تراثنا ... وكيف نقرأه في زمن الهزيمة: مراجعة نقدية (الجزء الثاني)


مسعد عربيد
2020 / 3 / 30 - 00:56     

لماذا التراث؟

بعيداً عن الطروحات النظرية، وفي سبيل خدمة المشروع التنويري العربي، نطرح الأسئلة العملية التالية:

هل نكتفي بتفنيد وسرد ما طُمس من وقائع التاريخ السلبية والمتخلفة، وإنارة ما هو خافٍ في ظلمة الماضي وتعرية ما لحق به من كذب وخداع؟
أم ندرس تاريخنا وتراثنا من أجل استنهاضه؟ وبالإضافة إلى التعريف بما تم طمسه، نكشف عن جوهر تجاربه وإنجازاته الثورية والتقدمية؟
وما دور كل من هذين المنهجين في مشروع التثقيف الشعبي وتوعية الجماهير؟

وتكمن أهمية هذه التساؤلات في أن الإجابة عليها هي التي تحدد المهمة الأكثر إلحاحية.

لسنا في معرض إنكار ما قيل عن تاريخنا من عنف ووحشية وقتل وبطش وكذب، لكننا نترك الجدل حول هذه الحيثيات والتفاصيل للمتخصصين في التاريخ والتنقيب في ثناياه الخفية. ما يعنينا هو الإشارة إلى أن في هذا التاريخ والتراث العربيين جوانب حضارية رائعة شكّلت مكونات أساسية في الهوية والذات العربية. وهذا ما يهمنا العمل عليه وتفحصه من أجل توظيفه في مشروع تنوير وتثقيف الوعي الشعبي العربي وتحفيزه، وبناء البيئة الشعبية والمجتمعية الحاضنة لمشروع التغيير والثورة على الواقع العربي الراهن.

للتراث موقع مركزي وخصوصية كبيرة في ثقافة الشعوب والمجتمعات. فليس التراث، ولا التاريخ، مجرد سجل أحداث أو سرد كرونولجي لها، بل هو سجل لحياة الشعوب. وأهميتة لا تكمن في تواريخه وتفاصيل وقائعه، بل في دلالاته في فهم المجتمع وتطوره. وبهذا، فهو يشكّل مدخلاً رئيسياً لفهم الثقافة والعقل الشعبيين وإشكالياتهما، ومن خلاله نبحث في أسباب فشلنا أيضاً، فيضحى الاهتمام بالتراث اهتماماً بالمستقبل والمصير.

***

تخضع قراءة التراث لمناهج متعددة تختلف فيما بينها وتتفاوت وفقاً لأغراض ومشاريع فكرية أو أيديولوجية أو حزبية، كما تتباين في بحثها عن أسباب ومؤشرات التخلف وجذوره.

ولكن المهم فيما طرحنا أعلاه، هو الاستنتاج بأن قراءة التراث العربي والموقف في فهمه وتفسيره:
1) تشكل مدخلاً إلى فهم المجتمع والعقل والثقافة وإشكاليتها وأسباب تخلفها.
2) كما أنها تعيننا على فهم كيف تم استخدام التراث في تعطيل التغيير وادامة التخلف بالإدعاء بحقائق "نصية" تتسم "بالقداسة"، وتملك وحدها حق ارشاد وتوجيه الواقع التاريخي والتحكم فيه (جورج طرابيشي).
3) وبما لا يقل أهمية، فإن فهم التراث يكشف عن حوافز التحشيد الشعبي وتجنيد الشارع في خدمة المشاريع الفكرية أو السياسية من أجل انجاز التغيير والسير قدماً في مسيرة التقدم والتنمية.

* **
من الناحية العلمية، التراث علم ثقافي قائم بذاته يختص بقطاع معين من الثقافة (الثقافة التقليدية أو الشعبية) ويلقي الضوء عليها من زوايا تاريخية وجغرافية وسيولوجية وثقافية ونفسية. أمّا بمفهومه البسيط، فيمكننا تعريف التراث، بأنه خلاصة ما خلَّفته أجيال الآباء والأجداد للأجيال الحالية، وما تناقلته الشعوب جيلاً عن جيل. وعليه، لنا أن نقول، إن التراث هو الناتج الثقافي للشعوب. أما التراث الشعبي، وهو ما يهمنا هنا، فيمكننا فهمه على أنه عادات الناس وتقاليدهم، وكل ما يعبرون عنه بأشكال وتعبيرات متعددة من آراء وأفكار ومشاعر وأمثال وحكايات شعبية، وأشعار وقصصص بطولية وأساطير. هذا بالإضافة إلى ما يتضمنه هذا التراث من فنون وحرف ورقص وموسيقى وأغاني وحكايات الأطفال والأمثال والمفاهيم الخرافية والاحتفالات وطقوس الأعياد الدينية وغيرها الكثير.

