في مواجهة الوباء


خالد صبيح
2020 / 3 / 28 - 22:10     

تجربة الصين في مواجهة وباء كورونا اثارت وماتزال اعجاب العالم، لكنها شكلت تحديا للغرب الذي لم يستطع تجاهلها من ناحية، لفائدتها العملية، ولا يريد اتباعها لاسباب سياسية وايدلوجية.

مؤاخذة الغرب على التجربة الصينية هي انها تعدت على حرية الانسان في عملية الحجر القسري الجماعي التي فرضتها.

والصين تبرر ان ذلك كان ضروريا لان حياة الانسان في كثير من الاحيان اهم من حريته.

وهذا صحيح تماما.

لكن لا يمكن الجزم في نفس الوقت ان الصين قد قامت بما قامت به من اجل الانسان – المواطن وليس لاهداف سياسية وأيدلوجية آنية، او / و اقتصادية على المدى البعيد.

ربما كانت تريد ايضا اقناع العالم ومواطنيها انها منظومة تتحلى بالاخلاق وتتميز بالجدية والحرص على مواطنيها، وبالتالي تستحق ثقة العالم بها، ولهذا كما لايخفى مردودات ايجابية كبيرة ومتعددة.

بمعنى ان الهدف لم يكن انسانيا صرفا.

لكن الغرب الليبرالي الذي اخذ على الصين تفريطها بالحريات، كما يلهج دائما، تعرى امام التجربة الصينية، فهو لم يثبت عدم أهليته تقنيا وإداريا لمواجهة كارثة انسانية فقط، مما كشف عن هشاشة منظومته الصحية وقدراته التصنيعية لعجزها عن سد النقص بالسرعة المطلوبة، وإنما انكشف موقفه وتصوره، وهو الأخطر، من وعن الانسان الفرد (المواطن). فالشكوك ليست قليلة حول فرضية أن هناك رغبة خفية، مضمرة، إن لم تكن مبرمجة ومقصودة، لدى دول غربية عديدة للتخلص من فئة من السكان (كبار السن والمرضى، وهي فكرة نازية بامتياز)، بل إن هذه الفرضية رغم شبهات انتسابها لعالم نظرية المؤامرة، تحظى بقدر ملموس من كفاءة المحاججة والإقناع، وربما الاثبات في المستقبل.

وما اثار هذه الشبهات هو الطريقة التي واجهت بها الدول الليبرالية ازمة الوباء، فاغلب هذه البلدان قدمت اولوية السوق، بحجة حماية الاقتصاد والأعمال، على الانسان وحقه الطبيعي في الحياة والصحة. وهذا تجسيد صريح لهيمنة الرغبة في الربح التي تؤجج وتؤرق العقل اللبرالي، حيث تتقدم الوسيلة عنده على الغاية، بل وتتناقض معها. اليس الهدف، منطقيا واخلاقيا وعمليا، من تطوير العمل وتنمية الاقتصاد وتزايد الثروات البشرية، والتقدم العلمي والتكنلوجي وغيرها هي من أجل الانسان وخدمته وإسعاده؟

لقد انقسم العالم ازاء معضلة الوباء الى نمطين يتقابلان ويتعارضان في مواجهتها، والسؤال ايهما اكثر جدوى في الاولويات: الصينية أم الغربية، الانسان أم الأسواق؟

في السويد تبدو مقولة (خير الامور اوسطها) ما تزال فعالة فيها رغم القرون. فالحكومة السويدية، التي يقودها حزب اشتراكي ديمقراطي بتحالف وبرنامج يميني مخفف، أخذت بلعبة التوازن بين حاجة السوق الى الاستمرار، ولهذا ضخت فيه واليه مساعدات مالية واجراءات تعضيدية للتخفيف من خسائره، وبين تقديمها أولوية حياة وصحة الانسان التي عبر عنها رئيس الوزراء بخطابه المتلفز القصير في 22/3، حينما سلسل اولويات الحكومة لمواجهة الوباء بـ ( الحياة، الصحة، العمل).

