بيْن التجارة و السياسة، و من الطبيعة إلى الاقتصاد..!


محمد عبد الشفيع عيسى
2020 / 3 / 29 - 00:33     

التجارة والسياسة صنوان لا يفترقان. و هكذا كان . التجارة الدولية تتبع السياسة، وتحاول السياسة أن تقتفي أثر التجارة لتتبعها أو تصحّح مسارها أو تغيّر هذا المسار. هذا ديْدَن العلاقات الاقتصادية والسياسة الدولية على مرّ التاريخ، بما فيه ذلك الحديث و المعاصر، وحتى التاريخ القريب لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ثم التاريخ الراهن على مدى عقد أو عقديْن.
بعد الحرب العالمية الثانية انبثق نظام عالمي هو نظامان : نظام متمحور حول الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ، يتبنى "اقتصاديات السوق" دون مواربة، أو "الكتلة الغربية" "الرأسمالية"، ونظام آخر كان متمحورا حول الاتحاد السوفيتى (السابق) ومعه بلدان أوربا الشرقية، و يجمعها كلها توجه اقتصادى – اجتماعى ينحو نحو "الاشتراكية"؛ و إن نازع النجم السوفيتى نجم من الصين بزغ ثم احتك احتكاكاً خفيفاً بالسوفيتى ثم خشناً، اعتباراً من 1957 ، لتكون هناك اشتراكيتان، إن صح التعبير: سوفيتية - روسية و أخرى صينية. وقد حاولت الصين جذب عدد من "الكواكب الصغيرة" فى أقصى الشرق الآسيوى (وخاصة فيتنام ولاوس وكمبوديا وكوريا الشمالية) إلى جانب أحزاب كثيرة في العالم شيوعية ذات هوى صيني أكيد، بيْد أنها لم تستطع مدّ نفوذها الخارجي إلى الحيّز "متعدد الأقاليم" أو العالمي . وعلى العكس، أفلح السوفيت فى مدّ نفوذهم عبر العالم، ليتكون نظام دولي على مدى أربعين عامأ أو يزيد (1945-1990) قائم على المنافسة بين الاتحاد السوفيتي و الغرب بالقيادة الأمريكية، قيل له نظام "القطبية الثنائية": غربي/شرقي أو اشتراكي/رأسمالي أو أمريكي/سوفيتي. ولكل منهما أحجار بناء مختلفة اقتصادياً وعسكرياً بالذات. على المستوى الاقتصادى أقام السوفييت ما يشبه منظمة اقتصادية دولية إقليمية عبر أوراسيا، مكونة من الاتحاد السوفيتى وأوربا الشرقية، عُرِفت عالميا بعد الحرب العالمية الثانية بمسمّى "كوميكون"، ثم اسْتوتْ فى صورة أكمل بعد ذلك خلال الستينات وأوائل السبعينات تحت مسمى "مجلس المساعدة الاقتصادية المتبادلة" CMEA . وكانت تسعى إلى بناء نوع من تقسيم العمل الإنتاجي وفق صيغة للتخصص وتوزيع الأدوار بين البلدان الأعضاء، في المجال الاقتصادي، والصناعي بالذات .


وكذلك أقام السوفييت تحالفا عسكريا سُمّي إعلاميا باسم العاصمة البولندية، ليكون "حلف وارسو". وعلى الجهة الأخرى، شجعت الولايات المتحدة على إقامة تحالف عسكرى غربي عبر المحيط الأطلسىّ يجمع الولايات المتحدة وشركاءها من أوروبا – غربيها وشماليها – هو ما يسمى إعلامياً "حلف الأطلنطي"، "ناتو" North Atlantic Treaty Organization .
كما شجعت الولايات المتحدة على اقامة تجمع اقتصادى أوربي صرف وأخذ يتطور ويتغير عبر الزمن، ابتداء " من المجمّع الأوربيّ للفحم والصلب"، فى أواسط الخمسينات إلى "الجماعة الاقتصادية الأوروبية"منذ السبعينات، حتى استقر أخيراً على "الاتحاد الأوروبى"؛ وفى داخله أقيم تجمع نقدي ومالي أكثر تكاملية، باسم "منطقة اليورو"، مع مطلع القرن الجديد.