***

للتراث مستويات وأبعاد عدة يمكننا قراءته والنفاذ إلى جوهره ودلالاته من خلالها، نذكر منها التراث الأدبي والمعرفي والثقافي والفلسفي، وهناك أيضاً التراث الديني والشعبي والأثري والإنساني.

سوف نركز في هذه الدراسة على مستويين اثنيين: التراث الشعبي والديني لما لهذين من صلة وثيقة بموضوعنا.

التراث الشعبي واستخداماته

تعود أهمية التراث الشعبي في تاريخنا وحاضرنا - كما لدى الشعوب عامة - إلى موقعه المركزي وخصوصيته في ثقافة المجتمع، خاصة إذا كان هذا المجتمع كما هو الأمر في الحالة العربية، يسعى إلى التطور والتحديث دون الانفصال عن الماضي أو القطيعة معه. وتُستخدم مواد التراث الشعبي في حياة الشعوب واستلهام نهج يستقي العبر والدروس من الماضي من أجل بناء الحاضر والعبور إلى المستقبل.

يعكس تراثنا الشعبي في جوهره الثقافة الشعبية، ويجسد الذاكرة والتجربة والوجدان الشعبي
بعيداً عن محاولات الطمس والتزييف والتشويه التي لحقت به، وبعيداً عن تسخير الدين السياسي (أنظمةً ومؤسسات وحركات وأحزاب وأدوت إعلامية وثقافية) في تسويق النزعات الأصولية والسلفية والتكفيرية والإرهابية. وهنا لا بدّ من التأكيد على أهمية إدراك هذه الحقيقة في توفير مقومات صمود الجماهير ودعم قدرتها على التصدي لمحاولات القضاء على ثقافتها وتدمير وعيها. فعلى الرغم من تغييب الحقائق وتزييف الوقائع الذي لحق بتراثنا وتاريخنا، فإننا نلحظ أن التراث قد تجسّد، عبر التاريخ ومن خلال التجارب التي مرّت بها شعوبنا، في الوجدان الشعبي وتجلى في الصمود والكفاح والحفاظ على الوطن والهوية، وأن هذا كله ما زال راسخاً في الوعي الشعبي والوجدان والذات العربية، وما زال عاملاً أساسياً في حفظ الكرامة العربية والروح القومية من الجزائر إلى فلسطين .. ومن سورية إلى العراق واليمن.

التراث الديني

لا بد من التذكير، بدايةً، أن النص الديني – كغيره من أشكال النتاج المعرفي أو الثقافي والفكري والفلسفي والسياسي وغيرها – في المجتمعات البشرية هو وليد سياق زمني ومكاني محدد، ومن هنا فإن مضمونه وفهمه مرتبطان بالأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية السائدة في ذلك السياق وبحدود الوعي والأدوات الفكرية المتاحة في زمان ومكان إنتاجه.

صحيح أن التراث الديني، في جزءٍ منه، سواء كان إسلامياً أو مسيحياً أو غيرهما، هو نتاج للعقيدة الروحية والإيمانية للدين، ولكنه أيضاً، في جزءٍ لا يقل أهمية، نتاج اجتماعي سياسي، أي نتاج للصراعات الاجتماعية والسياسية على امتداد مراحل تاريخية متباينة. وبناءً عليه، فإن التراث الديني الإسلامي، ما وصلنا منه وما لم يصل، وبما يتضمنه من النص القرآني والأحاديث والنبوية وأحاديث الصحابة وفتاوي واجتهادات رجال الدين، كان حاضراً في دوامة هذه الصراعات. وبهذا المعنى، وإذا ما أردنا أن ننصت إلى صوت المنطق والتاريخ، ، فإنه كان أداة متاحة للتوظيف السياسي لخدمة السلطة القائمة ومصالحها، وهو ما ينفي ويتناقض مع الغاية الدينية الروحية للدين ويكشف عن التوظيف السياسي له.
غير أننا، وخلافاً لما ذكرناه أعلاه، تَعامْلنا مع تراثنا بشكل تقليدي مستخدمين في كثير من الحالات النقل والتنكر للعقل، وما زلنا نقرأه (التراث) بعيون قديمة، في حين أنه يتعين علينا أن نقرأه بعيون حديثة "لأننا نريد الماضي معاصراً لنا لا أن نتحول إلى معاصرين له"، وفق ما يرى جورج طرابيشي، ولأننا عندما نقرأه بعيون حديثة نريده ثراءً ونريده أن يتجدد معنا.

