عبد الخالق محجوب بطل الثورة السودانية الرائدة

كريم مروة
2020 / 3 / 31 - 11:21     


لا أستطيع، من معرفتي التاريخية منذ مطالع الخمسينات بالسودان وبالدور المميز للحزب الشيوعي وللعديد من قادته، إلا أن أتذكر هذا التاريخ وأنا أحيي الثورة السودانية بأبطالها القدامى والجدد الذين قادوها الى الانتصار.

وإذ أشير الى هذه الثورة فلأنني أرى فيها حدثاً تاريخياً غير مسبوق في هذا البلد العربي الذي استولت على تاريخه ودمرته حركة سلفية باسم الإسلام على امتداد ثلاثين عاماً. فهي الثورة الوحيدة في العالم العربي التي انتصرت حتى الآن بتضحيات كان لا بد منها.

أتذكر تاريخ السودان وتاريخ علاقتي به وأتذكر على وجه الخصوص عبد الخالق محجوب المؤسس للحزب الشيوعي. وكان نموذجاً فذاً في ممارسته لقيادة هذا الحزب رغم الخطأ الذي وقع فيه في العام 1971 وقاده الى الإعدام مع عددٍ من قادة الحزب. لكن الحزب بعد استشهاد قائده التاريخي ظل يتابع النضال وسط صعوبات جمة وتضحيات كان لا بد منها، الى المرحلة التي ارتبطت بالثورة وكان الحزب الشيوعي شريكاً فيها.


ارتبط اسم عبد الخالق محجوب بالحزب الشيوعي السوداني منذ تأسيس الحزب في العام 1946. وصار الحزب وقائده المؤسس توأمين بكل المعاني. وفي الواقع فقد تميز محجوب منذ البدايات بقدرته على جعل الحزب الشيوعي السوداني حزباً شيوعياً من نوع مختلف عن عدد من الأحزاب الشيوعية الأخرى في البلدان العربية. ذلك أن محجوب أدرك مبكراً أنه إذا كان قد اختار مع رفاقه وشركائه في تأسيس الحزب عنواناً ورمزاً لحزب من نوع جديد في السودان، فإنه قد جهد وإياهم لجعل برنامج حزبهم هذا برنامج حركة تحرر وطني في بلد عربي وأفريقي كبير واسع الأرجاء. وكان عليهم أن يأخذوا في الاعتبار ما كان يسود في بلدهم من قوانين وتقاليد وعادات قبلية ومن تعدد إثنيات وتعدد أديان، إسلامية ومسيحية ووثنية. كما تسود فيه، في الوسط الإسلامي تحديداً، فرق وطقوس وطرق صوفية متعددة ومتنوعة. يضاف إلى كل ذلك أن نسبة الأمية في السودان عالية جداً، وأن القوى الفاعلة في المجتمع، على حد قول عبد الخالق نفسه، لا تتجاوز الخمسة في المائة من مجموع الشعب السوداني. وكان من أطرف وأذكى ما اتخذه الحزب في التطابق والتلازم الواقعيين مع مجتمعه وشعبه أن ترك لأعضائه، وحتى للقياديين فيه، الحق في الإنتماء إلى طوائفهم ومذاهبها، وإلى الإلتزام الطوعي بممارسة الطقوس والشعائر الدينية، سواء منها الإسلامية أم المسيحية. وكانت مشاهد الشـــيوعيين وهم يرتادون المساجد للصلاة، ومشاهدهم وهم يمسكون عن الطعام في شهر رمضان، من أكثر المشاهد تعبيراً عما أشرت إليه من احترام حق المؤمنين من أعضاء الحزب ومن قادته في ممارسة شعائرهم الدينية بحرية كاملة ومن دون افتعال. ومعروف في تاريخ الحركة الشيوعية منذ لينين أن الأنظمة الداخلية للأحزاب الشيوعية قد خلت من أي شرط من الشروط ذات الصلة بالدين وبالفكر، حتى إلى الماركسي منه، للإنتساب إلى تلك الأحزاب، والإكتفاء بثلاثة شروط حصرية هي الموافقة على البرنامج السياسي للحزب والإنضمام إلى إحدى خلاياه، ودفع مساهمة مالية وفق قدرة كل عضو لتأمين موجبات عمل الحزب ونشاطه، والتزام العضو، من خلال هذه الشروط الثلاثة، بالقيام بواجباته في تنفيذ ما ينص عليه برنامج الحزب ونظامه الداخلي. وقد رحّب لينين بانضمام كهنة ورهبان إلى صفوف الحزب وفق الشروط الآنف ذكرها للعضوية في الحزب الاشتراكي الديموقراطي الروسي ثم في الحزب الشيوعي السوفياتي.