لهذا نرى اجراءات الدولة السويدية ما تزال متأرجحة وتثير التساؤلات وبعض الانتقادات رغم اصطفاف كل قوى المعارضة والمجتمع بعمومه وراء الحكومة واجراءاتها. حتى اللحظة، حيث بدأ الوباء بمرحلة الانتشار القصوى، مرحلة ( هبوب العاصفة) كما وصفها المختصون، وهي كما يبدو مرحلة اجبارية في مسار انتشار الوباء وتاثيره المرضي، حيث ارتفع عدد الموتى بشكل ملحوظ وقفز ايضا عدد المصابين الجدد او الحالات المكتشفة، ومع ذلك لم توقف الحكومة حركة الحياة العامة الا بشكل محدود، ولم تعلن حظر التجوال او الحجر الشامل. كما ان اجراءاتها اثارت بعض الشبهات، فالمواطنون لايحصلون على الفحص والمعالجة الا بعد ظهور العلامات البارزة للإصابة، بمعنى أن المواطن لا يستطيع الحصول على الفحص اللازم في حالة الشك للتأكد من الاصابة واستباق الحالة بالعلاج الاستباقي المبكر.

لكن الشك لايكون مبررا، على الأقل بسهولة، بجدية الحزب الاشتراكي وحرصه مهما تغيرت استراتيجياته وتحالفاته، سواء في هذا المضمار أم في غيره، فالحزب موضع ثقة واسعة وجماهيرية كبيرة رغم تآكلهما في الفترة الاخيرة، وما يؤكد هذا المنحى هو القبول الاجتماعي للحزب مؤخرا، اذ ارتفعت في اليومين الاخيرين نسبة مؤيديه باستطلاعات الراي الدورية باكثر من 2%. لكن من الصحيح القول أيضا أن الحزب، وكذلك كل بلدان الغرب ومنظوماته السياسية، لاتسبح في فضاء حر، فالعولمة دمجت اقتصادات العالم، بالتبادل وبالتبعية، بطريقة يصعب الفكاك منها مهما كانت نوايا الحكومات أو قدراتها، الأمر الذي حول العولمة الى شكل من اشكال الشمولية لكن بطبيعة أو نكهة ليبرالية، فقوة الرأسمال العالمي (على الاقل منذ هجمة النيوليبرالية قبل اربعين عاما بصعود التاتشرية والريغانية) أكبر من أن تواجهها دولة بمفردها، ولا يمكن تقويض هيمنة وبنية الرأسمال المعولم إلا بولادة اتجاه عام، فكري وسياسي وتنظيمي، ( كأن تجتمع عدة دول على منهاج معين)، وهذا بحد ذاته صعب لأن للرأسمال قوى تسنده داخل المجتمعات، ولديه أدوات اعلامية وآيدلوجية فعالة و (تتحلى) بقدر كبير من الغرور والوقاحة، ولديه كذلك مؤسسات مالية ومنظمات وأحزاب تمثل مصالحه لا تتورع عن اللجوء الى كل الوسائل لتمرير خططه وتعزيز دوره داخل أي دولة أو منظومة في العالم. بمعنى أن العولمة الرأسمالية باتت كالقدر الذي لا يمكن الفكاك منه بشكل فردي، لذا فان نظام عالمي يقوض هذا العالم القديم لن يكون قادرا على الوجود والبقاء بغير جهود وتحولات شاملة تتعدى عادة قدرة اي بلد بمفرده مهما عظمت قدراته. وهذا يعني باختصار آخر بما أن العولمة كظاهرة هي نتاج لتطور تاريخي، علمي وتقني واقتصادي، وليست وليدة ايدلوجية بعينها ولا تلبي حاجة دولة معينة أو تجمع محدد، وأن وجودها ضرورة (موضوعية)، إن لم يكن حتمية، فان المطلوب في أفق المستقبل ليس الغائها أو هدمها وإنما تعديل شروطها وآليات عملها، بالإضافة الى تغيير قيمها وقوانينها لتتناسب مع فكرة العدالة والتوازن وتكافؤ الفرص بين الدول، بالحد الأدنى على الأقل، لضبط العلاقات فيما بينها على أسس جديدة.

هذا هو العالم الجديد المرتجى، وإلا فان البشرية ستبقى تتلظى بنيران التوتر والعنصرية والكراهية وستكون البوابات مفتوحة ابدا للحروب والأزمات و... الأوبئة.