وهنا يجدر بنا أن نشير إلى أمرٍ لافت في حالتنا العربية، وهو ضعف معرفتنا بالتراث العربي - الإسلامي وقلة اهتمامنا بدراسته، وغياب المؤسسات الفكرية والبحثية المتخصصة به. حتى في حقبة محاولات الإصلاح الديني في القرن التاسع عشر، والتي شهدت جدلاً كبيراً وثرياً، فإننا لم ننتج دراسات علمية وموضوعية بعيداً عن الفتاوي التفسيرية والانفلات الإعلامي والدعاوي لتيارات الدين السياسي وأنظمته وحركاته السلفية والجهادية التي ملأت ساحاتنا الدينية والفكرية والثقافية على امتداد عقود القرن العشرين. هذا على الرغم من (1) أن الإسلام والتراث العربي- الإسلامي، يشكلان، من المنظور الحضاري وفي شتى جوانبهما وأبعادهما، مكونات أساسية في الهوية والذات العربية في الماضي والحاضر؛ و(2) وعلى الرغم من الدور الهام الذي لعبه تراثنا في الحقبات المختلفة من تطورنا السياسي والاجتماعي؛ و(3) وكذلك على الرغم من التنوع والتناقض في سرد الوقائع وتفسيرها في تاريخنا، ما يفرض علينا، أو لنقل أنه كان من المفروض، أن يدفعنا إلى تقصي حقائق التاريخ ووقائعه، وهو ما لم يحصل على نحو جدي وشامل.

مواقف من التراث العربي

لست متخصصاً في شؤون الدين والفقه والتراث الإسلامي، غير أن ما أقدمه هنا هو محاولة متواضعة لفهم مكانة التراث وتأثيراته في:
- صياغة الوعي الشعبي؛
- كيف تم توظيفه (وما زال) في تخريب هذا الوعي؛
- والأهم، كيف لنا أن نستثمره في مشروع تنويري تثقيفي شعبي يساهم في استنهاض هذا الوعي وخلق الكتلة الشعبية لتأخذ دورها الطبيعي في نضال الطبقات الشعبية الفقيرة من أجل محو الاستغلال وتحقيق العدالة الاجتماعية والعيش الكريم.

منذ عقود، والجدل لم يتوقف حول تاريخنا وتراثنا، قديمه وحديثه، وحول صحة ما وصلنا منه وما لم يصل. وهو جدل لم يصل إلى ختامه بعد، وربما يكون من المفيد الاستمرار به، ولكن ضمن شروط محددة وبهدف الحفاظ على التراث العربي، كقيمة حضارية وثقافية وشعبية، وقراءته قراءة شمولية ونقدية، واستثماره في فهم الحاضر وتشخيصه واستشراف المستقبل.

رافق هذا الجدل الكثير من التشويش والبلبلة، فاختلط الأمر على كثيرين، وأخذ الشك يساورنا حول ماضينا وتراثنا. غير أن الأخطر من هذا، وأسوأ ما يحدث الآن، هو ما ولّده هذا الخلط من نزعات وتصنيفات واحترابات طائفية ومذهبية تصنف التراث إلى ما هو صحيح وما هو باطل، وتختلق الفتاوي المفرطة في تخلفها وسخافتها، وتصدر الأحكام حول أعلام التراث وفلاسفته ومفكره سلباً وإيجاباً أو مَن ساهم منهم في صناعة التراث، أو ذاك الذي صُنف خارجه.

لهذا، ولغيره من الأسباب، ظلّ الموقف من التراث ومن الماضي الفكري والثقافي من أهم إشكاليات الثقافة العربية. وفي هذا السياق، يمكننا بشيءٍ من التعميم، أن نوجز مواقف المثقفين العرب من مسألة التراث العربي في اتجاهات وتيارات تراوحت بين تقديس التراث من جهة، ورفضه واعتباره اجتراراً للماضي المتخلف من جهة أخرى، واتجاهات انتقائية تأخذ منه ما هو إيجابي حيناً، أو تنتقي منه الجوانب السلبية أحياناً أخرى، كل وفق أيديولوجيته ومصلحته.

سنتناول، فيما يلي، أهم هذه المواقف بشكل موجز في التيارات الأربعة التالية:

التيار الأول
تقديس التراث

يتمثل هذا التيار في تقديس التراث بشكل مطلق ويحرم المساس به أو انتقاده. وفي هذا المسعى يطمس أو يزيّف الكثير من الحيثيات والوقائع والجوانب المظلمة من تراثنا وتاريخنا العربي - الإسلامي في محاولة لإعادة كتابتهما تفادياً للكشف عن الحقائق وتغطية جوانب الاستغلال والاضطهاد والقمع التي مارستها السلطات الحاكمة خلال حقبات عديدة من التاريخ العربي.

