمالية الناشئة- هو تبادل السلع الزراعية داخلياً وخارجياً، مع إطلاق حرية قوى السوق كشرط لنمو الرأسمالية الحديثة. على الصعيد الداخلى يتم هدم الحواجز الاقتصادية بين الإقطاعات ليقوم (اقتصاد قومى) يشكل الأساس لمجتمعات قومية يقودها الملوك الأوربيون فى سبيلهم لتكوين (دول قومية) nation-states تمثل القاعدة للنظام الدولى الأوربى الإقليمى فى القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، اعتباراً من معاهدة وستفاليا عام 1648 .
بذلك كله، تفاعل الإصلاح الديني في الغرب المسيحي مع ظهور الدور "الثوري" للطبقة البورجوازية ضد الإقطاعية "القروسطية": اقتصاديا (بالانتقال للاقتصاد السلعي-النقدي) واجتماعيا (بظهور قوة العمل المأجور كنقيض لطبقة مالكي رأس المال) وسياسيا (بنشوء القوميات) ليولد منه جميعا مجتمع جديد، كأنه ينبثق انبثاقا من رحم الحياة المتجددة أو يخلق خلقا جديدا. انفصل إذن "المدني" عن "الديني" بمثل ما أن العقل انفصل عن الخرافة، وانفصلت "الدولة-الأمة" عن التكوينات ماقبل-القومية، ليولد كائن بشري بكل ما للبشرية من معنى اجتماعي، حي وتناقضي التكوين، في آن واحد.
هو كائن جماعي حي، ومن ثم متطور عبر الزمان، ومرتبط عضويا مع ماحوله في البيئة الكلية دون انفصام، ثم أنه تناقضي التكوين. وتناقضاته سر حياته القائمة على صراع الضدين لينتج مركب جديد. ذاك قانون الديالكتيك: القضية والنقيض والمركب منهما بالذات. وهو ككائن اجتماعي يشكل منظومة محكوم عليها بالاندثار من وقع التناقض الرئيسي الذي يعيش عليه، بين قوة العمل المنتجة، وقوى رأس المال الذي يتحكم في قوة العمل ويعتصرها اعتصارا.
برغم ميلاد "مجتمع مدني" –مقابل "المجتمع الديني"- وشيوع العقلانية، بقيت آثار استغلال الدين في السياسة وخاصة في مواجهة "الآخر الديني" مثل الإسلام، وخرافات التفوق العنصري مثل تفوق البيض على ذوي البشرات الملوّنة، او تسيّد العنصر الآريّ من النسخة النازية وسلالاتها المتناسلة.
وبرغم توليد القيمة من باطن قوة العمل، ظلت قوى رأس المال تتعملق محليا ودوليا، إلى حد الاستيلاء على أراضي الشعوب و استعباد البشر و ممارسة "الإبادة الجماعية". وبرغم ما يفرضه منطق القومية من الاعتراف بحق تقرير المصير، تولدت من القومية أوهام سيادة قوميات على قوميات أخرى، واختلاق قوميات بغير أمم، و إسباغ حق تقرير المصير عليها دون حق، مقابل إنكار هذا الحق على الشعوب التي تستحقها – وهذه حالة التناقض العدائي بين الصهيونية و بين حق تقرير المصير العربي الفلسطيني.
هكذا، على الصعيد الخارجي، قامت الدول الأوربية القائدة بالاستيلاء على العالم الجديد بأسره (الأمريكتين والأوقيانوسيا) وعلى مناطق واسعة من إفريقيا وآسيا، انطلاقاً من السواحل؛ وباستخدام مدافع البارود و البندقية يتم التغلب على الأسلحة البدائية المصنوعة من الحجر والمعادن الحديدية، خاصة فى إفريقيا. هذا هو عالم المستعمرات. أخذت تشيدّ الدول الأوربية، كلٌّ منها، أسواراً حمائية حول مستعمراتها الخاصة و لا تسمح لغيرها من الدول بالتعامل الاقتصادي مع ما تملكه من المستعمرات، وذلك ما يسمى بنظام المستعمرات colonial system . و كان يتم استغلال الثروات المعدنية و الزراعية للمستعمرات، بواسطة جهاز الدول الاستعماية مباشرة ممثلاً فى الحاكم أو قائد الحامية العسكرية، أو بواسطة شركات تنشأ خصيصاً لهذا الغرض، وأوضح الأمثلة على ذلك في آسيا: و شركة الهند الشرقية البريطانية (1600-1858)، شركة الهند الشرقية الهولندية (1602-1798)، و شركة الهند الشرقية الفرنسية (1664-1769). وينتعش نظام المستعمرات كذلك فى أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية قسمةً بين بريطانيا وفرنسا فى الشمال، وأسبانيا والبرتغال فى الجنوب.


فأين نحن من هذا كله ؟
عند تحول التجارة البرية والبحرية للعالم القديم من الطرق المارة بالمنطقة العربية – الإسلامية فى الشرق إلى العبور من عند نقطة "التقاء المحيطين الأطلنطى والهندى" عند رأس الرجاء الصالح، اعتباراً من مطالع القرن السادس عشر، فيما يشبه (غروب شمس) الإسلام ، كان هناك قطاع آخر يتخلق فى مكان غير بعيد هو هضبة الأناضول. فها هو الصراع التاريخي الدامي الذى استمر قروناً بين عالم الإسلام والعالم البيزنطى يبدو أنه قد حسم فى نهاية الأمر . لقد دأب "الترك السلاجقة المسلمون" على قضم أطراف الامبراطورية الفسيحة، وها هم ورثتهم الترك أيضا من آل أرطغرل (1191-1281) وأحفاد ابنه عثمان يزحفون رويداً رويداً حتى تمكنوا من دخول عاصمة الإمبراطورية عام 1453. ومن ثم أخذت تنشأ دولة جديدة للأتراك العثمانين ، تتخذ قبلتها الروحية الإسلام بدلاً من المسيحية ، وتتمدد فى جميع الإتجاهات حتى باتجاه الشمال الأوربي إلى تخوم عاصمة إمبراطورية النمسا- المجر ، فيينا عام 1683.

و حينذاك أخذ يحدث مدّ وجزر. مدّ لعالم الإسلام ، وجزر لعالم العرب الذي سبق أن تعرض لضربتين ماحقتين :
الأولى من جانب الأوربيين –الفرنجة- القادمين من الشمال فى مطلع القرن الحادى عشر مرورا ببيزنطه وصولاً إلى ساحل فلسطين، على دفعات متلاحقة استمرت قرنين وأكثر، بدء من الحملة (الصليبية) الأولى :1096-1099 مرورا بستّ حملات على ساحل فلسطين حتى هزيمتهم عام 1244 ومن ثم انطلاق الحملتين السابعة على مصر بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا بين 1248-1250، و تم أسر الملك في "دار ابن لقمان بمدينة المنصورة، حتى تم افتداؤه من الأسر عام 1250 ليذهب إلى عكا ويبقى بها أربع سنوات حتى 1254 حتى عودته المخيبة إلى فرنسا. و جاءت الحملة الثامنة على مصر أيضا عام 1270 بقيادة لويس التاسع نفسه، و وأتبعها بالحملة التاسعة على تونس في نفس العام حين توفّي وتم انسحاب سلفه بعد عقد معاهدة للصلح.
الضربة الثانية : من التتار، وخاصة بواسطة هولاكو الذي دخل بغداد عام 1258منهيا التاريخ الرسمي للدولة العباسية. ويأتي تيمورلنك (1336-1405 ) الذي دانت له آسيا الوسطى ثم الهند، فجنوب القوقاز، ليتجه إلى الشام –حواليْ 1400-حتى حلب ودمشق وطرابلس وبعلبك، وصولا إلى العراق، ومن بعدها منازلة السلطان العثماني بايزيد في معاقله بآسيا الصغرى ليهزمه تيمور لنك في معركة أنقره عام 1402ويأسره و ويموت السلطان عام 1403 في مدينة "بورصا" التركية أثناء نقله مع سائر الأسرى الكبار إلى معقل تيمورلنك في سمرقند. وينتهي الأمر بتيمورلنك بمحاولة غزو الصين عام 1404 و يتوفّى في الطريق 1405.