لم يكن عبد الخالق من بين قياديي الحزب الذين كانوا يذهبون إلى المساجد للصلاة. ولم يكن من بين الذين كانوا يصومون شهر رمضان. فهو كان ماركسياً في الفكر وفي السياسة وفي السلوك. لكنه حرص على أن يظل أميناً لما نشأ عليه حزبه حين تأسس في ذلك التاريخ. وقد جاء التأسيس في مصر. وكان عبد الخالق مع عدد من رفاقه يتابعون دراستهم فيها. وقد تأثر بمن تعرّف إليهم من الشيوعيين المصريين، وبالأخص منهم الفريق الذي كان يحمل اسم "حدتو" (الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني). وهذا ما جعل عبد الخالق ورفاقه يعطون لحزبهم في البداية الإسم ذاته الذي اختاره شيوعيو ذلك التنظيم المصري لحزبهم. فصار الحزب السوداني في البداية يحمل اسم الحركة الديموقراطية السودانية للتحرر الوطني. ولهذا الإسم دلالة ذات أهمية. فقد كان ذلك الإسم يعبّر بوعي، كما أشرت إلى ذلك قبل قليل، عن اقتناع الشيوعيين السودانيين والمصريين بأن برنامجهم هو برنامج تحرر وطني وليس برنامجاً إشتراكياً بالمعنى الدقيق للكلمة، وذلك تطابقاً مع شروط وظروف بلدهم. وفي الواقع فقد ارتبط نشوء الحزب السوداني بالتطور الذي كانت تشهده الحركة الوطنية التي كانت تطالب باستقلال السودان، بصفتيه القوميتين العربية والأفريقية، وبصفتيه الدينيتين الإسلامية والمسيحية. فالحزب السوداني، بهذا المعنى، هو وليد شرعي لتلك الحركة الوطنية الإستقلالية. بل ان قادة الحزب قد اعتبروا أنفسهم، في المرحلة التي أعقبت حصول السودان على الإستقلال، أمناء على استكمال المهمات التي تبنتها تلك الحركة الريادية، والإلتزام بأهدافها وبشعاراتها التي لا تقف عند الحصول على الإستقلال، بل تتعداه إلى تحقيق الحرية والتقدم للشعب السوداني. وكان من أهم ما أشارت إليه تلك السياسة الرشيدة للحزب السوداني تشكيل "الجبهة المعادية للإستعمار"، التي خاض الحزب باسمها أول معركة انتخابية في ظل الإستقلال، وأرسل إلى البرلمان المنتخب أول نائب شيوعي سوداني هو حسن الطاهر زروق أحد قادة الجبهة المشار إليها. وكان هذا النائب هو النائب الشيوعي العربي الرابع بعد خالد بكداش، الأمين العام للحزب الشيوعي السوري الذي انتخب في العام 1954 نائباً عن دمشق، والنائبين الشيوعيين الأردنيين يعقوب زيادين وفائق وراد اللذين وصلا إلى قبة البرلمان في انتخابات العام 1956.




مرّ الحزب الشيوعي السوداني بقيادة عبد الخالق محجوب في عدة مراحل في تطوره. كان يرتقي فيها ويتقدم إسهامه في الحركة الوطنية الديموقراطية السودانية، منذ معركة الإستقلال استمراراً وتواصلاً ضد عهود الدكتاتورية التي أرسلت إلى السجون والقبور الكثير من الشيوعيين وفي مقدمهم محجوب بالذات. كما شهد الحزب في تطوره هزات عديدة وانقسامات ومحاولات انقسام، وحملات تشويه لتاريخه ولمواقفه ولاستقلاليته السياسية. إلا أن عبد الخالق كان يحاول، في التقارير التي كان يقدمها إلى مؤتمرات الحزب وإلى اجتماعات لجنته المركزية، أن يركز على القضايا التي كان يعتبرها في اللحظة الزمنية ذات الإهمية الأكبر، سواء منها ما كان ذا طابع فكري أو سياسي أو تنظيمي. لكن الإهتمام الأكبر في كل تلك الإجتماعات والمؤتمرات، وفي تقارير محجوب المقدمة إليها، كان يصبّ في مسألتين أساسيتين: المسألة الأولى هي المسألة المتصلة بدور الشيوعيين في النضال لاستكمال تحرر السودان وتعزيز استقلاله، وذلك تحت شعار الثورة الوطنية الديموقراطية، التي كان يعمل الحزب من أجل أن يقودها إتحاد وطني ديموقراطي. المسألة الثانية هي المسألة المتصلة بالنضال في صفوف العمال والمزارعين، وتحويل حركة جماهير هاتين الطبقتين إلى قوة سياسية واعية تساهم في المعركة الوطنية الأساس باسم الثورة الوطنية الديموقراطية. لكن عبد الخالق كان يعطي، في العديد من كتاباته، دوراً مهماً للعمل الفكري باسم الماركسية - اللينينية، (ماركسية ذلك الزمان)، دفاعاً عن الخيار الإشتراكي للحزب من جهة، وإسهاماً منه، من جهة ثانية، في إدخال الوعي في أوساط الجماهير بعامة، وفي أوساط النخب الثقافية وفي أوساط الشباب وطلاب الجامعات على وجه الخصوص. وكان يرمي من وراء ذلك إلى توسيع القاعدة الإجتماعية والسياسية في مواجهة الأفكار الرجعية على اختلاف مصادرها، بما فيها الأفكار السلفية المشوهة للإسلام التي كانت تبثها قوى في السلطة وفي خارجها وعلى تخومها، وقوى خارجية من المحيطين العربي والأفريقي.