ولا يتأتى هذا التقديس بالضرورة من باب الفهم أو الدفاع عن التراث، بل على العكس، فإن الكثيرين من أصحاب هذا الرأي يعادون التراث وقلما يفهمون قميته وأبعادة التاريخية والشعبية الحقيقية. وتؤكد لنا التجربة التاريخية أن هؤلاء يدّعون تقديس التراث من أجل حماية مصالحهم وأيديولوجيتهم، ويعملون على تغييب الجوانب الإيجابية والثورية والتقدمية منه، وكثيراً ما حاربوا (وما زالوا) مَنْ يعمل على إضاءة هذه الجوانب (خذ القرامطة وإخوان الصفا على سبيل المثال لا الحصر).

وهناك ما لا يُحصى من الأدلة والأمثلة عبر تاريخنا القديم والحديث (أقصد منذ سبعينيات القرن العشرين وربما قبلها)، التي تؤكد بأن الحركات الدينية، الأصولية والسلفية - والتي تدّعي المطالبة العودة إلى الأصول الدينية، بالرغم من أنها في الجوهر معادية للتراث - كانت دوماً مرتبطة بالسلطة والطبقة الحاكمة وشكّلت أداة لها في تبرير سياساتها وتعزيز مصالحها، كما كانت مرتبطة بالمصالح والسياسات الإمبريالية الغربية في نشأتها وتمويلها وأجندتها. وقد تجلت خطورتها في أبرز تجلياتها في إضعاف وإجهاض الوعي الشعبي والثوري في الوطن العربي في المراحل التي شهدت تراجع القوى والأحزاب والأنظمة العربية القومية (مصر وسورية والعراق وليبيا واليمن على سبيل المثال)، واشتداد الهجمة الصهيونية الإمبريالية على بلادنا، وما واكبها من تفاقم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية واحتدام الصراع الطبقي وانفجار الانتفاضات الشعبية في العديد من البلدان العربية منذ ما يُسمى "الربيع العربي".

التيار الثاني
تراثنا: عنف وقتل واستبداد

يستفيض كثيرون من أصحاب هذا الموقف في أن التراث العربي ليس سوى القتل والذبح والخديعة وغيرها من الأعمال والتدابير العنفية في سياق الصراع على السلطة والوصول إليها، ويذهبون إلى سرد هذه الأعمال والوقائع منذ عهد النبي العربي مروراً بالدولة الأموية والعباسية وما بعدها، كي يصلوا إلى خلاصة مفادها:
- أن تاريخنا وتراثنا هو تاريخ دموي حافل بالعنف الوحشي والقتل والذبح والخديعة من أجل الاستيلاء على السلطة؛
- وأن هذه الوقائع قد تم طمسُها وإخفاؤها من صفحات التاريخ؛
- أي أن ما وصلنا من تاريخنا وتراثنا يخضع (1) للتزييف والتشويه، (2) لتغييب الحقائق والوقائع التاريخية، وكذلك (3) تغييب العقل وتقديس النقل.
- وعليه، تصبح المهمة الملحة الوحيدة في منظورهم هي الكشف عما تمّ طمسه.

وفي مناقشة هذا الموقف، نبدي الملاحظات التالية:

1) لا خلاف مع هذا التيار على ضرورة كشف وقائع التاريخ وتعريف الناس بحقائقه. ولا تكمن المشكلة معه في دقة ما يسردونه من أحداث أو عدمها. فلا شك أن تاريخنا حافل بوقائع القتل والخديعة وظواهر العنف. بل إن خلافنا معهم يكمن في المنهج والتحليل، حيث يفضي منطقهم إلى استنتاجات مجزوءة وخاطئة تضر بالوعي الشعبي وتدمر قيمة تراثنا الفكرية والثقافية على المستويات الوطنية والقومية والإنسانية.