بعد ذلك كله يأتى الأتراك العثمانيون باتجاه البلدان العربية أنفسها، من بني دينهم بالذات، وليست من بني جلدتهم على اي حال، بعد أن هضموا كامل آسيا الوسطى تقريبا و البلقان وشطرا من جنوب القوقاز. وكان أن تم استيلاء الأتراك (السلطان سليم الأول) عنوة على الشام من أيدي المماليك عام 1516 الذين كانوا بقيادة قنصوه الغوري، ثم على المركز المملوكي مصر ،عام 1517 حيث تم شنق سلطان المماليك طومان باي و رفعه على "باب زويلة" فى القاهرة.
و كانت ثمة مبادلة: الأتراك يتولّون حماية البلدان العربية من غزوات الأوربيين للساحلين المغربى والمشرقى على المتوسط وما تبقى من مرافىء البحر الأحمر حتى المحيط، مقابل استصفاء العائد الزراعى واستخلاصه بواسطة الضرائب نزحاً إلى القسطنطينية، مركز العالم الإسلامى الجديد. ولم يكن ثمة أفضل من الحكام القدامى المغلوبين (المماليك) ليتولوا مهمة (الحكم المحلي) فى الأقاليم المشرقية لمصر والشام ، خاصة مصر ، ليكونوا بمثابة "قوة أمنية من الدرجة الثانية"بعد قوة الوالي العثمانى وحاميته العسكرية من جنود الامبراطورية غير العرب (كالألبان –الموطن الأصلي ل "محمد علي باشا") .

كان الأتراك قوة عسكرية صاعدة، بينما كانوا قوة اقتصادية-اجتماعية غاربة ، متخلفة نسبياً بالمقارنة مع عالم الأوربيين السائر صعداً نحو تفكيك الإقطاعية ، و تفكيك سلطة الأباطرة والبابوات، مقابل بناء الدول القومية، و تقاسم السلطة بين الملك وطبقة التجار ونخبة من المثقفين الجدد فى تشكيلة بادئة لديموقراطية البورجوازية التى اكتسبت ملامحها المحددة فيما بعد.

ولم يكن بدّ للأوربيين من أن يتعاملوا مع الأتراك العثمانين ذوى "سلطة الأمر الواقع" على شطر عظيم من آسيا الوسطى والغربية والبلقان الأوربي وإفريقيا الشمالية. ولما لم يتفق الأوربيون على طريقة التعامل مع ذلك (الرجل المريض) فقد اتفقوا على تقاسم النفوذ فيما بينهم داخل الامبراطورية المتداعية .
بذلك بدت البلدان العربية بالذات غنيمة منتظرة للأوربيين بغير حرب. وما أن تخلص أولئك الأوربيون من (الصداع) الذى أحدثه محمد على باشا- حاكم مصر القوي – فى العقود الأولى من القرن التاسع عشر، اختتاماً بمعاهدة لندن 1840، حتى تفرغوا لقضم ما أمكنهم قضمه من أملاك "الباب العالى" تباعاً .
كان احتلال فرنسا الجزائر عام 1830 ( ... 1962) ثم احتلال بريطانيا ميناء عدن عام 1839 (... 1967) بداية لسلسلة احتلالات، و ربما أبرزها الاحتلال البريطانى لمصر عام 1882.
ويلاحظ فيما يتعلق بالمغرب العربى (الغرب الإسلامى) فإنه قبل وبعد سقوط الأندلس كانت تداعيات الأحداث الأندلسية تلقى بظلالها الثقيلة على المغربيْن الأقصى والأوسط بحيث تزيد من ثقل العصب القبلى – العسكرى فى عملية الحكم، كما يتضح من الحال فى ظل (المرابطين) و (الموحدين) والدول الجهوية التى لحقت بهما حتى المغرب الأدنى .
هكذا تحول العالم العربي المركزي إلى أجزاء متناثرة من الإمبراطوريتيْن البريطانية والفرنسية، وأخذت هذه وتلك تؤسسان لاقتصادات عربية مجزّأة ، تحكمها دول مجزّأة ، تحت وصاية استعمارية مباشرة مشرقاً ومغرباً. وما بين المشرق والمغرب يقام مشروع ملاذ عنصري لليهود فى فلسطين.

الدور التاريخي للعسكريين فى التاريخ العربي – الإسلامي
هكذا إذن بدت المفارقة الكبرى بين تاريخ "العالم العربي- الإسلامي" و "عالم الغرب" بالأفق التاريخي.
مروراً من حملات الفرنجة منذ مطلع القرن الحادى عشر إلى غزوة التتار لعاصمة الخلافة بغداد (1258) وخلالهما موقعة "حطين" بقيادة صلاح الدين الأيوبى ( عام 1187 ) وموقعة "عين جالوت" بقيادة قطز والظاهر بيبرس ( 1260 ) وحملات "حرب الاسترداد" الأوربية ضد الوجود العربى – الإسلامى فى الأندلس ، وما صاحبها من أدوار حربية كبرى لقادة من طراز يوسف بن تاشفين (1083-1143 ) من دولة "المرابطين" فى المغرب ، وابن عبد المؤمن (1163-1184)من دولة "الموحدين . وما لبث العالم العربى – الإسلامى أن دخل حقبة من الأفول التاريخي وتحول من مواقع الهجوم الحضارى إلى موقع "الدفاع عن الوجود".
من ثم بدأ يبرز الدور الكبير للقادة العسكريين الكبار أو العظام. و كان لهؤلاء القادة "السياسيين – العسكريين" دور أىّ دور فى الحفاظ على الدور العالمى للعالم العربى – الإسلامى فى التجارة العالمية إلى حد ممارسة قدر عال من السيادة على الملاحة البحرية – التجارية فى المحيط الهندى. ولم يكن الدور الخاص للساسة العسكريين جديداً، فقد أخذ فى البروز منذ بدأ انفراط العقد المحكم للدولة العباسية، وبدء ما يسمى بالعصر العباسى الثانى . فقد تحلقت حول السلطة المركزية فى بغداد سلطات "إقليمية" أو "جهوية" مارست نوعاً من الوصاية على المركز. كان بعضها ذا طابع شيعى(البويهيون) وبعضها الآخر ذا طابع نسبى (السلاجقة) .. وقامت دول إقليمية، أو جهوية، كبيرة نسبياً بعيدة عن المركز نسبياً وخاصة الدولة الطولونية والأخشيدية فى مصر (والشام) وفى جوارها أو أحضانها سلطات فرعية مثل دولة بني حمدان ( 926-1003) . وعلى سبيل التمثيل لظاهرة التجزؤ السياسي، استمر حكم بني حمدان 77 سنة ، منها 18 سنة في الموصل حتى اضطرهم البويهيون حين تسيّدوا الحكم في بغداد، على الرحيل إلى حلب ومكث حكمهم فيها 59 عاما منتزعين إياها من الأخشيديين. وبرغم النزال القوي لبني حمدان ضد البيزنطيين، فقد استطاع الفاطميون الذي خلفوا الأخشيديين في حكم مصر عم 969 أن يواجهوا نسل سيف الدولة الحمداني حتى قضوا على حكمهم عام 1003. و كان لدولة بني حمدان نظائرها في المغرب الكبير، حيث أخذ الخرق يتسع على الراتق ، حتى ظهور "الدولة الفاطمية" قادمة فى أصولها المشرقية لتؤسس مدينة المهدية في ولاية "إفريقية" في 912-913، ثم تنتقل إلى مصر وتقوم بتأسيس القاهرة عام 969. و أخذ يشتد الصراع على النفوذ بين الدولة العباسية فى المشرق، والدولة الفاطمية فى المغرب، و تعمّقت ظاهرة تجزّؤ السلطة.