كان من أخطر اللحظات التي واجهت الحزب في المرحلة التي كان يتحول فيها إلى قوة سياسية ذات شأن في البلاد، أن جهات رجعية وزعت مناشير معادية للحزب، كما أشار إلى ذلك محجوب في دفاعه أمام المحكمة: "وزعت بعض الدوائر منشورات باسم الشيوعيين في الأيام القليلة الماضية تدعو فيه المواطنين إلى نبذ الدين الإسلامي وإسقاطه واعتناق الشيوعية. وعلى أثر هذه المنشورات نظمت حملة في المساجد ضد الشيوعيين الذين يهاجمون معتقدات أغلبية سكان السودان. وطالب بعض خطباء المساجد في ذلك اليوم بوجوب إهدار دم الشيوعيين... إن هذه الحوادث لها خطورتها وهي في رأيي تمسني شخصياً لأني أنتهج السبيل الماركسي في ثقافتي وتصرفاتي وأؤمن بالنظرية العلمية الشيوعية، وكل معارفي وأصدقائي يعرفون منذ زمن بعيد هذه الاتجاهات والثقافة التي أحملها، وأنني أتحمل المسؤولية إزاء هؤلاء الأصدقاء والمعارف وبينهم من يحمل اتجاهات معادية لأفكاري، وبينهم من حظي بثقافة إسلامية أو مسيحية، وبينهم الشخص العادي الذي يضطرب في الحياة من دون فلسفة أو ثقافة. إن انزعاج هؤلاء الأخوان يضع على عاتقي مسؤولية أدبية في توضيح رأيي وفق الثقافة التي اعتنقتها. ثم أن المدرسة الثقافية الشيوعية من المدارس الفكرية التي تعيش في بلادنا منذ فترة طويلة – وهي ككل ثقافة تسعى إلى توسيع دائرة مؤيديها، وقد دارت بينها وبين مؤيدي المدارس الفكرية حرب ما زالت قائمة حتى اليوم، بل هي أشد الآن منها في أي وقت مضى. إن اهتمامي الكبير بمصير هذه الثقافة التي أعتد بها وأكنّ لها كل احترام وتجلة يلقي علي أيضاً مسؤولية في توضيح موقفها إزاء الحوادث الأخيرة كي أوضح الموقف وغوامضه. أستميح القارئ عذراً إذا بسطت له جزءاً من تجربتي المتواضعة: كيف أصبحت شيوعياً".


دعيت في ربيع العام 1970 مع القائد كما جنبلاط من قبل وزير الشباب منصور خالد في حكومة جعفر النميري، التي كانت قد تشكلت في أعقاب الانقلاب الذي شارك فيه الشيوعيون في أواخر العام 1969. وكانت الدعوة للمشاركة في ملتقى عربي من أجل التغيير الديموقراطي حضره عدد من مختارة الأحزاب، وكان قد حصل الإنقسام في صفوف الحزب الشيوعي، بين تيار مؤيد لسياسة النميري ولطموحاته الفردية، وكان هذا التيار مشجعاً من قبل الإتحاد السوفياتي، وبين تيار يمثل الرعيل الأول في الحزب بقيادة عبد الخالق محجوب، الذي كان يرى مظاهر خلل في سياسة النميري كان يبعده عن الخط الوطني الديموقراطي الذي كان في أساس الاهداف السياسية للإنقلاب. ومن المعروف أن الحزب الشيوعي السوداني كان في أدبياته يعلن رفضه للإنقلابات العسكرية. إذ كان يعتبر أن الإضراب السياسي هو الوسيلة الديموقراطية لإحداث التغيير. لكن الحزب كان يرى في انقلاب النميري، الذي شارك فيه الضباط الشيوعيون وأصدقاؤهم، وجهاً آخر للإنقلابات مختلفاً عن السائد منها في البلدان العربية والأفريقية. إذ إن الحركة داخل القوات المسلحة كانت مدعومة من الحركة الشعبية. إلا أن الوقائع سرعان ما أثبتت لقيادة محجوب وعدد من رفاقه خطأ ذلك التقدير منهم لانقلاب النميري. كان الوضع في الحزب وفي البلاد خلال تلك الزيارة ينذر بأخطار قادمة. وأذكر أنني التقيت بعبد الخالق متفقاً معه على وجهة نظره، والتقيت بالفريق الآخر من الحزب ودعوتهم إلى العمل لمنع الانقسام نظراً لمخاطره على الحزب وعلى البلاد. وقدمت في الملتقى الذي كنت رئيساً لأحد محاوره الخاصة بدور الجيوش في بلدان العالم الثالث. وقدمت وجهة نظري في هذا الموضوع مخالفاً للآراء التي كانت سائدة ومشجعة من قبل الاتحاد السوفياتي. وكان ذلك بحضور النميري وأركان حكومته.