2) ليس صحيحاً أن وقائع العنف والقتل هي وحدها التي طُمست أو غُيبت، بل تم طَمْس الجوانب المشرقة والمضيئة أيضاً من التاريخ والتراث العربيين. إن هذه النظرة الإقصائية والهدّامة إلى التراث، بالتركيز على ما فيه من وحشية وسلبية وتخلف، وتجاهل الإضاءة على التجارب الإيجابية والتقدمية، يفضيان إلى إقصاء التراث عن الجماهير ويحرمان مجتمعنا من التأسيس لفهم موضوعي وشامل وإيجابي لتاريخنا وتراثنا كأرضية لموقف شعبي متماسك، ويهددان إمكانية بناء صرح لوعي جديد. ولا نقول هذا من باب التقليل من دور العنف والقسوة في تاريخنا، بل للتنويه إلى أن طمس هذه الجوانب الثورية والإيجابية هو الأكثر تدميراً للذات العربية والوعي العربي، وهي مسألة، كما يبدو، لا تلقى الكثير من الاهتمام لدى الكثيرين من مثقفينا.

3) عدا السرد الكرونولوجي للحدث، لا يقدم لنا أصحاب هذا الموقف، تحليلاً أو فهماً لهذا العنف والقتل في سياق الصراع على المصالح الطبقية والسلطة، والسياق التاريخي والاجتماعي والسياسي لأوضاع العرب والمسلمين في تلك الحقب التاريخية. (وسوف نعود لاحقاً لمناقشة بعض جوانب ظاهرة العنف في تاريخنا بمزيد من التفصيل).

فالحجة الرئيسية التي يرتكز عليها أصحاب هذا التيار هي ما تم من تغييب وتزييف لوقائع وأحداث التاريخ العربي. غير أنه من الأهمية بمكان التركيز على الأسباب والدوافع: فتزييف التاريخ والتراث ليس مجرد مصادفة تاريخية أو لوي عنق الحقيقة، بل له أسبابه التي تكمن في الصراعات الاجتماعية والصراع على السلطة والحفاظ على مصلحة القوى الحاكمة (السلطة، الطبقة، الأسرة، القبيلة...) وتوظيف التاريخ والتراث كأداة سياسية لخدمة مصلحة هذه القوى. ويبدو أن هذا التيار لا يعير هذه المسألة أهمية.

4) لم يكن تغييب وقائع التاريخ أخطر ما حلّ بنا، بل لعل الأخطر هو تغييب العقل والمنطق وتكريس النقل وتقديس النص الديني، أو ما يدّعون أو ما رُوي بأنه نص ديني أو مرجع شرعي سواء كان حديثاً نبوياً أو أحاديث الصحابة، كأمر لا يجوز المساس به. فالنص الديني هو وليد فترة زمنية ومكانية معينة. هذا هو سياقه وهكذا يكون فهمه. وهذا لا يتناقض مع أن المبادئ والقيم والمُثل التي ينادي بها الدين هي إنسانية وصالحة لأزمنة طويلة وحقبات عديدة.

هكذا تمّ في كثير من الحالات توظيف الدين من خلال تحالف المؤسسة الدينية مع السلطة السياسية الحاكمة والقوى المرتبطة بها اجتماعياً واقتصادياً، وهو ما يتنافى مع الغاية الدينية والروحية للإسلام. وهو ما يجب التأكيد عليه وتثقيف الناس به.

5) إن تعميم الأحكام التي نستقيها من بعض التجارب السلبية والعنفية والدموية والاستبدادية، لا يمنحنا الصوابية في إصدار هذه الأحكام ذاتها في سياقات تاريخية واجتماعية مغايرة، ولا يشفع لنا حين نتجاهل التجارب الأخرى أي تلك التقدمية والإيجابية.

6) ودفاعاً عن تراثنا وعن الحقيقة، فليس سرد الأحداث والوقائع، أي السجل الكرونولوجي، هو الذي غُيب وحسب، بل تم طمس التراث أيضاً بما هو فكر وأدب وفن وتراث شعبي وثقافي وغيره.

7) كذلك تم تغييب الانجازات الحضارية العربية لمرحلة ما قبل الإسلام، إنطلاقاً من مقولة ان العروبة ظهرت مع أو بعد مجيء الإسلام والفتوحات الإسلامية، وبذلك تم شطب قرون من المساهمات والتطور الحضاري والثقافي واللغوي العربي.

8) ليس التاريخ العربي - الإسلامي هو الوحيد الذي شهد وقائع العنف والقتل والوحشية، بل إن مثل هذه الوقائع ظاهرة رافقت تطور الأديان الأخرى ومؤسساتها الدينية، وقامت الفتوحات العسكرية وكافة الإمبراطوريات بتوظيف الدين في تبرير توسعها الجغرافي الاستعماري والاستيطاني والحفاظ عليه، كما استغلته بعد ذلك في إبادة الثقافات المحلية للشعوب المستعمَرة وافراغها من مضمونها الثقافي والتاريخي، واستبدالها بثقافة المستعمِر.