ومع ذلك التجزؤ تأتى الخشية من الجوار القريب والبعيد على الممسك بصولجان الحكم، فيكون إضفاء الصبغة الحربية أو العسكرية على عملية الحكم أمراً مفروضاً.
هكذا إذن عمّ التجزؤ فى العصر العباسى الثانى و الفاطمى ، ثم الأيوبى والمملوكى فى مصر والمشرق (وما يناظرهما فى المغرب) . وتشاء جدليات التاريخ الاجتماعية أن يلعب (التجزؤ المتعسكر) دوراً دفاعياً ظاهراً ليس فقط فى مواجهة الأعداء المحليين لأصحاب السلطات المجزّأة، ولكن فى مواجهة الأعداء الخارجيين للعالم العربي – الإسلامي فى معناه العريض . وكان هذا واضحاً فى مقاومة حملات الفرنجة – المسماة بالصليبية – على فلسطين ومصر ، ومقاومة التحرشات البحرية العسكرية للبرتغاليين والأسبان على شواطىء المغرب العربى بعد سقوط الأندلس .

مع انضواء مجموع البلدان العربية – إلا قليلاً – تحت لواء الأتراك العثمانيين قام السلطان ببسط حمايته العسكرية مشفوعةً برداء الشرعية المستمدة من نقل (الخلافة) إلى الآستانه، بعد أن كان "الظاهر بيبرس" قد احتضن الخلافة في القاهرة بعد دخول التتار إلى بغداد، وبقي "الخليفة –الرمز" فيها من 1261 حى 1517.

كان الوجود التركى مرتكزاً إلى حامية عسكرية، كما أشرنا، تتلوها فى مصر و الشام قوى عسكرية موالية للمركز العثمانى، وهي حالة المماليك الذين فقدوا السيطرة على الحكم وقبلوا بدور هامشى فى ظلال "السيد الجديد": الباب العالى العثمانى أو "السلطان".
مع ذبول السلطة العثمانية، فى إطار الصعود الأوربى والتنافس على تركة "الرجل المريض"، أخذت تبرز سلطات فرعية فى البلدان العربية فى النصف الثانى من القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر، كما يتضح من حالة مصر والشام: على بك الكبير ( 1728-1773) ،و ظاهر العمر ( 1689-1775) ، الأمير بشير الشهابي في "جبل لبنان" و الذي عاصر محمد على وكان مناصرا له في مناوأة المركز العثماني حتى 1840 .. وفى جميع الحالات تقريباً ، كان العنصر الحربي، أو العسكري، ظاهراً ظهوراً شديداً . وتبرز هنا تجربة محمد على ، فقد كانت دولته، أو "امبراطوريته" الفرعية، نموذجاً واضحاً للقائد العسكرى – السياسى ، الذى يبنى دولة كاملة، بالمعنى الواسع لكلمة "الدولة"، ويسخر كل إمكانيات المجتمع الإنتاجية وقواه الحية من أجل بناء ما يطمح إليه من مشروع سياسى كبير . استند المشروع السياسى لمحمد علي، الذى جوهره عسكري، إلى تسلسل هرمى للقوة الاقتصادية الاجتماعية، التى تنبع من فم الأمير وبندقيته ( انظر إلى ما يسمى "مذبحة القلعة") ، و كان يوزع المصدر الرئيسي لثروة البلاد – الأرض الزراعية – بنظام الهبات وفق درجة الولاء، وتوضع جباية الضريبة الباهظة من الفلاحين كهدف أسمى للسياسة الاقتصادية المحلية.
اقتضى المشروع الإمبراطوري الفرعي لمحمد علي إنجاز بناء مادى ومعنوى ضخم ، من قاعدة للصناعات النسجية والغذائية (لزوم ملابس ومأكل ومشرب الجنود) ومن صناعة للسفن الحربية (الترسانة) وجهاز إدارى ، ومدارس متعددة المستويات ، وبعثات إلى الخارج ، ومرافق صحية .. ولكن كل هذا كان فى خدمة ذلك المشروع ذى العصب العسكرى بصفة أساسية . ولما وقع الاحتلال الأجنبى للبلدان العربية فى (و أولها الجزائر عام 1830) ثم ميناء عدن (1839) و تونس (1881) ومصر (1882) كانت المقاومة لدخول القوات الغازية في عديد الحالات مقاومة عسكرية بصفة أساسية (الأمير عبد القادر الجزائرى – أحمد عرابي في مصر ...).
ورغم التحول فى مصر من المقاومة المسلحة إلى الأساليب غير المباشرة للتعامل مع المحتل البريطانى بعد إخفاق (الثورة العرابية ) ثم إلى (الثورة الشعبية 1919) التى رافقتها أنشطة عسكرية بدرجة ما ، إلا أن حلم تكوين نخبة عسكرية وجيش وطنى بقي راسخاً فى الوجدان. و تجلّى ذلك إبّان السعى إلى استكمال الاستقلال السياسى لمصر بعد عقد معاهدة 1936 ، حين تم فتح الباب لدخول عناصر إجتماعية جديدة إلى سلك الضباط. ومن هذه الثغرة دخلت طلائع شابة من جيل جمال عبد الناصر الذى قاد ثورة 23 يولية 1952.

تُمثل قيادة جمال عبد الناصر نموذجاً فذّاً لتحول النخبة العسكرية، ذات الجذور الوطنية والأصول الاجتماعية الوسيطة، إلى نخبة سياسية ثورية ، وطنية وقومية عروبية، تقدمية المنحى الاجتماعى والمنهج الاقتصادى (التنمية والتصنيع) فى إطار نزعة استقلالية أصيلة . كل ذلك رغم عدم القدرة على صياغة نسيج جديد للسلطة السياسية يرقى إلى مستوى التحولات الاجتماعية الكبرى التي تحققت بالفعل. ورغم الاستعانة بعنصر "الضباط الأحرار" وغيرهم من سلك الضباط العاملين ، فى إدارة دولاب الحكم و تسيير مشروعات القطاع العام وخاصة بعد 1961 ، فضلاً عن الاستعانة بهم فى السلك الديبلوماسي، إلا أن ذلك لم يكن يمثل حكماً للعسكريين بالمعنى الدقيق، نظراً لقوة شكيمة القيادة السياسية وسعيها الراسخ الدؤوب إلى إحداث التحول الاجتماعي وفق رؤية معينة. قد حدثت تجاوزات (خطرة) فى ثنايا قرارات التأميم لشركات القطاع الخاص وفرض ماسُمّي (الحراسة) على بعض الأفراد أو الجهات، وتولّي من هم أقل كفاءة مواقع لا يستحقونها. بل لقد تجاوزت قيادة القوات المسلحة، بالمعنى الضيق، خلال فترة موصوفة، دورها الخاص فى الدفاع عن مصر و سائر البلدان العربية، و خاصة بعد حدث الانفصال (السورى) عام 1961. و جنحت تلك القيادة العسكرية النافذة آنئذ، ممثلة فى وزير الدفاع، خلال فترة السنوات الخمس 1962-67 ، وخاصة 1964-67 ، إلى تجاوز دورها ، وقامت بوضع حاجز بين القائد جمال عبد الناصر والقاعدة الاجتماعية ، فيما يشبه "الطبقة العازلة"، وأقامت ما سمّي فيما بعد بدولة "مراكز القوى"، مع انحراف أجهزة الأمن الخارجى عن دورها المرسوم . و كل ذلك قد جرى كشفه ومعالجته بطريقة معينة بعد الهزيمة من العدوان الاسرائيلى فى الخامس من يونيو – حزيران – 1967 .
رغم الثغرات، فقد كان دور العسكريين- مع التأكيد على التجاوز الخطير- مثالاً للاندراج العسكرى فى إطار مشروع وطنى وقومى اجتماعى تقدمي كبير . كانت فترة ثورة 23 يوليو بهذه المثابة ، منذ انبثاقها عام 1952 حتى وفاة عبد الناصر (28 سبتمبر 1970) استثناءً من ظاهرة الانقلابات العسكرية التى بدأت فى البلدان العربية فى نهاية الأربعينات ومطلع الخمسينات (سامى الزعيم و أديب الشيشيكلى فى سوريا) و تجسدت فى أنظمة استبدادية خالصة فى لحظات معينة من تطور العديد من بلدان الوطن العربي و في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية على وجه الإجمال.
هذا الاستثناء (اليوليوىّ) – إن صح التعبير – وما يناظره فى بلدان أخرى من القارات الثلاثة بدرجات متفاوتة، يثبت القاعدة العامة القائلة بجنوح النخب العسكرية إلى الإندراج فى سلك أنظمة تسلطية ذات توجّه رجعي اجتماعياً، وتابع للغرب على وجه العموم.
يصدق ذلك على الحالة المصرية فى المرحلة ما بعد وفاة عبد الناصر (1971) حيث تم بناء نظام ذي طابع تسلطي اندمجت من خلاله قيادته السياسة ذات الجذور العسكرية بتشكيلة اجتماعية موالية للقوى الطبقية الجديدة التى استفادت من السياسة المسماة بالانفتاح الاقتصادى، ومن التبعية للخارج. وعلى هذا النهج سار النظام المباركى طيلة ثلاثين عاماً (1981-2011) وإن اختلف الشكل الذى اندرج فيه العنصر العسكرى فى بنية النظام السياسى، فقد حدث ما يشبه "البناء الموازى" للسلك العسكرى مقابل سلك الأمن الداخلى (المتواطىء) مع القيادة السياسية العليا، وخاصة فى فترة التجهيز لمشروع "الوريث" خلال العقد السابق على اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 .
خلال "ثورة يناير" وقفت القوات المسلحة فى غير تعارض مع المطلب العام للقوى الإجتماعية الغالبة، و مارست دورها السياسى بشكل مباشر حتى إجراء أول انتخابات تشريعية ورئاسية (2011-2012)، ثم أخذت تمارس دورها ذاك بصورة أو أخري بعد ذلك.