وقد نسج "حلف الأطلنطى" من حوله شبكة للتحالفات العسكرية المرتبطة بالغرب والقيادة الأمريكية، ومعها شبكة من القواعد والنقاط العسكرية، فى كلّ من القارات الثلاثة: آسيا -خاصة آسيا- و أمريكا اللاتينية و إفريقيا .
وبالتوازي ، أقام الغرب ( و الولايات المتحدة) نظاماً اقتصادياً دولياً يوشك إن يكون عالميا، فى المجالين التجارى، والنقدي–المالي بالتحديد، فى عزل كامل للمجموعة السوفيتية والصين عبر كل منهما. ففى الدائرة التجارية تم عقد "الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة" – جات- عام 1947، وحدثت عليها سلسلة من الإضافات و التعديلات خلال عقديْ الستينات والسبعينات من القرن المنصرم، وخاصة من خلال "النظام المعمم للتفضيلات الصناعية" لمحاولة جذب البلاد النامية إلى دائرة النظام التجارى شبه العالمى.
وفى الدائرة النقدية و المالية، نجح الغرب فى عقد مؤتمر دولى فى مدينة "بريتون وودز" الأمريكية الصغيرة عام 1944 أسفر عن عقد اتفاقيتين أقاما المنظمتين الأكثر أهمية على مستوى المنظومة النقدية – المالية العالمية حتى الآن ، وهما "صندوق النقد الدولى" و "البنك الدولى" دون مشاركة من الاتحاد السوفيتي وحلفائه.
تبنّت "الجات" مبدأ "حرية التجارة"، المقيدة أو المنقوصة على كل حال، بشكل عام. وبالتوازى مع ذلك، تبنّت "الولايات المتحدة – و الغرب الأوربي – نهجاً متسامحاً إلى حد بعيد، خلال الستينات والسبعينات ومطلع الثمانينات، مع تجارة الصادرات الآسيوية، القادمة بشكل موسع من اليابان وبعض البلدان الآسيوية الأخرى السائرة على النهج اليابانى، والتى اتخذت لها طريقاً خاصأً هو "النمو المدفوع بالصادرات" Export-led growth . وهذه التجارة الغزيرة، اليابانية شرق الآسيوية، إلى أين ؟ إلى الولايات المتحدة وأوروبا الغربية بالتأكيد . ومع التوسع التصديرى الهائل ، بطابعه (الفيضانيّ) ، وقع ردّ فعل قوى من الجانب الأمريكى الذي ظل يستقبل الشطر الأعظم من الصاردات الآسيوية بطريقة تيسيرية أو "تساهلية" ردحا من الزمان. وكان ردّ الفعل ذا طابع "مرّكنتيلي" – أيْ تجاري حمائي فى المعنى بشكل عام. و فرضت الولايات المتحدة عدة قيود من أنواع عديدة فيما أطلق عليه فى أواسط الثمانينات مسمّى "الحمائية الجديدة" Neo-protectionism وذلك خلال عهد الرئيس الأمريكى الأسبق "رونالد ريجان". ولكن تحت الضغط الدولى المتزايد لتحرير التجارة الدولية، و خاصة لمصلحة البلدان النامية، عقدت سلسلة من جولات التفاوض التجاري الدولية فيما سمّي "جولة أوروجواي" سعيا إلى عقد اتفاق تجارى عالمى شامل. وقد أسفر ذلك فى نهاية الأمر عن إقامة "منظمة التجارة العالمية" WTO بمقتضى "اتفاق مراكش" مايو 1994 .
فى نفس التوقيت، أو توقيت مُقارِب، أخذ "الاتحاد السوفيتى" يترنّح لأسباب متعددة، قبل أن ينهار كلياً عام 1990 ومعه منظومته (الشرقية – الاشتراكية) . وبذلك تمّ تمهيد الطريق لإقامة نظام تجاري كامل جديد تغيب عنه المنافسة الحقيقية ويُطلق السراح كليا للمنظومة الرأسمالية العالمية بقيادة "الدولة العظمى الوحيدة"، و باسم الحرية. نظام شعاره العام "حرية التجارة"، حيث السيطرة فيه للأقوى، وفى سياق عام يدعو إلى "فتح الأبواب" من خلال الدعوة إلى العولمة .