■ إذا كان الفتح الإسلامي قد احتل البلاد وأسس "دولة عربية" مترامية الأطراف، يحكمها حاكم/سلطان يستخدم الدين والمؤسسة الدينية في خدمة أغراضه السياسية وحماية عرشه ومصالحه، فليس هناك من أوهام حول الجرائم الوحشية التي افترقتها الكنيسة الكاثوليكية (الفاتيكان) باسم المسيحية عبر قرون طويلة. فقد سخّرت هذه الكنيسة الديانة المسيحية واستعمرت البلاد باسم المسيح والمحبة، وغزت بلادنا في حروب دامت ما يقارب القرنين تحت إدعاءات حماية قبر المسيح في القدس، وشاركت في وباركت التوسع إلى النصف الغربي من الكرة الأرضية وقدمت الذريعة لإبادة الملايين من الهنود الأميركيين الأصلانيين، وما زال الفاتيكان حتى يومنا هذا يتواطئ في مخططات ومؤامرت الإمبريالية الغربية وخدمة سياساتها في العديد من أجزاء العالم.

■ أما الديانة اليهودية ومؤسستها، فقد كانت، منذ البوادر المبكرة للفكرة والحركة الصهيونية، أداة رئيسية في مخططات الحركة الصهيونية لاستيطان فلسطين وجلب مئات آلاف اليهود من كافة أطراف المعمورة تحت إدعاءات "شعب الله المختار" واسترجاع "أرض الميعاد"، واقامة الكيان الصهيوني الاستيطاني على أرض فلسطين.

ولمزيد من التدليل على دور المؤسسة الدينية وتحالفاتها بين بعضها وتوظيفها سياسياً في خدمة المصالح الاستعمارية، يجدر بنا أن نذكّر القارئ بان حركة الاصلاح الديني في المسيحية، وعلى لسان أكبر أعلامها مارتن لوثر ( 1483-1546) دعت، قبل ظهور الصهيونية السياسية بعدة قرون، إلى إقامة دولة يهودية استعمارية استيطانية في فلسطين لحماية المصالح التجارية والتوسعية الاستعمارية آنذاك.

■ أما الحركة الطورانية والطموحات التوسعية العثمانية فهي مكون رئيسي فيما يُسمى "الإسلام التركي" مستغلة الدين الإسلامي وعاطفة الأخوة والجامعة الإسلامية في تضليل شعوبنا العربية ومجمل مسلمي المشرق وابتزازها سياسياً واقتصادياً. فمنذ بداية سبعينيات القرن العشرين ظهرت تيارات الدين السياسي الإسلامي في تركيا، ثم شهدنا صعود حزب الفضيلة بزعامة نجم الدين أربكان مروراً بانقسام الحزب عام 2001 إلى حزبين: حزب السعادة بقيادة أربكان، وحزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان، وصولاً إلى سيطرة هذا الأخير على السياسية التركية والمضي قدماً في تحقيق الأحلام التوسعية العثمانية في العراق وسورية وغيرهما.

مقصدنا في طرح هذه الملاحظة، أن نؤسس لوعي وتفكير نقديين بدور المؤسسة الدينية في التاريخ البشري، وألاّ يقتصر نقدنا على الديانة الإسلامية والاستفراد بالإسلام وكأنه حالة فريدة ومختلفة بين الديانات الأخرى وخصوصاً تلك السماة "الديانات الإبراهيمية". بعبارة أخرى، أن نوسع نقدنا ليشمل المؤسسة الدينية لأي من الأديان ودورها وعلاقتها بالسلطة/الطبقة الحاكمة، أينما كانت، في توظيف الدين (أي دين) في خدمة أغراضٍ سياسية وليس الإسلام وحده دون غيره.

هكذا يصبح حديثنا في إطار مفهوم "الدين السياسي" (وليس الإسلام السياسي لوحده)، ونكون قد زرعنا في الوعي الشعبي فهماً جذرياً لدور المؤسسة الدينية في تاريخنا وتاريخ الشعوب الأخرى، ونكون قد تفادينا الوقوع في نظرة انتقائية وقاصرة ومجزوءة، تنتقد الإسلام لوحده دون غيره وتقلل من قدر تراثنا وكثيراً ما تحتقره.