...
كل المؤشرات التاريخية إذن تدلنا على أن للعناصر ذات الطابع العسكرى دور بارز فى لوحة التطور الاجتماعى والسياسى للبلدان العربية وخاصة منذ بداية العصر العثمانى فى البلدان العربية عموماً أوائل القرن السادس عشر، مترافقاً مع سقوط الأندلس وتداعياته فى المغرب العربى، و مع تحول طرق التجارة العالميةعن المنطقة العربية-الإسلامية.

و تبعا لما سبقت الإشارة إليه، كانت بدايات القرن السادس عشر هى اللحظة التاريخية الحاسمة لانبثاق عصر النهضة الأوربي ما تلاه من الإصلاح الدينى ثم الثورة الزراعية والصناعية فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مترافقاً كل ذلك مع الاستعمار الأوربى لبلدان آسيا و إفريقيا وأمريكا اللاتينية .

هكذا كانت الظروف فى العالم العربى الإسلامى تتجه خلال الخمسمائة عاماً الأخيرة إلى الانغماس فى هوّة التخلف الاقتصادى النسبى، المقارن مع أوربا، وتتعرض لمؤثرات الاستعمار الغربى ، برغم (الحماية) العثمانية الواهنة . كانت التركيبة الاجتماعية بالذات تكرس هيمنة الشرائح المرتبطة بجباية الضرائب على النشاط الزراعى لمصلحة نخب سياسية محتمية بالقوة العسكرية ، وتحاول ما أمكنها الدفاع عن سلطانها فى أقاليمها المجزّأة ، مع أدوار لا يمكن إنكارها فى مجاهدة القوى المتربصة من الخارج أو ذات العداء التقليدى للعالم العربى – الإسلامي (التتار، بيزنطة ، الفرنجة من الجانب الأخر للمتوسط قبالة مصر والشام ، شبه جزيرة إيبيريا ومشروعها الساعى إلى التمدد بعد إسقاط الأندلس..).

في المقابل، على صعيد أوربا الغربية، كانت التركيبة الاجتماعية تجنح نحو التحول بإتجاه إقامة هياكل إنتاجية أكثر تطوراً ، عن طريق الصناعة والتقدم التكنولوجى المتواصل ، مع الانتقال بالنظام الرأسمالى من مرحلة الاستغلال المفرط للطبقة العاملة فى العصر الأول للثورة الزراعية والصناعية إلى إحداث نوع من التوازن الاجتماعى اعتباراً من أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين .. وهو توازن رجراج على كل حال ، تتغير طبيعته بين فترة وأخرى ، دون أن يخلخل من قبضة النظام الرأسمالى في الداخل، ونزعته نحو الهيمنة على الخارج -العالم "غير الرأسمالى".

عن الجيش والسياسة فى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية
فى مرحلة ما بعد الاستقلال (أو ما بعد الاستعمار) أدت الجيوش الوطنية الجديدة درساً محورياً فى السياسة المحلية والعلاقات الخارجية للبلدان الناشئة ، المستقلة حديثاً عن الاستعمار القديم ، خاصة البريطانى والفرنسى . وقد وجدت عدة حالات مختلفة ، ولكن النتيجة مشتركة : في الحالة الأولى كان الاستعمار يؤسس لأجهزة عسكرية للمساعدة فى حفظ الأمن داخل المستعمرات . وحينما تم الاستقلال بقيادات وطنية متنوعة المشارب ، فإن هذه القيادات فى سعيها لإقامة أركان الدولة الجديدة لم تجدْ بدّاً من الاعتماد على البناء العسكرى القديم وإعادة تكييفه مع الوظيفة الجديدة . كان الجيش المعاد بناؤه على هذا النحو هو أقوى الهياكل الموروثة من العهد الاستعمارى ، إلى جانب جهاز إدارى صغير محدود الكفاءة ، مصمّم لتسيير أمور المستعمرات . هذه هى حالة معظم الدول الإفريقية جنوب الصحراء ، بصفة خاصة ، وعديد الدول الآسيوية ، أما بلدان أمريكا اللاتينية الحاصلة على استقلالاتها عموما خلال الربع الأول من القرن التاسع عشر فقد كانت لديها بُنى عسكرية مستقرة نسبياً، كوريثة لقوى المقاومة على النموذج (البوليفارى) ضد الاستعمار الأسبانى والبرتغالى. وهذه هى الحالة الثانية فى مضمار العلاقة بين الجيوش والسياسة .

أما الحالة الثالثة فهى التى كان الجيش فيها بعد الاستقلال هو نفسه قوة المقاومة الوطنية المسلحة ضد الاستعمار وقد أعيد بناؤها . هذا ما حدث فى الجزائر حيث "جيش التحرير الوطنى" سليل قوات "جبهة التحرير الوطني" التى خاضت الحرب التحريرية المسلحة طوال ثماني سنوات تقريبا ( فاتح نوفمبر 1954- الرابع من يوليو 1962)، قدمت خلالها نحو مليون ونصف المليون شهيد .

و مثل ذلك حدث فى فيتنام أيضا.
و إذا كانت الجزائر وفيتنام تقدمان الحالة "النقية" للجيش الوطنى الذى هو جيش المقاومة السابق، فإن هناك حالات مختلطة كانت القوات المسلحة فيها بعد الاستقلال وريثة مزيج من قوى الأمن فى العهد الاستعمارى وقوى المقاومة . وكان هذا المزيج مختلف النسب بين دولة وأخرى ، فحيناً يتغلب عنصر الأخذ عن العهد الاستعمارى ، وحيناً آخر يتغلب عنصر الأخذ عن قوى المقاومة. وتلك حالة عديد الدول الآسيوية ، مثل أندونيسيا وماليزيا .
وتبقى الجيوش فى الدول العربية ممثلة للأطياف السابقة جميعاً : فالجيش المصرى الحديث مزيج من البناء المركب للجنود والضباط من الفلاحين – ورثة أحمد عرابى – ومن شرائح وسطى على غرار (دفعة جمال عبد الناصر) فى الكلية الحربية وما يتزامن معها تقريباً منذ أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين... بالإضافة إلى أثر التكوين الاستعمارى البريطانى للجيش كأداة معاونة فى معارك بريطانيا إبان الحربين العالميتين : الأولى (1914-19) والثانية (1939-45) ، وكأداة معاونة للإنجليز فى السيطرة على السودان لصالح بريطانيا بمقتضى ما سمى "باتفاقية الحكم الثنائى" لعام 1899 .
وبعد ثورة 23 يوليو 1952 و استقلال السودان عن مصر رسمياً عام 1956 أعيد بناء الجيشين الوطنيين من العناصر التركيبية السابقة على نحو ما ذكر .
وفى كل من هذين البلدين العربيين، كان الجيش هو أهم المؤسسات الوطنية الجديدة لما بعد الاستعمار، بل لعله ربما كان المؤسسة الوحيدة تقريباً بالمعنى الكامل للبناء المؤسسي، إلى جانب جهاز إدارى محدود للإشراف على جباية الضرائب وحماية نهر النيل وضبط تدفق المياه .