فى قلب دعوة –أو "دعاية"- العولمة نجمت وقائع صلبة، قائمة على تشديد النهج الوطنى – القومي فى المعاملات الاقتصادية الخارجية لدول العالم ، المتقدمة والنامية ، تحت مسمّى مغاير هو "التنافسية" و كذا دعم القدرات التنافسية، وخاصة فى الميدان التكنولوجى؛ نهج "استراتيجى" إن شئت. كانت تلك حقبة الرئيس الأمريكى الأسبق "بيل كلينتون" الذى عمل خلال التسعينات وفق النهج المذكور في حقليْن متلازميْن: التنافسية و التكنولوجيا. وكان له ما أراد من الإطاحة بالشركاء-الغرماء، المنافسين القدامى، الحلفاء بالذات، في أوربا واليابان . ولكن (مكْر التاريخ) اشتغل..! فقد ارتأت العقول الاستراتيجية الأمريكية بالذات، أن تستبدل السوفييت بالصين، وأن تحول الصين هذه من عدّو محتمل إلى شريك موثوق. وكان الصعود الصينى العظيم. وبعد أن كانت حدثت في الماضي موْجة ل "نقل الصناعات" – من الغرب وأمريكا – إلى اليابان والشرق الأقصى فى الستينات والسبعينات و أوائل الثمانينات، حدثت موْجة ثانية منذ أواخر التسعينات ومطلع الألفية الثالثة، ولكن هذه المرة باتجاه الصين. وهذا ما كان.
ولكن النموّ الصناعي الصيني، وفق الشراكة الاستراتيجية، الصريحة أو "الضمنية، بين أمريكا والصين، واصل طريقه دون هوادة، حتى أحدث، أخيرا، آثاراً عميقة على الصعيد الاقتصادي الداخلي في الولايات المتحدة، من خلال إقفال عدد من الفروع الصناعية ذات المستوى التكنولوجى الأدنى نسبياً. وكان أن ارتفع معدل البطالة، وخاصة بين العمال البيض "الأنجلوسكسون"، الذين شكّلوا، ومعهم جمهور غفير نسبيا متضرر من التجارة مع الصين، القاعدة الانتخابية لرئيس جديد، دونالد ترامب، أتى سريعاً على صهوة جواد جامح غضوب، ليتولّى مقعده الأثير فى "البيت الأبيض"، متربعا على دسْت الحكم، فى بداية العام 2017. ومن ثم تهيّأ الظرف لموجة جديدة من الحمائية التجارية تقودها أمريكا، وجهتها المحدّدة هى الصين بالذات، موجة تتلو تلك التى انطلقت فى الثمانينات وكانت تُسمّىNeo-Protectionism .
ولكن الحماية التجارية المجدَّدة، الآتية بعد عشرين أو خمسة وعشرين عاماً من سابقتها، ماذا عساها أن تُسمّي يا تُرى؟ لعلها يمكن أن تسمى بالحمائية التجارية "الجديدة – الجديدة" New Neo-Protectionism أو الحمائية التجارية المجدَّدة ربّما Renewed Protectionism تلك هى موجة الرئيس "دونالد ترامب" الراهنة. وهي هجومية الطابع لا ريب، تخوض "مباراة صفرية" فيما يبدو، مع خصم تجاري عنيد-الصين بالذات. فإلى أين..؟
إلى أين، وها هي الطبيعة تعاند الجميع أو تفاجئهم، بما لايخطر على قلب بشر، و إذا هي حرب بيولوجية من البشر أو عليهم، لعلها تفتتح جولة غير منتظرة من دورة الركود الاقتصادي العميق. فكيف يتم فضّ الاشتباك بين السياسة و التجارة، ليتفرغ "أولياء الأمور" للاقتصاد من بوابة الطبيعة..؟
أم أن نوازع الهيمنة العدوانية لدى البعض من سادة العالم الراهن وتوابعهم، في عصر سيادة إيديولوجيا "الليبرالية المستجدّة"، سوف تسد الطريق أمام العقلانية وروحية التقدم؛ ليظل عالمنا، لا قدّر الله، نهبا لتخبط "آلهة الشرّ" الأسطورية..؟ ذاك ما لا نرجوه؛ فنرجو استعادة جماعية لروح العقل، و لعقل التقدم الاجتماعي المستقبلي المنشود للإنسانية المعذّبة.
و هيّا إذن إلى العمل الحقيقيّ، إلى أعلى و إلى الأمام..!