9) في سياق الكشف عن الحقائق التاريخية، كثيراً ما نجد إيحاءات واشارات إلى آيات قرآنية أو استشهاد بأحاديث نبوية، ما يعطي الانطباع عن مسؤولية الدين في هذه الوقائع. وإذا توخينا الحقيقة، وكنّا صادقين مع أنفسنا، وبصرف النظر عن موقفنا من الدين، فإنه يتوجب علينا أن نطرح السؤال التالي: كيف يكون الدين، كعقيدة إيمانية روحانية، هو المسؤول عن هذا التغييب والتزييف في وقائع التاريخ؟ بل إن المسؤول بالدرجة الأولى هي السلطة السياسية الحاكمة والسلطة/المؤسسة الدينية التي تحالفت على مدى قرون طويلة مع السلطة السياسية ووضعت نفسها في خدمة النظام الحاكم وبررت جرائمه وغطت عليها ووفرت له الحماية والمناعة من التمرد والمعارضة الشعبية.

10) قد لا يختلف اثنان على أن في الإسلام، كغيره من الديانات، أكثر من تفسير، وقد تتعدد التفسيرات إلى درجة التناقض في بعض الأحيان. وقد استند بعضهم في تعزيز وجهة نظره إلى التفسيرات السلبية وذات المضامين المتخلفة والمتوحشة. وبالمناسبة، هكذا فعل الكثيرون من "المستشرقين الغربيين" في تفسير الإسلام وترويج المفاهيم السلبية والمتخلفة حوله وحول تاريخنا ومجتمعاتنا.

غير أن الانخراط في الجدل حول التفسيرات المختلفة والمتناقضة وحول شؤون الدين والفقه والتدين الشعبي (العميق في مجتمعاتنا التقليدية)، لن يوصلنا إلى وئام أو تفاهم، بل كثيراً ما يشغلنا عن التركيز على معاركنا الرئيسية والكبيرة والتصويب على أهدافنا في محاربة العدو بتعدد جبهاته، ويضر بالوئام والتسامح الديني بين الموطنين من أتباع الديانات المختلفة في مجتمعاتنا، وكثيراً ما ينتهي إلى تسعير الخلافات والفتنة بين الناس والاقتتال الداخلي والأهلي، ولدينا في تاريخنا وتجربتنا ما لا يُحصى من الأدلة على ذلك.

11) نختم ملاحظاتنا حول هذا التيار بالإشكالية التالية: ما هي الغاية من الرجوع إلى التاريخ والتراث وكشف الحقائق والوقائع المطموسة؟ وما الذي نسعى إلى تحقيقه؟

هنا ينبري سؤال المنهج في التحليل: أي كيف نحلل ولأي غرض؟ وإذا لم يكن النقد من أجل التأسيس لمشروع تنويري تثقيفي يهدف إلى بناء وعي شعبي، فما قيمة النقد؟

هذا يعيدنا إلى ملاحظتنا الأولى أعلاه: إن خلافنا مع هذا التيار هو في الجوهر خلاف في النهج التحليلي وما يعود به من أضرار على الوعي الشعبي.

التيار الثالث
التنكر للتراث

يتنكر هذا التيار لتراثنا ويرفضه باعتباره "ماضوياً"، ويذهب إلى أن الاهتمام به ومحاولة فهمه والتوعية به هو تخليد للماضي. ويتهم أصحاب هذه المقولة تراثنا باعتباره مسؤولاً عما حلّ بنا من تراجع وتخلف حضاري واقتصادي واجتماعي وسياسي وثقافي.

وبعد ازالة القشور التي تغلف هذه الإدعاءات، نجد أن هذا الرأي، في جوهره، يعادي الشعوب ويحتقر تراثها، وينظر إلى التراث على انه تجسيد لتخلف شعوبنا، وبالتالي فهو يتنكر له ويرفضه. وهو موقف ينسجم مع الموقف الذي يحتقر الجماهير ولا يرى فيها سوى التخلف والعجز.

في رأينا أن مشكلة هذا الاتجاه تكمن في منطلقاته الأساسية:

1) فهو يختزل أسباب أزماتنا ومعضلاتنا في تراثنا وتاريخنا، ويصورهما وكأنهما السبب الوحيد أو الأكبر لهذه الأزمات. ولا شك في أن هناك الكثير من الجوانب المتخلفة والمظلمة في تراثنا، والتي لا بدّ من تعطيل تأثيراتها على الوعي الشعبي ورميها في سلة الماضي. غير أن هذا الموقف ينطوي على فهم قاصر وخاطئ. فأسباب أزماتنا ومشاكلنا كثيرة ومعقدة، وهي في كل الأحوال أعمق من ذلك. هذه هي الحقيقة التي كثيراً ما نهرب منها أو نتهرب، ونفضل إراحة العقل في تهديم الماضي ولومه وتحميله المسؤولية عن كوارثنا.