من ثم كان للجيش فى مصر والسودان دور كبير، تمثل سودانياً فى إقامة (ديكتاتوريات) متتابعة ذات عصب عسكرى أساسي، يفصل فيما بينها حكم (مدنى) بتكوينات مختلفة ، طائفية أحياناً ( المهدية والختمية) مع مشاركة ليبرالية أو (شيوعية) أحياناً أخرى.

إضافة إلى جيوش مصر والسودان والجزائر، كان هناك دور بارز للجيش العراقي ، حيث تتشابه ظروف نشأته نسبياً مع الحالة المصرية، بفعل التماثل النسبي للظروف الإجتماعية والسياسية بحكم الانتماء إلى الوطن العربى الكبير، ثم بالنظر إلى وحدة المحتل (البريطانى) . كما كان للجيش دور ملحوظ فى البنية المؤسسية لدولة المغرب الأقصى المخزنيّة، ذات الطابع التاريخى التليد.
فيما عدا ذلك، لا نلحظ وجوداً مؤسسياً مهيمناً للجيوش فى بلدان عربية متنوعة مثل تونس ولبنان ، و دع عنك بلدان الأعضاء فى (مجلس التعاون الخليجى) .

لا غرْوَ إذن أن نجد للعسكريين دوراً جلياً فى السياسة العربية فى مختلف الأقطار العربية، ولا غرابة أن يكون للعسكر أدوار متعددة قوية فى عملية الحكم ، وأن يتناوبوا السلطة مع النخب المدنية، ودائماً يعودون بعد أن يذهبوا ، فى لعبة كرّ و فرّ دائرية دائبة . هذا جزء لا يتجزأ من الدائرة المفرغة للعبة السلطة فى البلدان العربية – المعاصرة، أو للدائرة المفرغة، إن شئت ذلك قولا.