لكن الأحداث لم تلبث أن اتجهت نحو المخاطر الكبرى التي شهدها السودان في أعقاب ذلك الانقسام في الحزب. إذ اختار عبد الخالق محجوب في العام 1971 أن يقود انقلاباً ضد النميري مع عدد من الضباط الشيوعيين وأصدقائهم، وكان انقلاباً فاشلاً قاده ومجموعة من قادة الحزب ومن الضباط المشتركين في الانقلاب إلى الإعدام شنقاً. وكانت وجهة نظر عبد الخالق محجوب بالذهاب الى الانقلاب العسكري نقيضاً للموقف المبدأي الذي كان قد اتخذه الحزب بقيادته ضد الانقلابات العسكرية. وكانت وجهة نظره كما فهمتها منه في اللقاء الذي جرى بيني وبينه في ذلك التاريخ أن البلاد ذاهبة في اتجاه القضاء على مفهوم الثورة الوطنية الديموقراطية من جهة، والدخول في زمن طويل في حكم عسكري وهي وجهة نظر لم يعلنها بوضوح من جهة ثانية. لكنه في اختياره للانقلاب العسكري كحل خاطئ كان يشير الى وجهة النظر تلك.


وفي الواقع وخلافاً لخيار عبد الخالق المشار إليه، دخل السودان في مرحلة صعبة، ودخل الحزب الشيوعي في أزمة، عمل خليفته في قيادة الحزب محمد ابراهيم نقد لتجاوزها قدر الإمكان. لكن الحزب لم يفلح في تجاوز ما انتهت إليه الصراعات الداخلية بقيام الإخوان المسلمين بانقلاب عسكري العام 1989 بقيادة حسن البشير، الذي استمر في السلطة حتى العام 2019 إثر نجاح الثورة بالتحرر منه ووضعه وأركان سلطته في السجن.

لم يكن عبد الخالق محجوب قائداً سياسياً للحزب الشيوعي وحسب، بل كان مثقفاً أيضاً. وكان الأدب واحداً من بعض اهتماماته الثقافية. فهو قد نقل إلى العربية، في ستينات القرن الماضي كما أظن، كتاب "الأدب في عصر العلم" لمؤلفه ليفي. ووضع له مقدمة عرّف فيها القارئ بالكتاب وبمؤلفه، وقدم فيه وجهة نظره هو في النقد الأدبي قديماً وحديثاً في السودان على وجه التحديد. يقول في هذا الصدد في مقدمته للكتاب: "موضوع الكتاب، كما أشرت، هو النقد الأدبي. وهو موضوع ليس جديداً على قارئ العربية. لكنه أيضاً جديد عليه. هو قديم إذا اعتبرنا إصدار الأحكام على القطعة الأدبية –نثراً كانت أو شعراً- نقداً أدبياً. فمثل هذا النقد عرفه العرب في جاهليتهم حينما كانوا يجعلون للشعر محكمين كالنابغة الذبياني. وهو قديم أيضاً إذا كانت أحكامه منشأة على مقاييس الصنعة الفنية وحدها، وإجادة اللغة. ولكنه جديد إذا اعتبرناه، كما هو واقع اليوم في الآداب الأجنبية، حيث جعلت له أصولاً وقواعد متأثرة بالفكر الرشيد الذي ظهر بنمو العلم الحديث والصناعة الحديثة. والنقد الأدبي، كما عرف عند العرب، تجاذبه المد والجزر. فكان يصل إلى درجات راقية ثم ينحدر، وهو في كل ذلك وثيق الصلة بالإنتاج الأدبي نفسه. فما عرفنا عهداً من عهود العرب ازدهرت فيه الآداب، إلا وانتعش النقد الأدبي وسبق الإنتاج وصار عاملاً من عوامل قوته وعنصراً من عناصر تنميته".

شخصية عبد الخالق محجوب ستظل واحدة من أبرز الشخصيات التي عرفها السودان في العصر الحديث، وواحدة من أبرز الشخصيات التي عرفتها الحركة الشيوعية واليسارية في العالم العربي.