2) ينفي هذا التيار أهمية التراث في حياة الشعوب وانجازاتها ودوره في إنتاج الحضارة الإنسانية، ولا يفهم أن التراث تعبير عن احترام الشعوب لذاتها. والأهم أنه ينكر أو لا يدرك قدرة التراث على تحريك المخزون الكامن في الوعي الشعبي وتفجير القدرات الجماهيرية في إحياء الشارع واستعادة دوره في النضال من أجل تغيير الواقع المرفوض وتحرير الإنسان والقضاء على الظلم والاستغلال.

3) ينطوي هذا التيار على الإقرار بعجز الذات العربية والتشكيك بقدرات أمتنا على النهوض وامتلاك قرارها بمصيرها ومستقبلها، لينتهي باستدخال الهزيمة وقبول الفشل واحتقار الذات. ولهذا، فكثيراً ما نرى بعض مؤيديه يجاهرون باستدعاء التدخل الخارجي والارتماء بأحضان الغرب الرأسمالي والخنوع لأجنداته وخدمة مصالح الإمبريالية في بلادنا.

4) ينزلق كثيرون من أصحاب هذا التيار، إلى مقولة أن السبيل إلى تنمية مجتمعاتنا ورقيها وتقدمها، هو محاكاة الغرب الرأسمالي وتبني قيمه، وهي رؤية شَرَعَتْ بها قلة من المفكرين والكتاب العرب منذ بواكر القرن التاسع عشر وتجربة محمد علي لبناء دولة عصرية وصناعية في مصر. ومنذ تلك الآونة - وعلى الرغم من وضوح سياسات ومخططات الغرب الرأسمالي الاستعماري ونضوج وعينا بها، وعلى الرغم من تجارب تلك الحقبة الطويلة والمريرة من تاريخنا - لم يتعلم هؤلاء أن محاكاة الغرب أو الشرق أو اية تجربة أخرى لا تؤسس لتقدم مجتمعاتنا الذي لا يتحقق إلا برؤية مُوطَّنة ومتأصلة لمعضلاتنا الاجتماعية والاقتصادية وحلول نابعة من بيئتنا لتغيير واقعنا وبنيته، بل إن مثل هذه الطروحات تجلب على شعوبنا نتائج عكسية وتبث فيها روح الهزيمة. وهو ما أثبته تاريخنا المعاصر بدون مواربة. وهذا بالطبع لا ينفي ولا يتناقض مع ضرورة الانفتاح على انجازات التقدم والمعرفة الإنسانية والإفادة منها في كافة جوانبها العلمية والفكرية والتكنولوجية والفنية والأدبية وغيرها.

5) لقد أدّى إصرار هذا التيار على التنكر للتجارب المضيئة في تراثنا، والافتتان بالتجارب الأخرى (خاصة الرأسمالية الغربية) وتقديمها على أنها الحل والبديل، أدّى إلى عزوف الجماهير عن الاستماع إلى هذه المقولات وعدم قبولها.

6) ينسى أصحاب هذا التوجه أن التراث والتاريخ، ليس مجرد سرد كرونولوجي لوقائع الماضي، بل هو، في حقيقة أمره وفي الجوهر، تجسيد للصراعات الاجتماعية والطبقية، ويحمل في ذاته أفكار وأيديولوجيا الطبقات الاجتماعية المتصارعة في تلك الحقبات التاريخية. وفي جانبٍ آخر، لا يقل أهميةً، يحتضن التراث الشعبي كفاح الشعوب ويخلّد نضالاتها وبطولاتها وينقلها للأجيال القادمة ليغذيها بروح الثورة والانتفاض على الواقع الظالم.

التيار الرابع
الإنتقائية في التعامل مع التراث

يتعامل أصحاب هذا الاتجاه مع التراث بشكل انتقائي، ينتقون منه ما يروق لهم، وفق أيديولوجيتهم وما يخدم مصالحهم وأغراضهم. فإذا اعتمد هذا الاتجاه نهجاً تقدمياً وثورياً، فإنه يضيء الجوانب الثورية في التراث والتاريخ ويكشف عن الطبيعة الطبقية لنضالات شعوبنا وانجازاتها الثورية، ويتجاهل أيضاً أبعاد الظلم والقمع والاستبداد. أما إذا اتخذ هذا الاتجاه منحى رجعياً وسلبياً، فنراه يغيب الإيجابي ليركز على الجوانب السلبية والمتخلفة.

وتكمن خطورة هذه الإنتقائية في أنها تقدم لنا التراث وكأنه يعكس الراهن والواقع القائم، في حين أن هذا التراث، وبغض النظر عما انتقوا منه، كان نتاجاً لأحداث مغايرة حصلت في سياق مختلف تماماً.