خلاصات عن طبيعة السلطة السياسية
بين العالم العربي الاسلامي والغرب
" الشرق شرق والغرب غرب و لن يلتقيا"، هل ما قاله الشاعر الإنجليزي، الحائز على جائزة نوبل في الأدب، "كبْلنج" صحيح ؟ ليس تماماً ، فحضارة الغرب المعاصرة وليدة الحضارات السابقة عليها، لا سيما الحضارة السابقة عليها مباشرة وهي الحضارة العربية والاسلامية . أما حضارة اليونان ، خاصة الإثينيين ، فلم تكن بعيدة الصلة عما سبقها من حضارات وهي بالتحديد حضارات الشرق القديم وخاصة في الإقليم الإفريقي –حوض نهر النيل. وجرت دراسات مثل تلك التى أثبتها "مارتن برنال" صاحب كتاب " أثينا السوداء: الجذور الأفريقاسية للحضارة الكلاسيكية" Black Athena: The Afro-asiatic Roots of Classical Civilizationعن صلة الإغريق بالحضارات الإفريقية عبر وادى النيل، من المنطقة التي تشمل مصر والسودان حاليا.
وفي مطلع الستينات من القرن المنصرم، حاول زكى نجيب محمود إثبات اختلاف الطابع الأساسي للحضارات الشرقية ( ممثلة في شرق آسيا وخاصة الصين والهند واليابان ) عن الحضارات الغربية، معتبراً أن الشرق يتسم بمحاولة الوصول الي الحقيقة عن طريق الحسّ ذي الطابع (الفنّي) - ومن هنا جاء عنوان كتابه المختصر " الشرق الفنان" - بينما يتسم الطابع الحضارى للغرب بمحاولة الوصول الي الحقيقة عن طريق البحث العلمي - الرياضيّ.
لا نتفق مع مقولة زكى نجيب محمود، التى ربما تجاوزها في تطوره الثقافي اللاحق ، حين أقام في الكويت في السبعينات وألف عديد الدراسات حول الطوابع المتنوعة، بما فيها الطابع العلمي، للحضارة العربية – الاسلامية. ونحن أمْيلُ الي التعاقب التلاقحيّ للحضارات ، حيث تعطى كل منها الأخرى ، وتأخذ منها . فقد أخذت حضارة الغرب منا ، ثم تجاوزتنا بالمعيارين العمراني – المادى، والثقافي العلمي بالذات، وإن لم تتجاوزنا بميزان المنظومة الثقافية - القيمية بالضرورة . ولكن حضارة الغرب إذ تجاوزتنا عمرانياً وعلمياً ، فإنها قد استعانت بالهيمنة تجاه الآخرين ، مهمازاً لدفع عملية التقدم الاقتصادى بين ظهرانيها بالذات . ذلك هو الاستعمار ... وقد قام استعمار الغرب الأوروبي، خاصة البريطاني والفرنسي، بإعادة تكييف الهياكل الاقتصادية - الاجتماعية للمستعمرات ، تكييفاً خاصاً ، بحيث أنشأت ما يمكن أن يسمي بالاقتصادات الكولدنيالية، الاقتصادات التابعة إن شئت، في ظل " تقسيم العمل الدولي الرأسمالي التقليدي". في هذا التقسيم تخصصت المستعمرات في انتاج المواد الأولية، مقابل تصديرها لدول المركز الاستعمارى ( المتروبول ) التى تقوم بتصنيعها وتعيد تصدير شطر منها للمستعمرات مرة أخرى.
تحولت المستعمرات في إفريقيا وآسيا من مجتمعات مكتفية ذاتياً من الحبوب الغذائية والأنسجة الكسائية الي مجتمعات مرتبطة ارتباطاً عضوياً بالاقتصاد الاستعمارى : حيث مزارع واسعة يديرها ( المعمّرون ) وأراضي شاسعة تزرع قصد التصدير ( زراعة القطن في مصر ، والأعناب في الجزائر ... الخ ) ومناجم و مواقع لاستخراج النفط تشتغل على وقْع أحدث تكنولوجيات التنقيب والتعدين. وعلي قاعدة من الاقتصاد الكولونيالي قامت الطبقات أو الشرائح الطبقية في المستعمرات : حيث شريحة مكونة من عناصر اجنبية ملقحة محلياً عاملة علي إنتاج وتصدير المواد الأولية ونقلها وتجارتها، وتمويلها، مقابل طبقات اجتماعية واسعة تعمل في الزراعة والمراعي ( فلاحون ورعاة ) وشريحة طبقية تعمل في المصانع الملحقة بالاقتصاد الكولونيالي علي هيئة صناعات خفيفة ذات تكنولوجيات بسيطة. وفي حالة المستعمرات ذات المواد الأولية المعدنية والوقودية - النفطية ، توسّعت اعمال الحفر والتنقيب والاستكشاف والاستخراج ، تقوم بها شركات اجنبية خالصة ، وبأيد عاملة اجنبية غالباً ، وأيدٍ عاملة محلية قليلة أحياناً ، ذات أجور مخفضة نسبياً . وتقوم هنا شرائح قد تسمي بالبورجوازية الكولونيالية ، كما اقترح "مهدي عامل" منذ ردح من الزمن ، أو هي بورجوازية عاملة في الوساطة والسمسرة بين المنتجين محلياً، والمستقبلين للإنتاج في الخارج والمصنّعين، بورجوازية كومبرادورية، كما اقترح سمير امين اتباعا للتقليد الصيني -الماوي.
هنا يتواجه هيكلان اقتصاديان - اجتماعيان متعاكسان: هيكل في الدول الاستعمارية ، الدول المصنّعة، يقوم اقتصادياً علي التصنيع ، واجتماعياً علي طبقة رأسمالية. هذه الطبقة تحولت عبر التاريخ الاقتصادى للرأسمالية، من رأسمالية زراعية وتجارية، في القرن السابع عشر والثامن عشر، الي رأسمالية صناعية مبكرة خلال القرن التاسع عشر، فرأسمالية صناعية متقدمة ورأسمالية مالية – مصرفية ربوية في أواخر ذلك القرن والردح الأكبر من القرن العشرين.
وأخيراً رأسمالية متقدمة تكنولوجيا في مراحل ما بعد الحرب العالمية الثانية على أطوار متتابعة من الثورات التكنولوجية، أحدثها ما يسمي حالياً بالثورة الصناعية الرابعة أو "الرقمية".
أما المستعمرات التى اعتبرت بعد استقلالها عن الدول الاستعمارية بلداناً متخلفة اقتصادياً، ثم نامية بدرجات مختلفة، فقد قامت فيها هياكل اقتصادية واجتماعية " مقلوبة " أو "معكوسة " بالمقارنة مع الهياكل الرأسمالية. تلك الهياكل "التابعة الرأسمالية" ، تقوم اقتصادياً على انتاج المزروعات والمعادن الموجهة للدول الاستعمارية؛ أما من الناحية الاجتماعية فتتربع علي تلك الهياكل " مجموعة طبقية تابعة للرأسمالية " ، كولونيالية أو كومبرادورية إن شئت ، تقابلها طبقة الفلاحين العاملين في إطار الزراعة الاستعمارية، الي جانب نتوء عمالي في الصناعات المعدنية – الوقودية والتحويلية الخفيفة .
كانت تتحدد الطبقات فى العالم الرأسمالي– الاستعماري بعلاقات الإنتاج المحلية فى بلادها ، بينما تحددت الطبقات والشرائح الطبقية في المستعمرات في الفترات التالية للاستقلال مباشرة، بعلاقات الانتاج الدولية، علاقات التبعية في الحقيقة .
بعد الاستقلال، مع دخول البلاد المتخلفة والنامية مرحلة "ما بعد الاستعمار القديم"، أي "الاستعمار الجديد"، بل وكذلك "ما بعد الاستعمار الجديد"، أخذت تتخلق هياكل اقتصادية واجتماعية جديدة ، ولكن انطلاقاً من واقعة السلطة بالذات . لعبت السلطة ، ممثلة في القيادة السياسية العليا، في كل من البلاد المتخلفة والنامية، دوراً محورياً في تشكيل الهياكل الاقتصادية والاجتماعية الجديدة .
وقد استطاعت دول شرق آسيا ، فى ظل التبعية ، وتحت ظلال "الحرب الباردة" بين الغرب والشرق ، خلال الستينات والسبعينات وأوائل الثمانينات من القرن المنصرم ، أن تطور مواقعها فى تقسيم العمل الدولى الرأسمالى، بحيث تحولت إلى منصة متطورة للدول النامية "الديناميكية" ، لحقت بها الصين منذ اوائل التسعينات بالذات.
استطاعت بعض بلدان شرق آسيا– عدا الحالة الخاصة بالصين– أن تطور هياكلها الاقتصادية باتجاه أن تكون ملحقات مباشرة للنظام الرأسمالى العالمي، جزءً، ولكن أدنى تطورا، من المنظومة الرأسمالية العالمية، كان يسميها سمير أمين بالأطراف النامية.
أما بالنسبة لسائر إفريقيا و آسيا و كذلك أمريكا اللاتينية (مع الاعتراف بوضع خاص في هذه القارة الأخيرة لكل من البرازيل والأرجنتين والمكسيك) فقد ظلت الهياكل الاقتصادية والاجتماعية فيها، بشكل عام، بعيدة عن الالتحاق بالرأسمالية، وبعيدة كذلك عن أن تطور هياكلها الخاصة فى استقلالية نسبية عن الغرب . و قد تَعمّق هذا الوضع بعد انهيار الاتحاد السوفيتى فى مطلع التسعينات من القرن المنصرم، و ما رافقه من هزيمة حركة التحرر الوطنى العالمية إلى حد كبير، ومن ثم تحوُّل الرأسمالية العالمية من وضع الدفاع إلى وضع الهجوم، حيث أصبحت الشركات عابرة الجنسيات، ذات الملكية الرأسمالية"، القاطرة الأساسية للتطور الاقتصادى العالمي.
فى ظل ذلك بقيت الدول الإفريقية والآسيوية واللاتينية حبيسة هياكل اقتصادية واجتماعية هجينة أو مختلطة، وكذلك الحال سياسياً . فقد أخذت هذه البلدان، وفى القلب منها بلدان العالم العربى والإسلامى، تسبح فى بحر هائج مختلط الأمواج، من القديم المتوارث، والجديد الوافد (على حد تعبير "طارق البشرى" في حديثه عن "المورث والوافد"). وإن أخذنا بلداننا العربية مثالاً، فإن هياكلنا الاجتماعية، ومن ثم السياسية ، امتلكت السيادة فيها الشرائح ذات النفوذ فى مجال ممارسة العنف المجسد، والعنف "المشروع" باسم الدولة (امتدادا لميراث "أسلوب الإنتاج الآسيوي" في الشرق، مقابلا للإقطاعية في أوربا الغربية بالذات) و كذا ممارسة السيطرة الثقافية و "القهر التراثى" إن صح التعبير (دون إجراء المقابل المكافيء للإصلاح الديني في الغرب- مع التسليم بنقائصه الجوهرية هناك). هنا تظهر فئة العسكريين، ذات النفوذ المتوارث الطويل عبر أكثر من خمسمائة عام، تحت وطأة التحديات الخارجية، وثقل الحماية المفروضة من قبل الوجود التركى مقابل التسلط الغربى المتجه استعمارياً نحو "تحويل المستعمرات" كولونياليّا، كما أشرنا .
و إلى جانب العسكريين ، بذور نخب متنفذة باسم الدولة ، الممارس الشرعي للعنف تقليدياً، لينشأ تحالف شبه طبقى بين العسكريين والسياسيين المحترفين . وبعض هؤلاء الأخيرين، يمارس نفوذه عبر التسلط المشترك مع فئة العسكريين، وبعضهم الآخر يلبس حلّة الليبرالية بالمعنى العام. سواء كانت هذه الحالة أو تلك (مع العسكريين أوبدونهم) فإن ممارسات الفساد المعمّم، واحتكار السلطة السياسية والإدارية، كانت هى الظاهرة المركبة الطافية على السطح ، والثاوية فى العمق ، فى آن معاً .
والحال أنه خلال العقود الأربعة الأخيرة، برز ثم تعملق اتجاه "الليبراليين الجدد" الذين تلبسوا أشكالاً و أثوابا جديدة، بعضها قشيب مستحدث، وبعضها قديم : ابتداء من "المحافظين الجدد"، من أضراب رونالد ريجان ومارجريت تاتشر خلال الثمانينات و مطلع التسعينات، مرورا ب "المحافظين الجدد المجانين" Crazy Neo- conservatives الذين مثلّهم (جورج بوش الابن) والتيار الذى حمله إلى سدّة البيت الأبيض أوائل الألفية الجديدة، انتهاءً باليمين الشعبوى الذى حمل دونالد ترامب إلى مقعد الرئاسة الأمريكية.
فى جميع هذه الحالات ، ارتفعت راية "الليبرالية الجديدة" التى تمثل المقابل لما يسمى "الكينزية"، أي مذهب تدخل الدولة، القاضي برفع مستوى التشغيل للقوى الإنتاجية وخاصة قوة العمل إلى ما يقرب من حالة "التشغيل الكامل. هذه الكينزية قد انتعشت في مواجهة أزمة "الكساد العالمى الكبير" التي أصابت النظام الرأسمالى المركزي الأوربى الأمريكي ومن ثم بقية العالم إلى حدّ بعيد (1929-1933)؛ واستمر المدّ الكينزي الذي حمله "أتباع كينز" حتى منتصف السبعينات، أى لأربعة عقود تقريباً.
فى ظل الكينزية ارتفعت رايات "دولة الرفاه" من حيث خفض مستوى ومعدل البطالة، ورفع مستويات الأجور ومن ثم مستوى المعيشة ، مرتبطاً كل ذلك بنوع من الدور الوظيفى الإشرافى للدولة على قوى السوق العمياء ، قوى العرض والطلب ، وخاصة قوى العرض الممثلة لقطاع الأعمال الكبير. وفى مواجهة ذلك جاءت إدارة ريجان فى مطلع الثمانينات تحت راية "اقتصاديات العرض" بالذات.
على الضدّ من الكينزية، جاءت موجة "الليبرالية الجديدة" لتعيد إحياء أسوأ ما فى الليبرالية بشكل عام، عبر إعادة الاعتبار الكامل لمبدأ تعظيم الربحية الخاصة وتمجيد القطاع الخاص، وبالتالى "خصخصة" ما قد يكون هناك من "قطاع عام"، بالإضافة إلى استخدام سلّة السياسات المالية والنقدية لتحجيم الإنفاق العام الاجتماعى الموجه لصالح الفئات محدودة الدخل والفقيرة بالذات. و قد تم تحميل هذا الإنفاق بالذات (على لسان جماعة"النقديين الجدد" بزعامة ميلتون فريدمان)، وليس الإنفاق العسكري والتسليحي و "الإنفاق غير الضروري اجتماعيا" للطبقة البورجوازية وجهاز الدولة الممثل لها- تحميله المسئولية عن عجز الموازنات العامة، و اللجوء "الاضطراري" للسلطات النقدية، من ثم، إلى التمويل التضخمي لسد فجوة العجز، وهو الكابح لمستويات الإنتاج، مما يولد ظاهرة "التضخم الركودي" حسب هذا الزعم.
وقد تم استخدام أدوات النظام المالى العالمى ومؤسساته النافذة ، مؤسسات "بريتون وودز"، وعلى البنك الدولى وصندوق النقد الدولي، من أجل إضفاء "المشروطية" الكاملة أو شبه الكاملة على التدفقات المالية الدولية الموجهة للبلدان ذات العسر المالي، المحتاجة إلى الاقتراض الأجنبى، ميسراً كان أو غير ميسر.
فى ظل الليبرالية الجديدة بوجهها القبيح ذاك، تفاقمت فى البلاد النامية المدينة أو المعسرة التباينات الطبقية، و حدث انحراف شديد فى منحنيات توزيع الثروة والدخل الوطنى لصالح الفئات ذات النصيب الأعلى من الدخل والثروة، وذات القدرة الأكبر – بما لا يقبل المقارنة – على الوصول إلى فرص التكسب ومراكمة العوائد الخاصة، ولو من باطن جهاز الدولة عبر عقود المقاولات والأشغال العامة ، وعقود "المناقصات والمزايدات" والمقاولات الفرعية، ولو من باطن الجهاز المصرفي – من بنوك عامة أو خاصة – عبر القروض غير المضمونة بغطاء حقيقى ، وكذا الممارسات غير الصحيحة فى أسواق المال والبورصات ، فى غياب قواعد الإدارة السليمة (ما يسمى بالحوكمة الرشيدة) سواء على مستوى الحكومة أو مستوى الأعمال، ومن ثم غياب ممارسات المحاسبة والشفافية وقواعد الإفصاح المالي.
كل ذلك أدى إلى إهدار المال العام، وارتفاع سقوف الاستدانة ممثلة فى الدين العام المحلى، والدين العام الأجنبى ، مقابل إفقار متزايد للغالبية الاجتماعية الساحقة (80% من السكان على الأقل).
يضاف إلى ذك فوضى ما يسمى بالتحرير Liberalization ( اللبرلة) من خلال إطلاق قوى السوق باسم "الاقتصاد الحر" الذى هو من الناحية العلمية لا يعد كونه وهماً من الأوهام عبر التاريخ؛ ونضيف أيضا الممارسة شبه العمياء لتحرير حركات رأس المال، من وإلى البلاد، دون ضوابط من أى نوع ، أو دون ضوابط حقيقة. ترتب على ذلك نزح أو تدفق عكسيّ لرؤوس الأموال من البلاد النامية إلى الدول المتقدمة المستثمرة والمقرضة ، بما في ذلك نقل الأرباح المغالى فيها المحققة للمشروعات الأجنبية إلى الخارج دون أن يعاد استثمارها ، ثم نقل "أصل رأس المال" بعد تصفية المشروعات .
لا ننسى، بعد كل ما سبق، تطبيق توصيات ( "وصايا") صندوق النقد الدولى، الذي أوكلت إليه منذ منتصف الثمانينات، مهمة "الإشراف" على سير النظام المالي الدولي، وخاصة بإزاء الدول النامية، من خلال "المشروطية" للقروض الممنوحة من أجل محاولة "تعويم" الاقتصادات الغارقة في بحر الديون، ليس فقط من حيث الدعوة إلى خفض سقف الإنفاق العام الاجتماعى، عبر تقليل مستوى الدعم السلعي و الخدمي، وعدم ربط الأجور بالأسعار وفق جدولة معقولة ، ولكن أيضا التوصية بخفض سعر صرف العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية، لا سيما الدولار الأمريكي، بفعل "التعويم الحر أو النظيف"، دون إدارة للتعويم أصلا managed floating أو دون إدارة فعالة. و قد نتج عن التعويم وخفض العملات الوطنية المزيد من التضخم السعري، مقيسا بمؤشر التضخم الأساسى عبر المستوى العام للأسعار أو من خلال "الرقم القياسى لأسعار المستهلك" .
إن الملاحظ أن الليبرالية الجديدة، بوجوهها القبيحة السابقة، فى المجال الاقتصادي، تتم ممارستها الفجة فى غيبة الليبرالية السياسية والفكرية.
إن السياسات الاقتصادية المناصرة للفئات ذات النصيب الأعلى من الثروة والدخل، والتى يرتبط دخلها وثراؤها بالمعاملات الخارجية إلى حدود متفاوتة، تتم ارتكازاً إلى "احتكار السلطة" والتضييق على حريات الرأى، والحريات المدنية المختلفة، ودع عنك الحريات السياسية وخاصة حرية التنظيم، وحق الاقتراع "الشفّاف".
لذلك نجد أن الممارسات الاقتصادية لليبرالية الجديدة، بقيامها على قاعدة احتكار السلطة، ودعوتها إلى الفساد المعمم و الإفقار المتزايد للجماهير، ونهب المال العام ، وتدفق رأس المال عكسياً إلى الخارج، تؤدى فى غياب من الحريات العامة، إلى استفزاز قطاعات متزايدة من النخبة السياسية والثقافية، و ربما دفعها باتجاه التركيز على الليبرالية السياسية والفكرية. ومن ثم ينتعش الاتجاه الليبرالى العام ، الذى لا يفصح عن محتواه الاقتصادى – الاجتماعى ، أو لعل بعضاً منه يحرص على ألا يفصح عن ذلك حتى لا ينفض عنه بعض مؤيديه ، وينفرط عقده الوثيق.
المفارقة هنا أن (الليبرالية تكون ضد الليبرالية )، بمعنى أن ليبرالية الساسة "المستقلين"، والمثقفين تقف قبالة ليبرالية رجال الدولة وقطاع الأعمال الخاص، أو "تحالف" مركب الدولة – رأس المال".
هكذا إذن تنتصب أمامنا عدة قوى فى آن معاً :
1. العسكريون ، وقد ناقشنا آنفا دورهم بإسهاب نسبي.
2. الليبراليون الجدد فى الميدان الاقتصادى – الاجتماعى عبر التحكم فى جهاز الدولة ، بالتحالف مع العسكريين أو بدونهم، أو بدرجات مختلفة من تكوينات الربط بين الطرفين.
3. الليبراليون من الساسة والمثقفين، وهؤلاء هم رافعو راية "الليبرالية" كمذهب عقائدى، أو محتوى إيديولوجي.
4. الإسلاميون ، ويمثلون تيارات متباينة تبايناً شديداً .
وإذا اقتصرنا على الشريحة "الإسلاموية" العاملة فى مجال الاشتغال بالسياسة سعياً إلى الإمساك بدفة السلطة، وحدها أو بالشراكة مع بعض غيرها، فإن الإسلامويين محتكرى السلطة أولئك أو شركاء الاحتكار، إنما يمثلون فى حقيقتهم القوة العاملة على ممارسة "القهر المعنوى" باسم التراث .
هذه القوى أو التيارات الأربعة هي التي تتحكم تحكما تاما او شبه تام في مسار التطور السياسي للبلدان العربية خاصة، وبلاد العالم الإسلامي عامة، وذلك من خلال ما يمكن ان نطلق عليه "مربع السلطة" الذي أدخل نموذج الممارسة السياسية في نفق لن يكون ثمة مخرج منه، ومن دائرته المفرغة الشريرة، إلا بتصدر "التيار الغائب" حاليا، التيار الوطني-القومي التقدمي، مدعوما من قوى الشعب العاملة، للمشهد السياسي العربي برمّته. وهذا ما نناقشه فيما يأتي.

مربّع السلطة العربي ... والتيار الغائب ..!
تتقاسم اللعبة السياسية الراهنة في بلداننا العربية إذن تشكيلة رباعية الأضلاع : العسكريون، نخبة الحكم من "الليبرالية الجديدة"، الليبراليون دعاة الحرية السياسية والفكرية بصفة اساسية، و الإسلاميون العاملون علي الاستقطاب الجماهيرى بقوة التراث . هذا هو "مربع السياسة العربي" ويتناوب صُّناعه أو اضلاعه مواقع التأثير والنفوذ، ويتداولون السلطة .
غير أن من المهم أن الليبرالين دعاة الحريات لا تتم دعوتهم للمشاركة في السلطة إلا كلاعب هامشيّ ، أو مشارك علي مستوى أدنى، للتخديم علي " تبييض" وجه السلطة التى يتحكم فيها العسكريون أو نخبة الحكم أو الاسلاميون .
هذه ملاحظة أولي علي طبيعة مربع السلطة في البلدان العربية. أما الملاحظة الثانية فهي أن الأطراف الثلاثة الرئيسية، العسكريتاريا ونخبة الحكم و التيار السياسي - الاسلاموي (أو الاسلام السياسي بالمعنى الضيق أو المحدد )، كثيراً ما تتجه الي بناء تحالفات متغيرة لتشديد قبضة السلطة، بدفع من هذا الطرف أو ذاك . فقد يتحالف إسلاميون مع بعض من نخبة الحكم، عبر مشاركة الأُول في المجالس التشريعية والنيابية ( مثل حالة الأردن أحياناً) . وقد يذهب بعض من أصحاب ( الإسلام السياسي ) إلي (تقصير الطريق)، عبر القيام بانقلاب في رأس الدولة (مثل انقلاب 1989 في السودان ) و قد يستعين أهل الحكم بالجيش، أو يستعين الحاكم من أصول عسكرية بالجيش أو القوات المسلحة للمساعدة في تطبيق سياسات الليبرالية الجديدة ( كما يحدث في بعض الدول العربية حاليا).
يبقي خارج معادلة الحكم الرباعية طرفان: أحدهما طرف قوي ، وثانيهما ضعيف، فأما الطرف القويّ فهو "رجل الشارع "، وخاصة من جيل الشباب، الذي قد يلجأ - إن فاض الكيل- الي الخروج علي عصا الحاكم فى مجموعات كبيرة تصل الي حد " المواكب المليونية " لتحدّي أهل الحكم أو من هم خارج الحكم من العسكر أو الإسلامويين. رجل الشارع هذا، وان شئت فقلْ : الحشد أو الجمهور، هو القوة التى اثبتت الأحداث العربية قد تكون قادرة علي قلْب الموازين ، أو وضع العصيّ في العجلات، وإرباك المشهد احياناً، وقلب المائدة علي رؤوس الجميع.
رجل الشارع هذا، الممثل للغالبية الاجتماعية الساحقة (80% من السكان) أو أكثر، هو المادة الحية للثورة الشعبية والانتفاضة أو الهبّة الجماهيرية، هو لحمها وشحمها، سداتها ولحمتها، قوتها و وقودها في نفس الوقت. قد يحركه من هو ليس في مقاعد الحكم (عسكرياً كان أو إسلاموياً) أو ليبرالوياً متسّيساً ومثقفاً أو قد يشعل غضبه أهل الحكم بسفاهة منهم أو إمعان في الفساد والعناد، ولكنْ حين يرفع عقيرته أو يتحرك، لا يلوي علي شيء، ولا يستطيع أحد إيقافه إلا بمقدار.
كما أن تلك نعمة، فإنها قد تتحول الي نقمة، حين ينفلت العيار؛ وإذا ( زاد الشيء عن حدّه انقلب الي ضدّه )، ويصبح الجمهور قابلاً للشحن والشحن الزائد، وتنطبق قوانين "الأعداد الغفيرة"، وقد يذهب في اتجاه واحد علي غير هدى ، فتحدث الفوضى و "أعمال السلب والنهب" . وقد يصبح الحشد فريسة للاتجاهات المتنافرة للعصبية، عشائرية أو قبلية أو مذهبية دينية، أو طائفية، أو جهوية، فيحدث الاقتتال الداخلي الذي يمكن أن يذهب بعدم الاستقرار كل مذهب ناحية " الحرب الأهلية". و ليس ذلك عنا ببعيد ، فقد خبرناه اكثر من عشر سنين في لبنان (1973-1989) ومثله - في شكل مختلف - خلال " العشرية السوداء" في الجزائر (1991-2000) وقل قريباً من ذلك حين وقفت سوريا علي الحافة أو ماقبلها مباشرة، وقبلها العراق، وبعدها اليمن، و ليحفظ الله ليبيا من المكروه .
وليس ذلك الا نتيجة لغياب طرف آخر وأخير من المعادلة، هو التيار الوطني – القومي التقدمي. فما لم يصبح هذا هو "التيار الرئيسي" Main stream فسيظل التخبط ديدن الجميع .
نقصد بالتيار الوطني ذلك المشتغل علي صوْن سيادة الوطن واستقلاليته وحريته، علي أن يكون عربيّ أو عروبي المنحى، فلا ينحدر إلي دَرَك القطرية المقيتة أو العصبية الضيقة لمجموعة أقطار أو اقليم أو جهة اقليمية ضمن الوطن العربي الكبير، ولا يقبل المهادنة علي قضايا العرب المركزية عبر التاريخ، وعلي رأسها القضية الفلسطينية .
ثم أنّا نقصد الي أن يكون التيار الوطنى – القومي تقدمياً في المجالين الاقتصادى والاجتماعي ، عن طريق السعي الي التنمية الحقيقية بالتصنيع الجوهرى، و بالعدل الاجتماعي، و بالنزعة الاستقلالية ( النسبية ) التي تذهب الي الاعتماد علي الذات، بصورة متزايدة تدريجيا، محلياً وعربياً، دون قطع الروابط مع العالم الخارجي.
هذا التيار الوطنى القومى التقدمي هو حامل الرسالة الحضارية الحقيقية الذي بإمكانه توجيه "بوصلة" الحركة الجماهيرية ناحية المستقبل الزاهر الذي يستحقه شعبنا العربي عبر الزمان.